بعد سنوات من الوعيد والتهديد المتبادل، بل وعمليات التحرش الخشن في شكل تفجيرات وعمليات اغتيال متبادلة وهجمات إلكترونية معلنة وغير معلنة، ومحاولات تحجيم أمريكية متنوعة للتوق الإسرائيلي لضرب إيران والاشتباك المباشر معها، تارة بحجة منعها من استكمال برنامجها النووي وتارة بحجة نشاط خبرائها العسكريين المتزايد في سوريا ولبنان، قامت إسرائيل باستهداف المجمع الدبلوماسي للقنصلية الإيرانية في دمشق من الأول من الشهر الجاري وهو عدوان إسرائيلي سافر بكل المعايير القانونية والسياسية والدبلوماسية الإقليمية والدولية، وهو ما تمت الإشارة إليه من قبل، مما أثار حفيظة إيران التي سبق وتذرعت «بالصبر الاستراتيجي» لتفوت على إسرائيل فرصة جرها إلى مواجهة عسكرية مباشرة لا ترغبها بشكل أو بآخر، أو لتحدد هي شكل ومكان وكيفية المواجهة عندما تريد وبما يتفق مع رؤيتها وأولوياتها.

وفي ظل التطورات التي تمر بها المنطقة بوجه عام والعلاقات بين إيران وإسرائيل بوجه خاص لم يكن ممكنا لأسباب واعتبارات عدة أن تتذرع إيران بالصبر الاستراتيجي بعد تعرضها لضغوط متزايدة للرد على العدوان السافر الذي تعرضت له قنصليتها في دمشق وما صاحبه من استشهاد عدد من كبار ضباط الحرس الثوري. كما أنه كان مهما أن يأتي الرد الإيراني من داخل إيران وبوسائل إيرانية أيضا لتأكيد أن القدرة العسكرية الإيرانية هي قدرة عملية وأن ما تشكله القوى أو الأذرع المنخرطة في محور المقاومة هي قوات متعاونة مع إيران في إطار الاستراتيجية التي تقودها وتوجهها إيران ولكنها ليست بأي حال بديلا عنها. ولذا فإنه كان مهما وضروريا أن يعتمد أول اشتباك مباشر بين إيران وإسرائيل على القوات والأسلحة الإيرانية بشكل تام، صحيح أنه كانت هناك عمليات دعم ومشاركة لم تتحدد أو تعلن أحجامها من جانب مجموعات وقوات من سوريا والعراق واليمن، ولكن مما له دلالة أنه لم تكن هناك مشاركة في هجوم إيران على إسرائيل يوم السبت 13 أبريل الجاري من جانب حزب الله اللبناني ولا من جانب حماس ربما انتظارا لما قد تسفر عنه الجولة الأولى من المواجهة التي شدت معها أعصاب كل الأطراف القريبة والبعيدة تحسبا لإمكانية خروج الأوضاع عن السيطرة أو الدخول في دروب فرعية لم تكن في الحسبان بشكل أو بآخر.

وبالرغم من أنه يمكن القول بأن الجولة الأولى من المواجهة الإسرائيلية الإيرانية قد توقفت تقريبا، اعتمادا على التصريحات الإيرانية، فإنها لم تتوقف تماما في ضوء استعداد إسرائيل وتجهيزها للرد على الهجوم الإيراني وإن كان من غير المؤكد أن الرد الإسرائيلي سيتم، خاصة مع إعلان بايدن معارضته العملية لأي رد إسرائيلي في محاولة لاحتواء الموقف على نحو أو آخر، كما أنه حذر في اتصال مع نتانياهو من مخاطر أي رد إسرائيلي «متهور ودون دراسة ما قد يترتب عليه من نتائج».

على أية حال فإنه يمكن الإشارة إلى عدد من الجوانب لعل من أهمها:

