نهى الإمام عليّ أعوانه أن يسلبوا المال ويستبيحوا السبى وهو فى رأيهم حلال. قالوا: أتراه يحل لنا دماءهم ويحرم علينا أموالهم؟ فقال: إنما القوم أمثالكم، من صفح عنا فهو منا ونحن منه، ومن لجّ حتى يصاب فقتاله منى على الصدر والنحر. وصاح بهم يوم صفين: «خذوا من الماء حاجتكم وارجعوا إلى عسكركم وخلوا عنهم، فإنّ الله عز وجل قد نصركم عليهم بظلمهم وبغيهم».
ولم يكن ليغتنم الفرصة التى تأباها سنة النخوة أو تحول بينها وبين شرف البطولة إنْ فى الحرب أو فى السلم. كان عمرو بن العاص يجترئ عليه بما يغض من حقه ويقدح فى دعوته، وطفق ينعته بين أهل الشام بالهزل والدعابة ويأمر بسبِّه على المنابر حتى وجب ردّه وإدحاض زعمه، فقال رضى الله عنه فى بعض خطبه: عجباً لابن النابغة! يزعم لأهل الشام أن فيِّ دعابة وأنى امرؤ تلعابة: أعانس وأمارس (أمازح وأغازل النساء). لقد قال باطلاً ونطق آثماً. أما وشر القول الكذب: إنه ليقول فيكذب، ويَعد فيخلف، ويسأل فيبخل، ويخون العهد ويقطع الآل (القرابة والرحم). فإذا كان عند الحرب فأى زاجر وآمر هو ما لم تأخذ السيوف مآخذها، فإذا كان ذلك كان أكبر مكيدته أن يمنح القوم سبته، أما والله إنى ليمنعنى من اللعب ذكر الموت. وإنه ليمنعه من قول الحق نسيان الآخرة، وأنه لم يبايع معاوية حتى شرط أن يؤتيه أُتية (عطية) ويرضخ له على ترك الدين رضيخة (القلة مثل العطية).
وقد جاءته الفرصة مواتية وابن العاص مُلقى على الأرض مكشوف السوأة لا يبالى أن يدفع عنه الموت بما حضره من وقاء، فصدف بوجهه عنه آنفاً أن يصرع رجلاً يخاف الموت هذه المخافة التى لا يرضاها من مُنَازله فى مجال الصراع، ولو غير عليّ أتيح له أن يقضى على عمرو بن العاص لعلم أنه قاضٍ على جرثومة عداء ودهاء، فلم يبال أن يصيبه حيث ظفر به، ولا جناح عليه.
هذه البطولة النادرة التى تأبى الهوان للأعداء لا تجهز على الضعفاء وهم أشبه بالأموات، ولا تعادى امرأة ولا رجلاً موالياً ولا جريحاً عاجزاً عن نضال ولا ميتاً ذهبت حياته ولو ذهبت فى سبيل حربه، هى بطولة لم تنفصل فى ميدان الحرب والنزال عن شواغل المعرفة الإلهية واستنباط حقائق الأشياء، ولا نسيان الآخرة أو التفكر والاعتبار بجعل ذكر الموت وطلب الحق مصادر تأسيس للعقيدة التى قامت عليها تلك نوادر البطولة، وهى كذلك لا تنفصل مطلقاً عن التجرد للحق والجهاد فى الله. وكذلك كان ديدن الإمام يطلب الحق من حيث هو كل لا يتجزأ ولا يعرف التفرقة بين دنيا وأخرى، لأنه حق فى الدنيا وحق فى الآخرة، وفيه يجاهد مجاهدة الشريف المستقين بما عند الله، إذ ذاك يصنع الأبطال التاريخ، وتظل الأجيال اللاحقة تستمد منهم الآمال والآفاق، ولا يزال كل أمل مع كل أفق بحاجة شديدة إلى تلمس خطى البطل، لتفتح أمام باصرته سبل الهداية ومباشرة اليقين فى طريقة السير، وتستهديه ليرشده خارطة التوجه، هنالك يكون البطل حاضراً لا يغيب.
ولذا كان لسير الأبطال وتراجم العظماء ممّن صنعوا التاريخ وأسهموا فى بناء الحضارة دورٌ فى وعينا الحاضر، وهو بلا شك دورٌ عميق بحجم الحضارة وبحجم المعرفة التى تقوم فيها.
لا يغيب دور البطولة من وعينا إلا إذا غابت عنه القيم، ولك أن تتخيل عالم نعيش فيه بغير قيم!
هذه القيم العلويّة التى يجسدها البطل كما جسدها الإمام، نحن أحوج ما نكون إليها فى مواجهة معاول القيم الرخيصة الساقطة الهدامة: قيم الغفلة والنكسة و النكوص والتردى.
