بحثا عن واقع آخر: الهواء والغموض في سينما أوزو
تاريخ النشر: 30th, July 2025 GMT
أمل السعيدي -
بعد السابع من أكتوبر بدا أن استئناف الحياة خطيئة، لم أكن شخصيا أستطيع القراءة ولا مشاهدة الأفلام، وأستطيع أن أقول: إنني لم أنطق بكلمة واحدة لأيام، إن فظاعةً في الخارج يمكن أن تُمرضني بشدة. أحد أصدقائي ملتزم منذ ذلك التاريخ بمشاهدة الأخبار بمجرد صحوه، كان هذا السلوك الذي يعتبره البعض «مازوشيا «طريقته في عدم الانفصال عما يحدث، إنها محاولة تشبه الخطيئة ايضا في التكفير عما لم نفعله.
تعلمتُ من النسوية التفكير من خلال العاطفة، تبدو مجرد كتابة هذه الجملة مفارقة، فما العلاقة بين العاطفة والتفكير، يعتمد ذلك على توجيه النظر الى العواطف كمساحة للمقاومة، فيصبح الغضب مثلا جوهريا، وبدلا من الاستمرار في اجترار المنظومات المعرفية التي غالبا ما تكون مستوردة في محاولة فهم ما يحدث والتعامل معه، أو عدم التعامل معه يصبح الحدس والشعور ضروريا، إنها محاولة للرد على الوحشية بتفكيك ما هو شخصي على سبيل المثال، في أن يكون لدى كل واحدة منا رحلتها نحو هذا، ناقشت أوردي لورد الشاعرة والناشطة الأمريكية السوداء العواطف في هذا السياق واختارت الغضب، ليصبح لا تعبيرا فحسب بل شكلا يُعبر من خلاله.
أشعر أن غضبي أصبح سلبيا، بلا طاقته وقدرته على التجاوز، فكرتُ فيما لو حاولت النظر لهذا العالم في ظل هذه الوحشية بالحنان الذي أنشده منه، ماذا لو أن الحب يستطيع أن يحل محل هذا الرعب مما يحدث؟ ماذا لو كان الجمال هو اللغة التي ينبغي أن أتحدث بها، وأنني بهذا أهزم أعدائي، وأتخلص من قدرتهم على مصادرة موقفي؟ اذ أنني عندما أتحدث بلغتهم لا أفعل شيئا سوى الركض في زنزانة صغيرة أو التفكير ضمن أطر المستبد تكتب لورد في هذا السياق في نصها الرائع Uses of the Erotic: The Erotic as Power الذي أترجمه ب: استخدام الايروتيكي: الايروتيكي مصدرا للقوة. ولتعذروني على الترجمة، كما سأطلب منكم ذلك عند قراءة بقية المقال. تشير لورد للأنواع العديدة من القوة في داخلنا، تلك التي لا تُستخدم جميعها، وإن السلطة تسعى لإحباطها وطمسها كي لا نتمكن من التعرف عليها.
أعرف كم تبدو خطيئتي كبيرة عندما أستعير من لورد رغبتها في مد جسر بين الروحي والسياسي، لكنني مضطرة لذلك حقا، خصوصا أمام ذلك الوعد بأن الايمان بالعاطفة، والروحانية وأن القوة في مشاركتها، يعني توقفنا عن استخدام الآخرين كمنديل ورقي، لن نستخدم الآخرين كحاجات للإشباع وربما حينها فقط لن نحارب أحدا، لن يحدث أن نحاصر الملايين في مساحة صغيرة بلا طعام ولا ماء. كانت لورد قد استخدمت عبارة ألهمتني وهي «الجراحة التصحيحية» عندما قررت أن تغضب، إنني أخضع للجراحة نفسها بمحاولتي التفكير بعالم آخر عبر السينما، الإشارة للأعمال السينمائية المضادة لهذا كله، الأعمال التي تفتح لنا فضاءً مقدسا لرؤية الآخرين بدلا من إلغائهم أو اعتبارهم حيوانات برية، وبرابرة وغيرها من الأوصاف التي ينطقها بصوت عال رئيس وزراء الدولة الارهابية: إسرائيل.
اخترت البداية مع قوة الألفة، الغموض نقيضا للوضوح، الوضوح المدعى، المشع. الوضوح الذي يتمظهر مثلا في الوقوف على المنابر في صالات المؤتمرات الواسعة، النور الساطع الذي يعمي العين، لأنه يُخفي شيئا فظيعا يخاف من مشاركته. اخترتُ ببساطة شديدة، أن أقول: إن العالم الذي توجد فيه إسرائيل لا يمكن أن يكون العالم كله، وأن إسرائيل وحتمية وجودها أو التطبيع معها، ضرب من خرافة «الطبيعة» و«الحتمية» و«الواقعية» وهناك في الحياة عوالم أخرى، ينبغي أن نشمها، ونحدس بها، وربما أن نراها إذا صح لنا ذلك. إن أي معركة مع فكرة: واقعية التاريخ وحتميته هي بالنسبة لي معركة استيطيقية، وتؤدي إلى زوال إسرائيل وكل تمظهراتها، ككيان يعتمد على القوة والبطش والمال والسلاح والكثير من المنابر.
