في إحدى قرى القامشلي (شمال شرقي سوريا)، أوضح الكاتب والجامعي هيمن صالح، الذي ينشر كتاباته بالكردية (باللهجة الكرمانجية والحرف العربي)، أنه كان يخفي كتب اللغة الكردية خلف خزانة المونة، بعيدا عن أعين رجال الأمن. يقول في حديثه مع الجزيرة نت: "لم يكن الكتاب مدرسيا، بل كان كيانا مقاوما، رمزا لهوية مهددة بالنسيان".

في "سوريا الأسد"، لم يكن الكرد ممنوعين فقط من التعليم بلغتهم بل -وفقا لتعبير هيمن- "حتى من الحلم بها أيضا، لهذا لم أخف كتابا، كنت أختبئ فيه كي لا أمحى".

هذه القصة الفردية ليست حالة استثنائية، بل تعكس ذاكرة جماعية ومسيرة طويلة من الطمس الثقافي، تخللتها لحظات شجاعة وتحدّ، وصولا إلى محاولات تأسيس نهضة ثقافية ما زالت تتلمس طريقها وسط العواصف السياسية والعسكرية. فكيف انتقل الكرد من الإنكار إلى التأصيل؟ وما رهاناتهم في الحفاظ على ثقافتهم كجسر نحو المواطنة لا كجدار عزل؟

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2سليمان منصور.. بين الريشة والطين: إبداع مقاوم يروي مآساة وأمل فلسطينlist 2 of 2مسرحية "لا سمح الله" بين قيد التعليمية وشرط الفنيةend of listعقود من الطمس

أضاف هيمن "منذ صغري وأنا أتساءل: لماذا لا أستطيع الكتابة بلغتي الأم؟ ولماذا كل هذا العداء والحقد من حزب البعث على اللغة الكردية في المدارس والمنازل؟".

وكرد فعل على تلك الممارسات، انضم هيمن إلى حزب كردي قومي محظور، "كان شرط الانتساب تعلم اللغة الكردية قراءة وكتابة، واقتنيت دواوين شعر كردية، ثم تحولت إلى تدريس اللغة الكردية لمن حولي سرا".

يختتم هيمن حديثه قائلا: "كنا ننسخ ألف باء تعلم اللغة الكردية باليد، فالنظام حرم طباعة أي شيء باللغة الكردية، ثم نقوم بتوزيعها على الطلبة وراغبي تعلم لغتهم الأم".

من جهته، قدم المؤرخ والروائي الكردي كوني رش، للجزيرة نت، مقتطفات من كتابه "الحياة الثقافية باللغة الكردية في الجزيرة ومسيرتي الأدبية"، تضمنت عرضا لسياسات الإنكار والتهميش الثقافي الذي مارسه نظام الأسد ضد الأكراد، قائلا: "تم حظر اللغة الكردية، ومنع تسجيل أسماء المحال التجارية والولادات الجديدة بأسماء كردية، وإلزامها بأسماء عربية، في سياق سياسات تهدف إلى إبادة الأكراد ثقافيا".

إعلان

وأضاف "حظر كل ما يمتّ للأكراد بصلة في المناهج المدرسية والثقافية، ومنع نشر الكتب والأغاني والشعر باللغة الكردية وكذلك طباعتها، لحظر الهوية الكردية، واستبدلت الأسماء بأخرى عربية".

المؤرخ والروائي الكردي كوني رش (الجزيرة)الثقافة الكردية تتحرر من العزلة

وقال الرئيس السابق لاتحاد كتاب الأكراد في سوريا، قادر عكيد، للجزيرة نت، إن الثورة السورية كسرت طوق العزلة والمحق عن الثقافة الكردية، حيث تم "إعداد مؤسسات لتعليم اللغة، وطباعة وتأسيس عدد كبير من المؤسسات الثقافية والأكاديميات التعليمية المتخصصة باللغة والأدب الكردي".

وأضاف عكيد أنه "بدأ التعليم بالكردية تدريجيا منذ 2012، واعتمد منهجيا في المدارس منذ 2014، مع تطوير مناهج خاصة وتدريب آلاف المعلمين عبر مؤسسات الإدارة الذاتية".

وأشار أيضا إلى "تراجع الحظر على الكتابة بالكردية، فظهرت العديد من دور النشر والمجلات التي نشرت باللغة الكردية، وافتتحت مكاتب لتشجيع الجيل الجديد على القراءة، وإقامة مهرجانات ثقافية منوعة".

