كود بينك.. حركة نسائية ضد الحروب الأميركية
تاريخ النشر: 9th, March 2024 GMT
"كود بينك" حركة نسوية بدأت في أميركا خريف 2002 رفضا لقرار إدارة الرئيس السابق جورج بوش الابن باجتياح العراق. وتعمل على إنهاء الاستعمار الأميركي القائم على إشعال الحروب ودعمها، كما تدعم مبادرات تعزيز حقوق الإنسان والسلام حول العالم، وإعادة توجيه المصادر المالية التي تدعم الحروب إلى منظومة الرعاية الصحية والتعليم، وتسريع التحول الأخضر في الوظائف ورفع مستوى المعيشة.
تعود لحظة ميلاد "كود بينك" إلى يوم 17 نوفمبر/تشرين الأول 2002 حينما بدأت الناشطتان السياسيتان ميديا بينجامين وجودي إيفانز اعتصاما بمشاركة أكثر من مئة امرأة أخرى ضد عزم الإدارة الأميركية اجتياح العراق، واستمرت الحركة الاحتجاجية أكثر من 4 أشهر، شاركت خلالها آلاف النساء وعشرات الشخصيات العامة وما يزيد على 25 مبادرة وحركة نسوية.
ورغم انتهاء الحركة الاحتجاجية بإلقاء القبض على بينجامين بعد قيادتها مظاهرة احتجاجية إلى أبواب البيت الأبيض في مارس/آذار 2003 على إثر الاجتياح العسكري لبغداد، فقد نجحت الحركة في نشر أفكارها، وإرساء الدعائم الشعبية لها، لتصبح شبكة نسوية عالمية تلهم الروابط بين الحركات النسوية وحركات مناهضة الحروب.
ويعود اسم "كود بينك" إلى نظام الترميز الإنذاري الأميركي ضد الهجمات الإرهابية، الذي أنشأته وزارة الأمن الداخلي، وهو نظام يسهل من خلاله تحديد الخطر الإرهابي، ومن ثم مواجهته بأفضل شكل ممكن.
وقسمت درجات الإنذار إلى 5 مراحل يرمز إلى كل منها لون محدد بداية من الأخضر وهو الخطر الأدنى، ثم الأزرق الذي يشكل التهديد الطبيعي من الحركات الإرهابية، ثم الأصفر ويشير إلى خطر بارز، ثم البرتقالي الذي يمثل إنذارا قويا، ثم الأحمر الذي ينذر بأن وقوع هجوم إرهابي أصبح شبه مؤكد.
واقتباسا من نظام الترميز، جاءت تسمية الحركة الباحثة عن السلام في وقت الحرب، فمن ناحية يعبر الوردي عن قوة نسوية، ومن الناحية الأخرى لا يجسد بأي شكل من الأشكال حالات الحرب. ورغم تغيير وزارة الأمن الداخلي نظام الترميز عام 2011 ظلت الحركة محتفظة باللون الوردي رمزا لها.
رغم تعريف "كود بينك" نفسها بأنها حركة نسوية تسعى إلى نشر السلام، والضغط على الإدارة الأميركية لتعزيز حالة السلم بدلا من المساهمة في تأجيج النزاعات، فهي ترحب في الوقت نفسه بانضمام الرجال لها، حتى أن مجلس إدارتها يضم رجلا، فضلا عن عشرات آخرين من الذكور.
غير أن مشاركة الرجال بالحركة لم تغير من توجهها ولا تسميتها، أو اعتمادها الأكبر على النساء. وربما يلعب الاختلاف المفاهيمي حول النسوية دورا كبيرا في قلة عدد الرجال في "كود بينك" إذ تنطلق الرؤية السياسية النسوية بحسب الخطاب التأسيسي لها من دعوة النساء حول العالم لينهضن ضد الحرب في العراق.