قد أكون ساذجة، قرأت يوما في كتاب لم أعد أتذكره، أن مضاد السذاجة هو التأمل، وأن هذا الأخير هو نقيض الحياة. ربما السذاجة هي البراءة التي لم تفسدها الحرب، أحاول هنا بسذاجة إعادة موضعة مشاهدة أفلام المخرج الياباني ياسوجيرو أوزو (1903–1963) في زمن الإبادة الجماعية في فلسطين، وقع اختياري عليه بسبب ما أسميه «أيدلوجية الألفة» و«أيدلوجية البيت» وأنه كان جذريا في اختياره للعائلة موضوعا لأفلامه، كما كان جذريا في بساطة أعماله، لم يتأثر بالانتقادات التي وجهت له، والمدهش حقا أن أفلامه «الأليفة والوادعة» لم تتغير أبدا حتى بعد أسره في الحرب العالمية الثانية التي سماها اليابانيون «دانجي سيكاي تايسن» وعندما عاد إلى طوكيو سنة ١٩٤٥ وجد غالبية سكانها قد قتلوا ووجه مدينته لم يعد كما كان عليه، كتب المترجم المصري يوسف كمال حسين ياسوجيرو أوزو: الطريق إلى اللانهاية.
والصادر ٢٠٠٩ «بوسعنا أن نتخيل مشاعر أوزو في هذه المرحلة التي استغرقت من عمره عامين كاملين، في ضوء معرفتنا بشعوره حيال الانضباط الصارم وحِيَل الحرب، وبصفة خاصة حِيَل حرب بربرية تفتقر إلى المبرر كهذه الحرب، نادرًا ما كتب عن تجربته في الحرب في يومياته، على الرغم من أن هذه اليوميات تقع في أربعة عشر مجلدًا، كما أنه نادرًا ما تحدث عنها في وقت لاحق، بل لم يتحدث عنها قط» في تلك المرحلة اهتم بشعر الهايكو وبعد عودته عاد لإخراج أفلام الدراما العائلية كأنما شيء لم يحدث.
قررتُ أن لا أتابع الأفلام بحسب سنة إنتاجها، استسلمت لإيقاع رقة أسمائها، وكلما سمعتُ رنينًا في أحدها تبعته إلى النهاية، كنتُ قد اخترتُ «نزلٌ في طوكيو»، «زوجان ينتقلان» «شجار الأصدقاء على الطريقة اليابانية»، «حزن الجميلة»، «الأم التي ينبغي أن تلقى الحب»، «الربيع يأتي من السيدات»، «أين أحلام الصبا الآن»، «إلى يوم لقائنا مجددًا» «قصة أعشاب طافية» «طعم الشاي الأخضر على الأرز»، «زهرة الاعتدال».
أغلقتُ ستائر الصالة، أطفأت الأضواء، وبالتزام شديد تابعتُ في اليوم الأول ثلاثة أفلام لاوزو، لا ألتزم بخطة الأسماء فاخترتُ أفلامًا لأنني أشاهدها في الصيف، أخرى لأنني أعيش وضعًا عاطفيًّا معقدًا، كان على كل هذا أن يكون حميمًا ونابعًا من الأعماق.
بقي أن أشير لكون محاولتي هذه ما زالت غضة في مشروع أنوي فيه ربط سينما الجنوب العالمي التاريخية مع ما يحدث في هذه اللحظة التاريخية الحاضرة. أدركُ أن ربط هذه بتلك يتطلب حساسية كبيرة، فما من شيء أسوأ من أن يقحم كاتب علائقية مُدعاة أو مبتذلة. وأنا لا أعفي نفسي من هذا مطلقًا. اعتمدتُ في هذه المقالة على مجموعة من الكتب، وكثير من فقرات المقالة التي حاولتُ ربطها بالمصدر في الهامش وهي: ياسوجيرو أوزو: الطريق إلى اللانهاية ليوسف كامل حسين. أوزو لدونالد ريتشي وهو غير مترجم للعربية، ومديح الظل لـ: جونيتشيرو تانيزاكي ترجمه للعربية الحبيب السالمي، الجماليات الظلية: الإضاءة والسينما اليابانية وهو غير مترجم للعربية، واستعنت بمصادر للتحقق من تاريخ اليابان منها: صناعة اليابان الحديثة لمريوس ب. جنسن. ولم أستطع لولاها تلمس طريقي في التفاعل مع التجربة الروحية لمشاهدة أوزو، وكثيرًا ما أعدتُ صياغة أفكار متناثرة أو مباشرة لهم بين ثنايا هذه المقالة.
بقي أن أقول إنني لم أشاهد ولا مرة واحدة أحدًا يقتحم بيوت أوزو في أفلامه.
....
شهدت اليابان مرحلة مليئة بالتناقضات تراوح بين القلق والراحة، إذ إن البلاد مرت آنذاك بأزمة مالية وسياسية، خاصة بين البيروقراطيين والنخب السياسية الاقتصادية. ونستدعي في هذا السياق أزمة البنوك عام 1927 وزعزعة النظام البرلماني مع صعود للعسكر. لم يمضِ وقت طويل حتى الكساد الكبير مع انهيار وول ستريت الذي أثّر على تصدير السلع التي يعتمد عليها الاقتصاد الوطني. صاحب ذلك ارتفاع عدد العاطلين عن العمل على نحو كارثي، وفي 1931 غزت اليابان شمال شرق الصين، الحدث الذي سيمهد لحروب ثقيلة قادمة. أما العام التالي فقد انهارت الحكومة البرلمانية على يد اليمين المتطرف (١ و٢)
عندما أتأمل العالم الذي نعيش فيه، أدرك إعادة إنتاج الفظاعة والوقوف على حافة الهزيمة بسبب من الغطرسة أولًا، والنكوص نحو «الوطنية» «القومية» «الفاشية» كملاذ آمن، يمثلها اليوم شعبوية اليمين المتطرف في دول العالم المختلفة. يرعبني عدم تعلم هذا النوع من الدروس، هل ترى ما يحدث هنا؟ هو تنويعة على ما نفكر فيه كأفراد بأن المأساة ربما ستحدث لأشخاص آخرين لكن لا أتخيلها تحدث معي. عندما يقولون: اربط حزام الأمان في السيارة، تشير الدراسات إلى أن ٨٥٪ مثلًا يقضون نحبهم بسبب عدم التزامهم بالحزام، سأفكر على الفور، نعم هذا ما يحدث للآخرين في مكان ما، نسبة كبيرة ممن قتلهم هذا كانوا من فئة الذين ظنوا أن هذا سيحدث لآخرين. ثم أنني لطالما دهشت من التفكير في اليابان وقدراتها الاستعمارية على الرغم من جغرافيتها وجيرانها، يمكن للجزر في مكان ما، أن تطفو فوق البحر لكنها سرعان ما ستغرق بمجرد إيمانها بأنها ستطفو دومًا.
