ماهو الحظ، وكيف تصبح إنسانا محظوظا؟!
تاريخ النشر: 25th, May 2024 GMT
مناظير السبت 25 مايو، 2024
زهير السراج
manazzeer@yahoo.com
ماهو الحظ، وكيف تصبح إنسانا محظوظا؟!
* دعونا اليوم نحاول الخروج من الاطار التقليدي الذي نحبس أنفسنا فيه منذ قيام الحرب العبثية اللعينة والحالة النفسية السيئة التي يعاني منها الكثيرون بسبب تداعياتها وآثارها المدمرة، ونتناول موضوعا قد يراه الكثيرون عبثيا ولكنه في غاية الاهمية لتحسين حياتنا الى الافضل رغم الظروف السيئة التي نحن فيها!
* كثيرا ما نلاحظ أنه بغض النظر عما يفعله البعض فإنهم دائمًا ما يتمتعون بحظ كبير، يتبعهم الحظ مثل السحابة: فهم دائما يكسبون المال رغم سوء الاحوال الاقتصادية، ويلتقون دائمًا بأشخاص يقدمون لهم العون في حياتهم العملية، أو يحققون نجاحًا في علاقاتهم مع الآخرين، أو يكوّنون صداقات جديدة بسهولة، فمن أين يجد هؤلاء الناس كل هذا الحظ بينما يعاني الكثيرون من سوء الحظ والاخفاقات المتواصلة؟
* قد تتفاجأ عندما تعلم أن الحظ، بكل المقاييس، ليس قوة خارجية.
* وجد العالم البريطاني البروفيسور(ريتشارد وايزمان) من خلال دراسة اجراها على مدار عشر سنوات على مئات الاشخاص أن الحظ هو إلى حد كبير قوة يتحكم فيها الشخص ذاتيًا. وأن الناس الذين صنعوا حظوظهم أو فقدوها إلى حد كبير، فعلوا ذلك بدون أن يكون للعوامل الخارجية علاقة تُذكر بهذا الأمر.
* ليس هذا فحسب، بل وجد أيضًا أن الناس يمكنهم بالفعل زيادة مقدار الحظ الذي يحظون به، من خلال ممارسة أربع عادات مختلفة، تُمكِّن الأشخاص غير المحظوظين تاريخيًا من تغيير حظوظهم وتجربة حياة أكثر سعادة وإشباعًا، فما هو الذي يمكنك فعله لتعزيز حظك؟
* فيما يلي 4 طرق لتحسين حظك:
أولا، لا بد ان تقتنع بأنك شخص محظوظ.
قد يبدو هذا صعب التصديق، ولكنها حقيقة علمية أثبتتها الكثير من التجارب، فالاعتقاد بأنك شخص محظوظ يمكن أن يجعلك أكثر حظًا. ولقد اظهرت دراسة (وايزمان) أن معظم الأشخاص المحظوظين يعتقدون أنه من المحتمل أن يتمتعوا بحظ جيد في المستقبل القريب، بالإضافة الى سمات اخرى هى التفاؤل، الإيمان القوي بالنتائج والتوقعات الإيجابية، فضلاً عن تميزهم بقدر أكبر من التواصل الاجتماعي والانفتاح.
* طوال فترة الدراسة، غالبًا ما اجتمعت هذه السمات في نبوءات ذاتية التحقق للأشخاص المحظوظين الذين استخدموا مهاراتهم للتواصل والابتكار وإنشاء طرق جديدة لتحقيق النجاح في العديد من مجالات الحياة.
*وعلى النقيض من ذلك، فإن الأشخاص غير المحظوظين غالباً ما يفكرون بتشاؤم بشأن العالم. إنهم دائما ما يشكون من "عدم الحظ" ويعتقدون أن العالم غير عادل لأنه منحهم وضعًا سيئًا!
* لسوء الحظ، فإن النبوءات ذاتية الحدوث تعمل في كلا الاتجاهين. فقد تلاحظ من خلال الدراسة ان غير المحظوظين اشتركوا في صفة أنهم كانوا يرون فقط الجانب السلبي في كل شيء. فبدلاً من التفكير الايجابي فيما يمكن أن يحدث، يفكرون فيما لن يحدث، وما تفكر فيه وتُركِّز عليه يحدث بالفعل ويتطور!
