عقدت مؤسسة طابة للأبحاث والاستشارات صالونا ثقافيا تحت عنوان: " التحديث والتراث"، وذلك بحضور عدد من كبار العلماء والشخصيات العامة.

وفي مقدمة اللقاء، قال الحبيب على الجفري الداعية الإسلامي ورئيس مؤسسة طابة للأبحاث والاستشارات: إن هناك بعض الاشتباكات التي تحدث بين أبناء المجتمع ليس لها جدوى لمجرد الجدل والتوقف عندها، ومنها مِثالاً: مصطلح التراث فهو مصطلح فضفاض واسع.

وأضاف " الجفري" أن كلمة التحديث لها شق أكاديمي وشق آخر له عرف بين الناس يرتبط بإحداث التغيير، وإننا نرى أن هناك طريقة خاصة للتعامل مع التراث لها مناهج علمية مع هذا النص المقدس، ففهم النص المقدس قد يكون التغيير فيه أمر شرعي يدخل في إطار فرض الكفاية.

يتبنى التراث

وأشار إلي أنه يوجد لدينا اشتباك فكري بين من يتبنى الحداثة ومن يتبنى التراث، وأصل المشكلة هي طريقة الاشتباك الفكري بين الفريقين التي تحولت إلى شكل من أشكال الصراع غير المطلوب.

ووجه "الجفري" دعوة هامة إلى الخروج من الجمود قائلا:" أزعم أن لدينا جمودًا وحالة تشبه بالسلفية في المسائل الشرعية والحداثية"، مؤكدًا أننا بحاجة إلى نفض تلك الحالة السلفية، لافتًا إلى أننا في دعوتنا إلى إخراج الخطاب الشرعي من الجمود نصاب بحالة من الجمود التي نحتاج إلى نفضها أيضا كي نصل إلى معالجة ضرورية، خاصة وأننا لم يعد لدينا وقت أو رفاهية لوجود تلك الحالة من التراشق غير البناء.

ولفت إلى أن الدولة التي تدعي أستاذية العالم والعلم والقانون بكل غطرسة تهدد أعلى محكمة، مضيفًا: يجب أن نشارك العالم في صنع الفلسفة الخاصة به، حيث لم نكن موجودين في عصر النهضة والحداثة وما بعد الحداثة.

ونوه الحبيب علي الجفري بأن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان صِيْغَ من وجهة نظر الثقافة الغربية أحادية وقد كان رد فعل على ما حصل في الحرب العالمية الثانية.

وأشار الحبيب الجفري إلى أن الجمود سواء في بيت الخطاب الشرعي أو الفلسفي يعطى فرصة لبعض المتطرفين أن يدخلوا في هذا المعترك فيزيد ضياع الوقت.

وأكد أننا في حاجة إلى نقلة لأجل تدارك النقلة الكبيرة التي يحدثها العالم في الوقت الحالي، ومن وسائل هذا العصر الذكاء الاصطناعي، الذي أكد الجفري على أهمية مواكبته وتفعيله وتغذيته فلسفيا وفكريا وأخلاقيا. 

واختتم "الجفري" حديثه بالإشارة إلي أنه إذا لم نمتلك الرؤية القائمة على الحوار الحقيقي فسنكون في مهب الريح ونكون بذلك قد أجرمنا في حق الأجيال الجديدة.

بدوره قال الدكتور أسامة الأزهري مستشار الرئيس للشؤون الدينية وأحد علماء الأزهر الشريف: إننا نريد أن نتجاوز النموذج المنغلق على الذات والرافض لوجود أدنى مستوى للحوار.

وأضاف " الأزهري" خلال كلمته في الصالون الثقافي لمؤسسة طابة تحت عنوان "التحديث والتراث": أن النقاش واسع في كل ميادين المعرفة، وأن الشيء الوحيد الذي يمكن إقامة البرهان عليه هو الذي يمكن أن يرجح حجية عالم عن الآخر، لافتا إلى أن هناك معوقات كثيرة تجعلنا لم نشهد حوارًا علميا مكتملا على مدار أكثر من قرن مضى.