العائلة
لا أعرف إذا ما كنتُ سأستطيع يومًا التفكير بالعائلة كما كنتُ أفعل قبل الثامن من أكتوبر ٢٠٢٣. أصدقائي المشردون الذين تسنى لي لقاء بعضهم في السنتين الماضيتين ممن فقدوا عددًا من أفراد عائلتهم في غزة أو عائلاتهم كلها. وأولئك الذين يُفعّلون إشعارات الهاتف، لأن الصاروخ التالي سيصيب تلك الخيمة المهترئة التي اشتروها بثمن قطعة ذهب ثقيلة، تحولت وجوههم التي لا تعبّر بوضوح عن عاطفة شديدة، لتعكس جغرافيا جديدة للعائلة في عالمنا اليوم. لا يمكن بأي حال من الأحوال نسيان أصحاب «البياجر» في بيروت، فكرتُ أن أبًا يطعم ابنه فاكهة مطحونة ليتجاوز طفولته إلى حياة البالغين، ولكنه في تلك اللحظة يتمزق وابنه وأحلامهما إلى أشلاء. في اليوم الذي هاجمت فيه إسرائيل الإرهابية إيران، كانت صديقة عائلتي الشابة الإيرانية ذات ٢١ عامًا والتي تعمل في مسقط كمدربة كاراتيه، تبكي بهستيرية وتصرخ أن أمها في تواصلهما الأخير صورت دخانًا كثيفًا من نافذة البيت وأن أخاها في الجيش، نسأل لكنه ليس في طهران؟ ونصبح كلنا في عزاء مفتوح. هل مصيرنا هو الدخول في تمرينات من أجل الخسارات الفادحة، مثل أصدقائي الغزيين ينبغي أن نتمتع برباطة جأش مصدرها علانية القتل، وحتميته، لكننا وما أن أقفلنا أبواب غرفنا، قلنا: هل الربُ في مكان ما يرانا؟
كان أوزو مشغولًا بالعائلة عبر مآسيها العادية، التي لا تُصدر تنغميًا عاليًا في الظاهر على الأقل، تضمحل تلك العائلة، في مناخ التحولات الاجتماعية في اليابان- مع إنني أتحفظ على هذه القراءة بعض الشيء- عائلات أوزو أن تعيش في دفء تكويناته البصرية الدافئة.
أراد أوزو أن يصور العائلة بالطريقة التي يُعّبرُ عنها بـ«الأشجار تشير إلى الأشجار»، وبهذا أستطيع أن أقول: إن العائلة في أفلامه إشارة للعائلة، ملخص موضوعات أفلامه عندما يشار إليها، تنويعات على ابنة عازبة تعيش مع والدها، امرأة تنتظر زوجها في البيت، وهكذا. كره أوزو الحبكة، بل واعتبرها تلفيقًا، لأن ذلك سيتطلب بطبيعة الحال تصاعدًا بنيويًّا كاذبًا كما أنه بذلك سيستغل الشخصيات لخدمة تعقيد تلك الحبكة وتقدمها، لم يكن ليفعل ذلك حتى في الفيلم.
لكن أفلام أوزو العائلية التي تُظهر أجسامًا ممتلئة، وناحلة، سيدات جميلات وأقل جمالًا، رجال متزوجون يؤمنون أن عليهم أن يُشعروا زوجاتهم بأنهن منتصرات عليهم، الأطفال الصغار الذين يركضون في الممرات، كلها لا تعني أحدًا بعد الآن، إن قدرتي على احتمال مشاهدة حياة عائلة عادية تلاشت. من المؤسف حقًا أن يكون موضوع نستالوجيا هذا الجيل: «عائلة تُقتل بأجسام كاملة» على الأقل.
لكن العائلة التي يحييها أوزو في أفلامه معادية لمن قتل العائلة وشردها، إن النظر إلى العائلة بعدسته يجعلها في مصاف الأشياء التي لن تكتمل، تلك التي لن تصبح دائرة مغلقة، ليست مفهومة ومحتواه كليًا إذ إن التفاعلات فيها على اختلافها حتى في سكوتها تعني أن هنالك هالة لا يمكن عقلنتها، عالم لا يمكن أن يُحسم تعريفه، سحرٌ متطير، ميتافيزيقا، الأمر الذي يجعل من حضور هذا النوع من التأمل بيانًا سياسيًّا شديد اللهجة. يُعلي من صوت الغموض الذي لم نتمكن من تحديه.
