د. محمد بن عوض المشيخي *

العالم من أقصاه إلى أقصاه يشعرُ بالامتعاض والصدمة من العمل الجنائي الذي استهدف المُصلين الأبرياء في مسجد الإمام علي -كرم الله وجهه- في الوادي الكبير بولاية مطرح، يوم الإثنين الماضي، لم يكن ذلك اليوم من الأيام العادية في تاريخ هذا البلد المُبارك الذي ينبذ التطرف والإرهاب بكل أشكاله، لم لا وعُمان واحة السلام والوئام والتسامح ليس على مستوى الإقليم الذي يشهد توترات وقلاقل بين وقت وآخر، بل على مستوى العالم قاطبة؟! فقد سجلت سلطنة عمان "صفر إرهاب" طوال العقود الماضية، بفضل من الله وإخلاص أبناء عمان وولائهم لله والوطن والسلطان، فلا يُوجد في سجل المنظمات الإرهابية عماني واحد على الإطلاق؛ بعكس بعض الدول التي كانت في حرب ضروس لحماية أبنائها من الانخراط في هذه العصابات المجرمة؛ بداية من القاعدة في عقد التسعينيات وبداية الألفية الثالثة، ثم تنظيم داعش الإرهابي منذ العقد الأخير، إذ إنَّ هذه التنظيمات المُظلِمة زرعتها مخابرات أجنبية لاستهداف المسلمين وقتلهم بمجرد النطق بشهادة التوحيد؛ وكذلك الإساءة إلى الدين الحنيف مقابل الأموال تارة بالنسبة لقادة التنظيم، والتغرير بالشباب وغسل أدمغتهم باسم الجهاد المزيف في سبيل الشيطان تارة أخرى.

صحيح هذه المرة نجح أصحاب الفكر التكفيري الضال بالوصول إلى المتورطين الثلاثة في حادث الوادي الكبير وهم يحملون الجنسية العمانية؛ كأول سابقة يشهدها هذا الوطن المتصالح مع مختلف شرائحه وطبقاته الاجتماعية، وهم إخوة خسرهم المجتمع العُماني ووقعوا في براثن أعداء الحياة من المأجورين من خارج السلطنة، ونحن على ثقة تامة بأنَّ هذه الجريمة ستكون الأولى والأخيرة، وذلك ليقظة المُواطنين وإدراكهم لهذا المصاب الجلل وانعكاساته السلبية على سمعة السلطنة في الداخل والخارج؛ فعُمان أرض السلام والمحبة وليست غابة للذين اعتنقوا أفكارًا هدامة ومضللة من التنظيمات المخترقة والتي تدار من أعداء الأمة.

السؤال المطروح الآن: لماذ تم اختيار السلطنة لأول مرة لتكون مسرحًا وميدانًا لهذا العمل الجنائي المنبوذ من جميع أفراد المجتمع العماني؟

الإجابة عن هذا السؤال تتمحور في القرارات السيادية لهذا البلد العزيز الذي يقف شامخًا مع الحق والدفاع عن المظلومين؛ خاصة المواقف العمانية المشرفة من قضية فلسطين المحتلة والدعوة لمحاكمة قادة الكيان الصهيوني على الجرائم التي اقترفوها في قطاع غزة كإبادة الأبرياء من النساء والأطفال، وكذلك رفض القيادة العمانية الاصطفاف مع الآخرين لصنع المؤامرات وإشعال الفتن بين الأشقاء والجيران، فلا توجد أطماع أو أجندة سرية في القاموس السياسي العماني. ولعلَّ نجاح عمان في إطفاء الحرائق والحروب في الإقليم، وتثمين معظم دول العالم حكمة القيادة العمانية في حل المشاكل، واحد من أهم الأسباب في اعتقادي لمثل هذه الأعمال التي يستنكرها ويدينها كل عماني شريف.

