محمد بدوي

أشكال الانتهاكات التي حملها سجل الحرب التي انطلقت في ١٥ أبريل ٢٠٢٣ بالسودان، على سبيل الإشارة وليس الحصر حالات الذبح وقطع الرؤوس والتمثيل وحرق الجثث، وتصوير الحالات وبثها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولعل الأمر في سوئه وقبحه وامتهانه لكرامة الانسان، ظل يطرح تساؤلات عن الأسباب وراء هذه الأنماط.

حيث برزت بعض الآراء ووصفها بالدخيلة على الحالة السودانية حتي في أوقات النزاعات، هذا ما دفع إليه هذا المقال لمحاولة تقصي الأسباب التي دفعت إلى ذلك، وهل هي جديدة على الواقع السوداني ؟

في البدء لابد من الاشارة الي أن الاجابة قد تتطلب مباحث كاملة للتناول لكن سيكتفي المقال بمحاولة الإشارات غير المخلة تاركا الأمر لمزيد من البحث التفصيلي، ففي تقديري أن الأشكال التي حملتها الحرب الراهنة ليست جديدة بل هي استدعاء لسجل ممارسات سابقة في فترات مختلفة، وقبل الخوض لابد من الإشارة إلي أن الصراعات ذات الدوافع السياسية في السودان ظلت تشهد هذه الانتهاكات بينما يمثل غياب الدافع السياسي، غياب لهذه الاشكال في الصراعات ذات الطابع القبلي والمرتبطة بملكية الارض أو الموارد، بما يجعل ارتباط هذه الاشكال بالصراعات السياسية دون سواها.

بالنظر إلى قطع الرؤوس فالخلفية التاريخية لفترة المهدية، حملت رأس غردون باشا الحاكم العسكري البريطاني، في معركة تحرير الخرطوم، عقب انتصار الانصار، في تطورات لاحقة فقد شهدت فترة حكم الخليفة عبدالله التعايشي الحبس في شكل يجعل من المحبوس في هيئة لا يستطيع معها الجلوس، او الوقوف، تطورت الحالة الى الحريق الذي تم لإسماعيل باشا من قبل المك نمر بشندي انتقاماً من إهانة وجهها له ، وتوالى سجل الممارسات إلى حادثة قطار الضعين ١٩٨٦، وحرق مجموعة من الدينكا في محطة الضعين من قبل مجموعة من الزريقات، وجاء هذا عقب ثلاث سنوات من بدء تدشين الحركة الشعبية لتحرير السودان لنشاطها، وعامين عقب بدء تأسيس المليشيات الرديفة والتي عرفت بالمراحيل ١ و٢.

في حرب دارفور شهدت مناطق جبل مرة رمي الرجال أحياء في المطامير المشتعلة، و دفن بعض الرجال في بعض المناطق احياء، والقصف الجوي بالبراميل الحارقة الذي إمتد لسنوات في جبال النوبة والنيل الازرق والذي حمل الموت في معادلة ( الحرق وقطع الأوصال) نتاج القنابل المصنوعة من المواد المتفجرة الحارقة مع قطع الحديد ،بل حمل السجل في ٢٠٢٣ قبل بدء الحرب بوقت قصير حادثة رجم شخصين من الرعاة في منطقة تندلتي، بغرب دارفور من قبل السكان المحليين على خلفية اتهام بحادثة جنائية، لم يتم التحقق منها بشكل رسمي، في تنفيذ لعقوبة رجم غير قانونية، آخر الاحداث هي التمثيل بجثة الوالي السابق لغرب دارفور خميس ابكر عقب مقتله في يونيو ٢٠٢٣ .

اما سجل التعذيب الممارس من قبل الدولة فقد شمل التعذيب، بغرس المسامير في الرؤوس في حالة الدكتور على فضل، والدفن في حفر تحت الأرض مع ابقاء الراس للإجبار على الاعتراف، اضف الي ذلك الاعدامات السياسية في التهم المرتبطة بالانقلابات العسكرية والجرائم الاقتصادية “التعامل في النقد الاجنبي” حالة مجدي محجوب، والدفن في مناطق مجهولة لذوي الضحايا في حالتي زعيم الجمهوريين محمود محمد طه في 1985وضباط حركة ٢٨ رمضان 1991
الاغتصاب وغيرها من الاشكال الأخرى، بل إن كافة اشكال الانتهاكات التي ظهرت في الراهن يمكن الرجوع الي بداية سجلها المتطابق منذ ١٩٨٤ والذي كان موجها إلى المجموعات التي تقطن في اقليم جنوب السودان على التماس مع الاقليم الشمالي الذبح وقطع الاوصال هو ما هدد به المدير السابق لجهاز الأمن والمخابرات الفريق صلاح قوش في العام ٢٠٠٨ للمتهمين بالتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية ،اضافة الي ظهورها في الممارسة المرتبطة بالتعذيب من قبل أجهزة الامن و انفاذ القانون في مواجهة المعارضين السياسيين او النشطاء المدنيين

من جانب آخر فهنالك سياسات الدولة التي ارتبطت بالصراعات السياسية مثل اعلان الجمهورية الاسلامية في ١٩٨٣ وتطبيق العقوبات الحدية، بدوافع سياسية مثل القطع في حالة السرقة كحالة لإثبات تطبيق الحدود، وتدين هوية الدولة وعسكرة المجتمعات في سلك المليشيات بدء من ،١٩٨٤، ثم التكوينات العشائرية المسلحة للكسب السياسي من قبل السلطات الحاكمة كالتجمع العربي في دارفور ١٩٨٦، غياب التنمية والعدالة الاجتماعية، وغياب دور الدولة في الخدمات، اضافة الي سجل العنف المخطط والواسع خلال فترة حكم الاسلاميين السودانيين ١٩٨٩ الي ٢٠١٩، جميعها رسخت في فترات مختلفة، قادت الي تراكم سجل العنف في الممارسة وعلى مستوى الاذهان، منهج الحلول التي ظلت تجنح الي التسويات العرفية الي جانب الفلسفة التي رسخها غياب دور المؤسسات العقابية او السجون والاصلاحيات في الاصلاح، وركونها إلى فكرة العقوبة التي تأثرت باتساع نطاق العقوبات الجسدية والسالبة الحرية ،ولا سيما في التعديلات التي حملتها قوانيين العام ١٩٩١، والحزم السياسية التي اطلقت تحت اسم قوانيين النظام العام والتي ركنت الي ترسيخ عقوبة الجلد بشكل واسع، كل هذا مع ترسانات الحصانات من المحاسبة التي شكلت جداراً مانعاً لسبل الإنصاف هذا مع تراكم السجل الوطني للانتهاكات والناتج عن اتساع الصراعات السياسية، وتعددها ومواجهتها في كثير احيان بعقوبات الاعدام ذات الدوافع السياسية، التي تأتي كمحصلة لتطبيق غير صحيح للقانون أو لمحاكمات غير عادلة ودستورية احياناً، لابد من الاشارة الى ان فشل المؤسسات العقابية في الاصلاح برز في مشاركة بعض السجناء الفارين من السجون في الحرب إلي جانب الاطراف و المشاركة بذات القدر في سلسلة الانتهاكات التي تحدث، اضف إلى ذلك اثر خطاب الكراهية والتمييز في تحفيز والتعبئة للانتهاكات ونجاحه في المشهد مرتبطا بطبيعة اطراف الحرب ودوافع الحرب في سياق صراع السلطة والموارد وقطع الطريق على التحول المدني الديمقراطي، جميع هذه الاسباب ظلت ترسخ إلى أن الانسان او المواطن السوداني في سياق نظر السلطات الحاكمة لم يكن محوراً للاهتمام والحماية والمعاملة الكريمة كما هو وضعه في سياق المواطنة المنصوص عليها دستوريا.

الخلاصة: ما يحدث اليوم هو نتاج لسجل الانتهاكات وغياب الإنصاف وعسكرة المجتمعات، ومواجهة الصراعات السياسية بالسلاح بدلاً من الحلول السلمية والتنمية، وارتقاء الهوس العقائدي إلى مدى جعل من الموت يستهدف الملايين من فئة الشباب في حروب سياسية في دولة نسبة الشباب فيها ٦٠.٤٪ ظلوا ضحايا على الدوام للقتال السياسي سواء عبر التعبئة و استغلال العاطفة او التجنيد الإجباري والقتال المرفوض ضميرياً.

فشل إدارة الدولة ليست في التنمية الغائبة، وغير المتوازنة او الفساد، لكن في تعميد رأس المال البشري بالاقتراب من الموت السياسي سَنْبلة ولا زال من يَذَبح ويُذَّبح من فئة الشباب، والمفارقة في أن بعض من مناصري استمرار الحرب عبروا الشباب فئة، و الحرب مكانا

الوسوممحمد بدوي

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: محمد بدوي الصراعات السیاسیة من قبل

إقرأ أيضاً:

الحروب في السودان تؤكد هشاشة التكوين القومي وعجز الحكومات عن الحسم

محمد الحمامصي
دراسة تعد من أهم الدراسات الحيوية حاضرًا ومستقبلنًا في فهم ما يحدث في المجتمع السوداني من صراعات لا تنتهي وتنذر بتفكك الدولة السودانية.