إذا كانت ثمة واقع واحد كما يُراد لنا أن نفهم، فإن أوزو في عائلاته لم يضحِّ بتعقيد هذا الواقع، استطاع أن يتعرف الفرق بين البساطة والاختزال، لم يقدم شخصية شريرة أو خيرة، وعند مشاهدته لم أشعر بأي نوع من التعقيب والحكم الأخلاقي فيما إذا ما كان الفعل صائبًا أو العكس من ذلك، في الحقيقة تعجبت من النقد الذي وجه إليه كبرجوازي، يرثي اضمحلال التقاليد، ويُكرسها. لم أشعر أنه يصور تلك الحالات من موقع فقد لها، لم يبدو لي أنه أولى قيمة لاستقرار تلك التقاليد، لم يكن مكترثًا ببقائها أو زوالها. يكتبُ يوسف كامل حسين ما أراه دقيقًا «لا توجد مطلقات في هذه الأفلام، فقط الثوابت. يولد المرء، ولكن… ما تبقى من الحياة غير مؤكد على الإطلاق». في المقابل أختلف مع ريتشي بأن عائلات أوزو ليست سعيدة في الغالب، ما أشعر به ويتملكني كلما تقدم زمن الفيلم، أنه لا شيء يوجد في تلك العائلة لكنه على وشك أن يوجد. ولمرة واحدة في الحياة أريد أن أصدق أن ذلك التوتر على الوجه الخصوص لا يشكل تهديدًا.
تعتمد أفلامه على التفاعل بين الشخصيات وانفعالاتها، وأي شيء صغير يمكن أن يظهر هذه التداعيات بينها، يطلق عليها ريتشي «خطًّا فرعيًّا» يسير بالتوازي مع القصة، ينبئ بظهورها أو يدعمها، وهذه الأشياء قد لا تتجاوز في كثير من الحالات ما يعادل: التجشؤ. وتظهر في أفلامه عبارات متكررة تلعب هذا الدور خصوصًا تعبير: «هذه هي الحياة» الذي ترددها الشخصيات، تورثه لعائلة الفيلم القادم. فعلى أحدهم أن يقول في مرحلة ما: هذه هي الحياة. أتذكر صديقة غضبت مني لأنها شعرت بأنني لستُ مستعدة لسماع حكاية مديرها السيئ وزوجها الذاهل أمام حاجتها العاطفية، عندما وببداهة قلت: هذه هي الحياة. بدت لها تلك الجملة، رغبة في إنهاء الحديث والتململ منه، وبهذا يصبح حضور هذه الجملة القصيرة جدًّا سلبيًّا، يُعيد أوزو لهذه الجملة مكانتها، عندها يمكنني أن أخبر صديقتي الغزية التي وصلت مسقط خلال هذا الأسبوع هي وزوجها للحصول على إقامة هنا، «هذه هي الحياة» فتشعر بالتواطؤ والحزن المشترك الذي لا ندفنه بهذه الطريقة بل نُعيد له صرامته.
في فيلم ما الذي نسيته السيدة؟ (?What Did the Lady Forget، ١٩٣٧ ترفض الزوجة التقليدية تصرفات ابنة أخ زوجها القادمة من المدينة والمستهترة بما على المرأة أن تفعله وأن تتقيد به، كما أن هذه الزوجة تضبط حركة زوجها المرهف وما يتعلق بخياراته، وفي لحظة تراجيدية، يصفع الزوج زوجته، ثم يغادر نادمًا، ليعود مجددًا للاعتذار منها، وعند قبولها ذلك برقة شديدة، يتملكه فرح طفولي، مع ذلك ليست هنالك عواطف محمومة بل تمثيلات تنطلق بحسب ريتشي من مونو نو أواري (mono no aware) وهو مصطلح عنى في بداية استخدامه: الانفجار المنضبط والمتوان للعاطفة. لا أعرف إن كانت ترجمة دقيقة، دعوني أحاول مجددًا: الانفعال العاطفي المتحفظ؟ كما أن المصطلح يشير للخافت والانطباعات العميقة التي تُخلفها أشياء صغيرة. إنه إذن تقبلٌ هادئ ومتعة عذبة ربما مصدرها الزهد؟ فُسر الفيلم على أنه تجسيد لصراع الأجيال لأن ابنة أخ الطبيب هي النموذج المضاد من تقاليد الأسرة اليابانية وهي القادمة من المدينة. لكن هذا الاختزال يزعجني، إذ يصور الفيلم لحظة في حياة العائلة، قد تكون لحظة فحسب، وهذا لا يجعلها أقل أهمية، إن اشتغال أوزو ينطلق من هذا في الأساس، دراما العائلة وندرة «البهجة الصارخة لليقين» كما يقول ريتشي. كثيرون صورا العائلة لكنني أتخيلها مغامرة خطرة فإما أن تقع في الكليشيه أو تُفجر الإمكانية. لم أشعر وأنا أشاهد أفلام أوزو اتخاذه مسافة كانت آمنة أو خطرة مما يريد أن يرينا إياه، بدا أن لمحة العائلة تلك هي عائلاتنا، تعمل سينما أوزو على أن «تبدو أقاصي الأرض في أفلامه أقرب من باحة المنزل».
....
السطوع والإظلام:
المنزل الياباني هو بنية حساسة لتقدير الضوء والظلام. يحضر الظل في سينما أوزو بصفته مكونًا تعبيريًّا وبصريًّا. استدعى هذا قراءتي كتاب «مديح الظل» للكاتب الياباني جونيتشيرو تانيدزاكي والذي صدر سنة ١٩٣٣، وبترجمة عربية مذهلة للحبيب السالمي في الثمانينيات عن دار توبقال. قرأتُ هذا الكتاب لأول مرة قبل عِقد كامل، وأعدتُ قراءته مرات عديدة. إن الحديث عن جمالية الظل، تشبه همسًا أو أصابع المحبوب على وجه من يحب. فكرتُ فيما لو قرأ أوزو هذا النص، الذي يحتفي بالخافت، ويقبل الحزن الذي سنغفر وجوده في حضرة هذه القراءة، فيستكين ونهدأ بدورنا. يمكن ببساطة أن أشعر بصدى كتابة تانيدزاكي في أعمال العديد من اليابانيين عبر فنون مختلفة. في مديح الظل ترتبط الرهافة بحساسية تصميم البيوت إزاء الضوء، وهو يذكر صراحة السينما اليابانية في كونها تتميز عن الغربية بلمحة من الظلال والتناقضات رغم استخدامها للتقنيات نفسها.
يهجو تانيدزاكي المصباح الكهربائي أمام ولع باللهبة العارية المزودة بعاكس ضوئي بسيط. ويشير لتقدير اليابانيين الاستماع للصوت عن قرب، ازيز الحشرات وقطرات الماء التي تنزل من حافة الافريز أو من أوراق الشجر وتبلل طحلب البلاطات قبل أن يمتصها التراب، إنها دومًا أحسن مكان لتذوق الكآبة الأشياء الموجعة، الأمر الذي منح الهايكو مكانته وإمكانياته. الموسيقى اليابانية أيضًا تبدو متحفظة وتولي أهمية للوسط الذي تُعزف فيه فتفقد سحرها إذا سُجلت أو ضُخمت بواسطة مكبرات الصوت، وفي فن الإلقاء يتجنبون فرقعات الصوت. أشعرُ شخصيًّا بأنني سأصبحُ مقدرة كمذيعة صوتها هادئ، لم يسبق لها أن مطت حرفًا هناك، أو استخدمت صوتًا آليًّا، بينما يُقرأ في عناوين أخبار إذاعة سلطنة عمان، أن عائلة فلسطينية كاملة محيت من السجل المدني تمامًا.
قارنَ بين ورق الغرب الأبيض الذي يختلف بطبيعته عن بياض ورق هُوشُو*. الأشعّة المضيئة تبدو وكأنها تقفز على الورق الغربي، بينما يَمتَصّ سطح الهُوشُو، هذه الأشعّة برخاوة، يُصاب بالضيق لمشاهدة شيء براق، بينما يفرح بالأدوات وقد اغبر سطحها بمرور الزمن. ويقف تانيدزاكي هنا تقديرًا لجملة «مرور الزمن» لإيقاعها الجميل، يمكن جعل ما يبدو قذارة في أدوات سكان الشرق الأقصى عنصرًا جماليًّا، إن هنالك متعة صوفية قادمة من العلاقة بالضآلة والعتمة وأي صغير وخفيف.
لطالما فكرتُ أن السطوع طيفٌ من القوة والسلطة. كما أنه تلميح على الجشع، كرهتُ الأماكن المضيئة بإفراط، أبحث عن مقهى مظلم تقريبًا، وأثاث خشبي، في ذلك الإظلام شيء من التواضع والضآلة المحببة، وفيه شفافية ما، كأنما العالم لم يُحسم بعد. إن تلك العتمة الخافتة والموزعة بحذر يمكن أن تمنح شرعيةً للمبهم، في احتفاء بـ الالتباسات داخل عالم يُردد حقيقة واحدة عن كل شيء. أو كما يكتب تاني دزاكي عن المكان المظلم: «بريق سطحه يعكس حركة شُعلة الشمعة، ليكشف عن أدنى تيار هوائي يعبر من حين لآخر الغرف هدوءًا، ويحث الإنسان باحتشام على التخيل».
لا أعتقد أننا نحتاج المزيد من الضوء وإذا ما كنا بحاجته حقًا، ربما علينا أن ندرس الطريقة التي يوزع بها، الفقرات التي ينبغي أن تشرق في العالم، أما في الظلام، ربما في النسخة المخففة منه، الظل والعتمة، يختبئ أولئك الذين نجوا من الغطرسة، الخائفون، المؤمنون، إنهم غير متأكدون، ربما متأكدين في أنهم في المكان الصحيح، في مكان آمن، سيكونون مرئيين في أفق ذلك الهدوء، وسينظرون بدورهم للآخرين من خلال غلالة من الرقة. لا يشعر الشرقيون بأي اشمئزاز إزاء ما هو مظلم، ويخضعون لحتميته «فإذا كان الضوءُ فقيرًا، فليكن فقيرًا، بل إنّنا نَنْعُمُ بسعادةٍ في الظّلام، ونكتشف داخلهُ جمالاً خاصًّا به».