لقد أسَّس سلاطين عُمان الميامين بداية من السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- منذ فجر السبعين المبارك عند وضع الخطوط العريضة للدولة العصرية؛ ثم خليفته جلالة السلطان هيثم -يحفظه الله- الذي أسس النهضة العمانية المتجددة والذي أبهر القاصي والداني بعزيمته النادرة وشجاعته على بناء الدولة واستمرارية المشروع الوطني ووحدة المجتمع العماني تحت مظلة الوطن الواحد الذي لا يقبل القسمة على اثنين، بل وطن واحد للجميع، يعيش في رحابه المجتمع العماني الأصيل الذي هو مضرب للمثل في التعايش السلمي والتسامح بين المدارس الإسلامية الثلاثة المعروفة بـ(السنة والأباضية والشيعة). لا شك أنَّ أهم مكسب للسلطنة طوال العقود الماضية نجاح المشروع الوطني الذي يُعتبر صمام الأمان للوحدة الوطنية بين مختلف أطياف هذا المجتمع المسالم والمحافظ على قيمه وأخلاقه، فقد درَّست في جامعة السلطان قابوس عقودًا طويلة وعملت أيضاً في وظيفة عميد شؤون الطلاب لعدد أكثر من 15 ألف طالب وطالبة في تلك الجامعة العريقة المنوط بها إعداد القيادات المستقبلية لهذا البلد؛ وذلك قبل أكثر من عقد من الزمن، ولم أعرف أو يخطر على بالي أو حتى جميع الطلبة في هذه الجامعة السؤال أو البحث عن أي من هذه المذاهب أو المدارس الإسلامية التي قد ينتمي إليها هؤلاء الطلبة، بل نعيش جميعًا في رحاب الإسلام الذي لا يعرف التفرقة بين أبنائه، فيجمعنا كتاب واحد هو القرآن الكريم وخاتم الأنبياء هو سيدنا محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام؛ والولاء للقيادة العمانية التي يشهد لها العدو قبل الصديق بالحكمة والتسامح واحترام الإنسان أينما وُجِد في هذا العالم مع اختلاف الأجناس والقوميات في هذا العالم، إذ إنَّ عمان حكومة وشعبا يُشار لهما بالبنان في احترام الغير مهما اختلفت وجهات النظر والمقاصد بين المجتمعات والشعوب التي تتعامل مع هذا البلد الطيب الذي قال عنه رسول الإنسانية صلى الله عليه وسلم: "لو أن أهل عمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك"، هذه هي أخلاق كل من عاش على هذه الأرض الطيبة التي لا تقبل بأي حال من الأحوال أن تزرع في تربتها النباتات الخبيثة والفتن والتحزب؛ نعم هذه هي عمان الشامخة التي فيها شعب يُضرب به المثل في كل نواحي الحياة، وعلى الرغم من ذلك لم تغفل القيادة الحكيمة في هذا البلد؛ بناء جيش ومنظومة أمنية قوية متطورة لتكون الملاذ الآمن والعين الساهرة لحماية التراب الوطني المقدس، والمكتسبات الاقتصادية والتنموية التي يفتخر فيها كل عماني، وقد ظهر ذلك جليا خلال الاشتباكات والمواجهات بين المهاجمين المعتدين على بيوت الله؛ والقوات العمانية بمختلف تشكيلاتها وشرطة عمان السلطانية لاحتوى الموقف وتطويق الجناة ومحاصرتهم والتقليل من الخسائر البشرية في هذا الحادث لمؤلم للجميع.

يجب التأكيد هنا على أنَّه لا يوجد بلد في هذا العالم محميٌّ وله حصانة من الأعمال الجنائية التي تشهدها بعض الدول العربية؛ بل وحتى كوكبنا الصغير،  فأصحاب النفوس الضعيفة والمغرر بهم يجنحون دائما إلى الأذى واستباحة نفوس الآمنين.

وفي الختام.. أسجل هنا ومن على هذا المنبر؛ أحر التعازي للعمانيين جميعا، وكذلك لأسرة شهيد الوطن الرقيب يوسف الندابي من شرطة عمان السلطانية الذي ضحى بنفسه في سبيل الله والذود عن حياض الوطن، ونتضرع إلى الله أن يسكنه الفردوس الأعلى مع الأنبياء والشهداء والصديقين، فهذا الاسم (يوسف) سوف يُكتب بأحرف من نور ويُخلَّد في ذاكرة التاريخ العماني المعاصر.

* أكاديمي وباحث مختص في الرأي  العام والاتصال

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

تراجع كندي عن الضريبة بعد تهديدات ترامب.. الدوافع والتحديات

ألبرتا – بعد تهديد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بوقف المفاوضات التجارية، وفرض رسوم جمركية مشددة على كندا إذا لم تسحب ضريبة الخدمات الرقمية التي فرضتها قبل أيام على شركات التكنولوجيا الأميركية، تراجعت كندا مساء الأحد عن قرارها بتطبيق الضريبة، التي كان من المزمع بدء تحصيلها أمس الاثنين، في محاولة لتهدئة التوترات الاقتصادية وتجنب تصاعد الأزمة بين البلدين.

وقال وزير المالية الكندي فرانسوا فيليب شامبان، إن ترامب ورئيس الوزراء الكندي مارك كارني "اتفقا على استئناف المفاوضات بهدف التوصل إلى صفقة بحلول 21 يوليو/تموز 2025″، مضيفا أن كندا ستلغي ضريبة الخدمات الرقمية بالتوصل لاتفاق تجاري شامل مع الولايات المتحدة يعود بالنفع المتبادل.

