كتابةُ الرسائل ارتقت لتكون أثرا وعينا وتُشكّل لذاتها مجالا نظّر له المُنظّرون وخاض فيه النقّاد والدارسون، غير أنّها في نهاية الأمر رسالةٌ، خطابٌ يتوجّه به مُرسِلٌ إلى مُرسَل إليه، ولا يتكوّر هذا الأثر الرسائليّ ويتشكّل إلاّ بتراكم رسائل الجواب من جهة، واستعمال شكل الرسالة لإضاءة وبيان مغمَض الأدب عامّة أو ما تعتّم من نصوصٍ أو هي تُستَعمَل أيضا للكشف عن مقام حفّ بحياة أديب أو بمساره، ومن هنا تكتسب رسائل الأدباء الإخوانيّة أهميّة بالغة، ولعلّنا نُدركُ هذه الأهميّة في اطّلاعنا على مدوّنة رسائليّة تجمّعت فيها رسائل متبادلة بين شاعرين فلسطينيين جمعتهما القضيّة الفلسطينيّة وجمعهما الشعر وفرّقهما المُغتصب، والمنظور لطرائق مقاومته، هما محمود درويش وسميح القاسم.

شاعران وهبا حياتهما وشعرهما للوطن المسلوب، وتفرّقا في خُصومةٍ ليست كالخُصومات، وبقيا على عهد الأرض كلّ منهما يُدافعُ عنها من كُوّته، ليجتمعا في مرحلةٍ متقدّمة من العُمر ومن التجربة الشعريّة في حوارٍ رسائليّ رائق وكاشف عن مواجدهما، وسمه محمود درويش بالورطة الجميلة، ووسمه إميل حبيبي الطرف الثالث المرفوع من هذه الرسائل بتراسل شطري البرتقالة.

الشاعر محمود درويش الذي اختار إكراها أن يحمل القضيّة خارج الوطن، وأن يكون الصوت الشعريّ الفلسطينيّ في المحافل الدوليّة والذي اندمج في العمل السياسيّ مع منظّمة التحرير الفلسطينيّة، والذي تحمّل فيها مسؤوليّات سياسيّة في فترة ما، والشاعر سميح القاسم الذي رفض المغادرة، وبقي زيتونة فارعة، رامية بأغصانها الشعريّة داخل الوطن. من هذه الأرضيّة تتكوّن رسائلُ في طيّاتها ثلاث بؤر من الحكْي على درجة بالغة من الأهميّة، البؤرة الشخصيّة الذاتيّة، في العلاقة الجامعة بين الشاعرين، والتي تُبْدي تاريخا من الصفاء ومن الكدر، من العتاب ومن الرضا، من الغضب ومن المرح، والبؤرة الوطنيّة في تاريخ الهزائم والخيانات، والبؤرة المستقبليّة أملا وإعادة تنشيط لذاكرة الأمل. في رسالة نثريّة أولى يضبط محمود درويش حدود هذه اللعبة الرسائليّة التي يدخل فيها صُحبة سميح القاسم، ويُبْدي وعيه بضفافها ومخاطرها وشدّة أمواجها، ويبسط السبيل الذي ينهجه في إنتاج كتابة رسائليّة واعية عارفة، تُنْجَز لغاية النشر لا لقصد الحفظ والتستّر، يقول بعد أن ألقى سؤالا على صاحبه مفاده "ما قيمة أن يتبادل شاعران الرسائل": "وأصل الحكاية -كما تذكر- هو رغبتنا الوارفة في أن نترك حولنا، وبعدنا، وفينا، أثرا مشتركا وشهادة على تجربة جيل تألّب على نور الأمل وعلى نار الحسرة، وأن نقدّم اعتذارا مدويّا عن انقطاع أصاب ساعة من عمرنا الواحد، وأن نعيد ارتباطنا السابق إلينا وإلى وعي الناس ووجدانهم، لنواصل هذه الثنائية المتناغمة -ثنائيّتنا- إلى آخر دقيقة من الزمن، بعدما تمرّدنا عليها في مطلع التكوّن الجنينيّ تمرّدا كان ضروريّا لبلورة خصوصيّة لا بديل عنها في الشعر، ثمّ تجاوزت نزعتها الاستقلاليّة لتتحوّل إلى تناحر سفيه قد كان أحد مصادره إحساس الواحد منّا، بشكل مفاجئ، بقطيعة حوار تُوصلُ إلى يُتم.

لقد كان كلّ واحد منّا شاهدا على ولادة الآخر، فلنتابع هذه الشهادة"، إذن هذه الرسائل هي في جانب كبير منها شهادة، شهادة على تاريخ من النضال ضدّ العدوّ الإسرائيليّ الهمجيّ، خاضها الشاعران منذ أواخر خمسينيات القرن العشرين، نضالٌ بالفكر والنشر والشعر، ونضال بالعمل السياسيّ وعملٌ على فضح وكشف الصورة الاستعمارية الاستيطانيّة لقتلة الأطفال والنساء، شهادة لشاعرين لم يُؤثّرا فحسب في الواقع الفلسطينيّ بل تحوّلا إلى أيقونتين للنضال الفكري في كلّ العالم العربي، ويكفي أن نذكر أنّ سميح القاسم هو صاحب الأنشودة الشعار "منتصــــــبَ القامةِ أمشي/ مرفــــوع الهامة أمشي- في كفــــــي قصــــــفة زيتــــــونٍ/ وعلـــــى كتفــــي نعشي". وأنّ محمود درويش هو صاحب "أحنّ إلى خبز أمّي"، وقد قدّم الأوّل مجموعة من القصائد التي فارقت حدود فلسطين إلى الكونيّة، منها "غرباء"، "رسالة من المعتقل"، "البيان قبل الأخير" و"بوّابة الدموع"، وقدّم الثاني شعرا استرجع به الأدب العربيّ صورته الناصعة ودوره التخييلي العميق، منها: "العصافير تموت في الجليل"، "عابرون في كلام عابر"، "لماذا تركت الحصان وحيدا" و"يطير الحمام"، هذا جانبٌ من إرث شعريّ مشترك جمع بين شاعرين لهما عقود من هزّات الوطن، ومن الصراع ضدّ المغتصب، ومن حكايات الحبّ واللّعب في أزقّة الحواري، وفي القُرى، لهما ذكريّات من مراحل الطفولة والصبا والمقاومة، عبّر عنها الشاعران في رسائل تفوح منها روائح الصدق والحنين والمغادرة.

