منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2023، شهدت الأشهر الستة بعد انطلاق عملية "طوفان الأقصى" ما يزيد على أربعة آلاف اشتباك بين حزب الله اللبناني وجيش الاحتلال الإسرائيلي. تسببت الاشتباكات والمناوشات في قتل وإصابة العشرات على جانبي الحدود، كما أُجبر عشرات الآلاف من الإسرائيليين على النزوح من أماكن سكناهم في الأراضي المحتلة بسبب صواريخ حزب الله.

وإلى اليوم، تتصاعد وتيرة الهجمات؛ مما يؤشر إلى تزايد احتمالية أن نكون على مرمى حجر من حرب فعلية. حرب التصريحات التي بدأت بالتزامن مع بدء الاشتباكات، ازدادت سخونتها لنصل إلى تهديدات مباشرة من رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هرتسي هاليفي الذي قال إن الحكومة "تقترب من نقطة القرار" بشأن الحرب، ومن قبله حرض وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير على إحراق لبنان.

يعد الجيش الإسرائيلي، نظرًا لعدته وعتاده وتمويله الأميركي بالأساس واهتمامه بالتطوير التكنولوجي، أحد أقوى الجيوش في العالم. فهو من هذه الناحية، يتفوق قطعًا على حزب الله، لكن الأخير، من الناحية العسكرية، يعد أحد أقوى القوات المسلحة غير النظامية في العالم. فما الذي يحدث إذا التقت قوتان بهذا الاختلاف والتفاوت في أرض المعركة؟

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الشنقيطي يكتب: فقه الثغور المتعددة.. تحالفات الثورات ومساحاتها الرماديةالشنقيطي يكتب: فقه الثغور المتعددة.. ...list 2 of 2سيكولوجية التديّن.. البنية التحتيّة للمقاومة في غزةسيكولوجية التديّن.. البنية التحتيّة ...end of list

 

حرب من نوع مختلف

قد تظن أن فارق العتاد وحده يكفي لتحديد المنتصر، لكن الحقيقة أبعد ما تكون عن ذلك. حرب لبنان في عام 2006 كانت كفيلة بإظهار خطأ تلك الفكرة. ويمكن أن تلحظ ذلك في تحليل قدمه الخبير الأمني الإسرائيلي بواز جانور الذي أوضح أنه "في غضون 34 يومًا فقط من الحرب غير المتكافئة ضد إسرائيل، أظهر حزب الله مرونة تنظيمية، وقدرة على البقاء، واستخدام أشكال متعددة ومبتكرة من القوة النارية".

بل ورأى بعض الخبراء في هذا النطاق، مثل باحث الدفاع الأميركي فرانك هوفمان، أن حزب الله أثبت أن الجهات غير النظامية قادرة على "دراسة وتفكيك نقاط الضعف في الجيوش ذات النمط الغربي واستنباط التدابير المضادة المناسبة". السبب في ذلك لم يكن تحديدًا القوة العسكرية، ولكن ما يصفه المتخصصون باعتباره نوعًا مختلفًا من الحروب يعد حزب الله أحد أفضل نماذج تطبيقه، وقد سُمِّيت هذه الحروب "الحروب الهجينة".

لا تمتلك الحرب الهجينة تعريفًا عسكريًّا محددًا حتى الآن، ولا يزال ثمة جدل حول طبيعتها. لكن يمكن القول إنها إستراتيجية تمزج بين الحرب التقليدية والحرب غير النظامية، فتكون هناك قوات نظامية مسلحة تقليدية الطابع ذات تكتيكات ومعدات عسكرية قياسية، إلى جانب أسلحة مثل الدبابات والمدفعية والطائرات، إلى جانب تكتيكات الحرب غير النظامية، مثل استخدام وحدات أو خلايا صغيرة متنقلة وتكتيكات الكرّ والفرّ والكمائن وعمليات "تخريب" بنى العدو التحتية.