ثانيا، كن منفتحًا على التجارب والفرص الجديدة:
اجرى (وايزمان) خلال الدراسة تجربة لمعرفة ما إذا كان الأشخاص الذين يُنظر إليهم على أنهم محظوظون يتمتعون بمهارة الملاحظة أكثر من غيرهم، وللقيام بذلك، عُرض على كل الأشخاص صحيفة وطلب منهم إحصاء عدد الصور الموجودة فيها. استغرق معظم الأشخاص حوالي دقيقتين لاحصاء الصور، ولكن لم يستغرق البعض سوى بضع ثوانٍ. ذلك لأنه في داخل الصحيفة كانت هناك رسالة كبيرة نصها: "توقف عن العد. هناك 43 صورة في هذه الصحيفة". ففي حين أن معظم الناس لم يلاحظوا الرسالة (وكانوا مشغولين جدًا بالعد)، فإن الأشخاص الأكثر ملاحظة لاحظوها بسرعة. واتضح انهم هم نفس الأشخاص الذين وصفوا أنفسهم، في تقييم سابق بأنهم "محظوظون"!
* وأظهرت دراسة (وايزمان) أن هؤلاء الأشخاص كانوا الأكثر استعدادًا للانفتاح على التجارب والفرص الجديدة، كما أظهرت أن مهارات الملاحظة كانت مرتبطة بشكل معقد بالقدرة على الملاحظة والتقييم والمشاركة في تجارب جديدة قد تخلق فرصًا جديدة في المستقبل.
* ماذا يعني ذلك بالنسبة لبقيتنا؟ باختصار، إذا كنت تريد أن تكون أكثر حظًا، عليك أن تكون منفتحًا على التجارب الجديدة التي قد تجلب الحظ. راقب العالم من حولك وابحث باستمرار عن طرق لكسر القالب الذي تضع نفسك فيه من خلال تجربة شيء لم تجربه من قبل. مَن يعرف؟ قد تحصل على فرصة لتبدأ مسيرتك في عالم المحظوظين!
ثالثا، انظر إلى الجانب المشرق من الحياة:
اثبتت الكثير من التجارب ان النظر إلى كل شيء من خلال عدسة إيجابية لا يقل أهمية عن الاعتقاد بأنك شخص محظوظ. إذا ركزت فقط على أسوأ النتائج، فإن أسوأ النتائج تميل إلى الحدوث. وعلى العكس من ذلك، فإن التركيز على أفضل النتائج يؤدي إلى حدوث أشياء أفضل. إن الطريقة التي نفكر بها تتحكم في كل شيء آخر، ولهذا السبب فإن تغيير تفكيرنا هو الخطوة الأولى لتحسين ظروفنا.
* ليس هذا فحسب، بل إن الإيمان بحدوث أشياء جيدة يمكن أن يساعدك على أن تكون أكثر انفتاحًا بشأن تجربة أشياء جديدة. إذا كنت تعتقد أن حدثا إجتماعيا أو مناسبة اجتماعية ستتيح لك الفرصة لتوسيع دائرة معارفك فلا تدع هذه الفرصة تفوتك، وإذا كنت تعتقد أن الأشخاص الجدد الذين تعرفت عليهم مثيرون للاهتمام حقًا، فمن المرجح أن تتحول اللقاءات الأولى إلى صداقات طويلة الأمد. وإذا كنت ترى ان كل موعد بمثابة تجربة لتكوين علاقة رومانسية (مثلا) مع شخص ما، فلن تقلق كثيرًا بشأن كونك سيئ الحظ في الحب.
رابعا، اخرج من منطقة العزلة الخاصة بك واكسر الجمود:
الحظ لا يأتي لأولئك الذين يعزلون انفسهم عن العالم، ولكنه يأتي لأولئك الذين يتلهفون باستمرار لتجارب جديدة، ويخلقون أهدافًا جديدة، ويحققون نجاحات جديدة. ولهذا السبب فإن اختيار القيام بشيء مختلف اليوم أو هذا الأسبوع أو هذا الشهر يمكن أن يلعب عاملاً كبيرًا في مساعدتك على زيادة حظك في المستقبل.