الرئيس السابق لاتحاد كتاب الأكراد في سوريا قادر عكيد (مواقع التواصل)الثقافة الكردية تتجاوز السياسة

عبر حديثه مع الجزيرة نت، أكد الروائي والصحافي هوشنك أوسي ضرورة تأصيل الثقافة خارج الأطر السياسية والعسكرية، قائلا إن "أدلجة الثقافة وتسييسها يؤدي بها إلى التخندق، فتختفي بالمحصلة".

ويربط أوسي بين الشعوذة السياسية ونظيرتها الثقافية فيقول إنهما "يحتاجان إلى بعضهما بعضا. المشعوذون محسوبون على الفعل والحراك الثقافي"، ويقارنها مع رهان الوعي النقدي الإصلاحي "الذي ينتج قيم الخير والحرية والكرامة والعدالة، ويتطلب إبقاء الثقافة خارج أطر السياسة الموبوءة بالمصالح الشخصية والفئوية".

في حين ذهب الكاتب والباحث فارس عثمان، في حديثه مع الجزيرة نت، إلى وصف سوريا بأنها "متشظية"، وحدد الثقافة وأدوارها على أنها الوحيدة "القادرة على تجاوز السياسة والسلاح، والأمل في إعادة بناء الإنسان والمجتمع".

وقدم شرحا مختصرا للتجربة الكردية السورية، فقال إنها "حملت مظلومية تاريخية عانت من السياسات الشوفينية والعنصرية، لكنها مع ذلك يمكن أن تتحول من حالة كردية إلى منصة للمشاركة الوطنية، ومن حكايات الأطراف المنسية والمهمشة إلى جوهر الثقافة الوطنية، بدلا من شيطنة الأكراد عند المتلقي العربي"، مؤكدا أهمية "بناء سردية ثقافية كردية لتتحول إلى جسر نحو المواطنة، عبر إنشاء منصات ثقافية وفلكلورية تعنى بالأدب والثقافة الكردية، وضرورة إبراز التنوع داخل المجتمع الكردي، عبر الانفتاح على فضاء ثقافي أوسع".

الكاتب الصحفي الكردي هوشنك أوسي (الجزيرة)التواصل الثقافي الكردي والعربي

وكثيرا ما تساءلت القواعد الاجتماعية عن الأدوار الواجب فعلها من المثقفين والأدباء السوريين العرب تجاه الأكراد وتمازج الثقافات في ما بينهم. يقول الصحافي والكاتب يعرب العيسى في حديثه مع الجزيرة نت: "بعكس التوترات بين الكرد والعرب الشعبويين، كان الوسط الثقافي أنضج، والمثقفون الأكراد المستقرون في دمشق وحلب كانوا حاضرين في الوسط المجتمعي والثقافي بعمق، ومشاركين وبالتفاعل الأدبي والفني المتبادل، وانعدم الفوارق".

إعلان

ووفقا لعيسى، فإنهم "تعمقوا في الحياة والثقافة الكردية عبر نتاجات المثقفين الكرد، والأدباء العرب نجحوا في مدّ جسور مع نظرائهم الكرد، بقدر ما مدّ المثقفون الأكراد يدهم إلى الثقافة العربية".

أما الكاتب محمد أمين من أهالي الطبقة (مدينة الثورة) فيعزو، خلال حديثه مع الجزيرة نت، أسباب القصور إلى الكرد والعرب معا، "لا سيما في المجال الثقافي باعتباره الأكثر أهمية واستدامة". بالمقابل، استشهد بأدوار دور النشر في التقارب، إذ إن "كثيرا منها يشارك في معرض أربيل الدولي للكتاب، ويشهد دوما تفاعلا فكريا وثقافيا واسعا".

وعرّج على الأنشطة التي يشهدها المعرض وتمثل دورا في التفاعل الكردي العربي الثقافي، "كاستضافة عدد من الكتاب والمفكرين العرب"، وقال إن ذلك "يشكل دفعا باتجاه مد المزيد من الجسور بين الثقافتين والكثير من التأثير والتجانس المتبادل"، مستمرا بدفاعه عن التواصل الثقافي الكردي والعربي، إذ قال: "بيننا تشابه نشأ منذ نحو 1400 عام من التاريخ والدين الواحد، لذا تبادلنا التأثير العميق، مما شكل روابط فكرية بين الشعبين تحتاج اليوم إلى تعزيز".