من جانبه أوضح الدكتور يوسف برسوم -المتخصص في التاريخ- أن المفاهيم المتعلقة بالتراث مفاهيم واسعة وأن التجربة التاريخية كانت في بعض منها إصلاحية، فعلى سبيل المثال: ابن تيمية قدم مجموعة أفكار إصلاحية لأنه شهد انهيار للدولة التي كان فيها.

وأشار إلى أن مدرسة الشيخ محمد عبده هي تجربة إصلاحية خرجت من وحي المجتمع الذي عانى من الفقر الشديد والاحتلال الأجنبي، وتلاميذه أمثال الشيخ علي عبد الرازق من هذه المدرسة الإصلاحية، وكان يرى أن المجتمع لن ينهض إلا بالقضاء على الاستبداد.

وشدد على أن الحركات الإصلاحية في المجتمع لا يمكن أن تتعارض مع التراث؛ لأنا من جذور المجتمع وأساسه، وأن الحركات الإصلاحية لا يمكن أن تنهض إلا بالاعتماد على التراث، وأنه لا بد أن ندرك أنه لا يمكن أن نقدم منتجًا إصلاحيًّا لا يتماشى مع أفكار المجتمع.

بدوره أوضح الدكتور عمرو عبد المنعم خبير التنظيمات الإرهابية، أن المجتمعات الإسلامية تنظر للتراث على أنه أمر مجدد خارج فهم جموع علماء المسلمين لفكرة التراث وفهم قضايا السلف، مشيرًا إلي أن التراث تحول إلى معضلة في الفهم وتحول من يتعامل مع التراث إلى جامد وخارج عن النص.

وقال الدكتور عصام عبدالفتاح، أستاذ الفلسفة بجامعة حلوان: لا يجب ذبح التراث عند معالجته، ولكن يجب معالجته برمته من كافة الجوانب.

وأضاف أنه عند الحديث عن التراث والحداثة لا ينبغي إغفال أن التراث في زمن من الأزمان كان حداثة، متابعا: حينما نقول إن هناك مشكلة بين الحداثة والتراث فهنا توجد إشكالية وهي أن العقل قد توقف وتجمد.

وأشار إلى أن هذا الإشكالية لم تطرح في الغرب فلا توجد هناك مشكلة تقول إن هناك إشكالية بين التراث والحداثة.

ولفت إلى أن تحديد الخطاب بين شرعي وغير شرعي، جعله مقتصرا على هذا النطاق فقط، موضحا: حينما نقول أننا نبحث في التراث فلا يجب أن نمارس عليه مذبحة ويضمن الشرعي وغير الشرعي وهذا لا مشكلة فيه.

من جانبه أكد الدكتور طارق أبو هشيمة مدير مؤشر الفتاوى في دار الإفتاء المصرية، أن هناك خلطًا كبيرًا بين الحداثة والتراث تتعلق بالخلط بين المصطلحات مثل الخلط بين الدين والتدين والفكر الديني.

وأشار "أبو هشيمة" إلي أن هناك إشكالية في المصطلح بين الحداثة والتراث، كما أن هناك خطأ في النظر إلى مدارس الفكر الغربي من خلال نظرة واحدة على الرغم من اختلاف هذه المدارس في طرحها بين العلمي والديني على أن البعض من هذه المدارس قد خدم السنة في مقابل البعض الآخر الذي سعى لهدمها.

وأكد مدير مؤشر الفتاوى في دار الإفتاء أن هناك دراسة أجريت حول الأفكار التي تسعى لهدم ثوابت الدين وتشكيك الشباب في أبرز الثوابت الدينية خلال الفترة الماضية وأثبتت أن 70% من المصريين يعارضون هذه الأفكار.

ورش فنية واكتشاف الموهوبين ضمن أنشطة ثقافة الفيوم

وأوضح " أبو هشيمة" أن من يتبنى الفكر الحداثي أو التراثي بشكل متطرف تكون رؤيتهم واحدة تعتمد على التشدد المنهجي، الذي يعتمد على اجتزاء النصوص والتأويل الخاطئ للنص والأدلجة الخاصة بالأفكار والتأويل الخاطئ للنصوص.