إلى جانب ذلك تستخدم تكتيكات أخرى غير معهودة مثل هجمات القرصنة وحجب الخدمة وغيرها من أشكال العدوان السيبراني سلاحًا رئيسيًّا يهدف إلى تعطيل أو إتلاف البنية التحتية الرقمية للخصم، والدعاية المعلوماتية التي تؤثر في الرأي العام والروح المعنوية لدى الخصم، وتكتيكات للتأثير في عواطف ودوافع وسلوك الأفراد والجماعات والحكومات.

في هذا السياق تأتي مجموعة من الخصائص التي تميز إدارة هذا النوع من الإستراتيجيات على مستوى العمليات والتكتيكات، منها مثلا الاستجابة المرنة والسريعة. فحينما تبدأ حملة قصف جوي لمنطقة ما، تتمكن القوات المدافعة (ولتكن حزب الله في هذه الحالة) من التخفيض السريع لحركات القوات على الأرض ومعدلات استخدام الهواتف المحمولة.

ما سبق يمكن اعتباره نقطة قوة حزب الله جيشًا وجماعةً. إنها القدرة على التكيف. فهيكلية قواته تمكنه من التكيف بسرعة مع الظروف المتغيرة، واستخدام أشكال مختلفة من الحرب حسب الحاجة وليس طبقا لتشكيلات القوات النظامية، وفي نفس الوقت تظل هناك وحدات مدربة بشكل معتدل ومنضبط، تصل إلى حجم كتيبة، مع هيكل قيادة وسيطرة مركزية شبيه بهياكل الجيوش النظامية، وهو أمر ضروري لتنسيق إستراتيجية الحرب الهجينة.

 

سلاح مخصص

مؤخرا أعلنت جهات في جيش الاحتلال أنها تقوم بدراسة ضم مدفع "أم 61" إلى ترسانتها لمواجهة هجوم المسيّرات القادم من جنوبي لبنان، وهو مدفع دوار قوي ومتعدد الاستخدامات، وقد كان عنصرًا أساسيًّا في تسليح الطائرات العسكرية منذ طرحه، حيث يعمل باستخدام محرك كهربائي لتدوير الأنابيب؛ مما يسمح بمعدلات إطلاق نار عالية للغاية (تصل إلى 6 آلاف في الدقيقة). وأفادت وسائل الإعلام المحلية أن الجيش الإسرائيلي يقول إن السلاح سيوضع فوق ناقلات جند مدرعة منتشرة على طول الحدود الشمالية بشكل خاص.

وضع الجيش الإسرائيلي أنظمة لكشف المسيّرات عبر الحدود لتحسين وقت الاستجابة ودقة الاعتراضات، وأنشأ الجيش وحدة مخصصة لاستهداف المسيّرات، ومع ذلك تمكنت المسيّرات القادمة من جنوبي لبنان من اختراق المجال الجوي الإسرائيلي أكثر من مرة؛ مما دفع الجيش إلى البحث عن حلول إضافية منها هذا المدفع.

ويوضح ذلك أن إسرائيل، حتى مع عدم خوض معارك ضد حزب الله لا تزال تعاني من استخدام الحزب لواحدة من أهم أدوات هذا النوع من الحروب، حيث تتمكن المسيّرات من توفير قدرات لا مثيل لها للمراقبة والاستطلاع مع كفاءة تشغيلية عالية (الدقة والقدرة على البقاء أعلى منطقة ما لفترة طويلة نسبيا)؛ مما يسمح بجمع المعلومات الاستخبارية في الوقت الحقيقي دون المخاطرة بحياة البشر، وفي هذا النوع من الحروب تؤدي المعلومات الاستخباراتية دورًا حاسمًا. فالقوات غير النظامية لا تتحرك لبناء الكمائن (على سبيل المثال لا الحصر) إلا في سياق معلومات مؤكدة تمكّنها من العمل في نطاقات ضيقة حسب الطلب.

مسيرة تابعة لحزب الله (غيتي)

أضف إلى ذلك أن المسيّرات تتوافق تماما مع سمات المرونة في هذا النوع من الحروب، حيث يمكن تخصيصها للعمل في نطاقات مختلفة من الهجوم للدفاع وبحمولات مختلفة، بما في ذلك أجهزة الاستشعار والكاميرات والأسلحة، وهذا التنوع يجعلها مناسبة لمجموعة واسعة من التطبيقات، إضافة إلى أنها فعالة من ناحية التكلفة بالمقارنة مع الطائرات المأهولة التقليدية، وهذا مهم في سياق فارق الموارد الهائل حينما نقارن حزب الله بجيش دولة الاحتلال، وبالتالي تزداد أولوية الاستثمار في أفضل سلاح ممكن للمعركة بأقل تكلفة.

