يرتبط شهر رمضان في أذهان الأدباء بذكريات خاصة ممتعة، تجعلهم في حالة حنين دائم إليه، كما أنها ترتبط لدى بعضهم بطقوس خاصة في الكتابة والقراءة.

يقول الكاتب العراقي علي خيون لـ"عمان": "في ذهني رمضان واحد مميز، لا يشبه سواه، ربما لأنه جزء من صباي المبكر ومن المكونات الأولى لفكري وبنائي الروحي والنفسي، ولا يمكن أن أنساه أبدًا، صادف فيه، أنني نجحت بتفوق في امتحان البكالوريا للصف السادس الابتدائي، وقد حصلت على هدايا جميلة ممن يعرفني، لكن هدية أبي كانت مميزة جدًا، وهي جاكيت (سترة بكفين طويلة مفتوحة من الأمام تُغطي النصف العلوي من الجسم)، وكان هذا الجاكيت الأبيض غاليًا، كنت أرتديه مع بنطلون أسود، فأظهر فيه أنيقًا، وكان موضع إعجاب شديد ممن كنت ألتقي بهم".

خرج علي خيون الصبي بالجاكيت ذات يوم إلى الشارع ورآه شاب فقير معدم، وأغرم به، اسمه جبار، وكانوا ينادونه "ابن حفيظة"؛ لأنه يعيش مع أمه العجوز. كان الصبيان يعرفونها جيدًا، ويلعبون قريبًا منها؛ لأنها تفترش الأرض قبالة باب بيتها الصغير وقت العصر حتى الغروب. أخذ الجاكيت عقل جبار، وملك عليه نفسه، وانبهر بجماله، وقال بصوت سمعه الجميع: "لو بقيت أعمل سنة كاملة لما قدرت على شراء جاكيت مثله". يومئذ، عاد علي إلى البيت، وحكى لأبيه عن جبار المعدم، وأوضح له كيف أنه كان ينظر إلى "الجاكيت" ويتألم، أو يشعر بأنه لن يرتدي مثله أبدًا، بسبب ضيق ذات اليد، فقال له أبوه: "في المحلة فقراء لا يعدون ولا يحصون، وهو هدية نجاحك، ولا قدرة لي على شراء ملابس للجميع".

في اليوم التالي عاد علي إلى البيت بدون الجاكيت، لم يسأله أحد عنه، ولكنه قال لأمه: إنه طبَّق فكرتها عن مساعدة الغير في رمضان، ومنح الجاكيت لجبار. كان قلقًا بعض الشيء من ردة فعل الأب، غير أن أمه طمأنته قائلة: "بارك الله فيك ماما، وتقبل الله صيامك".

يعلق: "ذلك الشهر الفضيل البعيد، كان في ذهني وروحي من أجمل الأشهر التي مرت عليَّ، إذ فعلت فيه الخير من دون منَّة ولا أذى، لصديق وجار، ولم يعترض عليَّ أحد، وبقيت سعيدًا جدًا، وأنا أرى جبار يرتديه ويزهو به، وكأنني نجحت في بكالوريا أخرى كبيرة وصعبة".

ما المختلف بين رمضان الطفولة ورمضان الوعي؟ أسأل ويجيب: "في الطفولة، تبدو الأشياء غامضة، نتعلمها ممن هم أكبر منا، ومن طقوس العائلة وعاداتها وتصرفاتها، ولأن العائلة تفرح بقدوم رمضان، كنت أفرح كثيرًا برمضان لفرح أهلي به، وأعرف أنه يرتبط بالعطاء ومساعدة الآخرين، وبأطعمة معينة أحبها ومنها شوربة العدس التي لا بُدَّ أن نأكلها عند الفطور، والتمر واللبن، والسهر حتى السحور، ومفردات كثيرة عن ألعاب معينة ارتبطت باسم رمضان في العراق، وفي بغداد تحديدًا، ومناطقها القديمة، مثل لعبة "المحيبس" الشهيرة، وهو تصغير لكلمة محبس أو خاتم، الذي يُخبأُ في كف أحد الفريقين وعلى مدير اللعبة إيجاده، وقد ظهر رجال مهرة لاستعادته، تُوزَّع بعد ذلك صوانٍ كبيرة من الحلويات "الزلابية والبقلاوة" تدفع للفريق الفائز".

ويضيف: "هذا هو الانطباع الطفولي عن رمضان في ذاكرتي، لكننا مع تقدم العمر والتجربة، صار رمضان يرتبط ارتباطًا وثيقًا لدينا بالصلاة المنتظمة في وقتها، وفي قراءة القرآن الكريم وتدبره، وترك اللغو ومسك اللسان، والانشغال بذكر الله تعالى، ولم تعد الألعاب ولا الجلوس الطويل أمام التلفزيون هو المهم، بل المشاركة في دورة إيمانية، مدتها شهر، نعود فيها إلى الله سبحانه تاركين مشاغل الحياة وضغوطها، راجين فضله ورحمته، ونترقب ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر والحرص على الظفر بها لتحقق لنا طموحاتنا ببركات خالق عظيم".