بدوره أكد الدكتور أيمن عبد الوهاب نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية أننا في مجتمعاتنا العربية أصبحت لدينا مشكلة وهي المكون الثقافي والمعرفي، وأن الأزمة ليست في الخطاب الديني، وإنما في الخطاب العام والذي منه الخطاب الديني، وأشار بأن الأنظمة نحتاج إلى نظرة أعمق لمفهوم النموذج المعرفي.

وزارة العمل تنشر ثقافة السلامة والصحة المهنية بمنشآت الوادى الجديد

تهدف مؤسسة طابة للأبحاث والاستشارات لإعادة تأهيل الخطاب الديني واستعادة قدرته على فهم الواقع، مستندين في ذلك إلى مرجعية أصيلة واستيعاب للتنوع الثقافي والحضاري الإنساني والديني، من خلال نخبة من العلماء والمثقفين وقادة الرأي والفكر

يقام الصالون الثقافي بحضور كلٍ من  الدكتور أسامة الأزهري المستشار الديني لرئيس الجمهورية، والحبيب علي الجفري رئيس مجلس إدارة مؤسسة طابة،  والدكتور مايكل مدحت مدرس الفلسفة بجامعة حلوان، والدكتور عصام عبد الفتاح أستاذ الفلسفة بجامعة حلوان، والدكتور طارق أبو هشيمة مدير المؤشر العالمي للفتوى، ويوسف برسوم المتخصص في علم التاريخ، والدكتور عمرو عبد المنعم خبير التنظيمات الإرهابية في التاريخ.

والدكتور يوسف الورداني مساعد وزير الشباب الأسبق، والشيخ أحمد سيف مدير المبادرات بمؤسسة طابة، وأحمد رأفت باحث مساعد في مؤسسة طابة، والشيخ محمد الجفري المدرس بروضة النعيم، والدكتور محمد سامي مدير الحلقة الفلسفية بمؤسسة طابة، والشيخ عبدالله الجفري المدرس بروضة النعيم، والدكتور عبد الباسط هيكل الباحث والأكاديمي المصري، والدكتور أيمن عبد الوهاب نائب مدير الأهرام للدراسات السياسية، وبعض من شباب الجامعات وادار الندوة الإعلامي أحمد الدريني.

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: الحبيب علي الجفري التراث والحداثة الداعية الإسلامي مؤسسة طابة أبو هشیمة أن هناک یمکن أن إلى أن إلی أن

إقرأ أيضاً:

مفارقة الشفافية.. هل تزيد ثقة الناس في العلم عبر الكذب؟

لطالما كانت الشفافية حجر الزاوية في بناء الثقة بين العلماء والجمهور، فقد اعتقد فريق من الفلاسفة والعلماء أن كلما كانت المؤسسات البحثية أكثر شفافية في تقاريرها، زادت ثقة الناس في العلوم.

لكن دراسة جديدة نشرتها جامعة بانغور في ويلز تكشف عن ظاهرة غير متوقعة، حيث تقول الدراسة إن الشفافية قد تؤدي إلى تقليص الثقة في العلوم بدلا من تعزيزها.

ووفقا للدراسة التي نشرها بايرون هايد، فيلسوف العلوم في الجامعة، في دورية "ساينس آند سوسايتي" تحت عنوان "الكذب يزيد الثقة في العلم"، لا يمكن النظر إلى الشفافية كعامل واحد يؤدي إلى زيادة الثقة بشكل دائم.

في الواقع، بينما تعتبر الشفافية أداة لتعزيز الثقة في العلوم حينما تنشر الجامعات أخبارا عن كشف أو ابتكار أو إنجاز علمي جديد، قد يؤدي الإفصاح عن الأخبار السيئة مثل الفشل في التجارب العلمية أو وجود تضارب في المصالح أو إعادة النظر في نموذج أو نظرية راسخة، إلى تقليص هذه الثقة.

الجمهور يبالغ في تقدير العملية العلمية، بسبب الإنجازات العظيمة للعلوم على مدى عقود (أسوشيتد برس)مفارقة الشفافية

يطلق هايد اصطلاح "مفارقة الشفافية" على هذا الأمر، وهو الظاهرة التي تشير إلى أن الشفافية تؤدي إلى زيادة الثقة وفقدانها كذلك، بحسب طبيعة نتائج العملية.

