بوابة الوفد:
2025-12-14@05:55:07 GMT

التوحيدى معالجًا فلسفيًا

تاريخ النشر: 28th, June 2024 GMT

يزخر التراث الفلسفى العربى بنماذج رائعة من المعالجين الفلسفيين رغم أنهم لم يكونوا يدركون ما نسميه نحن الآن « العلاج بالفلسفة « أو «الاستشارة الفلسفية»، ولعل أبو حيان التوحيدى الذى عاش فى القرن الرابع الهجرى من أبرز النماذج التراثية الذين تعد كتاباتهم من وجهة نظرى مؤسسة لهذا الاتجاه التطبيقى فى مجال الفلسفة، فهو حتى وهو يتحدث فى مشكلات ميتافيزيقية بحتة ينزع إلى معالجتها من منظور الفلسفة التطبيقية.


ولعلى أتوقف فى هذا المقال عند تناوله لمشكلة الموت فهو لا يتناولها من البعد الميتافيزيقى الماورائى بقدر ما يتناولها فى كثير من كتاباته وخاصة فى كتابيه الشهيرين «المقابسات» و«الهوامل والشوامل» ورسائله المعروفة وخاصة «رسالة الحياة» من منظور معاناة الانسان فى الحياة وخاصة لدى أؤلئك البشر الذين يضيقون بحياتهم لدرجة اتخاذ قرار التخلص منها والانتحار!
ولعل من أروع ما كتب أبو حيان ما كتبه فى تحليل ظاهرة الانتحار، فهو يتساءل موجهًا السؤال ربما للمنتحر ذاته «من قتل هذا الانسان؟ فاذا قلنا: قتل نفسه، فالقاتل هو المقتول، أم القاتل غير المقتول؟، فإن كان أحدهما غير الآخر، فكيف تواصلا مع هذا الانفصال؟ وإن كان هذا ذاك، فكيف تفاصلا مع هذا الاتصال؟!، ويتساءل من جانب أخلاقى ونفسى: ترى ما السبب فى قتل الانسان نفسه عند اخفاق يتوالى عليه وفقر يحوج اليه وباب ينسد دون مطلبه ومأربه وعشق يضيق ذرعا به؟ وما الذى يرجو بما يأتى والى أى شىء ينحو فيما يقصد وينوى؟ وما الذى ينتصب أمامه ويستهلك حصافته ويذهله عن روح مألوفة ونفس معشوقة وحياة عزيزة؟ وما الذى يخلص إلى وهمه من العدم حتى يسلبه من قبضة الوجدان ويسلمه إلى صرف الحدثان (يقصد الليل والنهار)؟.. » لم سهُل الموت على المعذب مع علمه أن العدم لا حياة معه وما الشىء المنتصب لقلبه؟ وهل هذا الاختيار منه بعقل أو فساد مزاج؟ «، وواضح هنا مدى ما يحاول به التوحيدى اقناع المنتحر ألا يقدم على فعلته حيث يكشف له فى العبارات السابقة عن أن فى الانتحار – من الناحية النفسية والأخلاقية – تناقضا لأن المنتحر يريد بفعلته أن يشعر براحة الخلاص ونعمة التحرر ولكن الواقع أن النتيجة المترتبة على فعله هذا هى الحيلولة بينه وبين الشعور على الاطلاق مادامت الذات المقتولة لن تكون هناك للشعور بقيمة فعل الذات القاتلة!
لقد كان التوحيدى مؤمنا – رغم الكثير من صنوف الألم والشقاء والعذاب والحرمان التى عانى منها – أن الحياة ينبوع الفرح والهم واللذة والمعرفة والحس والحركة، لا تمام للإنسان إلا بها ولا قوام إلا معها، ودلل على ذلك بأن الانسان اذا نظر إلى الميت استوحش منه وتبرم به وعُجلّ به إلى القبر!
لقد كان التوحيدى أميل إلى عشق الحياة اللذيذة والاستمتاع بها رغم أنه عانى فيها ومنها معاناة شديدة، ومع ذلك فقد نظر إلى الموت – بعيدا عن الانتحار البغيض- على أنه معانق للحياة. ولله در هذا الرجل الذى عاندته الحياة فى آخر عمره لدرجة أن اضطرته إلى احراق بعض كتبه والقول «لقد غدا شبابى هرما من الفقر، والقبر عندى خير من الفقر»، والى القول كذلك «لقد أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنسا بالوحشة، قانعا بالوحدة، معتادا للصمت، ملازما للحيرة، محتملا للأذى، يائسا من جميع من ترى، متوقعا لما لابد من حلوله، فشمس العمر على شفا، وماء الحياة إلى نضوب، ونجم العيش إلى أفول»! 
وعلى كل حال فانه فى اعتقادى قد عبر عن حال معظم المفكرين المخلصين لفكرهم وعملهم فى كل مكان وزمان حينما قال بصدق «إن غربته قد أصبحت غربة من لا سبيل له إلى الأوطان، ولا طاقة به على الاستيطان، فهو غائب حتى عن حضوره، غريب حتى عن بنى وطنه»! 
‏[email protected]