كل هذا ولم نتحدث عن التأثير النفسي للمسيّرات، فوجودها بالأعلى يترك انطباعًا مرعبًا في نفوس الجنود على الأرض، ويعدّ ذلك من النقاط التي يحرص عليها خائضو الحروب الهجينة، لإيجاد حالة من عدم اليقين والخوف المستمر.

وهذا مجرّد مثال لكيفية استثمار القوى الأضعف من حيث العتاد في أسلحة توفر لها ميزات إستراتيجية في الحرب الهجينة، ويجري ذلك على أشياء أخرى مثل الاستثمار في القذائف رخيصة الثمن المضادة للدبابات، فقد أطلق حزب الله في حرب لبنان عام 2006 أكثر من 1000 صاروخ مضاد للدبابات، وبسبب ذلك أصيبت قرابة 45 في المئة من الدبابات والعربات المدرعة الإسرائيلية بأعطاب مختلفة.

أسس ذلك لمرحلة جديدة من أشكال الصراع مع الدبابات في هذه المنطقة، ضد دولة الاحتلال التي تفوقت بشكل أساسي في معارك الدبابات. كان هذا هو الكورنيت، الصاروخ الروسيّ الموجه والمخصص للاستخدام ضد دبابات القتال الرئيسية الأثقل في ترسانة الحرب البرية المزودة بدروع تفاعلية متفجرة، هذه الإستراتيجية طورتها فيما بعد كتائب القسام بتطوير "الياسين 105" المحلي الصنع، الذي أوقف عددا كبيرا من آليات الاحتلال عن العمل، وقتل وأصاب من كانوا داخل تلك الآليات.

جيش ليس بجيش

الأمر بالنسبة لحزب الله لا يقف عند حدود القدرات في المعارك غير النظامية. ففي عام 2006، كانت المفاجأة التي واجهتها دولة الاحتلال هي أن حزب الله كان مسلحًا بأدوات مثل الصواريخ الموجهة بدقة التي تستخدمها الدول عادة، كما استخدم مقاتلوه المسيّرات لجمع المعلومات الاستخبارية، وتواصلوا عبر الهواتف المحمولة المشفرة، وراقبوا تحركات القوات الإسرائيلية باستخدام معدات الرؤية الليلية الحرارية، وهذا ينقل جانبا من تكتيكاتهم العملياتية إلى مستوى الجيوش.

منذ ذلك الحين، حاول حزب الله دعم ترسانته بأسلحة أكثر تعقيدًا تخدم "الجانب النظامي" في حربه الهجينة. في 6 يونيو/حزيران الحالي، أعلن حزب الله أنه أطلق صواريخ مضادة للطائرات على طائرات حربية إسرائيلية بشكل أجبرها على التراجع، ولا نمتلك تأكيدا على صحة هذا التصريح لكننا نعرف أن حزب الله يمتلك بالفعل صواريخ أرض جو من طراز صياد تتمتع بالقدرة على الاشتباك مع أهداف على مدى يصل إلى 100 كيلومتر وارتفاعات تصل إلى 30 كيلومترًا.

(الجزيرة)

نعرف كذلك أن أجهزة الاستخبارات الأميركية أعلنت قبل عدة أشهر أن روسيا تنوي إرسال نظام دفاع جوي متقدم سمي "أس أيه- 22" بشكل غير مباشر إلى حزب الله، وهو نظام دفاع جوي مضاد للطائرات ذات الأجنحة الثابتة والمروحيات وصواريخ كروز والمسيّرات يمكنه العمل بشكل مستقل أو ضمن بطارية تصل إلى ست مركبات إطلاق.