وبحسب الدراسة، تُظهر بعض الحالات الواقعية كيف يمكن أن يعمل التناقض الشفاف. فعلى سبيل المثال، في فضيحة "كلايمت جيت"، تم تسريب رسائل إلكترونية من علماء المناخ في جامعة "إيست أنغليا" في نورويتش في بريطانيا، مما أدى إلى اتهامات بالتلاعب بالبيانات.

ورغم أن التحقيقات أظهرت أنه لا يوجد خطأ في العمل العلمي، فإن الكثير من الجمهور فقدوا الثقة في علم المناخ، لأنهم كانوا يحملون صورة مثالية للعلم وعندما تبينت لهم "فوضى" العملية العلمية، تزعزعت ثقتهم.

أحد الأمثلة على ذلك أيضا، عندما يعيد العلماء النظر في نموذج بحثي قائم أو كان راسخا على مدى عقود، وليكن مثلا التصورات عن "المادة المظلمة" أو "الطاقة المظلمة" في الفيزياء ضمن نموذج علم الكونيات القياسي الحالي (لامبدا-سي دي إم)، هنا يتصور الناس أن العلماء يمشون خطى للأمام ثم يعودون فيها، وكأن تلك هي طبيعة العلوم.

إعلان

ويطرح ما سبق تساؤلا محوريا وهو: هل يجب أن تتجنب المؤسسات العلمية الإفصاح عن الأخبار السيئة لتحافظ على الثقة في المؤسسات العلمية؟ هذا ببساطة نوع من الكذب، مهما كان السياق.

ويشير هايد إلى أن الحل القائل بإخفاء النتائج السلبية غير مستدام وغير أخلاقي، ومن ثم يقترح أن الحل يكمن في معالجة سبب المشكلة من جذوره. فوفقا لهايد، تكمن المشكلة في أن الجمهور يبالغ في تقدير العملية العلمية، بسبب الإنجازات العظيمة للعلوم على مدى عقود.

ومن ثم يرجع فقدان الثقة في العلوم، وفقا للباحث، إلى أن الناس لديهم تصور مغلوط عن العلماء، فهم لا يرون العلماء كأشخاص معرضين للأخطاء أو التأثر بالتحيزات، بل يعتقدون أنهم أشخاص عظماء بطبيعة الحال، يملكون الإجابات الحاسمة دائما.

فمن المهم أن يعي الناس أن العلم يعتمد على فرضيات وتحليلات دقيقة ولكنه لا يقدم إجابات مطلقة (آفتاب يزد الإيرانية)صورة الكتب الخيالية

هذه الصورة المثالية التي يمكن أن يطلق عليها "صورة الكتب الخيالية"، تجعل الجمهور يفقد الثقة عندما لا تتماشى نتائج العلم مع توقعاتهم.

ويشرح هايد في دراسته أنه يجب على العلماء والمؤسسات التعليمية أن يعيدوا تعريف العلاقة بين الجمهور والعلم، فمن المهم أن يعي الناس أن العلم يعتمد على فرضيات وتحليلات دقيقة ولكنه لا يقدم إجابات مطلقة، كما أن العلماء هم بشر، وهم معرضون للأخطاء والتأثيرات الخارجية، مثل أي شخص آخر.

وبحسب الدراسة، فبدلا من إخفاء الحقيقة عن الأخطاء، يرى هايد أن الحل يكمن في تعليم الناس عن العلم، فالتعليم الصحيح حول كيفية عمل العلوم وكيفية وصول العلماء إلى استنتاجاتهم قد يساعد على تقليل هذا التوقع غير الواقعي، وفي هذا السياق يجب أن نفهم أن العلم ليس عملية مثالية، بل هو عملية مستمرة من الاستكشاف والتجربة، بما في ذلك الأخطاء.