أولا، إنه في ظل حقيقة أن العلاقات بين إسرائيل وإيران مرت بمرحلة نمو وتطور وازدهار خلال فترة الحكم السابق للثورة الإسلامية، أي في فترة حكم الشاه حتى عام 1979، ثم تغيرت وانقلبت العلاقات رأسا على عقب منذ سمحت القيادة الإيرانية لمنظمة التحرير الفلسطينية بالسيطرة في ذلك الوقت على السفارة الفلسطينية في طهران ولتحل محل النظام السابق في تمثيل فلسطين لدى طهران وهو لا يزال قائما حتى الآن، فإن العلاقات الفلسطينية الإيرانية تطورت كثيرا وخاصة في ظل الدعم الإيراني القوي للقضية الفلسطينية وللتنظيمات الفلسطينية المؤثرة وهو ما زاد العداء بين طهران وتل أبيب، خاصة أن إسرائيل تعارض بشدة البرنامج النووي الإيراني بكل السبل الممكنة وتسعى إلى عرقلته خشية التوجهات والسياسات الإيرانية المناصرة للقضية الفلسطينية والداعية إلى القضاء على إسرائيل. من جانبها تبنّت طهران تنظيمات فلسطينية ذات توجهات محددة، اختلطت فيها الدعاية والمواقف الإعلامية بالسياسات ومن ثم راجت تصورات كثيرة خاصة في الأوساط الجماهيرية حول مخاطر الصراع الإيراني الإسرائيلي وأي صدام عسكري عملي بينهما بغض النظر عن الأسس التي يستند إليها. ومن هنا يحبس العالم أنفاسه كلما تصاعدت الخلافات بين إسرائيل وإيران خشية أن يؤدي ذلك إلى إغراق المنطقة في مخاطر ودماء ومشكلات ليست في حاجة إليها، ولم تكن التطورات الأخيرة استثناء، في ظل ما هو معروف عن تشدد كل منهما سياسيا، وظهر ذلك في حجم ومدى وطبيعة الاستعدادات للمواجهة التي جرت الجولة الأولى منها السبت 13 أبريل والتحذيرات الإقليمية والغربية وتحريك السفن والمعدات العسكرية الأمريكية إلى المنطقة لحماية إسرائيل، ومع الشعور بالترقب وبالكثير من القلق من مخاطر انفجار الصراع العسكري الإيراني الإسرائيلي، إلا أنه يمكن القول إن الجولة الأولى من المواجهة الإسرائيلية الإيرانية كانت في الواقع أقل حدة مما كان متوقعا لدى الكثيرين، صحيح أن إسرائيل ركزت جهدها وعملياتها على التصدي للطائرات المسيّرة والصواريخ من طراز كروز وأرض أرض وأن يكون ذلك قدر الإمكان خارج حدود إسرائيل وبالتالي لم تقم بضرب إيران وفق تكتيكات الحروب المعروفة، ولكن الأمر في النهاية سيتوقف إلى حد كبير على قرارات حكومة الحرب وقرارات مجلس الوزراء المصغر ومدى استجابة نتانياهو لرغبة بايدن وتأكيده أن الولايات المتحدة لن تشارك في الحرب ضد إيران. من جانب آخر فإن الهجوم الإيراني ضد إسرائيل كسر هاجس الخوف من مخاطر المواجهة المسلحة بينهما وما يمكن أن تجره من مخاطر عديدة على المنطقة، ولا يعني ذلك أنه ليست هناك مخاطر، ولكنه يعني أن الجانبين قادران على السيطرة أو التحكم في حدود المخاطر الممكن حدوثها بالفعل، إلا إذا قرر أحد الطرفين زيادة التصعيد لتحقيق أغراض محددة، والمثال العملي الواضح هو عدوان إسرائيل المتعمد ضد مجمع القنصلية الإيرانية في دمشق، والذي أدى إلى اندلاع الحرب في جولتها الأولى، وما يمكن أن يتبعها من جولات.