سجلتُ في كراسة ملاحظاتي، أنني لم أرَ ظلامًا دامسًا في أي من أفلام أوزو، فحتى إن غادرت الشخصية البيت ليلًا، هنالك ضوء يصدر عن نافذة بيت الجيران. ولا يبدو أيضًا أن لليل صوت في أفلامه. حين تناول هاسومي شيجيهِكو الطقس في أفلام أوزو، لاحظ أن «السماء لا تكون إلا مشمسة»، واصفًا أوزو بأنه «مخرج النهار الكامل».(٣)
يمكن أن يكون الضوء مدخلًا للنقد الاجتماعي والسياسي، وبالنظر لأفلام اليابانيين عموما وأوزو خصوصًا فإنها لا تعكس جمالية مجردة فحسب(٤). بل واقعًا سياسيًّا واقتصاديًّا آخذ في التشكل. كانت التنافسية في سوق الأفلام اليابانية قد دفعت شركات إنتاج لمواجهة أفلام الجيدا غيكي، المهووسة بلمعان السيف الذي لا يعد سلاحًا بل رمزا مركزيا في الثقافة اليابانية عكسته السينما اليابانية المبكرة والتي ترثي الماضي فأعادت بطولات الساموراي ليقابل ويصد التحديث الغربي في الفترة نفسها التي تصاعدت فيه روح القومية اليابانية والوطنية التي عُبر عنها في قطاع هذه الصناعة عبر حلم تصدير الأفلام اليابانية وتحسين صورة اليابان المشوهة في أفلام الغرب.
قلل أصحاب شركات الإنتاج السينمائي، من أفلام السيوف تلك ب بإبراز وجه النجم من خلال إضاءة خاصة تمنحه بريقًا جذابًا. وفي الثلاثينيات من القرن الماضي رسخت شركة «شوكشتكو» بهيمنتها على الصناعة المعايير الجمالية للسينما، والتي كانت ذات طبيعة مرحة أعطت الأولوية للوضوح البصري على حساب التعبيرية. ازدهر حينها الاستخدام التجريبي للإضاءة. على أن يحقق ذلك الربح للشركات، وسياسة ترشيد الإنفاق على الصناعة.
يعد فيلم زوجة تلك الليلة (That Night’s Wife، إخراج أوزو، 1930)، فيلمًا تجاريًّا رغم تعبيريته وتجريبيته خصوصًا في الإضاءة إذ لم يصمم لتقويض المشروع الرأسمالي للشركة. وأنتج ووزع كجزء من الاستراتيجية التجارية، كوسيلة لتحقيق الرأسمال الثقافي. يمكننا أن نقرأ هنا أهمية سلعنة الثقافة داخل المشروع الرأسمالي نفسه مثلًا. المثير للاهتمام أن جمهور هذه التقنيات الجديدة كان من النساء، لأنهن كن قد تخطين سينما هوليود الكلاسيكية وأفلام شركة الإنتاج المبهجة والصاخبة. وهذه معلومة أثارت اهتمامي كثيرًا وبدأتُ البحث فيها لمشروع كتابة أخرى في المستقبل.
الشكل / التقنية من تصوير ومونتاج:
إن بساطة أفلام أوزو ودفئها أو ما يطلق عليه ريتشي «الإنسانية غير المتوقعة» لا يمكن فصلها عن انضباطه الشكلي والتقني الصارم. لكنه نجح في ألا يحول أفلامه لهياكل شكلية فحسب، يكتب ريتشي ولقد أذهلتني قدرته على وصف أسلوب أوزو في أنها حققت ثنائية الانضباط الشكلي والصدق العاطفي تلك التي كونت خصوصية سينماه. لم يكن أوزو مقتصداً في كون أفلامه تحتوي على عدد قليل من القصص فحسب، بل نستطيع رؤية اقتصاده في استخدامه للوسائل، والتي بطريقة معجزة منحته قدرة أبلغ على التعبير. يكتب ريتشي «يتيح لنا أوزو فهم أعظم مفارقة جمالية على الإطلاق: أن القليل يعني أكثر. بعبارة أخرى، فإن القليل غالبًا ما يعني الكثير؛ التقييد يؤدي إلى التكثيف؛ التنوّع اللامتناهي يُكتشف داخل الوحدة.»(٦)
كان أوزو مهووساً بالتكوين البصري لجميع المشاهد “كان يقول إنه يكره رؤية كل حواف التاتامي المستقيمة مصطفة على التوالي. مما دفع من عملوا معه للتبرم من تطلبه والتعجب من طلاقته في التصرف بقصص أفلامه التي يقابلها هستيرية تجاه التكوينات البصرية، لم يكن يكتفي بالأثاث الذي يوفر في الاستديو، طلب من الجميع أن يأتوا بأي قطعة معهم، وكان متطلباً بشدة في تأثيث مشاهده بصرياً وان كان أحيانًا يستخدم شيئًا “رديئًا” إذا كان صديق عزيز هو من أهداه إياه.(٧)
يستخدم أوزو كاميرا منخفضة، تُصوِّر من ارتفاع يعادل جلوس شخص على حصير التاتامي وكأن الرؤية تأتينا من منظور شخص ياباني تقليدي جالس في بيته قال أوزو: «تعرف يا أتسوتا، من الصعب جدًا إنتاج تركيبة بصرية جيدة لغرفة يابانية — خاصة الزوايا. أفضل طريقة للتعامل مع هذا، هو استخدام موضع كاميرا منخفض هذا يجعل كل شيء أسهل» قلما تتحرك الكاميرا في أفلامه، لا تتبع الشخصيات.
كان أول ما أثار اهتمامي في أول مشاهدة لي لأفلامه قبل أكثر من عقد، هو أن الشخصيات تتحدث إليّ كمشاهدة، إنها تحدق في الكاميرا، ثابتة، والحركة بطيئة ومحدودة. استخدم (المزج الإحلالي كما يترجم السينمائي العماني عبدالله حبيب dissolve) بندرة؛ إذ كان حساساً لاعتبار أنها غش وخداع. ليصبح بعدها القطع الصريح (straight cut) خياره المفضل. ما أدهشني هو التحول للقطع الصريح بعد عودته من الحرب، لا يوجد دلائل على علاقة هذا الخيار التقني بتجربته في الحرب مع ذلك فلا يمكن ألا أن نشير لشفافية وبساطة هذا الأسلوب.
