وحش الشاشة فريد شوقي.. وجه إنساني خلف أدوار الشر
تاريخ النشر: 31st, July 2024 GMT
خلال مسيرة فنية امتدت لأكثر من 50 عاما، استطاع الممثل المصري الراحل فريد شوقي أن يجسد أنماطا مختلفة من الشخصيات، على مدار مراحل زمنية مختلفة شكلت مسيرته المتنوعة كممثل وصانع سينمائي، هذا الاختلاف والتنوع لم يكن فقط على الشاشة لكن أيضا لم تخل حياته من الدراما والمعاناة رغم الاستقرار الذي غلف حياته على المستوى الشخصي والمهني إلى حد كبير.
ميلاد "ملك الترسو" في عشرينيات القرن الماضي، في الثلاثين من يوليو/تموز 1920، جعله شاهدا على معاناة الشعب المصري من الاحتلال الإنجليزي، فيحكي فريد شوقي في مذكراته (ملك الترسو- فريد شوقي) كيف شاهد حادثة إعدام زوج عمته من قبل جنود الاحتلال الذين وضعوا حبل المشنقة حول عنقه، وتكرر الأمر مع آخرين، وكان لا يزال فريد شوقي طفلا صغيرا.
موقف آخر ترك أثرا واضحا في فريد شوقي وهو لا يزال تلميذا في المدرسة مع زملائه الذين فوجئوا بزميل لهم يحمل مسدس والده ليلهو به، فيردي أحد زملاء فريد شوقي قتيلا بسبب رصاصة طائشة من دون قصد وهو ما تسبب في عقدة لـ "وحش الشاشة" الذي يجيد استخدام المسدسات والأسلحة في أفلامه لكنه لا يطيق سماع صوت الرصاص.
وفي أحد أيام التصوير، كاد الموقف المأساوي أن يتكرر مع صديقه الممثل محمود المليجي. حيث اعتاد فريد شوقي التأكد من خلو المسدس من الرصاص الحقيقي قبل أي مشهد، ولكن في هذا اليوم لم يتأكد لانشغاله بتصوير فيلم آخر في استوديو مختلف. وبعد أن ضغط الزناد، انطلقت رصاصة حقيقية نحو الحائط المقابل، كادت أن تقتل المليجي، لولا العناية الإلهية.
شعبية جارفةفي أربعينيات القرن الماضي كانت الانطلاقة والبداية، قدم خلالها فريد شوقي عشرات الأدوار لكنه تخصص في تقديم شخصيات الشر، لكنه استطاع بعد سنوات قليلة أن يتجه إلى الكتابة والإنتاج إلى جانب التمثيل، ليصبح مؤسسة فنية متكاملة وقدم خلال تلك المرحلة العديد من الشخصيات المتنوعة منها الفتوة والصعلوك والأب والمدافع عن حقوق المظلومين والرومنسي وغيرها من الأدوار، التي قربته من البسطاء الذين وجدوا فيه نموذج البطل الشعبي الذي تناول ملامح حياتهم واقترب من عوالمهم.
ومن أبرز أعماله في تلك الفترة "رصيف نمرة 5″ و"جعلوني مجرما" و"المحتال" و"النمرود" و"الأخ الكبير" و"الفتوة" و"السوق السوداء" وغيرها من الأفلام التي اقترب من خلالها من الطبقات الشعبية التي منحته لقب "ملك الترسو"، وحقق في القرن الماضي خلال الفترة من الخمسينيات وحتى السبعينيات نجاحا جماهيريا جعله واحدا من أهم قامات السينما العربية.
مع ظهور جيل جديد من الفنانين في أواخر السبعينيات وامتدادا إلى الثمانينيات والتسعينيات، وعلى الرغم من استمرار فريد شوقي في تصدر البطولة لكنه لم يبخل على الوجوه الجديدة في هذا الوقت، ليس فقط في تقديم الفرص الأولى لهم، لكن أيضا وافق على كتابة أسمائهم قبل اسمه على التتر وكان وقتها لا يزال نجما كبيرا، مثل نور الشريف وأحمد زكي وحسين فهمي ومحمود ياسين ومحمود عبد العزيز.