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: نحو المستقبل

إقرأ أيضاً:

فؤاد باشا سراج الدين .. الرجل الذى علم المصريين معنى الكرامة

منذ يومين مرت الذكرى الرابعة والعشرون لرحيل رجل من أعظم رجال مصر فى القرن العشرين؛ رجل لم يكن مجرد سياسي أو صاحب منصب، بل كان مدرسة كاملة فى الوطنية والعناد الشريف والإصرار على أن تبقى مصر واقفة مهما حاولت قوى الاحتلال أن تكسر إرادتها. 

أتحدث هنا عن فؤاد باشا سراج الدين، الرجل الذى ترك بصمة لا تمحى فى الوجدان المصرى، والذى رحل عن عالمنا فى التاسع من أغسطس عام 2000، لكنه لم يرحل يوما عن ذاكرة الوطن.

فى كل مرة تمر فيها ذكرى رحيله، أشعر أن مصر تعيد اكتشاف جزء من تاريخها؛ تاريخ لا يمكن فهمه دون الوقوف أمام شخصية بهذا الثقل وبهذه القدرة على الصمود. 

ولد فؤاد باشا سراج الدين سنة 1910 فى كفر الجرايدة بمحافظة كفر الشيخ، وبدأ مشواره شابا يحمل حلم الوطن فى قلبه قبل أن يحمله على كتفيه. 

تخرج فى كلية الحقوق، ودخل معترك الحياة العامة صغيرا فى السن، لكنه كبير فى العقل والبصيرة، وفى سن لم تكن تسمح لغيره سوى بأن يتدرب أو يتعلم، أصبح أصغر نائب فى تاريخ الحياة البرلمانية المصرية، ثم أصغر وزير فى حكوماتها المتعاقبة، فى زمن لم يكن الوصول فيه إلى المناصب بالأمر السهل ولا بالمجاملات.

لكن ما يجعل الرجل يستحق التوقف أمامه ليس كثرة المناصب، بل طريقة أدائه فيها، فقد كان نموذجا للمسؤول الذى يعرف معنى الدولة، ويؤمن بأن خدمة الناس شرف لا يباع ولا يشترى. 

ومن يعيش تفاصيل تاريخه يدرك أنه لم يكن مجرد جزء من الحياة السياسية، بل كان جزءا من الوعى العام للمصريين، وصوتا قويا فى مواجهة الاحتلال، وسندا لحركة الفدائيين فى القناة، وواحدا من الذين كتبوا بدموعهم وعرقهم تاريخ كفاح هذا الوطن.

ويكفى أن نذكر موقفه الأسطورى يوم 25 يناير 1952، حينما كان وزيرا للداخلية، ورفض الإنذار البريطانى الداعى لاستسلام رجال الشرطة فى الإسماعيلية. 

وقتها لم يتردد لحظة، واختار الكرامة على السلامة، والوطن على الحسابات السياسية، ذلك اليوم لم يصنع فقط ملحمة بطولية، لكنه صنع وجدانا كاملا لأجيال من المصريين، وأصبح عيدا رسميا للشرطة تخليدا لشجاعة رجال رفضوا أن ينحنوا أمام الاحتلال، وهذه الروح لم تكن لتظهر لولا وزير آمن برجاله وبمصر أكثر مما آمن بنفسه.