لماذا؟ لأن الروتين يؤدي إلى الأخاديد. عندما تتحدث فقط مع نفس الدائرة الصغيرة، وتعمل نفس الاشياء التي تفعلها كل يوم، فإنك تغلق نفسك عن لقاءات الصدفة والأفكار الجديدة التي تعزز الحظ. ماذا سيحدث إذا ذهبت إلى مناسبة (اجتماع أو ندوة أو مؤتمر) للتواصل لم يحضرها أي من أصدقائك؟ وما هي الأفكار الجديدة التي قد تدور بذهنك ذا ذهبت إلى بقالة او سوق أو مكان غير الذي تذهب إليه؟!
لن تعرف أبدًا حتى تحاول.
* نأتي الآن للإجابة على السؤال: لماذا بعض الناس محظوظون جدا؟
الإجابة، لأنهم يصنعون حظهم!
* منذ قرون مضت، كان الناس يعتقدون أن الحظ قوة غامضة تزور بعض الناس وتتجاهل آخرين. الآن، أصبح من الواضح أكثر من أي وقت مضى أن الحظ هو طاقة داخلية يمكنك السيطرة عليها وتطويرها إلى حد كبير.
* من خلال الانخراط مع العالم، والبقاء إيجابيًا، والإيمان بقدرتك على خلق الفرص لنفسك، وتجربة أشياء جديدة، يمكنك تحسين حظك بشكل كبير.
*بل يمكنك أن تصبح محظوظًا أيضًا بدلا عن انسان سئ الحظ. وكل ما تحتاج إليه للقيام بذلك هو العقلية الصحيحة.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: إذا کنت أن الحظ من خلال یمکن أن
إقرأ أيضاً:
ثمن الفوضى.. عندما تصبح السياسة الخارجية رهينة المزاج
ترجمة - نهى مصطفى
لعقود، قامت السياسة الخارجية الأمريكية على مفهوم المصداقية: أي الإيمان بأن واشنطن تفي بالتزاماتها، وأن سلوكها السابق مؤشر على سلوكها المستقبلي. فعلى سبيل المثال، نجحت الولايات المتحدة في بناء شبكة واسعة من الحلفاء لأن شركاءها كانوا واثقين من أنها ستدافع عنهم إذا تعرضوا لهجوم. كما تمكنت من إبرام اتفاقيات تجارة حرة مع دول عدة حول العالم، والتفاوض على اتفاقيات سلام، لأنها كانت تُعتبر، في المجمل، وسيطًا نزيهًا. ولا يعني ذلك أن الولايات المتحدة لم تُفاجئ أحدًا يومًا، أو أنها لم تتراجع عن وعودها مطلقًا، لكنها، على مدار معظم تاريخها الحديث، كانت طرفًا فاعلًا يُعتد بثقته.
على النقيض من ذلك، تخلى دونالد ترامب، بخلاف أي رئيس أمريكي قبله، عن كل الجهود التي سعت إلى ترسيخ موثوقية واشنطن واتساق مواقفها. صحيح أن أسلافه اتخذوا أحيانًا قرارات أضعفت مصداقية أمريكا، لكن افتقار ترامب للاتساق اتخذ بُعدًا مختلفًا تمامًا، إذ بدا جزءًا من استراتيجية مقصودة: فهو يقترح الصفقات ثم يتراجع عنها، ويَعِد بإنهاء الحروب قبل أن يوسع نطاقها، ويوبخ حلفاء بلاده بينما يقرب خصومها.
ومع ترامب، بات النمط الوحيد هو غياب النمط ذاته.
تقوم نظرية ترامب في هذه القضية على منطق بسيط: فبإبقاء الأصدقاء والخصوم في حالة من عدم التوازن، يعتقد الرئيس أنه قادر على تحقيق مكاسب سريعة، مثل الزيادات المحدودة في الإنفاق الدفاعي الأوروبي. كما يرى أن عنصر المفاجأة يمنحه هامشًا أوسع للمناورة في الشؤون الدولية، لأنه يجعل الحلفاء والخصوم على حد سواء في حالة دائمة من الشك تجاه خطوته التالية.
وأخيرًا، يؤمن ترامب بأنه يستطيع ردع أعدائه عبر تخويفهم من خلال الظهور بمظهر غير متزن - وهي الفكرة التي يصفها علماء السياسة بـ«نظرية الرجل المجنون». وكما تفاخر هو نفسه ذات مرة، فإن الرئيس الصيني شي جين بينج «لن يُخاطر أبدًا بحصار تايوان أثناء ولايتي، لأنه يعلم أنني مجنون تمامًا».
صحيح أن نهج ترامب هذا حقق بعض المكاسب الدولية المؤقتة، كما يشير بعض المحللين، لكنه على المدى الطويل يبدو غير مرشح لتعزيز موقع بلاده في النظام العالمي. فالدول الأخرى قد تسعى في البداية إلى استرضاء واشنطن لتجنب العقوبات الأمريكية، لكنها ستعمل في نهاية المطاف على حماية مصالحها عبر التحالف مع قوى أخرى.
وهكذا ستزداد قائمة خصوم الولايات المتحدة، وتضعف تحالفاتها، وقد تجد واشنطن نفسها أكثر عزلة من أي وقت مضى.
دائمًا ما رأى رؤساء الولايات المتحدة أن حماية قوتها تستلزم التزامات موثوقة. فقد تدخل ترومان في كوريا لردع التوسع السوفييتي، بينما صعد جونسون حرب فيتنام خشية أن يُفهم التراجع كضعف. وبرر جورج بوش الابن زيادة القوات في العراق عام 2007 بأن الانسحاب سيقوض مصداقية بلاده، وأبقى أوباما على القوات للسبب ذاته. لكنه تعرض لاحقًا لانتقادات حادة حين تراجع عن تنفيذ «الخط الأحمر» في سوريا، مؤكدًا أن «إلقاء القنابل لإثبات الاستعداد لإلقائها ليس سببًا وجيهًا لاستخدام القوة». بينما توصي الدراسات بترسيخ المصداقية عبر الثبات والالتزام، يفعل ترامب العكس تمامًا. فقد شكك علنًا في أهم ضمانات الدفاع الأمريكية -التزام حلف الناتو بالدفاع الجماعي وفق المادة الخامسة- معلنًا أن الحلفاء الذين لا «يدفعون ما عليهم» لا يمكنهم توقع الحماية. كما انسحبت الولايات المتحدة في عهده من اتفاقيات متعددة الأطراف، مثل اتفاق باريس للمناخ والاتفاق النووي الإيراني، من دون اكتراث بتأثير ذلك على سمعتها، بل تراجعت حتى عن اتفاقية التجارة مع المكسيك وكندا التي تفاوض عليها ترامب ووقعها بنفسه.
وفي علاقاته مع الخصوم، تذبذب ترامب بين انتقاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين - والإشادة به بلا مبرر واضح. وكان لقاؤهما الأخير في ألاسكا مثالًا صارخًا على ذلك؛ إذ عُقد على عجل لتحسين صورة ترامب كـ«صانع صفقات»، لكنه خرج منه بلا أي مكاسب ملموسة، فيما رأى معظم المراقبين أنه كان الطرف الأضعف في اللقاء.
قد يكون ترامب مدركًا لتأثير سلوكه أو غافلًا عنه، لكن الواضح أن مصداقية بلاده لا تهمه. فهو لا يسعى إلى أن يُوثق به بقدر ما يريد انتصارات سريعة تعزز إحساسه بالتفوق، حتى لو تطلب ذلك التنصل من التزامات أمريكا الثابتة.
يبدو أن عدم قابلية ترامب للتنبؤ متعمدة، فهو يستمتع بالفوضى ويستغلها لتحقيق مكاسب، خصوصًا في الصفقات التجارية. لكن هذا لا يعني أن سلوكه محسوب دائمًا؛ فكثيرًا ما يصدر عن تقلبات مزاجية، في ما يسميه الباحث تود هول «الدبلوماسية العاطفية»، حيث باتت الانفعالات -كالخوف والغضب والرغبة في الانتقام- من أبرز سمات سياسة ترامب الخارجية. فمثلًا، امتدح ترامب رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو خلال ولايته الأولى وأبرم اتفاقًا تجاريًا مع أوتاوا، ثم عاد لاحقًا ليتهم كندا بالتقاعس عن مكافحة تهريب المخدرات وفرض عليها رسومًا جديدة. وبالطريقة نفسها، تباهى بعلاقته القوية مع رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، ثم انقلب على نيودلهي بعد أن نفت دور واشنطن في تهدئة صراعها مع باكستان.