في لقاء صحفي مع المخرج محمد خان أكد أن فريد شوقي وافق على المشاركة في فيلم "خرج ولم يعد"، وتحمس لأن يتصدر يحيى الفخراني البطولة بعد أن لمح به الموهبة رغم رفض الكثيرين المشاركة لعدم اقتناعهم بأن الفخراني جدير أن يتصدر البطولة.
أما المخرج عمر عبد العزيز الذي قدم معه العديد من الأفلام أيضا، فقال في أحد تصريحاته إن فريد شوقي كان في بعض الأفلام يرحب بتخفيض أجره لدعم المخرجين الشباب.
الصديق الوفيفريد شوقي، الذي جسد شخصيات الشرير على الشاشة وخاض المعارك مع عمالقة السينما مثل محمود المليجي وزكي رستم وتوفيق الدقن، كان في الحقيقة صديقًا وفيًا ومساندًا لأصدقائه في محنهم، بحسب شهادة العديد منهم.
بعد إصابة الفنان الراحل رياض القصبجي، الشهير بدور "الشاويش عطية"، بتصلب شرايين تسبب في شلل استمر لمدة 5 سنوات، ظل فريد شوقي يزوره بانتظام ويقدم له الدعم المادي والمعنوي. وكانت آخر أعمال القصبجي السينمائية هي فيلم "أبو أحمد" الذي قام ببطولته شوقي.
وبعد وفاة القصبجي، تكفل شوقي بنفقات الجنازة والعزاء واستمر في دعم أسرته حتى تخرج أكبر أبنائه.
امتدت جهود فريد شوقي الإنسانية لتشمل الفنانة فاطمة رشدي التي كانت تعيش في فندق بمنطقة وسط البلد بالقاهرة وتعاني من أزمة مالية، طالب شوقي الدولة بتوفير شقة ومعاش لها، وكذلك علاجها على نفقة الدولة. وبفضل جهوده، تحقق لها ما طالب به، مما أسهم في تحسين ظروفها المعيشية.
أما ابنته رانيا فريد شوقي فقالت في حوار لها إن والدها كان يخصص ساعة يوميا للسؤال عن زملائه منهم صباح وأرملة الفنان يحيى شاهين وتحية كاريوكا والفنان محسن سرحان.
أبو البناتكان فريد شوقي فخورا بـ لقب "أبو البنات" حيث أنجب 5 فتيات خلال 5 زيجات في حياته، وأنجب ابنته الكبرى منى من زوجته الأولى، وأنجب من الفنانة هدى سلطان ابنتيه ناهد ومها، ثم من زوجته سهير ترك ابنتيه عبير ورانيا فريد شوقي، وورثت عنه بعض بناته حب الفن، فعملت عبير مخرجة لبعض الأعمال، بينما اهتمت الراحلة ناهد فريد شوقي بالإنتاج وقدمت العديد من الأعمال المهمة مثل فيلم "هيستريا" ومسلسل "لن أعيش في جلباب أبي"، أما رانيا فريد شوقي فقدمها والدها في بدايتها كممثلة واستمرت في مسيرتها حتى اليوم.
ويجمع شهر يوليو/تموز بين ميلاد فريد شوقي وبين وفاته أيضا حيث توفي في السابع والعشرين من الشهر، بعد صراع مع مرض خطير في الرئة عانى منه لمدة عامين، ورغم رحيله عام 1998 فإنه ترك بصمة كبيرة في الفن المصري -سينما ودراما تلفزيونية ومسرح- وتجاوزت أفلامه 400 فيلم سينمائي.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات فرید شوقی العدید من
إقرأ أيضاً:
هل على نتنياهو أن يخشى من جيل الأطفال الذي شهد الإبادة؟
بعد ساعات طويلة من انتظار الحصول على حصّته من المياه، يقف طفل لا يتجاوز الـ12 من عمره أمام غالونين كبيرين مليئين بالماء، لا وقت للإرهاق الآن، فالحصول على المياه النظيفة الشحيحة شيء، والعودة بها للخيمة أو المنزل المهدم الذي يعيش فيه مع أسرته شيء آخر تماما. يحاول الطفل رفع الغالونين عدّة مرات دون فائدة، فالحمل ثقيل لجسد صحيح، فما بالك بجسد منهك من الحرب وقلة التغذية.