هل يتغير نظام قراءتك في رمضان؟ وهل هناك كتب معينة تستعيد قراءتها؟ يقول: "نعم، يتغير نظام قراءاتي في رمضان، وهذا ما اعتدته منذ سنين، فأنا أترك كل ما في يدي، ويكون القرآن وتفسيره إلى جانبي، وأهيئ كتبًا بعينها لأعيد مطالعتها، وقد تطرأ على ذهني فكرة رواية جديدة، فأخصص لها بعض الوقت ليلًا، وقد تركت متابعة المسلسلات التي أرى أنها لم تعد بالمستوى الذي كانت عليه من قبل".

ويضيف: "أما الكتب التي تلازمني بعد كتاب الله سبحانه، فهي تفسير مُيسَّر للقرآن الكريم، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، أجد فيهما متعة لا تعادلها متعة، هذا طبعًا، في شهرنا الحالي، أما في شهور رمضان الماضية، فقد طالعت نهج البلاغة شرح محمد عبده، ورسائل الجاحظ، ومع المتنبي لطه حسين، وغيرها من كتب أشحن فيها طاقة اللغة العربية لديَّ".

يتوقف خيون في رمضان عن كتابة القصة والرواية؛ لأنه ينغمس في طقوس مختلفة، وفي زيارات الأهل والأصدقاء، ولكنه هذا العام، أنجز قصة كانت في ذهنه خلال أول يوم رمضاني، ووضع خطوطًا عريضة لفكرة رواية، يعلق: "ربما هي من بركات هذه الأيام المشحونة بالخير والرضا والعطاء ثم اكتفيت بهذا لأعود إلى سيرتي المعتادة في رمضان".

طقوس رمضان متشابهة لدى الجميع، كما يظن خيون، بين صيام وقيام ودعاء وتلاوة، لكن هناك أسئلة في الشهر الفضيل تتزاحم على مخيلته: ما الذي يقدمه من خير لغيره؟ وكيف يراجع نفسه فيتأمل ما فعل في سابق الشهور من السنة؟ يعلق: "يأخذني العجب من سعينا المحموم فيها، وقلقنا، وطموحاتنا، ومن هنا أفهم فكرة رمضان العظيمة كلها، عبر المراجعة، والمحاسبة، والتدقيق، والتأمل، فنحن لم نُخلَق عبثًا، ولم نُترك سدى، تلك أمور تقلقني، وتجد مداها الكامل في نهارات رمضان ولياليه المباركة".

بدأ خيون قاصًا ثم تحول إلى الرواية عام 1982 برواية "صخب البحر" التي حولها السيناريست العربي صالح مرسي إلى فيلم سينمائي ثم "عيون الظلام"، "العزف في مكان صاخب"، "بلقيس والهدهد"، "النشور"، "سلوة العشاق"، "رماد الحب"، "بين قلبين"، "في مديح الحب الأول، "ألقِ عصاكَ". "كأنها معي". وفي القصة، صدرت له 11 مجموعة قصصية، هي: "قراءة في أوراق الفجر"، "رحلة الليل الأخيرة"، "الحداد لا يليق بالشهداء"، "زائر آخر"، "أيام في الذاكرة"، "الأعماق"، "عيون الحب"، "تحت سماء زرقاء"، "رؤوس يانعة"، "حكاية الفتى البغدادي"، و"خطوط على لوحة جرداء".

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی رمضان

إقرأ أيضاً:

تغييب حوثي لمعلمين في تعز.. صمت مطبق ومعاناة إنسانية تتفاقم

تواصل ميليشيا الحوثي الإرهابية ارتكاب انتهاكات جسيمة بحق المعلمين والتربويين في مناطق سيطرتها بمحافظة تعز، في مشهد يعكس سياسة ممنهجة لاستهداف الكادر التعليمي وتكميم الأصوات الرافضة لنهجها الطائفي. 

وبحسب مصادر تربوية وحقوقية، لا يزال العشرات من المعلمين يقبعون في سجون الميليشيا منذ فترات متفاوتة، دون السماح لأسرهم بالتواصل معهم أو معرفة مصيرهم، في ظل صمت رسمي ودولي مقلق.

تأتي هذه الممارسات في سياق حملة قمع متصاعدة تنفذها الميليشيا ضد التربويين، بهدف إخضاع المؤسسات التعليمية بالكامل لسيطرتها الفكرية، وتطويعها لخدمة أجنداتها العقائدية المستوردة من إيران، الأمر الذي حوّل المدارس من منابر علم إلى أدوات تعبئة مذهبية.

وأشارت مصادر تربوية إلى أن ثلاثة معلمين من مدرسة 26 سبتمبر في منطقة الأجعود، بمديرية التعزية شمال المحافظة، لا يزالون رهن الاعتقال التعسفي منذ أكثر من ثلاثة أشهر، بعد أن تم اقتيادهم من داخل المدرسة دون توجيه تهم رسمية أو السماح لعائلاتهم بزيارتهم.

وذكرت المصادر أن المعلمين هم: سرحان أحمد، وعبدالسلام علي قاسم، ومنصور علي عبده، ويحتجزون حاليًا في سجن الصالح بمدينة الحوبان في ظروف قاسية، وسط غياب أي إجراءات قانونية أو توضيحات بشأن أسباب احتجازهم.

وفي مديرية ماوية شرق تعز، اختطفت الميليشيا الأستاذ جمال قايد سُعَيِّد قبل أكثر من ثلاثة أشهر، ولا يزال مصيره مجهولًا حتى اليوم.

الإعلامي سامي نعمان وصف في منشور له على صفحته في منصة "فيسبوك" اختطاف الأستاذ جمال بأنه "جريمة أخلاقية وإنسانية بحق أحد أنبل رجال التربية والتعليم في ماوية"، مؤكدًا أن الميليشيا الحوثية تمارس "حملة توحش عنصرية همجية" تستهدف المدرسين والمواطنين في مختلف المحافظات.

وقال نعمان: "الأستاذ جمال من أشرف وأنزه من عرفت في حياتي، درسني قبل أكثر من 35 سنة، وكان رمزًا للنزاهة والكرامة، يكافح بعمله الشريف ليعيش بكرامة، لكنه اليوم يقبع في زنازين الميليشيا لمجرد كونه إنسانًا حرًّا وشريفًا."

وأضاف: "لقد تحولت ماوية إلى ساحة عبث للمتحوثين الجدد الذين يتسابقون في الولاء للمشروع الحوثي القذر على حساب كرامة أبناء مناطقهم. لكن التاريخ لن يرحم، وسيأتي يومٌ تُفضح فيه هذه العصابة ويُقتص من كل من تواطأ على الناس وكرامتهم."

ومطلع أكتوبر الجاري كشفت نقابة المعلمين اليمنيين عن واقع مأساوي يعيشه الكادر التربوي في مناطق سيطرة الميليشيا، حيث يقبع أكثر من 350 معلمًا في سجون الحوثيين، ويتعرضون لأبشع صنوف التعذيب النفسي والجسدي والابتزاز المالي، في محاولة لتكميم أفواههم وإجبارهم على الخضوع لدورات فكرية طائفية.

وأكدت النقابة أن الميليشيا تمارس ضغوطًا متواصلة على المعلمين عبر خصم مستحقاتهم الزهيدة، أو تهديدهم بالفصل والنقل القسري، مشيرة إلى أن الهدف من هذه السياسة هو "تحييد التعليم وتحويله إلى أداة سياسية وأمنية بيد الجماعة". ودعت النقابة المنظمات الدولية والأمم المتحدة إلى التدخل العاجل للإفراج عن المعلمين المختطفين، ومحاسبة المتورطين في هذه الانتهاكات التي تمثل جريمة بحق الإنسانية وحق التعليم.

ويؤكد مراقبون أن استمرار ميليشيا الحوثي في اعتقال المعلمين والتربويين، يعكس توجهها العدائي تجاه الوعي الوطني والمجتمعي، في محاولة لعزل الأجيال الجديدة عن قيم الحرية والعلم والتعايش، وإحلال ثقافة الكراهية والعنف محلها.

مقالات مشابهة

  • إسرائيل تعيد فتح معبر رفح لإدخال مساعدات إنسانية إلى غزة
  • الهلال الأحمر يطلق القافلة الـ50 من زاد العزة بأكثر من 400 شاحنة مساعدات إنسانية
  • الملك عبد الله الثاني صوت الحقيقة التي هزمت أكاذيب نتنياهو وحكومتة المتطرفة .
  • إبراهيم رضا: من لم يشكر القيادة التي حفظت الوطن لم يشكر الله
  • تغييب حوثي لمعلمين في تعز.. صمت مطبق ومعاناة إنسانية تتفاقم
  • 173 شاحنة مساعدات إنسانية تدخل قطاع غزة
  • مبابي: حصلت على فرصة العمر بمشاركة ميسي غرفة الملابس
  • “أونروا”: سكان غزة لا يزالون يواجهون أوضاعًا إنسانية قاسية
  • بعد تعيينه عضوًا بمجلس الشيوخ.. من هو الروائي أحمد مراد؟
  • وقفة.. نصر العاشر من رمضان السادس من أكتوبر «1»