وفي المقابل، شهدت علاقته بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي تطورًا معاكسًا. ففي البداية أغضبه زيلينسكي بتصحيحه خلال اجتماع في البيت الأبيض، مما دفع واشنطن إلى تعليق مساعداتها لكييف مؤقتًا. لكن زيلينسكي سرعان ما اتخذ موقفًا أكثر ودًا، ليعلن ترامب الشهر الماضي دعمه الكامل لمساعي أوكرانيا لاستعادة جميع أراضيها من روسيا، وهو الموقف الذي سبق أن وصفه بنفسه بالمستحيل.
بالنسبة للقادة الأجانب، من شبه المستحيل التنبؤ بتقلبات ترامب، لكنهم تعلموا استخدام بعض الأساليب لكسب رضاه أو تجنب غضبه. أبرزها الإطراء، إذ أصبح وسيلة مفضلة لدى حلفاء واشنطن. فإلى جانب زيلينسكي، وصف الأمين العام لحلف الناتو مارك روته ترامب بأنه «صانع سلام براجماتي» بعد لقائه في البيت الأبيض، في محاولة للحفاظ على علاقة التحالف. وبالمثل، لم يتردد نتنياهو في الإشادة بـ«قيادة ترامب الحاسمة» بينما يحثه سرًا على دعم الغارات الإسرائيلية على إيران. حتى من حاولوا البقاء على الحياد لجأوا إلى النهج نفسه.
لكن الإطراء يفقد تأثيره سريعًا حين يبالغ الجميع في استخدامه، إذ لا يعود يمنح أي نفوذ. أما من ضاقوا ذرعًا بتنمر ترامب، فاختار بعضهم المواجهة بدل التملق. فقد رد الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا بتحدٍ على الرسوم الجمركية والعقوبات الأمريكية، بينما تبنى مودي لهجة أكثر صدامًا معه. غير أن هذه المواقف، رغم شعبيتها داخليًا، نادرًا ما تجبر ترامب على التراجع وقد ترتد سياسيًا على أصحابها، كما حدث مع الرئيسة السويسرية كارين كيلر سوتر التي واجهته هاتفيًا ثم تعرضت لانتقادات حادة في بلادها بعد فشلها في ثنيه عن فرض التعريفات.
الخيار الثالث هو التحوط، أي الموازنة بين القوى الكبرى بدل الانحياز التام لأي طرف. فبعد فوز ترامب، وسعت دول في أمريكا اللاتينية تعاونها مع آسيا وأوروبا مع الحفاظ على علاقاتها بواشنطن، فيما أبدت دول الخليج دعمها العلني له، لكنها عمقت شراكاتها مع الصين سرًا. أما ماكرون فدعا إلى «استقلال استراتيجي» أوروبي يقلل الاعتماد على واشنطن وبكين. هذه الأساليب ليست متناقضة، بل محاولات للتكيف مع واقع مضطرب؛ إذ تتأرجح الدول بين التملق والتحدي وفق تقلبات ترامب، الذي لا تحكم قراراته اعتبارات استراتيجية بقدر ما تمليها تقلبات مزاجه.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن هذا التقلب حقق له أحيانًا نتائج ملموسة. فحين قصف إيران، أبطأ بالفعل مسار برنامجها النووي. وعندما سُئل إن كان سيواصل الضربات بعد بدء إسرائيل عملياتها الجوية، أجاب ببرود متعمد: «قد أفعل، وقد لا أفعل. لا أحد يعلم ما سأفعله». خلق هذا الغموض ارتباكًا في كلٍ من طهران وتل أبيب، قبل أن يتخذ قراره بالتدخل العسكري في نهاية المطاف. لم يكن القرار نابعًا من حسابات دقيقة بقدر ما كان رد فعل على شعورٍ بالضعف ورغبةٍ في استعراض القوة.