فالبطولة صناعة إلهية، والأبطال فى التاريخ هم الأعلام البارزة، الرزق المبارك للبشرية، وحين يكون البطل ربيب رسالة وصفى صاحب الرسالة يكون أجدر بالبقاء فى حاضرة الوعى المعاصر وحاضنة القيم العلوية التى لا يغفلها الشباب فى كل زمن أو فى كل عصر إلا واستبدلوها، مع الغفلة، بقيم ساقطة هدّامة.
هكذا يصبح الحال مع الأبطال: مقياس تفوق وامتياز إذا وجدوا فى الأمة، ومقياس تخلف وتردى إذا فقدت الأمم وجودهم أو ظهر فيها من يتشبّه بهم لمجرد التشبه على الدعوى العريضة لا يقوم عليها دليل.
«وللحديث بقيّة»
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: د مجدى إبراهيم الإمام علي
إقرأ أيضاً:
د. نزار قبيلات يكتب: فلسفة القيم
في كتابه «فلسفة القيم» يشير الفيلسوف الفرنسي «جان بول رزفبر» إلى مفهوم القيمة وتصورات الفلاسفة اليونانيين حوله، وبعد مطارحته لهذا المفهوم -القيمة- وجد أن القيمة تشير إلى ما هو ثمين وجدير بالثقة، وهي في اللغة العربية مشتقة من القيام والعزم والثبات، وهي عند «نيتشه» نزعة إنسانية؛ لأنها ترتبط بالسياقات البشرية كافة الاجتماعية والصناعية والثقافية، حتى بات الإنسان، أي إنسان، يُعرّف نفسه تبعاً لقيمة وجوده وتأثيره الخَيّر بمن حوله، فقيمة الإنسان بوجوده الحسن في محيطه وبتأثيره فيه، وهو ما نجده حين يضع أحدنا سيرته الذاتية، فيقدمها لجهات العمل أو حين التعريف بنفسه للآخرين، فهي وَسمه وصفته وهُويته، أما علاقة القيم بالأخلاق فتنبع من كون القيم على تعددها تحتاج إلى فعل أخلاقي حَسن ينهض بها ويبرزها، فهي ساكنة لا تتأتى إلا عملياً حين يصدر عن حاملها سلوك ما، فالقيم محاطة بمفهوم الأخلاق وبممارسته، لتواكب قيماً أخرى كالقيم الجمالية في الحُسن والجمال والأناقة، وتواكب كذلك قيماً أخرى منطقية تلتزم بالصواب والخطأ والمحتمل، وكذلك قيم تتعلق بالسياقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
فالقيمة، كما يذكر صاحب الكتاب أعلاه، تبقى اختيار الإنسان وقراره الذي يتحمل تبعاته، فهو وحده من سيبرزها، ذلك لأنها لن تُفرض عليه، حيث هي كامنة في مدار تحرك البشر بدءاً من الطبيعة، وحتى دواخل النفس العميقة، ومنها يُصدّر الإنسان الفضائل كلها والمتعلقة بقيم إنسانية وجودية مشتركة هي على التوالي: الخير، الحق، الجمال، فوجود هذه القيم ينفي الشّر والفظيع والعنف بشكل تلقائي، فهذه القيم الإنسانية الإيجابية ستجلب السعادة، التي هي محط بحث الإنسان وغايته في كل ما يسعى إليه، فيذكر الفيلسوف «كانت» أن العلاقة بالسعادة تحليلية، وربما قصد بها أنها نتيجة عمل الأخلاق بصفتها المُنفّذ، والقيم بصفتها مكونات للوجود، ووفقاً لطرح «سبينوزا» تجلب الفضائل السعادة حكماً، إذ الإنسان الفاضل سعيد بالضرورة؛ لأنه يتمتع بمستوى جمالي رفيع، حتى حين يقدم هذه الفضائل بقيم حسيّة كما في التخاطب والموسيقى والعمل الخيري.. فالمنطق يشير للقيم؛ لأن حضورها يعني مشاركة البشرية جمعاء دون إقصاء أو تخلٍ.
الكتاب يشير أيضاً إلى إشارات أو علامات تبرز قيماً عرّفتها المجتمعات الإنسانية نتيجة تنوع أدواتها ومرجعياتها الثقافية، فهناك من وسم القيمة بالمنجل بدلالة الخير، وبصورة الأب بدلالة الفخر والانتماء وبالشمس والشجر والميزان. كل ذلك كان بغية إرساء القيم، وإبرازها كعلامات حق وخير وجمال سوف تستلهمها الأجيال القادمة.
الكتاب غني ومكتنز بالأفكار والمعلومات، أجاد فيه المترجم نقل جهود الفيلسوف «رزفبر» في معالجة مفهوم القيم وفلسفتها.
* أستاذ بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية