الجزيرة:
2025-05-19@06:25:36 GMT

هل العالم على مشارف نهاية التاريخ؟

تاريخ النشر: 17th, July 2024 GMT

هل العالم على مشارف نهاية التاريخ؟

شهدت الساحة الفكرية العالمية منذ التسعينيات من القرن الماضي كتابات عديدة تناولت موضوع النهايات؛ فقد كتب "فرنسيس فوكوياما" عن "نهاية التاريخ"، وكتب "جون- كلود كاوفمان" عن "نهاية الديمقراطية"، وكتب "دجون هورغان" عن "نهاية العلم"، وكتب "إيفا إيلوز" عن "نهاية الحب". ويبرز بينهم الفيلسوف الفرنسي "بول فيريليو" (Paul Virilio) الذي يقترن اسمه بالحديث عن نهاية الجغرافيا، خصوصًا في مقالته المنشورة على صفحات "لوموند ديبلوماتيك" الفرنسية في أغسطس/آب 1997.

الواقع أن الحديث عن النهايات يشير إلى منعطف حضاري وثقافي وفكري حقيقي يستدعي التأمل والتدبر، بعيدًا عن الاختلاف في توظيف كل كاتب أو مفكر لمفهوم النهاية. ولعل ما يهمنا في سياقنا هنا هو دلالة ومعنى "نهاية الجغرافيا". فهل المقصود من وراء هذا الحديث هو نهاية الجغرافيا، أي العلم الذي عُني منذ آلاف السنين برسم خطوط الأرض، أو كتابتها كما تدل على ذلك لفظة "جغرافيا" اليونانية ولاتينية الأصل المكونة من "جيو" (geo) التي تفيد الأرض، و"غرافيا" (graphy) التي تفيد الخط والكتابة؟

أم أن المقصود بنهاية الجغرافيا هو انسداد الأفق أمام من يريد اكتشاف الأرض أو الجولان في رحابها والسياحة في أرجائها؛ طلبًا لاكتشاف محاسنها ومفاتنها المجهولة؟ هناك كتابات كثيرة تحوم حول هذا المعنى، ككتاب "طوماس فريدمان" عن "العالم المسطح" (The World is Flat)، الذي ينبه فيه إلى أن الإنسان حيثما يذهب يجد نفس المعالم الثقافية، وكأنه صار يرحل من مكان معلوم إلى أمكنة أخرى معلومة. ويصب هذا الكلام فيما ذهب إليه "فيريليو" من قول بأن العولمة ووسائل التواصل بقدر ما قربت المسافات، ورثت الإنسان شعورًا بضيق المكان ونهاية الأرض.

في جميع الأحوال، يمكن القول إن مفهوم الجغرافيا بِمَعْنَيَيْه – سواء "الجيوسياسي" (Geopolitical) المتعلق بخط وإبراز الحدود بين التكتلات البشرية وبين الدول والأمم والمجتمعات لفهم وإدارة الصراع حول الأرض، أو "الجيوشاعري" (Geopoetic) المتعلق بالجولان والسياحة بغرض تكثيف الشعور بالأرض – لم يعد مفهومًا يستوعب طبيعة التحولات الكبرى التي طرأت على علاقة الإنسان بالأرض. ولعل هذا ما دفع "تيم مارشال" (Tim Marshall) لتأليف كتاب يتساءل فيه حول "مستقبل الجغرافيا" (The Future of Geography).

يدور كتاب "مارشال" حول فكرة أساسية مفادها أن "الجيوسياسة" لم تعد تقدم الجهاز المفاهيمي الضروري لفهم حالة العالم وموازين القوة التي تحكم العلاقة بين الدول والمجتمعات. وذلك لأن الصراع الذي يجمع القوى الكبرى في عالمنا اليوم لم يعد صراعًا حول الأرض فحسب، بل تعدى ذلك ليصبح صراعًا حول مناطق نفوذ في الفضاء.

لم يكن الصراع المحموم الذي جمع الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية حول غزو الفضاء منذ منتصف القرن الماضي من أجل اكتشافات جغرافية جديدة يتوسع معه مجال حركة الإنسان فوق الأرض، بل كان صراعًا من أجل تحقيق التمكن في الجغرافيا من الفضاء الخارجي. الأمر الذي يؤشر على أن الإنسان لم يعد ينشد الخروج من ضيق المكان إلى سعة الأرض، بقدر ما صار ينشد الخروج من ضيق الأرض باتجاه رحابة السماء.