ينسحب هذا التحفّظ أيضًا على عملية التحرير/المونتاج. كان يعتبرها مسألة ميكانيكية، جاء رفضه لها من أنها تمنح سلطة الاختيار المحفوف بفرص للتأويل الوعظ والتوجيه اللاحق لعملية كتابة السيناريو وتصويره(٨)، ما استطعتُ فهمه من مراجع قرأتها عن أسلوبه أنه اعتبر هذه المرحلة حرجة فيما إذا كان قادراً على خيانة ملله الكبير من الحبكة، فهي فرصة لتوليف ما هو منفرط لأسباب أكثر وجاهة من تدخلنا في احتوائها وتقويضها.
التكرار المحرر
تميّزت سينما أوزو باعتماد عناصر الصمت، والفراغ، والخواء، والتكرار لاعباً أساسياً في العمل. غير أن التكرار في أفلامه يحمل طاقة تحرّر. لم يكتفِ أوزو بإعادة ثيمة العائلة الأثيرة، بل أعاد إنتاج بعض أعماله نفسها، كما لو أن العودة تتيح مزيدًا من الكشف. في عمق هذا الأسلوب، تقف سينماه الصامتة والمتقشفة مواجهة الشراهة والجشع، وتدعونا، بتقشفها، إلى تأمل شراهة الخراب المتفاقمة يومًا بعد يوم.
ومن أبرز سمات هذه السينما كثرة اللقطات الفارغة (pillow shots) واللقطات الثابتة (static shots)، وهي لا تُظهر شخصيات بل أشياء: غلاية شاي تغلي، غسيل يتأرجح، سكة قطار فارغة. لا تلعب هذه المشاهد دور الفواصل، بل مكوناً عضوياً في الإيقاع البصري والوجداني للفيلم، ليتجلي «مو» — مفهوم الفراغ في الثقافة اليابانية داخل تلك المعالجة. تؤدي هذه المشاهد، رغم فراغها الظاهري، وظيفة جوهرية تتمثل في إحداث توقف مؤقت داخل الفيلم، شبيه بما الموسيقى بـ « Fermata لحظة صمت تُبطئ الإيقاع وتُبرز التحوّل وقد استخدمها أوزو لا احترامًا للإيقاع فقط، بل تقديرًا لصمت الشخصية وتأملها، ورفضًا لاستغلال كل لقطة في خدمة السرد. إنها فواصل بصرية تمنح كل جزء استقلاله، وتمنح المشاهد فرصة الإنصات لما هو غير منطوق.
أتألم من أن التكرار لا يكون هو نفسه عندما يتعلق الأمر، بأجساد الفلسطينيين، مشاهد الجائعين والجائعات، الآباء الذين يحملون ذاهلين جثث أطفال صغار، بعضهم بدون رأس أو يد أو قدم. التكرار في الحياة لم يعد قيماً، أردتُ دوماً تحدي ذلك، قلتُ لمن أحببتهم أنني أتوق لقضاء وقت ضجري معهم، أن نكرر أفعالاً بسيطة وأن نربي أنفسنا على أن الجدة التي يتحدث عنها الناس غالباً ما تكون تكراراً مموهاً كما يشير جان بودريار في نقده للجِدة الزائفة، نطالب فيها بالجديد لا لضرورته وحاجتنا له ولا لأنه يقدم لنا خيارات أفضل ولا لثورية فيه بل لأنه جزء من عملية رمزية تحركها ثقافة الاستهلاك. وما دامت الجدة تنتج تكراراً مقنّعاً وتخفي الواقع كما هو عليه في إشارة لجي ديبور في كتابه الذي أستمرُ في العودة لقراءته «مجتمع الفرجة» لماذا إذن ورغم ذلك كله لا نريد على الأقل أن نحظى بتكرار حقيقي، أليف. لماذا لا نستطيع اعتياد أي شيء اليوم حتى أولئك الذين نحبهم ونطالب بتغييرهم في اليوم التالي لنخوض تجارب جديدة.
كتب علاء الدين عالم مقالاً بعنوان: الجسد الغزّي/ حكاية نموذجية للجسد المَشاع، عن تكرار صور القتلى التي تتدفق علينا طيلة الوقت: «تكمن الخطورة هنا في عبارة «أصبحت صورة نمطية». أي تنميط صورة الجسد القتيل، وجعلها، لفرط حدّتها، صورة مألوفة. الأطفال بما هم كومة لحم منكمشة من الخوف، صورة مألوفة. أيدي الأطفال وقد كتبوا أسماءهم عليها، صورة مألوفة. إن أُلفة صور مثل هذه هي ما تنزع أي قدسية...» كان فالتر بينيامين قد كتب عن إفراغ العرض الفني من الدلالة بعد إعادة عرضه. أما سوزان سونتاغ في كتابها «حول ألم الآخرين» فناقشت تكرار صور العنف التي قد لا تسبب لامبالاة وتبلداً بالضرورة لكنها تخلق مسافة أخلاقية، وعبر تعاطفنا مع هذه الصور المكررة نعلن عن براءتنا من المسؤولية تجاه ما يحدث وإمكاننا في تغييره.