وعلق وزير التجارة الأميركي هوارد لوتنيك في منشور على موقع إكس قائلا "شكرا لكندا على إلغاء ضريبة الخدمات الرقمية التي كانت تهدف إلى خنق الابتكار الأميركي، وكانت ستُعيق أي صفقة تجارية مع أميركا".

وكان ترامب، قد أعلن الجمعة، تعليقًا فوريًّا لكل المفاوضات التجارية بين الولايات المتحدة وكندا، ردا على تطبيق كندا لضريبة الخدمات الرقمية واصفا موقف الحكومة الكندية بأنه "استفزازي وغير قابل للتفاوض"، ورد رئيس الحكومة الكندية، قائلا: "سنواصل الانخراط في مفاوضات معقدة، بما يخدم مصالح العمال والشركات الكندية، ولكن ليس تحت التهديد أو الإكراه".

علاقة تجارية كبيرة

وتشكل العلاقة التجارية بين كندا والولايات المتحدة واحدة من أكبر العلاقات التجارية في العالم، ففي عام 2024 تجاوزت القيمة الإجمالية لواردات وصادرات كندا من السلع المتداولة مع الولايات المتحدة تريليون دولار كندي (762 مليار دولار) للعام الثالث على التوالي، وفقا لمنصة "ستاتيستك كندا".

وفي عام 2024 كانت الولايات المتحدة هي الوجهة لـ75.9% من إجمالي صادرات كندا، وكانت مصدرا لـ62.2% من إجمالي وارداتها، حيث شكلت صادرات منتجات الطاقة عنصرا أساسيا في فائض التجارة السلعية لكندا مع الولايات المتحدة، ففي عام 2024 صدّرت كندا منتجات طاقة بقيمة 176.2 مليار دولار إلى دول أخرى، وكانت الأغلبية العظمى من هذه الصادرات موجهة إلى الولايات المتحدة.

إعلان

وبلغ إجمالي واردات كندا من منتجات الطاقة 39 مليار دولار في عام 2024، وكانت الأغلبية العظمى منها أيضا من الولايات المتحدة، وعند الجمع بين التجارة في السلع والخدمات سجلت كندا فائضا تجاريا إجماليا قدره 94.4 مليار دولار مع الولايات المتحدة في عام 2023.

وفي قطاع السيارات، استوردت كندا في عام 2023 مركبات وقطع غيار من الولايات المتحدة، بقيمة 84.9 مليار دولار، بينما صدرت ما قيمته 83.2 مليار دولار إلى الولايات المتحدة، مما يعكس التكامل العالي بين اقتصادي البلدين في هذا القطاع، وفق تقرير هيئة الإذاعة الكندية.

ترامب اعتبر فرض كندا ضريبة الخدمات الرقمية على شركات أميركية "استفزازيا وغير قابل للتفاوض" (الجزيرة) تأثيرات مشتركة على البلدين

وعن التداعيات المحتملة على الاقتصاد والمستهلكين، يتوقع الخبير الاقتصادي الدكتور زياد الغزالي، أن تؤدي الرسوم الجمركية الأميركية إلى إضعاف تنافسية السلع الكندية في السوق الأميركي، مما يهدد الصادرات وأرباح الشركات ويبطئ النمو الاقتصادي.

ويضيف الغزالي في حديثه للجزيرة نت، أن المواطن الكندي سيواجه انخفاضا في فرص العمل، وتراجع الدخل، وزيادة أسعار السلع المستوردة إذا ردت كندا برسوم مضادة، مما يزيد الضغط على الأسر ذات الدخل المنخفض والمتوسط.

من جانبه، يتفق الخبير المالي مدين سلمان، مع ما ذهب إليه الغزالي، قائلا إن الصادرات الكندية إلى أميركا سوف تتأثر بالتأكيد، وتتعرض لارتفاع أسعارها مما يجعلها أقل تنافسية، وبالتالي الشركات الأميركية ستبدأ في البحث عن بدائل أقل تكلفة، إضافة إلى انعكاس سلبي على قيمة الدولار الكندي.

ويضيف سلمان للجزيرة نت، أن تداعيات التعريفات الجمركية ستلقي بظلالها على المستهلكين في كلا البلدين، موضحًا أن التاجر الأميركي عندما يستورد السلع الكندية مع زيادة التعرفة الجمركية عليها، تصبح التكلفة أعلى ومن ثم يرتفع سعرها أمام المستهلك الأميركي، وكذلك الأمر أمام المستهلك الكندي، "النتيجة ضرر مشترك وارتفاع أسعار وتضخم في البلدين".