على سبيل المثال، للوهلة الأولى تظن أن العلم هو كيان منتظم في خط سيره، لكن هنا يمكن أن نتأمل قليلا قول بيتر مدوّر، العالم الجائزة نوبل في الطب لعام 1960 مناصفة مع الأسترالي السير فرانك بورنت لاكتشافهما التحمل المناعي المكتسب، إن الأبحاث العلمية هي "نوع من الغش"!

بالطبع لا يقصد مدوّر الغش الذي تفهمه، وإنما يقصد أنها تظهر لنا في صورة نهائية أنيقة ومرتبة (مقدمة، وآليات، ونتائج، ومناقشة، واستنتاج، ومراجع) لكن الطريقة الحقيقية التي يعمل بها العلماء تتعلق أكثر بالخيال والارتباك والخطأ والتصحيح المستمر وهي عملية عاطفية في جانب منها، ومن ثم فالورقة العلمية تدفعنا للظن أن العملية العلمية باردة تماما، خالية من الخطأ.

في الواقع فإن ما يعطي العلم قوته لا علاقة له بورقة بحثية محددة أو خطأ محدد، بل بطبيعة العملية العلمية ككل، فهناك دائما قدرة على تصحيح الخطأ، وهنا يمكن أن نتأمل مفهوم ابتكره عالم الاجتماع الأميركي روبرت ميرتون وهو "التشكك المنظم".

حينما أقول لك إنني قد حللت مشكلة مفارقة المعلومات في الثقب الأسود فلن تصدقني حتى ترى تلك الأفكار مرفقة ببرهان أو دليل دامغ على صحة الادعاء. يحتاج العلماء دائما للتحقق من كل الحقائق، والاحتمالات المطروحة، والآليات المستخدمة، والأدوات التجريبية، كل شيء يجب أن يخضع للتحقق.

إعلان

بناء على ما سبق، فإن العالم يمكن أن يخطئ أو يتحيز أو يكذب، لكن ليس العالم أو ورقته البحثية هما معيار تقدم العلم، بل الصورة الكلية التي يُمارس فيها التشكك المنظم بشكل مستمر، ومن ثم تنكسر "البارديغمات" العلمية، أو قل النماذج الإرشادية التي بنيت عليها العملية العلمية خلال فترة زمنية، مهما طال بها الزمن، وهنا يتقدم العلم للأمام.

هايد يقول إن الحل في التعليم (بيكسابي)الحل في التعليم

ويقول هايد في تصريح رسمي حصلت الجزيرة نت على نسخة منه "يدرك العلماء وقادة الحكومات أهمية ثقة الجمهور بالعلم لأنه يمكن من اتخاذ قرارات مستنيرة، ويوجه السياسات العامة، ويدعم العمل الجماعي في قضايا حرجة مثل الصحة والمناخ والتكنولوجيا. إذا لم يمنح العلم الثقة، يصبح المجتمع أكثر عرضة للتضليل وأقل قدرة على الاستجابة بفعالية للتحديات المعقدة مثل الأوبئة"

ويضيف: "إذا أردنا أن يثق الجمهور بالعلم إلى الحد الذي يجعله جديرا بالثقة، فعلينا التأكد من فهمهم له أولا".

في هذا السياق، فإن هايد يشدد على ضرورة تغيير الطريقة التي يتم بها تدريس العلوم في المدارس والجامعات، وكذلك الطريقة التي يتم بها نقل المعلومات العلمية للجمهور، قائلا إن التعليم الذي يركز على القيم الأساسية للعلم مثل التجريب والاختبار المستمر والتفاعل مع الأخطاء قد يكون هو المفتاح لتعزيز الثقة.

مظاهرات ضد استخدام الكمامة يأتي ذلك في سياق انخفاض ثقة الناس في العلم وانتشار نظريات المؤامرة الخرافية (الأوروبية)طبيعة العلم

ليست هذه المرة الأولى التي يشير فيها فلاسفة علم وعلماء إلى العلاقة المضطربة بين العلم والجمهور، على الرغم من كل الجهود الحثيثة لنقله. فمثلا في كتابه "طبيعة العلم غير الطبيعية"، يشير لويس ولبرت، الأستاذ الفخري بقسم علم الأحياء الخلوي والنمائي في كلية لندن الجامعية، إلى نقطتين أساسيتين لا يتمكن الجمهور من فهمهما، الأولى هي قدر اختلاف العلم عما نتصور أنه بديهي، والثانية هي أن العلم لا يحل كل المشكلات، ولا يمكنه توقع المستقبل بدقة.