كما لا يمكن نسيان دوره الحاسم فى إلغاء معاهدة 1936، ودعمه لحركة الكفاح المسلح ضد الإنجليز، ولا تمويله للفدائيين بالمال والسلاح، كان يعلم أن المستقبل لا يهدى، وإنما ينتزع انتزاعا، وأن السيادة لا تستعاد بالكلام، وإنما بالمواقف.

وفى الداخل، قدم سلسلة من القوانين التى شكلت تحولا اجتماعيا حقيقيا؛ فهو صاحب قانون الكسب غير المشروع، وصاحب قوانين تنظيم هيئات الشرطة، والنقابات العمالية، والضمان الاجتماعى، وعقد العمل الفردى، وقانون إنصاف الموظفين. 

وهى تشريعات سبقت عصرها، وأثبتت أن الرجل يمتلك رؤية اجتماعية واقتصادية عميقة، وميلا دائما للعدل والمساواة، وفهما راقيا لطبيعة المجتمع المصرى.

ولم يكن خائفا من الاقتراب من الملفات الثقيلة؛ ففرض الضرائب التصاعدية على كبار ملاك الأراضى الزراعية حين كان وزيرا للمالية، وأمم البنك الأهلى الإنجليزى ليصبح بنكا مركزيا وطنيا، ونقل أرصدة الذهب إلى مصر للحفاظ على الأمن الاقتصادى للدولة، وكلها خطوات لا يقدم عليها إلا رجل يعرف معنى السيادة الحقيقية ويضع مصالح الوطن فوق كل اعتبار.

ورغم الصدامات المتتالية التى تعرض لها، والاعتقالات التى مر بها فى عهود متعددة، لم يتراجع ولم يساوم، ظل ثابتا فى المبدأ، مؤمنا بالوفد وبالحياة الحزبية، حتى أعاد إحياء حزب الوفد الجديد عام 1978، ليبقى رئيسا له حتى آخر يوم فى حياته، وقد كان ذلك الإحياء بمثابة إعادة الروح لمدرسة سياسية كاملة ترتبط بتاريخ النضال الوطنى الحديث.

إن استعادة ذكرى فؤاد باشا سراج الدين ليست مجرد استدعاء لصفحات من التاريخ، بل هى تذكير بأن مصر لم تبن بالكلام، وإنما صنعت رجالا مثل هذا الرجل، آمنوا أن الحرية حق، وأن الوطنية فعل، وأن الكرامة لا تقبل المساومة. 

وفى زمن تكثر فيه الضوضاء وتختلط فيه الأصوات، يبقى صوت أمثال فؤاد باشا أكثر وضوحا، وأكثر قوة، لأنه صوت نابع من قلب مصر، من تربتها وأهلها ووجدانها.

رحل جسد الرجل، لكن أثره باق، وتاريخه شامخ، وسيرته تذكرنا دائما بأن الوطن لا ينسى أبناءه المخلصين وأن مصر، رغم كل ما تمر به، قادرة دائما على إنجاب رجال بحجم فؤاد باشا سراج الدين.

مقالات مشابهة

  • الرجل الشقلباظ!
  • عنابة.. توقيف 5 أشخاص وحجز قرابة 69 كيف معالج 
  • صدمة في الإسماعيلية| معلم يتعرض لضرب بمقص وشرخ في الجمجمة لسبب غريب
  • إيتو يستبعد نجم الكاميرون من قائمة أمم أفريقيا لسبب غريب.. ماذا حدث؟
  • تعب غريب مش عارف سببه .. أعراض مميزة تكشف أمراض المناعة الذاتية
  • «فخ» كأس العرب
  • لاتستعجل الشفاء بالرغم من تناول الدواء
  • الكلام دا يتقال لممثل غيري .. أحمد رفعت يرد على متابعة بعد طلب غريب
  • فؤاد باشا سراج الدين .. الرجل الذى علم المصريين معنى الكرامة
  • الوجوه الثلاثة!!