حرب مدمرة
تعد دراسة قضية الحروب الأهلية في السودان والموقف الإقليمي والدولي منها مدخلًا لفهم أبعاد الصراعات السودانية والمواقف الدولية منها وتحليلها، وكذلك فهم دوافع القوى الكبرى في السودان وأهدفها، ومن ثم فهم الإطار العام للصراع الدولي على أرض السودان، بالإضافة إلى تشخيص عوامل الضعف في البنيان السوداني التي تجذب إليها الصراعات الدولية، وهي الخطوة المهمة والأساسية على طريق تحديد أسلوب العلاج الذي يبعد السودان من دائرة الصراع الدولي وطبيعته ويقلل من فرص التدخل الأجنبي في شؤونه.

وهذه الدراسة “الحروب الأهلية في السودان والموقف الإقليمي والدولي منه 1955 – 2005” للباحثة سالي عبدالله دوبح، تعد من أهم الدراسات الحيوية حاضرًا ومستقبلنًا في فهم ما يحدث في المجتمع السوداني من صراعات لا تنتهي وتنذر بتفكك الدولة السودانية. حيث تسلط الضوء على موضوعات وأحداث تاريخية؛ اعتمدت على الوثائق البريطانية غير المنشورة في معرفة موقف بعض الشخصيات السودانية تجاه أحداث الحرب الأهلية الأولى، التي أوضحت كثيرًا من الحقائق. كما تناقش دور الرئيس السوداني عمر حسن البشير السياسي والعسكري في أحداث الحرب الأهلية الثانية منذ وصوله إلى السلطة في 1989 وحتى 2005، بالاعتماد على تقارير مسح الأسلحة، والبرامج الوثائقية التي كشفت كثيرًا من التسجيلات المسربة للرئيس البشير وأوضحت موقفه تجاه الحرب في الجنوب.

الدراسة تعد من أهم الدراسات في فهم ما يحدث في المجتمع السوداني من صراعات لا تنتهي وتنذر بتفكك الدولة السودانية
الدراسة تعد من أهم الدراسات في فهم ما يحدث في المجتمع السوداني من صراعات لا تنتهي وتنذر بتفكك الدولة السودانية
وتم اختيار زمن الدراسة في المدة الممتدة من 1955 إلى 2005، وهي المدة الزمنية التي حدثت فيها الحروب الأهلية في السودان وما تبعها من متغيرات في المواقف الإقليمية والدولية حتى 2005 الذي يشهد نهاية الحرب الأهلية الثانية بتوقيع اتفاق نيفاشا.

وتناولت دوبح بالتفصيل كل أحداث ومجريات هذه الفترة بدءا من الحرب الأهلية السودانية الأولى، وموقف القوى الإقليمية والدولية خلال الفترة الممتدة من 1955 وحتى 1972، حيث تطورت الأحداث السياسية في جنوب السودان بدءا من العصيان المسلح للفرقة الاستوائية في 18 أغسطس 1955، وما نتج عن ذلك من قتل للكثير من الشماليين، ثم أحداث الحرب منذ بداية يناير 1964 وحتى نهاية سبتمبر من العام 1964، والمتغيرات السياسية ما بعد انتفاضة أكتوبر 1964. وانتهاء باتفاق أديس أبابا وجهود التسوية السلمية وإعلان الرئيس جعفر النميري في 1969 إيقاف الحرب وتطرق إلى اتفاقية الحكم الذاتي الإقليمي التي أنهت الحرب في 1972.

ثم الحرب الأهلية الثانية في المدة الممتدة من 1983 وحتى 1988، وأوضاع السودان ما بعد اتفاق أديس أبابا في المدة الممتدة من 1973 إلى 1982، والأسباب التي أدت إلى تجدد الحرب الأهلية الثانية وفي مقدمتها القرارات التي أصدرها الرئيس جعفر النميري التي أسهمت في انهيار اتفاق أديس أبابا وكان نتيجة ذلك العصيان المسلح من قبل جنود الكتيبة 105 ورفض الجنوبيين تلك القرارات. وقد أدى ذلك إلى سقوط نظام الرئيس جعفر النميري فضًلا عن الصراعات السياسية بين النخب السودانية وسقوط العديد من المدن في يد الجيش الشعبي لتحرير السودان.