ثانيا، إنه إذا كانت إسرائيل قد نجحت في جر إيران إلى المواجهة المباشرة من خلال العدوان السافر والمتعمد عليها وهو ما يلقي عليها كل النتائج المترتبة على ذلك فإن الحاضنة الأمريكية لها سواء داخل الأمم المتحدة أو خارجها أو في مواجهة أية تهديدات إيرانية وهو ما أكدت عليه واشنطن وبايدن ذاته قد أسهمت في حماية إسرائيل وذلك بالتنسيق بين البلدين لمواجهة الهجوم الإيراني وإطلاع إسرائيل على كل المعلومات المتوفرة لديها حول موعد الهجوم ومواقع الأسلحة المشتركة فيه وذلك قبل عدة ساعات من بدئه، فضلا عن تحريك مدمرتين أمريكيتين إلى شرق البحر المتوسط للدفاع عن إسرائيل ومشاركة المقاتلات الأمريكية في التصدي للصواريخ والمسيّرات الإيرانية وإسقاطها خارج إسرائيل وقد شاركت في الهجوم 185 مسيّرة و36 صاروخ كروز و110 صواريخ أرض أرض، واستمر الهجوم الإيراني نحو خمس ساعات دوت خلالها صفارات الإنذار 720 مرة للتحذير، وتجدر الإشارة إلى أن إسرائيل أعلنت إسقاط نحو 99% من المسيّرات والصواريخ الإيرانية على حد زعمها، وساهمت المقاتلات الأردنية في إسقاط عدد من المسيّرات خلال عبورها الأجواء الأردنية، كما شاركت بريطانيا وفرنسا وألمانيا في التصدي لها. أما إيران فإنها أعلنت نجاح الهجوم وتحقيقه لكل أهدافه ومنها قصف القاعدة الجوية الإسرائيلية في النقب التي انطلق منها الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق. من جانب آخر فإن الرعاية والحماية الأمريكية لإسرائيل تمثلا أيضا في التفاوض غير المباشر مع إيران حول حدود الهجوم ضد إسرائيل وعدم توسيع نطاقه وتجنب إحداث إصابات مدنية وقد أعلنت تركيا أن إيران أبلغت واشنطن عن طريقها أن الهجوم سيكون محصورا بالرد على ضرب القنصلية ولن يكون أوسع من ذلك. وقد ساعدت هذه التحركات والاتصالات في احتواء أية ميول تصعيدية. ومن شأن تأخير، الرد الإسرائيلي سواء استجابة لتصريحات بايدن أو لرغبة إيران في التوقف عند ذلك الحد أن يساعد في التهدئة خاصة في ظل العديد من المناشدات الإقليمية والدولية لضبط النفس وعدم التصعيد، ولكن لأن الكرة في الملعب الإسرائيلي فسيتوقف الأمر على قرارات الاجتماعات الوزارية الإسرائيلية وسيتوقف التصعيد والخطر في الفترة القادمة ليس فقط على التهور الإسرائيلي والتسرع غير المدروس في الرد، ولكنه سيرتبط أيضا بما قد يراه نتانياهو فرصة لعرقلة البرنامج النووي الإيراني واستغلال المناخ الراهن للقيام بمحاولة ذلك. ومن شأن هذه المغامرة إذا حدثت أن تنقل المواجهة إلى مستوى بالغ الخطورة بالفعل، خاصة أن طهران هددت علنا بالرد بشكل أكثر قوة وحسما إذا تعرضت لاعتداء إسرائيلي جديد. فهل ستتوقف إسرائيل أم أن المغامرة ستغريها بالوقوع في بئر الدمار؟؟

د. عبدالحميد الموافي كاتب وصحفي مصري

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الجولة الأولى من الهجوم الإیرانی من مخاطر فی دمشق من جانب وهو ما

إقرأ أيضاً:

هل حسمت إيران موقفها من المواجهة مع إسرائيل باعتبارها معركة صفرية؟

قال مدير مكتب الجزيرة في طهران عبد القادر فايز إن إيران لم تحسم بعد موقفها بشأن تحويل المواجهة مع إسرائيل إلى معركة صفرية، رغم تصعيد الأخيرة ضرباتها الجوية التي شملت مواقع نووية وعسكرية ومدنية، وأدت إلى مقتل قادة كبار وعلماء نوويين، وسط اتهامات مباشرة لواشنطن بالتواطؤ.

وأوضح فايز أن إيران تتعامل مع التصعيد الإسرائيلي على 3 مستويات، أولها التهديد المتزايد بمعادلة "مدني مقابل مدني" و"اقتصادي مقابل اقتصادي"، في إشارة إلى خطر انزلاق المواجهة إلى مساحات تمس المجتمع والبنى التحتية، مما ينذر بتحول نوعي في مسار المعركة.

وأضاف أن المؤشرات الحالية لا توحي باستعداد طهران لأي تنازل إستراتيجي، لا في ملفها النووي ولا في برنامجها الصاروخي، وهو ما كانت تسعى إليه إسرائيل منذ اللحظة الأولى، في محاولة لدفع إيران إلى التراجع تحت الضغط العسكري.

وأكد أن السلطات الإيرانية تعاطت بشكل علني مع الخسائر التي شملت قيادات عسكرية ومنشآت حساسة، بينها 3 قواعد جوية تعرضت لضربات قاسية، مشيرا إلى أن طهران لا تزال في طور التقدير السياسي والعسكري لما إذا كانت ستمضي في المسار التفاوضي أم سترد على قاعدة الكل أو لا شيء.

وكانت الخارجية الإيرانية قد قالت -في بيان رسمي- اليوم السبت إن "الكيان الصهيوني تجاوز كل الخطوط الحمراء"، مؤكدة أن الهجمات الإسرائيلية لا يمكن تصور وقوعها "دون إذن من واشنطن"، معتبرة أن استمرار استهداف إيران يجعل الحوار بلا جدوى، ويقوض المسار الدبلوماسي.