بهذا السلوك، عزز ترامب صورة الردع الأمريكية من خلال إظهار استعداده للانقلاب على الحلفاء والخصوم على حدٍ سواء. ويمكن اعتبار تعامله مع إنفاق الحلفاء الدفاعي مثالًا آخر على نجاح تكتيكه. فبعد عقود من المحاولات الأمريكية الفاترة لإقناع دول الناتو بزيادة موازناتها العسكرية، جاء ترامب ليكسر المحظور: شكك علنًا في مبدأ الدفاع الجماعي المنصوص عليه في المادة الخامسة. وبدافع الخوف من فقدان المظلة الأمريكية، تعهد الحلفاء في قمة لاهاي عام 2025 بزيادة إنفاقهم الدفاعي إلى 5٪ من الناتج المحلي الإجمالي - وهو رقم لم يكن مطروحًا من قبل.
وسارت المواجهة الجمركية بين واشنطن وبروكسل على المنوال ذاته. فبعد تهديدات متكررة من ترامب بتصعيد الرسوم، رضخت أوروبا وقدمت تنازلات تجارية غير مسبوقة، منها اتفاقية لشراء طاقة أمريكية بقيمة 750 مليار دولار. وكعادته، أعلن ترامب النصر، بينما لم تجد رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين غضاضة في الثناء على «قيادته الحاسمة».
لكن من غير المؤكد أن هذه الانتصارات ستصمد طويلًا. فصحيح أن ترامب نجح في دفع أوروبا إلى زيادة إنفاقها الدفاعي، لكن ذلك جاء على حساب تماسك حلف الناتو نفسه. فالقوة الحقيقية للتحالف لا تُقاس بحجم ميزانياته العسكرية، بل بصلابة التزامه بالدفاع الجماعي، وهو التزام أضعفه ترامب بتصريحاته المتكررة المشككة فيه. فإذا ما تعرض أحد أعضاء الناتو لهجوم ولم تتحرك الولايات المتحدة للدفاع عنه، فسيصبح التحالف أضعف، مهما ارتفعت أرقامه الدفاعية على الورق.
والأمر نفسه ينطبق على الرسوم الجمركية. فقد نجحت واشنطن في انتزاع تنازلات اقتصادية من أوروبا، لكنها دفعت القارة في المقابل إلى السعي نحو استقلال اقتصادي وسياسي أكبر. ومع مرور الوقت، سيتراجع النفوذ الأمريكي في أوروبا، وربما في العالم بأسره. فمع كل خطوة تُقوض مصداقية الولايات المتحدة، تصبح قدرتها على التوسط في اتفاقيات سلام أو الحفاظ على الاستقرار الدولي أقل، ما ينذر بنظام عالمي أكثر اضطرابًا.
حذر سياسيون أمريكيون، بينهم جمهوريون، من الآثار البعيدة لسياسة ترامب الخارجية المضطربة. فحتى إن جاء رئيس أكثر اتزانًا، فلن يكون ترميم المصداقية الأمريكية أمرًا يسيرًا؛ إذ تبنى السمعة على مدى طويل وتعتمد على المؤسسات بقدر ما تعتمد على القادة. وعندما ينقض ترامب وعوده أو يبدل مواقفه، لا تتضرر صورته وحده بل صورة الولايات المتحدة نفسها. واستعادة الثقة بعد فقدانها صعبة، فالرئيس المقبل سيواجه حلفاء حذرين وخصومًا مترقبين وعالمًا لم تعد كلمة واشنطن فيه بالثقل السابق نفسه.
بساطة، ستخسر واشنطن أصدقاءها وتواجه مزيدًا من الأعداء. فمع تراجع تأثير الإطراء وارتفاع كلفة المواجهة، ستلجأ دول كثيرة إلى التحوط أو إلى التحالف مع خصوم أمريكا. وسيتطلب الحفاظ على الردع وطمأنة الحلفاء موارد أكبر، في وقتٍ يتجه فيه النظام الدولي نحو تعدد الأقطاب. وربما يرى ترامب أن عدم توقعه منحه قوة وحرية، لكن التاريخ سيحكم بأنه استبدل الثقة بالتقلب، ترك وراءه أمريكا أقل مصداقية.
كيرين يارحي- ميلو عميدة كلية الشؤون الدولية والعامة، وأستاذة كرسي أرنولد أ. سالتزمان لدراسات الحرب والسلام في جامعة كولومبيا.
عن فورين أفيرز «خدمة تربيون»