أخذت ثيمة الغربة أو الاغتراب مساحة من الرسائل المتبادلة، من بقي في الداخل يفتقد أرضه صورها وروائحها وينظر إلى مغتصب يعبث بتاريخها ويحوّل من طبيعتها، ومن فارق الوطن، تمسّك بصور في ذهنه يحنّ إليها ويأمل في العودة إليها ليلقاها كما هي، غير أنّ الصورة تحوّلت وتبدّلت، وعينُ المرسِل من الداخل تختلف عن حنين المُرسل من الخارج، فإذ يطلب محمود درويش في رسالة من رسائله أن يُلقي صاحبه السلام على شجرة الخروب التي يراها أصله ومنبته "ولكن شجرة الخروب إيّاها التي دلّت المستوطن الأجنبيّ "البريء" عليّ وعلى أجدادي، هي هي غلاف هويّتي، وهي أيضا جلد روحي، إذا كان للروح جلد. هناك ولدت، هناك ولدت، وهناك أريد أن أدفن، ولتكن تلك وصيّتي الوحيدة"، تحمل الشجرة حنينا وصورة للّعب ومرح الطفل، صورة للماضي المتذكَّر، صورة للأرض، فيدعو صديقه "سفير القلب إلى الشجر" أن يلقي عليها السلام وأن يحفظها من السوء وأن يؤمّنها مقبرةً له، فيجيبه الصديق الباقي في الأرض المُنعَّم بالأشجار والأحجار ""دعني أصارحك بأنني منذ فراقنا، وربّما منذ تعارفنا، وأنا أتهرّب من أنقاض البروة، زيتونها، خروبها، صبّارها، وحين أمرّ بها أحاول إشغال نفسي بأمر ما حتّى أتجنّب النظر إليها، ولو ضبطت نفسي متلبّسا بالنظر صوبها فإنّ عقربا صفراء هائلة تلسعني في القلب مباشرة، وبلا رحمة وتنغّص عليّ رحلتي، لا تغبطني على إقامتي، جحيم هنا، وجحيم هناك، جحيم إلى يوم الجنّة"، لن يزور سميح القاسم شجرة الخرّوب وإن كان الأمر وصيّة صديق لأنّ ألم الحضور يفوق ألم الغياب، لقد تعرّض الشاعران في هذه الرسائل إلى محور هامّ في شعريهما وفي واقعهما، هو محور الحضور الغياب، شعراء المقاومة بالداخل وشعراء المقاومة بالخارج، وهو محور احتلّ مساحة من الجدل الثقافي الأدبيّ في السبعينيّات والثمانينيّات من القرن الماضي، وقد كشفت الرسائل أنّ العذاب واحد وأنّ القضيّة أيضا واحدة، وأنّ الاغتراب أشدّ من الغربة. أثار محمود درويش في رسالته الأولى مسألة الداخل والخارج، وشفّ خطابه عن ألم اتّهامه بالهروب من الوطن، وعرض اعترافا بأنّه نادم على مفارقته الأوطان، هل تحمل الرسائل مراجعات لمواقف من القضيّة الفلسطينيّة؟ ترمي مسألة الداخل/ الخارج بظلالها على التراسل بين الشاعرين، ليحلّ همّ الفلسطينيّ المُهجّر في البحث عن أرض تحوي جثمانه إذ لم تتوفّر الأرض التي تحوي أنفاسه وحياته، يقول درويش "ولكن أين قبري يا صديقي؟ أين قبري يا أخي؟ أين قبري؟" فيجيبه الصديق في رسالة جواب، عزاءً ووقوفا على معنى الاغتراب الذي عمّ الرسائل: ""أخيرا لا تسألني أين قبرك. ما دام المهد قضيّة معلّقة فسيظلّ القبر سؤالا محرجا يتيم الإجابة". تعمل هذه الرسائل على ترميم الذاكرة والخروج من اليأس، ومحاولة التصريح دون الفضح والتشهير، في حوار عاطفيّ، شعوريّ، مُظهر لنهاية شاعرين آثرا الحوار بعد الخصومة، والنطق بعد الصمت، والنثر بعد الشعر، يحاول سميح القاسم فهم ما يحصل، وما حصل في تاريخ القضيّة الفلسطينيّة التي عدّ نفسه كلمة في ديوان شعرها: "فما الذي كان، وما هو كائن وما الذي سيكون بعد إذ صعقوا مخيّلة طفولتنا عام 1948 وصعقوا مخيّلة فتوّتنا عام 1956 وصعقوا مخيّلة شبابنا عام 1967 وقايضونا عين جالوت بكامب ديفيد، والحبل على الأعناق. خانوا ذاكرتنا، بملوكهم ورؤسائهم وحكوماتهم ومؤسّساتهم، خانوا ذاكرتنا شعبا وجيلا وشعراء، لا بأس عليك، لا بأس عليّ. علينا أن نرمّم الذاكرة". رسائلُ تُبْدي مواقف منها ما هو مستور، ومنها ما هو مكشوف، وتُعيد إلى المسار صلةً تاريخيّة بين شاعرين كبيرين في تاريخ الأدب الحديث، تخاصما ورُدّت إليهما الروح بعد انتهاء التجربة، والوقوف على العجز دون اليأس، وعندما مات درويش نعاه سميح القاسم بقصيد حملت عنوانا هذه الحوار الرسائلي "ما من حوار معك بعد الآن، إنّه مجرّد انفجار آخر!"، يظهر فيه ألم البقاء دون مُحاوِرٍ: "تخليتَ عن وِزْر حُزني/ ووزرِ حياتي/ وحمَّلْتَني وِزْر موْتك/ أنت تركْتَ الحصانَ وحيدا.. لماذا؟/ وآثرْتَ صَهْوةَ موْتك أُفُقًا/ وآثرْتَ حُزْني ملاذا/ أجبْني. أجبني.. لماذا؟".

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الفلسطینی ة محمود درویش هذه الرسائل القضی ة

إقرأ أيضاً:

تحديثات ثورية على واتساب.. ميزات ذكية للمكالمات والمجموعات

أعلن واتساب عن إطلاق سلسلة من التحديثات التي تعيد تشكيل طريقة تفاعل المستخدمين مع التطبيق، سواء في المحادثات الفردية أو الجماعية، وكذلك في القنوات ومكالمات الفيديو.

تشمل هذه التحديثات تحسينات على جودة مكالمات الفيديو، وأدوات لتنظيم الأحداث، وخيارات أكثر مرونة لإدارة الإشعارات ومشاركة المستندات.

كما تهدف العديد من هذه الميزات إلى دمج التطبيق بشكل أعمق مع وظائف الهاتف الأخرى، وتعزيز استخدامه ضمن المجموعات وقنوات الأخبار.

وفي ما يلي أبرز ما جاءت به التحديثات، بحسب موقع “إنفوباي”:

مؤشر الاتصال في المجموعات
أصبح الآن بإمكان المستخدمين في الدردشات الجماعية رؤية عدد الأعضاء المتصلين لحظيًا، حيث تُعرض هذه المعلومة أسفل اسم المجموعة. كما تُسهم هذه الميزة في تسهيل تنسيق الأنشطة وبدء المحادثات عندما يكون التفاعل الفوري متوقعًا.

