الإسلام كله قائم على التيسير ورفع الحرج مبنى عليهما، حيث يقول الحق سبحانه وتعالى: « يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ»، ويقول سبحانه: «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ», وحيث يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ»، ويقولون : الفقه رخصة من ثقة، والفقه عند أهل العلم هو التيسير بدليل، ولم يقل أحد من أهل العلم إن الفقه هو التشدد، حيث يقول الحق سبحانه على لسان نبينا (صلى الله عليه وسلم): «قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ»، ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): «عَلَيْك بِالرِّفْقِ ، فَإِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِى شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ», كما ثبت أنه (صلى الله عليه وسلم) « مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ».
وإذا كان الإسلام كله قائمًا على التيسير ورفع الحرج فإن هذا التيسير فى الحج أولى وألزم , فما يسر نبينا (صلى الله عليه وسلم) فى شيء أكثر من تيسيره على حجاج بيت الله عز وجل فى قولته المشهورة: «افعل ولا حرج» ، وإذا كان هذا التيسير مع ما كان عليه عدد الحجيج آنذاك فما بالكم بموجبات التيسير فى زماننا هذا؟
غير أن التيسير الذى نسعى إليه هو التيسير المنضبط بضوابط الشرع، المقرون بمدى القدرة والاستطاعة، إذ ينبغى أن يحرص المستطيع على أداء العبادة على وجهها الأكمل والأفضل الذى يحقق لصاحبه أعلى درجات الفضل والثواب ، وبما لا يصل إلى حد التهاون الذى يُفرّغ العبادة من مضامينها التعبدية الأصيلة السامية ، وبحيث لا تنحصر همة الإنسان فى تتبع كل الرخص فى كل الأركان والواجبات وعلى كل المذاهب ، إنما يأخذ من الرخص ما يقتضيه واجب الوقت وظروف أداء الشعيرة وموجبات التيسير .
وعندما يتحدث العلماء عن مسائل التيسير فى الحج فإنما يعرضونها ليأخذ المحتاج منها بالقدر الذى يُذهب عنه المشقة غير المحتملة ، ويخفف عن أصحاب الأعذار المشقة التى لا تُحتمل فى ضوء ما يجيزه الشرع الحنيف من أوجه التيسير ، وليحرص العلماء والمفتون على التيسير على الناس ، وليأخذ الناس أنفسهم بالرفق واليسر واللين ولكن دون إفراط أو تفريط.
ولا ينبغى أن يدعى أحد - فى القضايا الخلافية فى الحج أو فى غيره - أن رأيه هو الحق والصواب وما سواه أو عداه هو الخطأ ، بل هو اجتهاد بغية الوصول للحق مع مراعاة مقاصد الشرع الحنيف فى التيسير ورفع الحرج ، من غير إنكار على المختلف فى الرأى فيما يقبل الخلاف ، فالقاعدة أن المختلف فيه لا ينكر على فاعله ، إنما ينكر على من يفعل المجمع على تركه أو يترك المجمع على وجوبه ، والحج يقتضى البعد عن اللغو والجدل ، فللعالم رأيه واجتهاده ، وللآخرين من أهل الاجتهاد والنظر المعتبر آراؤهم التى تقدر وتحترم , فى ضوء ما قرره أهل العلم : «نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضًا ويحترم رأيه واجتهاده فيما اختلفنا فيه» , ولله در الشافعى (رحمه الله) , حيث يقول : رأيى صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب , ويمكن أن نقول إن كلا الرأيين يمكن أن يكونا على صواب غير أن أحدهما قد يكون راجحًا والآخر مرجوحًا , فالآراء الراجحة ليست معصومة , والآراء المرجوحة ليست مهدومة طالما أن لصاحبها حظًا من الاجتهاد والنظر والدليل الشرعى المعتبر .
ونماذج التيسير فى الحج أوسع من أن تحصى فى مقال واحد فمنها الإنابة عن غير القادرين فى الرمى تخفيفًا عليهم , ومنها التوسع فى وقت الرمى , ومدة البقاء فى المزدلفة , وترتيب أعمال يوم النحر , والجمع بين طوافى الإقامة والوداع للضعفاء وغير القادرين على القيام بكل منهما منفردًا.
وزير الأوقاف
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: أ د محمد مختار جمعة وزير الأوقاف الحج الشافعى صلى الله علیه وسلم
إقرأ أيضاً:
حكم صيام العشر الأول من ذي الحجة .. الإفتاء توضح
قالت دار الإفتاء المصرية إن صيام الأيام التسعة الأولى من شهر ذي الحجة من السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واستدلت بما ورد في "سنن أبي داود" من حديث إحدى زوجاته رضي الله عنها أنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر، و الاثنين والخميس من كل اسبوع".
كما رُوي عن السيدة حفصة رضي الله عنها أنها قالت: "أربع لم يكن يدعهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صيام يوم عاشوراء، وصيام العشر، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتا الفجر"، وهو ما رواه كل من أحمد والنسائي وابن حبان وصححه.
أما الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم عن السيدة عائشة رضي الله عنها، حيث قالت: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صائمًا في العشر قط"، فقد بيّن الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم أن هذا لا يُفهم منه كراهة صيام هذه الأيام.
وذكر أن العلماء تأولوا هذا الحديث بأن النبي ربما لم يصمها في بعض الأحيان لعذر كمرض أو سفر، أو أن السيدة عائشة لم تره يصومها، وهذا لا ينفي وقوع الصيام منه فعليًا.
وأكد النووي أن صيام هذه الأيام مستحب بشدة، خاصة يوم عرفة، واستدل على فضل هذه الأيام بحديث صحيح رواه البخاري: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه» أي العشر الأوائل من ذي الحجة.
ويؤكد هذا الفهم ما ورد في حديث هنيدة بن خالد، عن زوجته، عن إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر، الإثنين من الشهر والخميس"، وهو ما رواه أبو داود وأحمد والنسائي بألفاظ متقاربة، مما يدل على مشروعية واستحباب صيام هذه الأيام المباركة.