وباستخدام رادار مخصص، يستطيع نظام أس أيه- 22 تتبع ما يصل إلى 20 هدفًا تكتيكيًّا في آن واحد على مدى يتراوح بين 32 و36 كيلومترًا، وقد تم تجهيزه بما يصل إلى اثني عشر صاروخًا من طراز 57 أيه 6 بتوجيه لاسلكي ورأس حربي متشظٍّ، ومدفعين من فئة 30 ملم 2 أيه 38 أم؛ مما يسمح له بالاشتباك مع ما يصل إلى أربعة أهداف في وقت واحد. يعد " أس أيه 22″ نسخة أحدث من سابقيه مثل " أس أيه-8″ و" أس أيه-17″ اللذين يمتلكهما حزب الله بالفعل، وهي قدرات لا تمتلكها عادة الجهات غير النظامية، مصحوبةً بفرق من الجنود المدربة على التعامل معها وتشغيلها.

ما ذكرناه حتى اللحظة لا يشمل ترسانة صواريخ حزب الله، حيث تشير عدد من التقديرات أنه يمتلك ما بين 120 و200 ألف صاروخ، تتنوع في مداها وقدراتها، لكن المهم في هذا السياق أن تلك الترسانة تشمل مئات الصواريخ الدقيقة ذات القدرة التدميرية العالية، التي يمكنها ضرب أهداف دقيقة في الداخل الإسرائيلي وبشكل خاص مراكز البنية التحتية العسكرية الأساسية، وهنا ستضطر دولة الاحتلال إلى تكريس منظومتها الدفاعية لحزب الله فقط إذا ما قامت الحرب.

 

ترسانة حزب الله الصاروخية

يعمل حزب الله حاليًّا على إضافة أنظمة توجيه إلى الصواريخ غير الموجهة التي يمتلك منها عشرات الآلاف من القطع، وهذا من أجل تحويلها إلى صواريخ دقيقة، ويمثل ذلك في حد ذاته نقلة متقدمة في ترسانة حزب الله، ويعزز من وضعه بوصفه قوة هجينة، تمتلك أساليب قتالية تنتمي إلى نطاق الحرب غير النظامية، وأسلحة دقيقة متقدمة مع هيكلة مركزية تضعه في جانب الحرب النظامية، وبتفعيل الجانبين معًا تنشأ الحرب الهجينة.

في كتابه "عن الحرب" يقول كارل فون كلاوزفيتز إن "لكل عصر نوعًا خاصًّا به من الحرب، له شروطه المقيدة، وتصوراته المسبقة الخاصة". ويرى بعض المحللين أن الأمر لا يتوقف فقط عند حزب الله، حيث يبدو أن الإستراتيجية الهجينة قادمة لتصبح شكلا أساسيا من الحروب، إذ تجد مثلا أن دولا مثل روسيا أصبحت بالفعل تستخدم هذا النمط من الحرب.

على مدى قرابة 20 سنة مثّل حزب الله نموذجًا في الحروب المرنة، ويُعتقد أنه أصبح الآن أكثر تطورا، وتمكنت قواته من بناء تكتيكات غير نظامية أدق. وهذا تحديدا ما يقلق الإسرائيليين، خاصة أنهم لم يحققوا أهدافهم المرجوة في غزة، فلا هم قضوا على المقاومة الفلسطينية أو أعادوا الأسرى، فما بالك بنزاع عسكري هجين، وفتح جبهة قتال ضارية أخرى؟

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات أبعاد الجیش الإسرائیلی دولة الاحتلال الحرب الهجینة غیر النظامیة هذا النوع من من الحروب المسی رات الحرب غیر حزب الله من الحرب تصل إلى یصل إلى أس أیه فی هذا

إقرأ أيضاً:

هجمة أوروبا على إسرائيل ووقف الحرب

"يسعدني أن هناك اليوم عددًا متزايدًا من الأميركيين الذين سيفهمون ما فعلت، وربما يرونه أكثر الأفعال عقلانية"، هكذا عقّب إلياس رودريغيز على عملية إطلاق النار التي نفذها ضد موظفي السفارة "الإسرائيلية" في الولايات المتحدة، والتي يرى الكثيرون أنها أتت في سياق رأي عام غربي يتصاعد في رفضه حرب الإبادة، ويترافق مع مواقف رسمية أوروبية ضاغطة على "إسرائيل" مؤخرًا.