التصورات الخاطئة عن هاتين النقطتين هي ما يدفع الناس إلى اتخاذ مواقف متناقضة من العلم، تتضمن مخاوفنا من هذا الشيء الغريب غير المفهوم والقوي جدا، والمرتبط بكوارث قد حدثت بالفعل مثل هيروشيما وناجازاكي، أو أخرى متوقعة كهواجس سيطرة الآلة والذكاء الاصطناعي وخلق وحوش بشرية عبر التكنولوجيا الحيوية وتقنيات كريسبر لتحرير الحمض النووي.

ويمتزج هذا الموقف مع شعور بالهيبة والثقة الشديدة تجاه العلم، فأنت مثلا تثق بأن ما يصفه لك الطبيب هو الدواء المناسب لك، رغم علمك أن ذلك القرص يحتوي على مادة كيميائية قد تكون قاتلة.

ويتفق وولبرت وهايد على أن المحاولات الحثيثة لتقريب العلوم للجمهور، على الرغم من نجاحات كبيرة حققتها، فإن الأمر يجب أن يكون أعمق من ذلك، ويدخل بجرأة لتعليم الجمهور عن طبيعة العملية العلمية، وتوضيح أنه على الرغم من دقتها الشديدة، فإن لها سقطات، التجارب تفشل، وقد يتحيز العلماء فهم بشر لا شك، يأتي ذلك في سياق عصر تنتشر فيه الأخبار الكاذبة ونظريات المؤامرة بشراسة، بشكل مضاد تماما للعلوم، يستغل "صورة الكتب الخيالية" لتمرير سرديته.

على الناس أن يفصلوا بين العلم والعلماء (شترستوك)التوسل بالمرجعية

هذا النوع من التعليم ضروري، لأنه على الأقل يعلم الناس أن يفصلوا بين العلم والعلماء، وهي نقطة غاية في الأهمية، لأن الناس عادة ما يقعون في مغالطة شهيرة تسمى "التوسل بالمرجعية".

وتجري المغالطة كالتالي: شخص ما يقول إن الادعاء "س" صحيح، هذا الشخص يعد خبيرا في النطاق الذي يتخصص في دراسة "س"، بالتالي فإن الادعاء "س" صحيح لا شك!

لوهلة، تظن أن هذا الكلام خال من الخطأ، لكن في العلم فإن الحكم على ادعاء ما بالصدق يكون بناء على الحقائق وإجماع العلماء، وليس من خلال علم أو خبرة قائله.

إعلان

الناس عادة ما يساوون بين "العالِم" و"العلم"، لكن العالِم هو إنسان مثلك، يمكن أن يخطئ، ويمكن أن يتحيز لعشرات الأسباب التي قد تكون سياسية أو دينية أو حتى شخصية بحثا عن الشهرة الإعلامية.

وستجد ذلك واضحا في حالات مثل أندرو ويكفيلد مثلا، وهو طبيب وباحث بريطاني سابق في أمراض الجهاز الهضمي والذي قاد حملة اعتمدت على العلوم الزائفة ضد اللقاحات، ولينوس باولنغ، العالم الحاصل على نوبل لكنه روج لأفكار خاطئة تماما عن دور فيتامين سي في حياتنا، وغيرهم من العلماء الذين آمنوا بالخرافات، بل بعضهم روج للأبراج، والعلاجات بالطاقة، ووصولا إلى القناعات -غير المدعمة بالأدلة- بوجود كائنات فضائية تعيش بيننا.

بل إن بول نيرس، الحاصل على نوبل في الطب لعام 2001، يحذر رفاقه الحاصلين على نوبل من "مرض نوبل"، وهو أن الحاصل على نوبل -بسبب الثقة التي تعطى إليه- يكون مستعدا للتعبير عن آراء حول معظم القضايا بثقة كبيرة، من علوم المناخ حتى قضايا الطاقة ومشكلات اللاجئين، محميا بالسلطة التي تمنحها له جائزة نوبل.