وجاء في الخطاب التأسيسي "إننا ننادي الأمهات والجدات والأخوات والبنات. ننادي العاملات، والطالبات والمعلمات والمعالجات والفنانات والكاتبات والمغنيات والشاعرات، وكل غاضبة من أجل تحقيق السلام. النساء هن حارسات الحياة، ليس لأنهن أفضل أو أنقى، أو راعيات بالفطرة، وإنما لأن الرجال مشغولون بصناعة الحروب".
الفكر والأيديولوجيامع بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بعد هجوم "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، زادت شهرة "كود بينك" عند الجمهور العربي، خاصة مع المظاهرات الواسعة التي دشنتها الحركة بالعاصمة الأميركية، وحركات الاحتجاج الكبيرة التي لم تكتف بساحات المدن، وشوارعها، وإنما أيضا سعت إلى التعبير عن موقفها من الحرب في أروقة مجلس النواب، بمقاطعة جلسات نقاش تمويل الجيش الإسرائيلي عسكريا، والنقاش حول تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) وأخيرا الضغط على إجراء حوارات وأحاديث صحفية مع صناع القرار الأميركيين.
ودعم الموقف الإنساني في غزة ليس موقفا عابرا، وإنما يعبر عن مبدأ سياسي في هذه الحركة التي تؤمن بشكل كامل بالقضية الفلسطينية وبحق الشعب الفلسطيني على الأرض.
وتسعى الحركة منذ تأسيسها إلى تأصيل السلام باعتباره حلا للمشاكل العالمية، وترى أنه بدلا من تأجيج الصراع فإنه بإمكان السياسية الأميركية أن تلعب دورا فعالا في حل النزاع وتعزيز السلام، إذ لا يُمكن تحقيق السلم بالعنف، وإنما تسعى الحرب إلى توطين جذور النزاع في المستقبل وعبر الأجيال المختلفة.
انطلقت الحركة الاحتجاجية على اجتياح العراق بعد تهديد مجلس الأمن بضرورة سماح العراق للوكالة الدولية للطاقة الذرية بإرسال مفتشيها للمراقبة على ما قالت إنها أنشطة لتصنيع أسلحة دمار شامل، والتأكد من عدم امتلاك نظام صدام حسين أيا منها، وكانت هذه الخطوة هي الخيط الوحيد الذي تمسكت به الإدارة الأميركية مبررا للاجتياح العسكري، وهي الخطوة التي فطنت إليها أيضا مؤسسات "بينك كود".
مبادئ ومواقف أساسيةتسعى الحركة إلى السلام عالميا من خلال شبكة من الناشطات والنشطاء الملهَمين برؤية الحركة وذلك من خلال عدة مبادئ أساسية تشكل العمود الفقري للحركة، أهمها:
نبذ العنف: إذ تدعو بشكل مستمر وغير قابل للتفاوض لكل أشكال الاحتجاج السلمية، ولا تؤيد أي درجة من درجات العنف من أعضائها مهما بدت الغايات جليلة في سبيل ذلك. العمل بأهداف واضحة لكل الحملات والأنشطة المختلفة التي تعزز من المهمة الرئيسية للحركة. العمل التشاركي داخل الحركة. تبني رؤية طويلة الأمد لإنهاء حالات النزاع التي تؤمن الحركة بأن السياسات الأميركية جزء من أسبابها.وبداية من دعم العراق ضد الاحتلال الأميركي، تبنت "بينك كود" عدة مواقف مناهضة للحروب أبرزها:
موقفها من القضية الفلسطينية على مدار العقدين الأولين من القرن 21. مناهضتها للخصومة الأميركية مع إيران. معارضتها للحرب الروسية على أوكرانيا. معارضتها للحرب في اليمن. دعوتها لإغلاق معتقل غوانتانامو. دعوتها لإنهاء الخصومة مع الصين وكذا كوريا الشمالية.خلال حديثها عن الحرب الروسية على أوكرانيا تؤكد ميديا بينجامين أن هذه الحرب لم تبدأ في فبراير/شباط 2022 مع اجتياح القوات الروسية الحدود الأوكرانية، وإنما تعود جذور النزاع إلى سنوات ترجع إلى تاريخ الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، وتنطلق من ضرورة فهم جذور النزاع بدرجة أعمق لتحقيق السلام بشكل حقيقي، وتؤكد على أن التفاوض بين الأطراف هو الحل الأمثل.