وعليه، يمكن لنا القول إن لفظة "جيوسياسة" أصبحت قاصرة عن تأدية معنى الصراع الحقيقي الذي أصبح يجمع بين القوى المتنافسة في عالمنا اليوم، خصوصًا بين الولايات المتحدة الأميركية والصين. ذلك أن هذه اللفظة لا تأخذ بعين الاعتبار ما أصبح للفضاء من دور في تحديد ملامح ميزان القوة بين هذه القوى، وإدارة الصراع بينها.

وبهذا الاعتبار يصبح لزامًا علينا البحث عن لفظة جديدة تكون أكثر مناسبة من لفظة "الجيوسياسة" لوصف وجود الإنسان في علاقته بالسياسة وبالفضاء. يرى "تيم مارشال" أن لفظة (Astropolitics) تفي بالغرض في هذا الباب.

وإذ عجزت "الجيوسياسة" عن استيعاب حالة العالم اليوم وما يعتمل داخله من عزائم ومصالح بين القوى الكبرى، فقد أصبح من الضروري التوسل بعلم جديد يُجلي وجود الإنسان في بعديه السياسي والفلكي، كما تحيل على ذلك لفظة (Astropolitics) المكونة من (Astro) و(politics). فلعله من الوهم مواصلة الاعتقاد بأن الصراع بين الولايات المتحدة الأميركية والصين هو صراع ذو طبيعة "جيوسياسية" يدار من الأرض فقط. فهاتان القوتان تتنافسان اليوم من أجل سن قوانين جديدة للفضاء كما يوضّح "تيم مارشال".

مثلما ظهرت الحاجة إلى تجاوز "الجيوسياسة"، تظهر الحاجة كذلك لتجاوز "الجيوستراتيجية" باتجاه (Astrostrategy) أفقًا للتفكير في القوة والسياسة ومجالات تطبيقاتهما في عالم اليوم، كما يوضح "إيفيريت دولمان" (Everett Dolman) صاحب كتاب "الأستروسياسة: الجيوسياسة التقليدية في زمن الفضاء" (Astropolitik: Classical Geopolitics in the Space Age).

هناك مؤشرات كثيرة تدل على طبيعة التحول الحاصل في عالمنا اليوم في مجال الفكر السياسي والإستراتيجي. يشير "تيم مارشال" في "نهاية الجغرافيا" إلى أن الحلف الأطلسي قد أضاف في سنة 2019 لفظة "فضاء" إلى "الأرض والجو والبحر والفضاء السيبراني" لتعيين مجالات عملياته، وأنه تبعًا لذلك قام بفتح مركز للفضاء في قاعدة "رامشتاين" بألمانيا سنة 2021.

لا جدال في أن فهم "جغرافية الفضاء" قد أصبح شرطًا ضروريًا لفهم طبيعة الصراع الدائر اليوم بين القوى العظمى من أجل اقتسام مساحة الوجود. فقد أصبح من الواضح الجلي أن شؤون الأرض تدار من الفضاء. لتأكيد هذه الحقيقة يكفي التأمل فيما أصبح لنظام تحديد المواقع (GPS) من دور في إرشاد الإنسان فوق الأرض، وتنظيم تنقله وحركة مروره.

يحيل "تيم مارشال" على إحصائيات تفيد بأن نظام تحديد المواقع (GPS) قد ساهم في دعم الاقتصاد الأميركي بما يقرب من تريليون ونصف التريليون دولار، ليكون بذلك من أهم مصادر التنمية الاقتصادية خلال العقد الأخير. وفي إطار السعي الحثيث لمنافسة الولايات المتحدة الأميركية في هذا الباب، تعمل الصين على تطوير نظامها الخاص المعروف بـ (BeiDou)، هذا النظام الذي أصبح يبث معلوماته إلى أكثر من 400 مليون هاتف نقال، وما يزيد على 8 ملايين سيارة.

بناء على ما تقدم نخلص إلى نتيجة مفادها أن الشيء المحقق هو أننا نعيش في عالم هجين لم يعد وجود الإنسان فيه مرتبطًا بحسّ الانتساب إلى الأرض فحسب، بل هو مرتبط بالشعور بالعلاقة مع الفضاء كذلك. لم يعد الإنسان يخرج من مضايق المكان بحثًا عن فسحة الأرض؛ بل ضاقت الأرض في نظر هذا الإنسان فأصبح ينشد الخلاص من خارجها.