محاولات الطفل غير الناجحة جعلته يدرك أن مقدار وزن الغالونين رُبما يفوق وزنه هو شخصيا، وحينما أدرك الصغير حجم ما يواجه، رفع وجهه إلى السماء ثم قال: "أعطني القوة يا الله". تنفس ملء رئتيه، وتمكن بالفعل من حملهما والسير بهما لخطوات عدة وثّقتها الكاميرا لترصد نزرا يسيرا من هول ما يعيشه أطفال غزة تحديدا وعموم قاطني القطاع المحاصر.
في وقت سابق، نشر ستيفن جوزيف، وهو أستاذ في كلية التربية بجامعة نوتنغهام الإنجليزية، في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، ورقة بحثية ناقش فيها النمو النفسي خلال مرحلة ما بعد الصدمة أو التجربة المؤلمة، وقد استهلّت الورقة البحثية عنوانها بـ"ما لا يقتلنا".
عمل ستيفن مع عديد من الناجين من الصدمات وأهوال النزاعات، ولديه مسيرة طويلة في دراسة ما تُعرف بـ"النمو بعد الصدمة"، وكتابه الشهير: "ما لا يقتلنا: دليل للتغلب على الشدائد والمُضي قدما"، حاول فيه توظيف بعض النظريات والممارسات النفسية لاستكشاف ماذا يجري بعد الصدمة، وكيف يمكن التغلب على الشدائد لخلق معنى وهدف جديدين في حياتنا.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2صور أطفال فيتنام غيّرت العالم فلماذا لا يهتز لصور أطفال غزة؟list 2 of 2ما الذي تغير ليرفض الغرب حرب الإبادة على غزة؟ ولماذا الآن؟end of list إعلانوضّح جوزيف أن الدراسات النفسية المتعلقة بالصدمات قد تغيرت مؤخرا، خاصة مع إدراك الباحثين أن الشدائد والمواقف بالغة الصعوبة لا تؤدي بصورة حتمية إلى خلق شخص مضطرب نفسيا أو مكتئب، إذ بدأت اتجاهات البحث النفسي العلمي ترى أن هناك جانبا من "النمو الإيجابي" قد يتحقق خلال مرحلة ما بعد الصدمة والتجارب القاسية ويمكن أن تمثّل نقطة انطلاق لبناء مستويات أقوى من الصلابة النفسية.
وهذا ما عبرت عنه بجلاء الورقة التي نشرتها يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 الأستاذة الأسترالية ميشيل بيس في المعهد الأسترالي للشؤون الدولية بعنوان "الغزيون: شعبٌ يتمتع بشجاعةٍ لا تُقاوم، وإيمان، ولطف" ، وأشارت فيها إلى نمط حياة شعب غزة في فترة ما قبل الحرب، وكيف أنهم "رغم الحصار والتضييق الخانق من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، كانوا يجدون وسائل للتكيف مع واقعهم المُعاش ووسائل بناء شبكات تضامن اجتماعية تسيّر حياة المجتمع"، وأن هذه الديناميات والقدرات أسهمتا بصورة أو بأخرى في رفد المجتمع بأساليب وأدوات للبقاء والصمود، وقد زادهم صلابة تتالي الحروب وتنوع وسائل القتل والتدمير التي لم تتخلف عن القطاع طوال الفترة الماضية.
ومن المداخل التفسيرية التي لا تستحضر كثيرا في الدراسات النفسية وإن كان لها دور في تعضيد هذه القراءات، ونقصد بذلك المدخل الإيماني الذي يلعب دورا واضحا في الكيفية السلوكية التي يتعامل بها الأفراد تجاه المصائب التي يواجهونها، إذ تشكّل الأرضية الإيمانية -التي يستند إليها الفرد أو المجتمع- عاملا أساسيا في محددات الحالة الشعورية التي تلي المعاناة، فضلا عن الحالة النفسية في أثناء الأزمة، ولا يمكن فصل هذا العامل عن تحليل المشاهد الواردة من غزة، إذ يمكن ملاحظة حضور المفاهيم الدينية والإيمانية في خطاب وسلوك الغزيّين.