القطاعات المتأثرة

القطاعات الأكثر عرضة للضرر في حال فرضت الرسوم الجمركية على كندا، تشمل:

قطاع النفط والغاز قطاع الصلب والألمنيوم السيارات الزراعة الأخشاب المنتجات الاستهلاكية قطاع التكنولوجيا.

حيث سيؤدي فرض التعريفات الجمركية الأميركية إلى ارتفاع التكاليف للمصنعين والمصدرين الكنديين، ويقلل الطلب على السوق الكندي، ويؤثر على الإيرادات وبالتالي تباطؤ الاستثمارات وخسائر محتملة في الوظائف، نتيجة تراجع الطلب الأميركي.

وكانت كندا والاتحاد الأوروبي، قد وقعوا قبل أيام، اتفاقية شراكة أمنية ودفاعية خلال قمة للاتحاد الأوروبي في بروكسل، في خطوة وصفها مراقبون أنها بداية لتنفيذ طموح أوتاوا لتقليص هيمنة واشنطن على تجارتها وأمنها، وسط علاقات متوترة مع إدارة الرئيس الأميركي، قد تعيد تشكيل السياسة الخارجية الكندية، ومحاولة الخروج من عباءة الجارة الجنوبية.

خيارات الحكومة

وعن خيارات الحكومة الكندية وبدائل تلافي الخسائر المحتملة، يقول الغزالي، إن على الحكومة الكندية فرض رسوم جمركية مضادة على الصادرات الأميركية إذا استمرت أميركا في عنادها، وتقديم دعم مباشر للقطاعات المتضررة، وحوافز للشركات المحلية، وتنويع الشركاء التجاريين، وجذب الاستثمارات الخارجية.

إعلان

وحث الغزالي، الحكومة الكندية إن وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود، على اللجوء إلى القضاء، واستخدام آليات تسوية النزاعات، لمخالفة الولايات المتحدة اتفاقية "يو إس إم سي إيه"، موضحا أن هذا الجانب يأخذ وقتا طويلا جدا في المحاكم، لكنه سلاح بيد الحكومة من الممكن ممارسة الضغط من خلاله ويتيح الحصول على تعويضات.

أما الخبير المالي مدين سلمان، فرأى أن الحكومة ليس أمامها إلا خيار البحث عن أسواق وحلفاء جدد، مؤكدًا أن هذا الخيار أصبح أمرا واقعيا لا مفر منه، لكن سلمان متفائل ويعتقد أن بإمكانية حل الأزمة عبر الحوار، نظرا للضرر المشترك على البلدين.

تواجه العلاقات التجارية بين كندا والولايات المتحدة لحظات مفصلية قد تعيد تشكيل المشهد الاقتصادي بين البلدين، مع تصاعد التوترات بين الحين والآخر، ويترقب المستثمرون والمستهلكون تداعيات قد تعرقل سلاسل الإمداد وتؤثر على الإنفاق في القطاعات الحيوية، إذ يتطلب احتواء الأزمة حوارا دبلوماسيا، لتجنب خسائر اقتصادية طويلة الأمد على كلا البلدين، مع ضرورة تحرك كندا بحكمة لتنويع شراكاتها وحماية مصالحها الاقتصادية، نظرا لاعتمادها لعقود طويلة على الجار الجنوبي.

مقالات مشابهة

  • محافظ البحر الأحمر يكشف الأسباب الحقيقية وراء غرق الحفّار البحري بمنطقة جبل الزيت بخليج السويس
  • ٣٠/ يونيو، ليلة القبض علی جَمْرَة!!
  • ما هي الكوارث التي ينذر بها التغير المناخي العالم؟
  • باحث سياسي: العلاقات المصرية العمانية راسخة تاريخيا ولم تتأثر بالتجاذبات الإقليمية
  • عضو بالشيوخ: العلاقات المصرية العمانية نموذج في التوازن وعدم الانحياز للتجاذبات الإقليمية
  • القِيَم المجتمعية العمانية .. ركيزة في التنمية المستدامة بالمحافظات
  • تراجع كندي عن الضريبة بعد تهديدات ترامب.. الدوافع والتحديات
  • وزير الخارجية: خطة لربط قناة السويس بالموانئ العمانية لتعزيز التبادل التجاري
  • سالم الدوسري: ألف مبروك التأهل الكبير والقادم أفضل
  • أخبار الوادي الجديد.. ندوة بعنوان الهجرة دروس وعبر احتفالا بالعام الهجري.. واستقرار في أسعار الخضروات