وترى الحركة أن أسباب الحرب تعود إلى تمدد حلف شمال الأطلسي (الناتو) في كسب التحالفات السياسية والعسكرية، على الرغم من أن الهدف الرئيسي للتحالف كان هو ردع أي هجوم عسكري من الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة، ومع سقوط الاتحاد كان الأدعى أن يتم حل التحالف أو عدم الاعتماد عليه بشكل أساسي.
ومن هذا المنطلق يمكن رؤية أن الحركة تنحو نحو عملية السلام، وليست حركة احتجاجية أحادية المطالب، وإنما تؤمن بأجندة تؤكد أن الحرب تأجيج للنزاع، وتدعو لأولوية الإنفاق على الرعاية الصحية والمساكن والتعليم بدلا من المشاركة في الحروب.
وتدعم أنشطة الحركة هذه السردية بأنشطة احتجاجية وفكرية وثقافية، ومن خلال الضغط على الشخصيات العامة وصناع القرار، وانطلاقا من ذلك ترى الحملة ضرورة التعامل بشكل أفضل مع الخصوم التاريخيين للسياسة الأميركية، روسيا وإيران والصين وكوريا الشمالية.
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
غسان حسن محمد.. شاعر التهويدة التي لم تُنِم. والوليد الذي لم تمنحه الحياة فرصة البكاء
بقلم : سمير السعد ..
في عالمٍ تُثقله الحروب وتغرقه الفواجع، تبرز قصيدة “تهويدة لا تُنيم” للشاعر العراقي غسان حسن محمد كصرخة شعرية تحمل وجع الوطن، وتجسِّد الإنسان العراقي في زمنٍ لم يعد فيه للتهويدات مكان، ولا للطفولة حضنٌ آمن. غسان، ابن العمارة ودجلة والقصب، هو شاعر يكتب بقلبه قبل قلمه، ويغزل قصائده من نسيج الوجع العراقي بأدقّ خيوط الإحساس وأصفى نبرة صدق.
يفتتح الشاعر قصيدته بمشهد يختزل حجم الانهيار الداخلي في صورة جسدية/معمارية رمزية:
“من ربّت على ظهرِ الجسر..،
حتى انفصمت عُراه.”
ليتحوّل الجسر، رمز العبور والحياة، إلى معبر نحو الفقد والانفصال، ولتمتدّ صورة اليُتم على النهر كلحن لا يُفضي إلى الوصول:
“ليمتدَّ اليتمُ على كامل النهرِ،
يعزفُ لحنَ اللاوصول؟!”
هنا لا يتحدث الشاعر عن اليتيم بمعناه الفردي، بل يُحوّله إلى حالة جماعية تسري في جسد المكان، حالة بلد بأكمله يُرَبّى على غياب الآباء، وانقطاع الحكايات.
تدخل الحرب بوصفها شخصية غاشمة، لا تنتظر حتى تهدأ التهويدة، بل تُباغت الزمن وتفتك بالطمأنينة:
“الحرب..،
الحرب..،
(لعلعةٌ..):
كانت أسرعَ من تهويدة الأمِّ لوليدها”
هكذا يضع الشاعر التهويدة، رمز الحنان والرعاية، في مواجهة مباشرة مع صوت الحرب، لنعرف أن النتيجة ستكون فاجعةً لا محالة. ولا عجب حين نسمع عن الوليد الذي لم تمنحه الحياة حتى فرصة البكاء:
“الوليدُ الذي لم يفتر ثغرهُ
عن ابتسام..”
فهو لم يعرف الفجيعة بعد، ولم يلعب، ولم يسمع من أبيه سوى حكاية ناقصة، تُكملها المأساة:
“لم يَعُد أباه باللُعبِ..,
لم يُكمل حكايات وطنٍ..،
على خشبتهِ تزدهرُ المأساة لا غير.!”