الواقع يقف تماما على النقيض من ذلك، أو كما قال ريتشارد فاينمان، الفيزيائي واسع الشهرة والحاصل على نوبل ذات مرة: "إذا تحدث فيزيائي ما في غير شأن الفيزياء، فهو أحمق بنفس قدر الشخص الجالس بجانبه".

العلم فعال.. لكنه قد يكون بطيئا

يجري ذلك في سياق فهم خاطئ لقوة العلم، فمثلا حينما نحاول صناعة دواء جديد، فإننا بحاجة إلى فترة تمتد من 3 إلى 6 سنوات من البحث العلمي وتطويره حول اختيار المادة الفعّالة من بين آلاف أخرى يمكن أن تخدم الهدف نفسه.

ثم بعد ذلك، يتطلَّب الأمر تحديد أيّ من تلك المواد سوف نبدأ باستخدامه في التجارب الأولية، بعد ذلك نحتاج إلى مدة تقترب من العام من أجل عمل الاختبارات الكيميائية الأولية والتجريب على الحيوانات.

ويحتاج التجريب الحذر على البشر إلى نحو 7 سنوات، ونحتاج بعد إطلاق الدواء إلى سنتين من أجل رصد تطور استجابة البشر لهذا الدواء، مما يعني أن مادة فعّالة واحدة، كالباراسيتامول الموجود في قرصَيْ بنادول، تحتاج إلى ما يقترب من 10 سنوات لكي تصل إلى يديك.

كما أن المرض معقد ولا يمكن فهمه بسهولة، خذ السرطان على سبيل المثال، يسأل الناس: لم لا يعالج العلماء السرطان بعد عقود من البحث ومليارات الدولارات؟

في الواقع، فإن السرطان ليس مرضا واحدا بل 200 مرض مختلف، حيث يبدأ من خلية واحدة وقد يصيب أنواعا متعددة من الخلايا في الجسم، مما يجعله معقدا للغاية ويختص كل نوع من السرطان بنوع محدد من الخلايا.

أضف لذلك أن الخلايا السرطانية قد تكون غير متشابهة حتى داخل الورم نفسه، كما أن الخلايا السرطانية تتطور مع مرور الوقت وتكتسب قدرة على مقاومة العلاجات. لذلك، علاج السرطان ليس أمرا بسيطا، بل يتطلب تقنيات متعددة ومتنوعة لمكافحة مقاومة الخلايا للأدوية.

حينما يتعلم الناس عن هذا الأمر، فإنهم يخففون في كثير من الأحيان من تحفزهم ضد العلم، وهو تحفز عادة ما يكون مدعوما بأفكار مؤامراتية تقول إن شركات الأدوية تتلاعب بالنتائج "للتحكم في مرضى السرطان" وأن "العلاج موجود لكنهم يخفونه".

لكن على الجانب الآخر، حينما يتعلم الناس عن مدى تعقيد وصعوبة العملية العلمية، وإمكانية حدوث أخطاء وتحيزات، فإنهم يخففون من نظرتهم المؤامرتية للعلم، وقد تزيد ثقتهم به.

مقالات مشابهة

  • مفارقة الشفافية.. هل تزيد ثقة الناس في العلم عبر الكذب؟
  • مدير الجامع الأزهر: سورة لقمان بدأت بحروف متقطعة عجز العلماء عن تفسيرها|فيديو
  • ختام مسابقة الأندية للإبداع الثقافي بمحافظة ظفار
  • ضبط طبيب بيطري يمارس الطب التجميلي داخل صالون نسائي غير مرخّص
  • البطالة والشباب وتعاطي المخدرات
  • الكويت: ضبط «طبيب بيطري» يزاول مهنة الطب التجميلي داخل صالون نسائي غير مرخص
  • القضاء العراقي يحكم بالحبس أربعة أشهر بحق صاحب صالون لاند
  • الدكتور احمد زياد الحجاج .. مبارك التخرج
  • التنوع الثقافي لدى الشباب الرياضي
  • عمران .. لقاء للعلماء والخطباء يناقش المستجدات الراهنة في غزة