لا يخفى أن التكنولوجيا اليوم قد غيّرت معاني كثير من الأشياء. لم يعد السفر في زمن أنظمة الإرشاد وتحديد المواقع وزمن الذكاء الاصطناعي وسيلة لاكتشاف المجهول؛ بل صار السفر في هذا الزمن لاكتشاف المعلوم سلفًا. ألا ترى أننا صرنا قبل الذهاب إلى أي مكان فوق الأرض نطلب تصفح صوره والتزود بالمعلومات عنه من محركات البحث الإلكترونية. يؤشر هذا الأمر على نهاية الجغرافيا، أو الانتهاء من كتابة الأرض.

لكن، ومع هذا التطور المذهل، ومع نفاذ الإنسان إلى الفضاء وسعيه إلى اقتسام القمر، يظل سؤال المعنى قائمًا، بل يزيد إلحاحًا. إذا صح القول بأن نهاية الجغرافيا يؤشر على انتقال الصراع السياسي بين القوى المهيمنة في العالم من الأرض إلى الفضاء، فإنه يصح من وجه آخر أن نتساءل: هل البشرية مستدرجة من حيث لا تعلم إلى ما قد لا يحمد عقباه؟ لأنها تنزع نحو التضييق على الإنسان في الأرض وهي تلجأ إلى الفضاء، عوض أن تتخذ من الرحلة إلى الفضاء وسيلة لدفع مضايق العيش فوق الأرض.

فليس صحيحًا أن الإنسانية قد انتهت من كتابة الأرض، بل إننا نجهل من أمر هذه الأرض أكثر بكثير مما نعلم، ولعل التأمل في زهرة واحدة، في نبتة واحدة، يفتح أمام العاقل أفقًا وجوديًا رحبًا، لا يقل رحابة عن النفاذ إلى أقطار السماوات كلها.

في الختام نقول إن الحديث عن نهاية الجغرافيا يصح من وجه، كما يصح من وجه آخر الحديث عن بداية الجغرافيا، بداية الاهتمام الحقيقي بالأرض، موطن السكن والمعنى والاستقرار والمتاع.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الإنسان فی إلى الفضاء الحدیث عن فوق الأرض بین القوى لم یعد من أجل صراع ا

إقرأ أيضاً:

48 ساعة تهز كوكب الأرض .. زلازل تضرب تركيا وكاليفورنيا واليابان وتثير رعب العالم

شهد العالم سلسلة من الهزات الأرضية المتعاقبة التي ضربت عدداً من المدن الكبرى، مثيرةً القلق في أوساط السكان والسلطات المعنية بالزلازل والكوارث. 

وتأتي هذه الهزات في إطار نشاط زلزالي متصاعد، رُصد بشكل ملحوظ خلال الـ 48 ساعة المنصرمة، وشمل مناطق في تركيا، الولايات المتحدة الأمريكية، اليابان، ودول أخرى، ما يدفع الخبراء إلى التساؤل حول طبيعة هذا التصاعد ومدى تأثيره في المدى القريب.

في تركيا، سجلت هيئة الكوارث والطوارئ زلزالاً بلغت قوته 5.0 درجات على مقياس ريختر في منطقة "كولو" التابعة لولاية قونية، وسط البلاد. 

وقع الزلزال على عمق 10 كيلومترات فقط، ما جعله محسوساً بشكل واضح في العاصمة أنقرة والمدن المجاورة. 

3 زلازل تضرب كاليفورنيا في 24 ساعةزلزال يضرب أنقرة أثناء مصافحة أردوغان لـ زيلينسكيوكالة الأرصاد اليابانية: زلزال بقوة 4.5 يضرب هوكايدو على عمق 90 كمبعد زلزال كريت| "حماية إلهية" لأم الدنيا.. وعباس شراقي: موقع مصر الجيولوجي في أكثر الأماكن الآمنة بالعالم

وعلى الرغم من أن الزلزال لم يسفر عن ضحايا، إلا أنه أثار مخاوف حقيقية من تكرار سيناريو الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب تركيا في فبراير 2023. 