إعلانفي الدين الإسلامي مثلا، البلاء يتطلب صبرا، وللصابرين مثوبة جزيلة، وجانب من التكوين الإيماني للمسلم قائم على أن البلاء مرحلة مرّ بها المؤمنون على مدار التاريخ، حيث يسوق القرآن وتسوق الأحاديث النبوية الكيفية التي تعاملت بها المجتمعات المؤمنة التي تعرضت للبلاء، وما يلي ذلك من ثواب من الله لا يقتصر على ما يراه الفرد في هذه الدنيا.
بالطبع لا يسعى هذا التقرير إلى أسطرة الإنسان الغزي (أي جعله أسطورة)، بل يحاول البحث في الديناميات والقدرات النفسية الحقيقية التي يقاوم بها سكان القطاع، في محاولة للنجاة من الأهوال التي يقاسونها يوميا، ليس على صعيد النجاة من الموت فحسب، بل أيضا عبر المجاهدة في تفاصيل يومهم كافة، بدءا من شربة الماء، وصولا إلى محاولة النوم، وليس انتهاء بالعيش وسط مجتمع لا يمتلك أدنى مقومات العيش الكريم، وأساسات الحياة التي اعتادها لعقود.
أما عن مصطلح "اضطراب ما بعد الصدمة" فهو أحد أكثر المصطلحات النفسية شيوعا في العالم العربي، وقد أخذ رواجا على إثر الانتكاسات السياسية والاقتصادية وما تلاها من تمزّقات شملت البنى الاجتماعية في عدد من المجتمعات العربية، وكانت ارتدادات تلك الانتكاسات حاضرة بثقلها على المساحة الشعورية للأفراد والمجتمعات على السواء، وفي ظل هذا الواقع، حضر مصطلح اضطراب ما بعد الصدمة كمحاولة لتفسير آثار التغيرات التي برزت على سطح المجتمع وعمقه.
وكما الحال في العلوم الاجتماعية والإنسانية، فإن المفاهيم عادة ما تنشأ في سياق زماني وجغرافي محدد، ثم تكون عرضة للتبدل والتغير، عندما تتعرض لتفسير وفهم مستجدات جديدة، فامتزاج النظرية بسياقات ثقافية مختلفة عن البيئة التي نشأت فيها، يحتم عليها أن تتجاوب مع المتغيرات حتى يمكنها، اخراج تفسيرات ملائمة. وقد أسهمت غزة في خلق تحديديات كثيرة أما العديد من الأفكار والنظريات الاجتماعية.
إعلانأما عن سياق نشأة وظهور مصطلح "اضطراب ما بعد الصدمة"، فنجده مرتبطا بالجمعية الأميركية للطب النفسي عام 1980، وقبل سك هذا المصطلح، كان هذا الاضطراب يُعرف قد انتشر خلال الحرب العالمية الأولى باسم "صدمة القذائف"، وكان يُعتقد أنه يؤثر على الجنود فقط. وتعرّفه جمعية علم النفس الأميركية بأنه اضطراب نفسي يحدث عندما يعيش أو يشهد شخص ما حدثا يشعر خلاله بتهديد حياته أو سلامته الجسدية، فتكون المشاعر المسيطرة على الشخص خلال هذا الحدث هي الخوف أو الرعب أو العجز.
بمرور الوقت، جذبت أعراض هذا الاضطراب انتباه الباحثين والعلماء، وبدأت البحوث المتتالية ترصد وتوثق أثر التعرّض للصدمات في تغيير حياة الإنسان وإفسادها، وذلك لما تتركه الصدمات من تأثيرات وتغييرات نفسية سلبية بعد تعرض الشخص لحادث صادم. وقد اعتقد الباحثون أن هذه التغييرات النفسية السلبية مردّها عائد إلى رغبة العقل في حماية الشخص من التعرض لمزيد من "التجارب الخطرة" أو من تلك التجارب التي يمكن أن تضع الفرد في موقف فيه تهديد، حتى وإن كان متخيّلا.
في البدء، طغى اتجاه طبي ينحصر تركيزه في توثيق التأثير السلبي للتعرض للصدمات، دون الالتفات كثيرا إلى الملاحظات -كانت قليلة حينها- التي تناولت التأثير الإيجابي الذي يُمكن أن تُحدثه الصدمات في حياة وشخصية الأفراد الذين يتعرضون لها.