العالم الواسع.. العالم غير العقلاني:
لا نعيش في عالم عقلاني ومادي، بل في عالم أكثر اتساعًا وغموضًا، عالم لا أستطيع التفكير في أي قانون حتمي فيه عدا الموت. وهذا ما نلمحه في سينما أوزو وكلمة «نلمحه» مهمة في هذا السياق لما ذكرته عن سينما غير تعليمية وفي نوع من التطرف يمكن أن أقول سينما لذاتها، لا تُصدر أحكامًا على ما يحدث، بل تتيح لنا العيش فيها، وتعلمنا أن الرؤية ليست من خلال «العقل» بل من خلال الحدس.
عرف أوزو أن العالم لا يُفهم بالعقل وحده، وأن النزاهة والتعاطف لا يصمدان إلا بجهد شبه ديني لمراقبة العالم كما هو. الأم في فيلم «الابن الوحيد»، لا يزعجها خذلان ابنها الذي ضحت من أجل مستقبله في طوكيو، يغُضبها قنوطه بشدة، وتقترح أن الهزيمة ليست نقيضًا للانتصار، وأن القيمة في ألّا نقنط، في ألّا نحسم، أن لا نذعن ونرضى. هذا ما يجعل من سينما أوزو مشروعًا مضادًا للعالم وقواعده، ثورة من الداخل، موقفًا أخلاقيًا لا لأنه يطلق حُكمًا، بل لأنه ينوه للهواء، الفراغ، للأشياء التي لا تُمسك باليد ولا باللغة، الشعر عبر ميتافيزيقا العائلة.
يكتب المؤلف النرويجي كناوسغارد وهو أحد كتابي المفضلين عن اللوحة الفنية التي يفضلها للرسام النرويجي مونك (1863–1944لم أستطع أبدًا أن أحدد بالضبط ما الجذاب فيها، يميز ما تعكسه الصمت، وما أفهمه من خلالها صامت أيضاً وغير منطوق فهل يمكننا أن نتحدث عن فهم من الأصل؟» ويجيب : «نعم، لأن المعرفة الحدسية موجودة، والحكمة الصامتة موجودة، والبصيرة الغريزية موجودة، وأعتقد أن هذا الفهم غير المفصَّل للعالم يشكل جزءًا أكبر بكثير من ذواتنا على نحو لا نتصوره. وبالضبط لأنه قائم على الحدوس والانطباعات، غير المصوغة بالكلمات أو المعززة بالحجج، فإنه يفلت من الأدوات التي نستخدمها عادة لفهم العالم – العقل ولغة العقل – وبالتالي يظل غير مرئي وغير معترف به».
الهوامش:
Daisuke Miyao, The Aesthetics of Shadow: Lighting and Japanese Cinema (Durham, NC: Duke University Press, 2013).
2 Huffman, James L. Modern Japan: A History in Documents. New York: Oxford University Press, 2004.
3 Daisuke Miyao, The Aesthetics of Shadow: Lighting and Japanese Cinema (Durham, NC: Duke University Press, 2013).
4 Daisuke Miyao, The Aesthetics of Shadow: Lighting and Japanese Cinema (Durham, NC: Duke University Press, 2013).
5 Daisuke Miyao, The Aesthetics of Shadow: Lighting and Japanese Cinema (Durham, NC: Duke University Press, 2013).
6 Richie, Donald. Ozu: His Life and Films. Berkeley: University of California Press, 1974.
7 كامل يوسف حسين، ياسوجيرو أوزو: شاعر الزمن الهادئ (بغداد: دار شهريار، 2021).
8 Daisuke Miyao, The Aesthetics of Shadow: Lighting and Japanese Cinema (Durham, NC: Duke University Press, 2013).
أمل السعيدي قاصة عمانية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی هذا السیاق هذه هی الحیاة فی أفلامه یمکن أن ی التی لا ت ینبغی أن فی أفلام أن أقول أن یکون من خلال أفلام ا فی مکان إذا کان أوزو فی ما یحدث لا یمکن فی هذه لأنه ی على أن فی تلک ا أوزو کما أن لم یکن التی ت التی ی
إقرأ أيضاً:
ترك أثراً لا يُنسى في وجدان المصريين.. خالد أبو بكر ينعي لطفي لبيب على الهواء
عبّر المحامي الدولي والإعلامي خالد أبو بكر، عن حزنه العميق لوفاة الفنان القدير لطفي لبيب، مؤكداً أنه كان يرى فيه صورة مصر والمواطن المصري الأصيل.
وأضاف أبو بكر، مقدم برنامج "آخر النهار"، عبر قناة "النهار"، أنّ الفنان الراحل لم يكن مجرد ممثل بارع، بل كان أحد الرموز التي تركت أثراً عميقاً في وجدان المصريين على مدار سنوات طويلة.
وتابع، أنّ لطفي لبيب كان فناناً راقياً وجميلاً، أدّى عمله بأمانة وإخلاص، وكان نموذجاً مشرفاً لقوة مصر الناعمة، بما قدمه من أدوار جسدت هموم المواطن وتفاصيل حياته اليومية، وجعلته قريباً من الناس في كل بيت.
وأشار إلى أن الراحل لطفي لبيب كان يفتخر دائماً بخدمته العسكرية، وكان يذكر في لقاءاته أنه شارك كجندي في حرب أكتوبر المجيدة، معتبراً ذلك انعكاساً لأصالته وانتمائه الحقيقي لوطنه. وقال أبو بكر: "هذا هو الفنان المصري الأصيل بحق".
وفي ختام حديثه، توجّه خالد أبو بكر بخالص العزاء إلى أسرة الفنان الراحل، داعياً له بالرحمة والمغفرة، مؤكداً أن ذكراه ستبقى حية في قلوب المصريين، كما ستبقى أعماله الفنية شاهدة على قيمه وإنسانيته.