إعلان

السباق الإستراتيجي

وفي سياق تعويض الخسائر، عيّن المرشد الإيراني مجيد موسوي خلفا للجنرال علي حاجي زاده الذي اغتيل في الضربات الأخيرة، في خطوة وصفها فايز بأنها رسالة بأن "المعركة مستمرة حتى لو تغيرت القيادات"، وهو مؤشر على عزم إيران مواصلة السباق الإستراتيجي من دون تغيير في البوصلة، حسب فايز.

وأشار مدير مكتب الجزيرة بطهران إلى أن التحدي الجوهري يكمن في الفارق العملياتي بين قدرات إسرائيل الجوية التي تمكّنها من الوصول بسهولة إلى العاصمة طهران، مقارنة بإيران التي تعتمد على منظومتها الصاروخية العابرة لدول عدة، مما يجعل المواجهة غير متكافئة من حيث الأدوات والوسائط.

وفي وقت سابق، اتهم السفير الإيراني لدى الأمم المتحدة أمير سعيد إيرواني الولايات المتحدة بـ"التواطؤ الواضح" مع إسرائيل، وقال في جلسة لمجلس الأمن إن واشنطن تتحمل كامل المسؤولية عن تداعيات هذه الهجمات باعتبارها الداعم الرئيسي لتل أبيب.

وحسب فايز، تعمل إيران داخليا على ضبط إيقاع الشارع وتعزيز تماسك المجتمع، عبر تطمينات رسمية بأن البلاد قادرة على ردع إسرائيل، وبأن إمدادات الغذاء والمواد الأساسية لم تتأثر، وهو ما شدد عليه وزير الزراعة الإيراني في تصريحات نقلتها وسائل الإعلام المحلية.

الغضب الشعبي

كذلك أشار مدير مكتب الجزيرة في طهران إلى أن الحكومة لا تمنع التعبير الشعبي عن الغضب، بل سمحت بخروج مظاهرات تطالب بالرد، في مؤشر على أن السلطة تسعى لتوظيف التعبئة الشعبية في إطار المواجهة القائمة، دون أن تُحمل الشارع أعباء إستراتيجية القرار.

وتأتي هذه التطورات بينما تتردد إيران في اتخاذ قرار نهائي بشأن مشاركتها في الجولة السادسة من المحادثات غير المباشرة مع واشنطن المقررة غدا الأحد في سلطنة عُمان، وسط غموض سياسي وعسكري عززته الضربات النوعية التي استهدفت علماء نوويين.

إعلان

وكشفت وسائل إعلام إيرانية عن مقتل 3 علماء بارزين هم: علي بكائي كريمي، ومنصور عسكري، وسعيد برجي، في الهجمات الأخيرة، وهو ما رأى فيه فايز مؤشرا على محاولة إسرائيل تعطيل البرنامج النووي لعامين على الأقل، عبر "حذف العناصر المفتاحية" فيه.

وحسب فايز، فإن طهران تتهم 4 جهات مباشرة باغتيال علمائها، في مقدمتها إسرائيل، تليها الولايات المتحدة، ثم عناصر داخلية، ولا تستثني الوكالة الدولية للطاقة الذرية، معتبرة أن تسريب أسماء العلماء قد يكون مصدره تقارير سابقة قدمتها الوكالة لإسرائيل.

مقالات مشابهة

  • لبنان يترقب بقلق: إجراءات استباقية وتنسيق دولي وسط الصراع الإسرائيلي - الإيراني
  • نشاط دبلوماسي دولي لاحتواء المواجهة بين إسرائيل وإيران
  • سلطنة عمان تعلن تأجيل المفاوضات بين واشنطن وإيران بعد الهجوم الإسرائيلي
  • إسرائيل وإيران.. مرحلة جديدة وصراع تحت السقف النووي
  • هل حسمت إيران موقفها من المواجهة مع إسرائيل باعتبارها معركة صفرية؟
  • الأسد الصاعد والوعد الصادق.. حصاد الخسائر الإيرانية الإسرائيلية بعد اشتعال المواجهة
  • ترامب يبلغ أمير قطر استعداده لحل الأزمة بين إسرائيل وإيران
  • الجيش الإسرائيلي: إسرائيل بأكملها تحت نار الهجمات الإيرانية
  • عاجل| بدء الرد الإيراني على الهجوم الإسرائيلي
  • صحيفة بريطانية تتوقعات سيناريوهات الرد الإيراني على الهجوم الإسرائيلي