في هذا البيت تحديدًا، يكشف غسان عن قدرة شعرية مدهشة على تحويل النعش إلى خشبة مسرح، حيث لا تزدهر إلا المأساة، في تورية درامية تفتك بالقلب.
ثم يأتي المشهد الفاصل، المشهد الذي يُكثّف حضور الغياب:
“عادَ الأبُّ بنعشٍ.. يكّفنهُ (زهرٌ)
لم يكُن على موعدٍ مع الفناء.!”
فالموت لم يكن مُنتظرًا، بل طارئًا، كما هي الحرب دومًا. لقد كان الأب يحلم بزقزقة العصافير، وسنابل تتراقص على وقع الحب:
“كان يمني النفسَ
بأفقٕ من زقزقات.،
وسنابلَ تتهادى على وقع
أغنية حبٍّ..
تعزفها قلوبٌ ولهى!”
بهذا المشهد، يقرّب الشاعر المأساة من القلب، يجعل القارئ يرى الأب لا كمقاتل، بل كعاشق كان يحلم بأغنية، لا بزئير دبابة. حلمُ الأب كُسر، أو بالأدق: أُجهض، على خيط لم يكن فاصلاً، ولا أبيض، بين الليل والنهار:
“حُلم أُجهض على الخيط
الذي لم يكن فاصلاً..،
ولا ابيضَ..
بين ليلٍ ونهار”
لا زمن في الحرب، لا بداية ولا نهاية، ولا فاصل بين حلمٍ وحطام. فالحرب تعيش في الفراغ، وتُشبع نهمها من أجساد الأبناء دون أن ترمش:
“ذلك أن لا مواقيت لحربٍ..
تُشبعُ نهمَ المدافع بالأبناء..”
وفي النهاية، تأتي القفلة العظيمة، القفلة التي تحوّل الحرب من آلة صمّاء إلى كائنٍ لو امتلك عيناً، لبكى، ولابتسم الطفل:
“فلو كانَ للحربِ عينٌ تدمع.،
لأبتسم الوليد!”
ما أوجع هذا البيت! إنه انقلابٌ شعريّ كامل يجعل من التهويدة التي لم تُنِم أيقونةً لفجيعة كاملة، وابتسامة الوليد غاية ما يتمنّاه الشاعر، وكأنّها وحدها قادرة على إنهاء الحرب.
غسان حسن محمد الساعدي ، المولود في بغداد عام 1974، والحاصل على بكالوريوس في اللغة الإنجليزية، هو عضو فاعل في اتحاد الأدباء والكتاب في العراق. صدرت له عدة مجموعات شعرية ونقدية منها “بصمة السماء”، و”باي صيف ستلمين المطر”، و”أسفار الوجد”، إضافة إلى كتابه النقدي “الإنصات إلى الجمال”. شاعرٌ واسع الحضور، يكتب بروح مغموسة بجماليات المكان وروح الجنوب العراقي، وينتمي بصدق إلى أرضه وناسها وتاريخها الأدبي والثقافي.
شاعر شفاف، حسن المعشر، لطيف في حضوره، عميق في إحساسه، يدخل القصيدة كمن يدخل الصلاة، ويخرج منها كما يخرج الطفل من حضن أمه، بكاءً وشوقًا وحلمًا. هو ابن العمارة، وابن دجلة، وابن النخيل والبردي، يدخل القلوب دون استئذان، ويترك فيها جُرحاً نديًّا لا يُنسى.
في “تهويدة لا تُنيم”، لا يكتب الساعدي الشعر، بل يعيش فيه. يكتب لا ليواسي، بل ليوقظ. لا ليبكي، بل ليُفكّر. قصيدته هذه، كما حياته الشعرية، تُعلن أن الشعر ما يزال قادراً على فضح الحرب، وردّ الضمير إلى مكانه، لعلّ الوليد يبتسم أخيرًا.