مواقف مستجدة

شهدت الأسابيع الماضية تصعيدًا ملحوظًا في خطاب ومواقف أوروبية ضد "إسرائيل" على خلفية استمرار عدوانها على غزة وبشكل أكثر دقة بسبب منعها دخول المساعدات للقطاع على مدى ما يقرب من ثلاثة أشهر.

فقد أصدر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، ورئيس الوزراء الكندي مارك كارني بيانًا مشتركًا هددوا فيه بعدم الوقوف "مكتوفي الأيدي" إزاء ما عدّوه "أفعالًا مشينة" ترتكبها حكومة نتنياهو، ملوّحين باتخاذ "إجراءات عقابية ملموسة" ضدها، إذ لم توقف العملية العسكرية وتسمح بإدخال المساعدات فورًا وبكميات كافية.

كما طالبها وزراء خارجية 22 دولة، في مقدمتها ألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا، وكندا، وأستراليا، "بالسماح بدخول المساعدات بشكل كامل وفوري" تحت إشراف الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية، في رفض علني ومباشر الآليةَ التي اقترحتها بالتعاون مع واشنطن.

إعلان

كما وصف وزير خارجية بريطانيا الحصار المفروض على غزة بأنه "غير أخلاقي ولا يمكن تبريره"، معلنًا تعليق مفاوضات اتفاقية التجارة الحرّة مع "إسرائيل"، وفرض عقوبات على منظّمات ومستوطنين متورّطين بالعنف في الضفة الغربية.

وفي تصعيد أوروبي غير مسبوق، بدأ وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي مناقشة دعوات قدّمتها عدة دول لتعليق اتّفاقية الشراكة بين الاتحاد و"إسرائيل"، في ظلّ أحاديث عن دعم أغلبية الأعضاء.

كما أكّد ماكرون أن "كل الخيارات مطروحة" للضغط على "إسرائيل" لوقف الحرب وإدخال المساعدات، مع التلويح بالاعتراف بالدولة الفلسطينية. ووصف رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز "إسرائيل" بـ "دولة الإبادة"، رافضًا التعامل التجاري معها.

قبل ذلك، كانت ست دول أوروبية، هي أيرلندا، وإسبانيا، وسلوفينيا، ولوكسمبورغ، والنرويج، وآيسلندا، قد أصدرت بيانًا مشتركًا عدّت فيه مساعي "إسرائيل" لتهجير سكان غزة "ترحيلًا قسريًا، وجريمة بموجب القانون الدولي"، منتقدة تعمّد منع دخول المساعدات.

على الجانب الآخر من الأطلسي، تواترت تصريحات أميركية بأن ترامب "يريد وقف الحرب"، في خلاف شبه علني مع نتنياهو، كما أجّل وزير الدفاع الأميركي زيارة كانت مقررة لـ "إسرائيل"، وأكد أكثر من مصدر أميركي أن إدارة ترامب مستمرة في تواصلها المباشر مع حركة حماس، رغم اعتراض نتنياهو، فضلًا عن خلافات علنية بين الجانبين بخصوص المفاوضات الأميركية – الإيرانية وطريقة التعامل مع الحوثيين.

يضاف كل ذلك إلى الحركة الطلابية في الجامعات الأميركية التي ما زالت عالية السقف ضد الحرب، وضد ترهيب الطلاب المتضامنين مع الفلسطينيين.

ويرى الكثيرون أن العملية التي نفذها رودريغيز تأتي في سياق الرأي العام الغاضب من استمرار الإبادة والتجويع، لا سيما أنها أتت من شخص غير عربي أو مسلم، فضلًا عن تعليمه وثقافته واطّلاعه على القضية الفلسطينية وحرب الإبادة بكامل تفاصيلها، وحديثه الملموس عن "المسؤولية الإنسانية"، و"تواطؤ الحكومة الأميركية"، واستمرار دعمها حكومة الاحتلال.

إعلان الدوافع

لا يمكن النظر للمواقف الأوروبية على أنها مواقف مبدئية مع الفلسطينيين وقضيتهم، فقد تبنّت معظم هذه الدول سردية الاحتلال بخصوص هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وأيدت ما أسمته "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها". بيد أن أكثرَ من سنة ونصفٍ من حرب الإبادة المستمرة، قد راكمَ عدة دوافع وأسباب ساهمت في بلورة الموقف الأوروبي – الغربي المستجد.

في المقام الأول، ليست حرب الإبادة مما يمكن تأييده، تحديدًا بشكل علني ورسمي، لا سيما بعد أن تحوّلت منذ أشهرها الأولى إلى إبادة وحصار وتجويع للمدنيين، ثم تواترت التصريحات الرسمية، ولا سيما من وزير المالية سموتريتش، بضرورة إعادة احتلال القطاع وتفريغه من سكانه.

هنا، تتبدّى رغبة أوروبية بالتنصّل من حرب الإبادة وتبعاتها، ولا سيما في البعد الإنساني، وبشكل أكثر دقة بخصوص قتل الأطفال واستهداف المدنيين بشكل مكثف ومتكرر ومقصود. حيث أكدت وزارة الصحة العالمية أن غزة تواجه "إحدى أسوأ أزمات الجوع عالميًا"، مما يتسبب بوفاة عشرات الأطفال بسبب "الحرمان المتعمّد من الغذاء".

ينطلق ذلك من رغبة أوروبية في تأكيد "المنطلق الأخلاقي" في النظر للقضايا، وكذلك استشعار المسؤولية الأوروبية عن أفعال "إسرائيل" التي نُظر لها لعقود على أنها ممثلة الغرب المتحضر في قلب الشرق الأوسط، فضلًا عن الحقائق التاريخية بخصوص دور أوروبا في إنشائها بالأساس.

إضافة إلى ذلك، يتابع القادة الأوروبيون التغير الكبير في الرأي العام في بلادهم من "إسرائيل" والقضية الفلسطينية، ولا سيما بين الأجيال الجديدة، وهو ما يخشون ارتداده عليهم بشكل سلبي، وخصوصًا في الاستحقاقات الانتخابية، وقد كانت الانتخابات البريطانية العام الفائت مثالًا حيًا على ذلك.

وكمثال يمكن تعميمه بدرجة أو أخرى، فقد أوضح استطلاع للرأي أُجري في يونيو/ حزيران من العام الفائت، أن 54% من الشباب البريطاني (18-24 عامًا) يرون أن "إسرائيل لا ينبغي أن توجد"، بينما رأى نصفهم أنها هي المسؤولة عن الحرب وليس الفلسطينيين.

إعلان

كما أن الاعتداءات "الإسرائيلية" في مجمل المنطقة، في لبنان رغم وقف اتفاق إطلاق النار، وضد سوريا دون أي خطر منها، والتهديد المتكرر لإيران واليمن، تعمّق عدم الاستقرار في المنطقة، وبالتالي تسير عكس اتجاه السياسات الأوروبية وعلى النقيض من مصالحها. ولعل حادثة إطلاق النار على دبلوماسيين أوروبيين وعرب في جنين يظهر إلى أي مدى فقدت "إسرائيل" عقلها.

وأخيرًا، قد تكون المواقف الأوروبية في جزء منها مناكفة أو ردًا ضمنيًا على سياسات الرئيس الأميركي غير المرضية بالنسبة لها، ولا سيما ما يتعلق بالحرب الروسية – الأوكرانية والعقوبات الاقتصادية.

أي تأثير؟

السؤال الأكثر إلحاحًا الآن هو إلى أي مدى يمكن أن تؤثر المواقف الأوروبية والغربية الأخيرة على استمرار الحرب.

بالنظر إلى توجهات حكومة الاحتلال، والدعم الأميركي المستمر، والمواقف الإقليمية الرسمية، والوضع الميداني في غزة، لا يمكن انتظار تأثير أوروبي مباشر يؤدي لوقف الحرب. لكن ذلك لا يعني أن الخطوات الأوروبية بلا أثر بالمطلق.