وتوقفت دوبح عند دور الرئيس السوداني عمر حسن البشير في الحرب السودانية منذ وصوله إلى السلطة في العام 1989 وحتى 2005؛ متناولة انقلابه ووصوله إلى سدة الحكم، حيث عمل نظامه على تجيير الدين في الحرب ضد الجنوبيين. كما ناقشت موقف القوى الإقليمية والدولية تجاه الحرب الأهلية الثانية في المدة الممتدة بين 1983 و2005.

وأكدت دوبح على هشاشة التكوين القومي في السودان وعجز الحكومات السودانية بعد الاستقلال عن حسم مشكلة الجنوب؛ إذ عملت حكومة إسماعيل الأزهري على تشكيل لجنة لكن تلك اللجنة لم يكن فيها تمثيل عدد الجنوبين كبيرا مقارنة بأعداد الشماليين، ورفضت مطالب الجنوبيين بالنظام الفيدرالي إلى جانب ذلك إعلان الحكومة بأن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، واللغة العربية هي اللغة الرسمية في السودان، الأمر الذي أسهم بشعور الجنوبيين بعدم الثقة. أما حكومة عبدالله خليل فعلى الرغم من السماح للجنوبيين بمشاركهم في الانتخابات في 1958 وحصول الجنوبيين على 37 مقعدًا؛ لكن الجنوبيين قدموا استقالاتهم نتيجة لمحاكمة العضو أزيوني بتهمة الفيدرالية والترويج لها، إلى جانب ذلك فشلت في إيقاف التصعيد الأمني في الجنوب.

حرب تستنزف كل الموارد

وإلى جانب ذلك؛ عانت حكومة عبدالله خليل من الصراعات الداخلية على السلطة. أما حكومة عبود فقد تعاملت مع الجنوبيين، وقد حظرت الأحزاب السياسية في جميع انحاء السودان ودعم الدعوة الإسلامية بالجنوب، وإنشاء المعاهد الدينية، وتعريب المناهج، وجعل اللغة العربية لغة التخاطب الرسمي في البلاد؛ الأمر الذي أدى إلى ازدياد أعمال العنف وظهور عدد من التنظيمات السياسية والعسكرية وكان من أبرزها الاتحاد الوطني السوداني – الأفريقي للمناطق المغلقة “الذي طالب باستقلال الجنوب في حالة رفض الاتحاد الفيدرالي”. إلى جانب ذلك ظهرت حركة أنيانا التي تكونت من الكوادر الذين شاركوا في العصيان المسلح.

وكشفت دوبح دور رئيس الوزراء الصادق المهدي أثناء الحرب الاهلية الأولى حيث عمل على تسليح الزعماء الموالين ومؤيديه، ومن ناحية أخرى كان عجز أطراف القتال، الجيش السوداني والفصائل الجنوبية وحركة أنيانيا، عن تحقيق الانتصار جاء لكي يعزز جهود الرئيس السوداني جعفر النميري وحل مشكلة جنوب السودان. فمثلت سياسته مرحلة جديدة تجاه الحكم الذاتي الإقليمي في إطار السودان الموحد، مع اعترافه بالفوارق الدينية والثقافية بين الشمال والجنوب.

ولفتت إلى أن العوامل الإقليمية مؤثرة مباشرة في حرب الجنوب السوداني وخاصة دول الجوار التي عملت على دعم حركة أنيانيا لاسيما أوغندا والكونغو وأريتريا وتشاد وإثيوبيا حيث كانت مراكز لنشاط حركة أنيانيا والفصائل الجنوبية أثناء الحرب الأولى، ومع تجدد الحرب الثانية عملت على تسليح ودعم الحركة الشعبية والجيش الشعبي وقوات التجمع الوطني المعارض ودعمهم الأمر الذي أدى إلى استمرار الحرب طوال خمسين عامًا.

نقلا عن العرب الدولية:  

مقالات مشابهة

  • استنكروا صمت المجتمع الدولي .. مدونون يطلقون حملة إسفيرية بعنوان «#العالم_يتجاهل_السودان»
  • الحياد الروسي في حرب السودان
  • الحروب في السودان تؤكد هشاشة التكوين القومي وعجز الحكومات عن الحسم
  • أحمد خالد توفيق.. ليس أثرًا في الرمال
  • هل الحرب ضد البرهان أم الكيزان؟
  • الوطنية العابرة للحدود من الأسفل بعد الحرب العالمية الأولى: ثورة 1924م في السودان الإنجليزي-المصري (1 /2)
  • أنقذوا شعب السودان!
  • د. الشفيع خضر سعيد يكتب: أنقذوا شعب السودان!
  • هذه اهتمامات الناخبين.. فارق ضئيل يرجح كفة ترامب على بايدن- استطلاع
  • السودان: عسكرية الحرب ومدنية الحل