لكن قد يكون السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: "هل كل مَن يتعرض لحادث مؤلم مُهدِّد للحياة، يُعاني بعد النجاة منه اضطراب ما بعد الصدمة؟".
النمو بعد الصدمةرغم الاهتمام بالجوانب السلبية، فإن بحث جوزيف، السابق الإشارة إليه، يرى أن الاهتمام العلمي في المجال النفسي بالتغيرات الإيجابية التي قد تعقب تعرض الشخص للصدمات والشدائد، أخذ في التزايد، بعدما أظهرت مجموعة من الدراسات -التي أُجريت أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات- أن هناك مجموعة من التغيرات الإيجابية التي شهدتها شخصيات قاسوا أحداثا مأساوية أو صدمات شديدة القسوة.
إعلانحين رُصدت نتائج الدراسات السابقة، بدأ الاهتمام خلال تسعينيات القرن الماضي بدراسة الكيفية التي تتحول فيها صدمة إلى عامل "محفز" للتغييرات الإيجابية، وأثر ذلك في تعضيد التكوين الشخص النفسي. هنا بدأ يظهر مفهوم "النمو" بعد الصدمة، حتى أصبح مجالا بحثيا يجذب اهتماما دوليا واسعا من الباحثين والعلماء، وخلال السنوات العشر التالية لظهور هذا المفهوم، أصبح نمو ما بعد الصدمة أحد الموضوعات الرئيسية التي تندرج ضمن موضوعات علم النفس الإيجابي.
يُشير موقع "سيكولوجي توداي" إلى أنه في أوائل التسعينيات، صاغ عالِما النفس ريتشارد تيديشي ولورانس كالهون مصطلح "النمو بعد الصدمة" (PTG)، ويقوم هذا المصطلح بشكل أساسي بوصف التغييرات الإيجابية التي يمكن أن تحدث لشخصية الفرد أو نفسيته بعد تعرضه لأزمة كبيرة أو حادث مُهدِّد للحياة أو صدمة قاسية.
وأن التغييرات الإيجابية الملحوظة يمكن أن تحدث للشخص الذي تعرض للصدمة خلال الأيام أو الأشهر أو حتى السنوات التي تلي تعرضه لهذه الصدمة. وبالنسبة للناجي من الصدمة، يمكن أن تكتسب الحياة معنى جديدا يمنح الفرد القدرة على إعادة تشكيل معتقداته وأولوياته وأهداف حياته والقيم التي ستشكل هويته.
مشروع مقاوم أكثر صلابةخلال شهر مايو/أيار الجاري، أعلنت وزارة الصحة بقطاع غزة، أن 16 ألفا و503 أطفال فلسطينيين قتلهم جيش الاحتلال الإسرائيلي خلال الإبادة الجماعية في غزة، في إحصائية صادمة تجسد حجم الاستهداف المباشر والممنهج لأضعف فئات المجتمع.
عرف الأطفال، الذين يُمثلون ما يقرب من نصف عدد سكان قطاع غزة خلال أكثر من 20 شهرا، معنى أن يتركوا بيوتهم مرغمين مذعورين قبل أن تُهدم فوق رؤوسهم، ومعنى أن يذوقوا ألم فقدان أهاليهم وأقربائهم وأصدقائهم وجيرانهم، ومعنى أن ينتظروا الموت، فلا يعلمون ما إذا كانت هذه آخر مرة يضع فيها الواحد منهم رأسه المنهك على الأرض كي ينام، أو أن يرقبوا بأعينهم من وراء الركام ويشموا بأنوفهم رائحة الدماء التي تعني حتما ارتفاعا يوميا في أعداد الشهداء والمصابين، حتى يصبح الموت حاضرا وماثلا وجاثما على امتداد القطاع.
إعلاناختبر هؤلاء الأطفال معنى أن تسترد وعيك في المشفى كي ترى طرفا من أطرافك قد بُتر. ناهيك عن الإصابات غير المرئية، كأن تنخفض قدرة طفل على السماع على إثر قذيفة سقطت في منطقة مجاورة لمكان تواجد الطفل، وهذه إصابة حقيقية لها شواهدها.