كما يقدم محمد أمين العوائق أمام الكتّاب العرب للوصول إلى القارئ الكردي أكثر، "فاللغة تشكل عائقا كبيرا، خاصة ضعف الترجمات من العربية إلى الكردية أو العكس، مع ذلك فالثقافة العربية حاضرة بقوة في المشهد الكردي، والكثير من الإخوة الأكراد في سوريا والعراق يتقنون اللغة العربية، فالشعبان تربطهما مشتركات راسخة كالجغرافية والتاريخ والمصالح والمصير".

إن التحديات أمام الثقافة الكردية اليوم ليست كما في سابق عهدها من طباعة الكتب إلى إحياء اللغة، بل في كيفية تحرير الثقافة من سطوة الأدلجة الحزبية والسياسية، وتحويلها إلى فضاء نقدي جامع. ويشترك الأكراد والعرب معا في أدوار مد جسور الإبداع المشترك، فإما أن تكون دولة لكل ثقافاتها، أو تبقى حبيسة المركزية القامعة، تتكرر فيها حوادث الظلم والإنكار.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات دراسات اجتماعي اللغة الکردیة فی سوریا

إقرأ أيضاً:

بجوائز تصل لـ 2500 جنيه.. التعليم تنظم المسابقة الثقافية الدينية الكبرى

قررت وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني تنظيم المسابقة الثقافية الدينية الكبرى 2025/2026، وذلك في إطار التعاون مع وزارة الأوقاف لنشر الثقافة الدينية بين الطلاب.

وقالت وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني: “ندعو طلاب المرحلة الابتدائية للمشاركة في المسابقة بالكتابة عن «التنمر وأخطاره على الفرد والمجتمع»”.


شروط  المسابقة الثقافية الدينية الكبرى أن يكون الطالب مقيدًا للدراسة في إحدى المدارس المصرية.لا يقل عدد صفحات البحث عن 10 صفحات، ولا يزيد على 15 صفحة. كتابة البحث بخط اليد، مع مراعاة حسن الخط وسلامته من الأخطاء الإملائية. لا يحق للمتقدم أن يتقدم في العام الواحد بأكثر من بحث. تعطى صفحات البحث أرقامًا متسلسلة من أول البحث إلى آخر البحث. توضع حواشي (هوامش كل صفحة أسفلها على حدة، ويكون ترقيم حواشي كل صفحة مستقلا. يكتب البحث خاليا من الأخطاء اللغوية والإملائية والنحوية، مع الدقة في التوثيق. الموعد النهائي لتقديم الأبحاث للإدارات التعليمية في موعد أقصاه 26 مارس 2026.
جوائز  المسابقة الثقافية الدينية الكبرى

تتقدم وزارة الأوقاف بجوائز للمتسابقين الفائزين، كما يلي:

 الأول: 2500 جنيه. الثاني: 1500 جنيه. الثالث: 1000 جنيه.من الرابع إلي العاشر: 500 جنيه. طباعة شارك وزارة التربية والتعليم التربية والتعليم التعليم التعليم الفني

مقالات مشابهة

  • سَفِلز مصر تُصدر "تقرير القاهرة العقاري 2025".. السوق يشهد تحولات جوهرية وآفاقًا واعدة في مختلف القطاعات
  • قيادات جامعة الأزهر يفتتحون ندوة "الإسلام حضارة بين التأصيل والمعاصرة واستشراف المستقبل"
  • قيادات جامعة الأزهر يفتتحون ندوة الإسلام حضارة بين التأصيل والمعاصرة بكلية الوافدين
  • “تحول مذهل”.. أردوغان يعيد صياغة موقفه من الحزب الكردي!
  • بجوائز تصل لـ 2500 جنيه.. التعليم تنظم المسابقة الثقافية الدينية الكبرى
  • المكتب الثقافي التعليمي المصري بالرياض يناقش تاريخ العلاقات الثقافية بين مصر والسعودية
  • وقفة احتجاجية في رضوم شبوة تنديداً بعمليات القمع وانعدام الخدمات الأساسية
  • رئيس الأوبرا : 37 عاما تجملت بتاريخ مشرف من الفنون الجادة والريادة الثقافية
  • رئيس الأوبرا: 37 عاما تجملت بتاريخ مشرف من الفنون الجادة والريادة الثقافية
  • ميس رضا تكتب: رؤى استراتيجية لتفعيل الدبلوماسية الثقافية وحوار الحضارات