فقي المقام الأول، ثمة موقف عابر للدول يكاد يشمل معظم أعضاء الاتحاد الأوروبي ومعهم بريطانيا، برفض استمرار الحرب وضرورة إدخال المساعدات، وهي الدول الأكثر دعمًا لـ"إسرائيل" تقليديًا. يعني ذلك أن الأخيرة تفقد بشكل ملحوظ رصيدها الداعم لها في الغرب ليس فقط على صعيد النخب والشعوب، ولكن أيضًا على الصعيد الرسمي.

كما أنّ الاتحاد الأوروبي هو الشريك التجاري الأكبر لدولة الاحتلال، وبالتّالي فإن مضيّه في مسار تعليق اتفاقية الشراكة وغيرها من العقوبات الاقتصادية المحتملة، قد تكون له آثار سلبية وربما كارثية على اقتصاد الحرب في "إسرائيل" المتراجع أصلًا.

من جهة ثالثة، فإن تواتر المواقف الدولية الضاغطة على نتنياهو وحكومته يشكل دعمًا كبيرًا وتحفيزًا للمعارضة الداخلية ضد نتنياهو على الصعيدين؛ الشعبي والسياسي، وهو ما لاحت بعض إشاراته في الأيام القليلة الأخيرة.

إعلان

فقد حذر رئيس الحزب الديمقراطي "الإسرائيلي" يائير غولان من تحول "إسرائيل" إلى دولة منبوذة دوليًا لأنها "تقاتل المدنيين، وتقتل الأطفال كهواية، وتعمل على ترحيل السكان".

وقال رئيس الوزراء السابق إيهود باراك إن الهدف الحقيقي لما أسماه "حرب الأشرار" هو "ضمان بقاء نتنياهو، لا أمن إسرائيل"، داعيًا إلى الإطاحة به. كما دعا رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت إلى سحب الجيش من غزة وإنهاء الحرب، طالبًا "مساندة المجتمع الدولي للتخلص من بن غفير وسموتريتش ونتنياهو".

في المحصلة، فإن المواقف الأوروبية والغربية الأخيرة تشكّل ضغطًا كبيرًا على نتنياهو وحكومته، خارجيًا وداخليًا، وهو ما يمكن أن يساهم مع عوامل أخرى إضافية في وقف الحرب مستقبلًا. بينما قد يكون تأثيرها المباشر والسريع المتوقع هو السماح بإدخال المزيد من المساعدات للقطاع استجابة للضغوط كما حصل مؤخرًا.

وتبقى الحرب الحالية الخالية من أي أهداف عسكرية وبرنامج سياسي لما بعدها عبئًا على الأطراف الداعمة للاحتلال، ويبقى ملف الأسرى عامل ضغط إضافي في المدى المنظور، ما يعزز إمكانية وقف الحرب لاحقًا إذا ما توفرت عوامل ضغط إضافية.

وهنا تتبدى مسؤولية منظومة العمل العربي والإسلامي الرسمي، بشكل مباشر، وكذلك من خلال العلاقات مع الإدارة الأميركية التي أثبتت مرارًا أن ترامب قابل لتغيير المواقف وحسم القرارات إذا توفّرَ ما يقنعه و/ أو يغريه.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • أولمرت : “إسرائيل” ترتكب جرائم حرب في غزة
  • مؤسسة لمراقبة الصحف الإلكترونية تضم افرادا من القوات النظامية
  • «كل عام وأنتم إلى الله أقرب».. رسائل تهنئة العشر الأوائل من ذي الحجة 2025
  • توريد 274 ألف طن قمح داخل شون وصوامع البحيرة (صور)
  • حرب روسيا الهجينة على أوروبا تدخل من بوابة الانتخابات
  • ساعر: الولايات المتحدة أقرب حلفاء إسرائيل في العالم
  • هل تنجح هجمة أوروبا على إسرائيل في وقف الحرب؟
  • هجمة أوروبا على إسرائيل ووقف الحرب
  • نعيم قاسم: الحرب مع إسرائيل لم تنتهِ والخيارات الأخرى مطروحة إذا فشلت الدولة في أدائها
  • أمين عام حزب الله: الحرب مع إسرائيل لم تنته