بالعادة، وفي سياقات مشابهة، تبدو نتيجة الضرر النفسي البالغ حتمية على كل طبقات المجتمع، فما ظنّك بالأطفال؟ بالتأكيد هناك من عانى من ويلات الحرب وألمت به مشاعر الاكتئاب والقلق واليأس والحزن والاستياء والغضب والخوف، لكن هذا ليس أمرا جاريا ومضطردا في كل الأحوال.
فبعض التغييرات العنيفة والأحداث بالغة القسوة التي شهدها الطفل الغزاوي، وفقا لمفهوم "النمو" بعد الصدمة والتي تمتزج مع المركّبات الإيمانية للمجتمع الغزيّ، قد لا تقود إلى نتيجة حتمية مفادها الانهيار -وإن كان ذلك حاضرا ولا يمكن إنكار حدوثه اليوم أو احتمالية ظهوره في المستقبل القريب- لكنها في المقابل قد تجعل منه شخصية تتسم بالصلابة والقوة النفسية، ورُبما يكون الصبي الذي شهد كل هذا العنف في الغد القريب مقاوما أكثر صلابة من سابقيه، فكثير من مقاومي اليوم هم من أهالي الشهداء والأسرى والمصابين، وهم ممن قاسوا شخصيا، أو قاسى أهلهم المباشرون حروبا وتهجيرا وتضييقا ممنهجا حتى وجدوا في المقاومة خيارا ضروريا لاسترداد الحق.
في السياق ذاته، قبل أن يتغير موقف الملياردير الأميركي إيلون ماسك من حرب إسرائيل على غزة، فإنه كان قد تساءل في مقابلة مصورة في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أي بعد شهر تقريبا على طوفان الأقصى وبدء حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة: "مقابل كل عضو تقتله من حماس كم خلقت من الأعداء؟ وإذا كان ما خلقته أكثر مما قتلت فأنت لم تنجح". كان هذا التساؤل المشروع قبل أن يحرك نتنياهو ترسانته لاستمالة ماسك الذي بدا جليا تغير خطابه ومواقفه بعد هذه المقابلة تحديدا.
إعلانقد تخلق الظروف القاسية إنسانا مضطربا، وقد تساعده على اكتشاف مكنوناته وقدراته الداخلية. قد يتألم الانسان الموجوع، ولكن من الممكن أن يشتد عوده وتصلب إرادته، وعندما يعتاد مجتمع ما الحرب والصراع وترتبط ذاكرته بالاستعمار والانتهاكات، فليس أمامه إلا طريقان: أن يستسلم، أو يقاوم، وغزة بالتأكيد تقاوم.
ووسط كل هذا الركام والدموع المنهمرة، قد يتخلق شيء إيجابي وفق تصورات علم النفس، وأن هذا النمو المتوقع، أو التغير الإيجابي المرتقب لا يحدث بضغطة زر، وليس نتيجة حتمية للتعرض للصدمة، لأنه يتطلب تحديا واستعدادا نفسيا عاليا يصحبه المرء أثناء خوضه معركة بقائه. وهنا يوضح ستيفن جوزيف أن النمو بعد الصدمة هو "عملية تغيير وليس فقط نتيجة تلقائية للتغيير"، فهي لا تحدث إلا للأفراد الذين تأهلوا لذلك.
وهذه "الآثار الإيجابية" قد تزور الفرد بعد أعوام من الحرب، فيكتشف الحكمة من ورائها، ويسبر أغوار الآثار النفسية العميقة التي تركتها التجربة، وكل هذه أمور قد لا تحدث لآخرين. كما أن ثمة بعدا آخر في تشكيل هذا المقاوم الأكثر صلابة، وهي أن القاتل أو المجرم لم يترك "للضحية" مساحة ولا خيارا آخر، فإما أن يغرق في ظلمات الاكتئاب فيصبح الدم المسفوك لا معنى له سوى ندبة غائرة وجرحا نازفا في نفس وذهن الشخص، أو أن يقف على قدميه متحديا كل الأعباء، نافضا عنه غبار العاصفة الثقيل، كعنقاء تخرج من رمادها، ثم يقاوم، كي يسترد بعضا من حقه، أو يُقتل وهو يحاول، فـ "علَى هَذِهِ الأَرْض مَا يَسْتَحِقُّ الحَياةْ"، كما يقول محمود درويش.