اللافت أن هذا الزلزال جاء بعد سلسلة من الهزات في منطقة مرمرة، مما دفع السلطات التركية إلى تكثيف أعمال الترميم والتحصين، لا سيما في المواقع الأثرية الحساسة مثل "آيا صوفيا" في إسطنبول، التي تشهد حالياً أضخم عملية ترميم منذ أكثر من 15 قرناً، بسبب هشاشتها أمام الزلازل المستقبلية.

أما في الولايات المتحدة، فقد شهدت ولاية كاليفورنيا ثلاث هزات أرضية خلال يوم واحد فقط، تركزت في منطقة "ألامو"، حيث بلغت أقوى هذه الهزات 2.9 درجات. 

ورغم أنها تُصنّف ضمن الزلازل الخفيفة، إلا أن تكرارها يسلّط الضوء مجدداً على خطورة الصدع الزلزالي المعروف باسم "سان أندرياس"، الذي يهدد مناطق شاسعة من الولاية باحتمالية زلزال كبير قد يقع في أي وقت. 

ورصدت هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية (USGS) نشاطًا زلزاليًا على طول صدع سان أندرياس، الذي يمتد لمسافة 800 ميل من رأس ميندوسينو شمالًا إلى بحر سالتون جنوبًا، بحسب ما أوردته صحيفة ديلي ميل.

في حين تراوحت قوة زلازل يوم الجمعة بين 2.5 و2.9 درجة، فقد خلص العلماء إلى أنه يمكن الشعور بقوة 2.5 درجة أو أكثر، وقد تسبب إصابات وأضرارًا.

لم يتم الإبلاغ عن أي إصابات أو أضرار حتى الآن.

ودعت السلطات الأمريكية السكان إلى مراجعة خطط الطوارئ المنزلية، خصوصاً في المناطق الأكثر عرضة للهزات.

وفي أقصى شرق آسيا، ضرب اليابان زلزال بقوة 5.0 درجات في جزيرة هوكايدو، وبعمق 101 كيلومتر، إضافة إلى زلزال سابق ضرب شمال شرق محافظة آموري قبل ثلاثة أيام، بلغت شدته 5.3 درجات، أعقبه عدد من الهزات الارتدادية. 

وتعد اليابان، التي تعد واحدة من أكثر دول العالم استعداداً لمثل هذه الكوارث، لم تسجل خسائر كبيرة، غير أن المؤسسات العلمية اليابانية بدأت تراقب هذا النشاط المتصاعد عن كثب.

وتؤكد سلسلة الزلازل التي ضربت الكرة الأرضية ضرورة الاستعداد الدائم لمثل هذه الكوارث الطبيعية، لاسيما مع تطورات المناخ العالمي، وزيادة الكثافة السكانية في المدن الكبرى. 

كما تعيد إلى الواجهة أهمية تحديث أنظمة الإنذار المبكر، وتعزيز البنى التحتية المقاومة للهزات، وهو ما يتطلب تنسيقاً دولياً وجهوداً بحثية مستمرة لفهم طبيعة هذه الظواهر، والتقليل من آثارها المحتملة على البشر والمنشآت.

طباعة شارك تركيا الهزات الأرضية الزلازل الولايات المتحدة الأمريكية اليابان هيئة الكوارث والطوارئ أنقرة جنوب تركيا آيا صوفيا ولاية كاليفورنيا

مقالات مشابهة

  • عاصفة شمسية تضرب الأرض.. ما تأثيرها على الإنسان والتكنولوجيا؟
  • «مشكلة فنية».. فشل مهمة إطلاق قمر صناعي هندي جديد في الفضاء
  • فشل إطلاق قمر اصطناعي هندي جديد
  • نجوم الكون ستظلم.. اكتشاف جديد يوضح موعد نهاية العالم| ما القصة؟
  • البابا ليو يتعهد بجعل الكنيسة رمزا للسلام في العالم
  • أعنف عاصفة شمسية تضرب الأرض .. هل الشمس في نهاية حياتها؟
  • مزاعم علماء بتحديد موعد نهاية العالم
  • 48 ساعة تهز كوكب الأرض .. زلازل تضرب تركيا وكاليفورنيا واليابان وتثير رعب العالم
  • جهود عامل إقليم الحوز لإعادة إعمار المناطق المتضررة من الزلزال على مشارف الانتهاء: نهاية معاناة الخيام وعودة المتضررين إلى منازلهم الجديدة
  • ناسا تعيد تشغيل محركات أبعد جسم من صنع البشر عن الأرض