إشعارات مميزة داخل المجموعات
تمت إضافة خيار جديد يتيح للمستخدمين تخصيص أولوية الإشعارات ضمن المجموعات، حيث يمكن اختيار تلقي التنبيهات فقط عند:

ذكر المستخدم مباشرة الرد على إحدى رسائله تلقي رسالة من جهة اتصال محفوظة
وهذا الخيار يساعد في تقليل الإزعاج الناتج عن الرسائل غير المهمة، خاصة في المجموعات ذات النشاط العالي.

ميزات متقدمة للأحداث
لم تعد ميزة الأحداث مقتصرة على المجموعات، إذ أصبح بالإمكان إنشاؤها أيضًا داخل المحادثات الفردية.
وتمت إضافة مزايا جديدة مثل:

تحديد الحضور كـ “ربما” دعوة ضيوف إضافيين تحديد موعد انتهاء الحدث تثبيت الحدث في أعلى المحادثة

ردود الفعل اللمسية المباشرة
يمكن الآن الانضمام إلى رد فعل على رسالة عبر النقر مباشرة على الرمز المستخدم، دون الحاجة لفتح قائمة الرموز التعبيرية. وهي ميزة تسهّل التفاعل غير اللفظي وتحافظ على سلاسة المحادثة.

مسح المستندات مباشرة على آيفون
يستطيع مستخدمو آيفون الآن مسح المستندات ضوئيًا من داخل التطبيق باستخدام الكاميرا. وتُسهل هذه الميزة مشاركة الملفات الورقية مثل الإيصالات والنماذج دون الحاجة إلى تطبيقات خارجية.

تعيين التطبيق كتطبيق افتراضي للمكالمات والرسائل على آيفون
مع التحديث الجديد لنظام [اسم النظام]، أصبح بالإمكان تعيين التطبيق كتطبيق افتراضي لإجراء المكالمات وإرسال الرسائل، ما يوفّر تجربة أكثر تكاملًا وسرعة في الاستخدام.

تكبير الصورة أثناء مكالمات الفيديو
أصبح مستخدمو آيفون قادرين على تكبير صورة مكالمة الفيديو عبر إيماءة “مد الإصبع”. وهي ميزة مهمة لمتابعة التفاصيل الدقيقة أو قراءة النصوص المعروضة أثناء الاجتماع.

إضافة جهات اتصال أثناء المكالمات
بات من الممكن دعوة شخص جديد إلى مكالمة جارية مباشرة من نافذة المحادثة، دون الحاجة لإنهاء المكالمة أو بدء مكالمة جماعية من جديد.

تحسين جودة مكالمات الفيديو
تم تحسين تقنية توجيه المكالمات لرفع جودة الصورة والصوت بشكل ديناميكي حسب حالة الاتصال. وفي حال توفر شبكة جيدة، يتم تلقائيًا ترقية جودة الفيديو إلى صيغة “HD”.

ملاحظات فيديو في القنوات
أصبح بإمكان مديري القنوات تسجيل مقاطع فيديو قصيرة (حتى 60 ثانية) ومشاركتها مباشرة مع المتابعين، ما يعزز التواصل البصري ويوفر بديلًا للرسائل النصية أو البث المباشر.

نسخ الرسائل الصوتية إلى نص
يمكن الآن تحويل الرسائل الصوتية في القنوات إلى نصوص تلقائيًا، ما يتيح متابعة التحديثات دون الحاجة للاستماع إليها، خاصة في الأماكن التي يُفضل فيها عدم استخدام الصوت.

رموز واتساب خاصة بكل قناة
تم تخصيص رمز استجابة سريعة (QR) فريد لكل قناة، يمكن للمسؤولين مشاركته لتسهيل انضمام الآخرين مباشرة، سواء عبر الإنترنت أو في المناسبات.

مقالات مشابهة

  • "رامز جلال يعود في صيف 2025 بـ«بيج رامي».. وبسمة بوسيل تدخل عالم التمثيل من الباب الكبير"
  • ديالى تعبر أربيل والكهرباء تصعق القاسم في دوري النجوم
  • 5 ميزات لـ Meta AI في واتساب تحمي من المحتالين
  • ما الرسائل من اللقاء بين حفتر وبوتين لأول مرة في الكرملين؟
  • رئيس جامعة الأقصر تتفقد سير امتحانات نهاية الفصل الدراسي الثاني بكلية الفنون الجميلة
  • ذكريات الطفولة الجميلة
  • عمرو يوسف يكشف موعد عرض فيلم درويش (خاص )
  • لكني كتبت الأشجار بالخطأ.. ديوان جديد للشاعر نجوان درويش
  • حقيقة المنفى بين شعر محمود درويش وفكر إدوارد سعيد
  • تحديثات ثورية على واتساب.. ميزات ذكية للمكالمات والمجموعات