مجزرة سدي تيمان.. هل تتجه إسرائيل نحو المساءلة؟
تاريخ النشر: 31st, July 2024 GMT
أثار اقتحام محتجين إسرائيليين من اليمين المتطرف، مدعومين من وزراء حاليين ونواب في الكنيست، معسكر "سدي تيمان" في النقب بعد التحقيق مع جنود متهمين بتعذيب أسرى من غزة حتى الموت، جدلًا واسعًا حول مدى التزام جيش الاحتلال ومؤسساته الأمنية بقواعد الاحتجاز والتحقيق.
وكانت الشرطة العسكرية الإسرائيلية قد أوقفت 10 جنود من المعسكر للتحقيق معهم بتهم تعذيب أسرى من غزة حتى الموت، ورفضَ الجنود المتهمون التعاون مع الشرطة العسكرية.
سلطت حادثة الاقتحام هذه، الضوء على وضع الأسرى الفلسطينيين عمومًا والمعتقلين منهم من غزة على وجه الخصوص، حيث كشفت تقارير دولية وشهادات من أشخاص تم الإفراج عنهم عن ظروف مفزعة يتعرض له هؤلاء في مراكز التوقيف، وخصوصًا في معسكر "سدي تيمان".
وكما قلنا، فقد أثارت الحادثة أيضًا أسئلة حول مدى جدية إسرائيل في التعامل مع الاتهامات الموجهة لجيشها ومؤسساتها الأمنية بممارسة التعذيب الوحشي ضد الأسرى الفلسطينيين. وهل يغني تشكيل لجنة تحقيق داخلية أو اتخاذ إجراءات شكلية عن تشكيل لجان تحقيق دولية؟ أم أن الأمر كله مسرحية هزلية رديئة الإخراج كشفها يمين متطرف غبي؟
كشفت لجنة تحقيق إسرائيلية، برئاسة القاضي المتقاعد إيلان شيف، عن الظروف الصعبة التي يخضع لها المعتقلون الفلسطينيون من قطاع غزة في معسكر "سدي تيمان" جنوب إسرائيل، وأوصت بإغلاق السجن ونقل المعتقلين إلى مصلحة السجون الإسرائيلية
أولًا: المركز القانوني للأسرى الفلسطينيينترفض دولة الاحتلال معاملة المقاتلين الفلسطينيين بموجب اتفاقية جنيف الثالثة، على اعتبار أن صفة أسرى الحرب لا تنطبق إلا على أفراد القوات المسلحة وأعضاء حركات المقاومة المنظمة لأحد أطراف النزاع. وبما أن المقاومين الفلسطينيين لا ينتمون إلى أي دولة، فإنهم غير مؤهلين للحصول على الوضع القانوني لأسرى الحرب باعتبارهم مقاتلين غير شرعيين. ولا يتطلب الأمر لاحتجازهم في السجن – حسب القانون الإسرائيلي- أكثر من أمر اعتقال موقّع من رئيس الأركان.
وقد اعتقل عشرات الفلسطينيين من قطاع غزة بموجب هذا القانون أثناء العدوان الإسرائيلي في عام 2008، واعتقل الآلاف بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول. ولا يحتاج الأمر إلى عمليات عسكرية ليحدث الاعتقال، فسلطات الاحتلال الإسرائيلي تستخدم إجراء الاعتقال الإداري بشكل واسع وروتينيّ طال على مرّ السنين آلاف الفلسطينيين الذين احتجزوا لفترات طويلة دون تمكينهم من الدفاع عن أنفسهم أمام الادعاءات السرية الموجهة إليهم.
وفي 1 مارس/آذار 2023 صادقت الهيئة العامة للكنيست في قراءة تمهيدية على اقتراح قانون للعقوبات ينص على عقوبة الإعدام للأسرى الفلسطينيين، يقف وراءه حزب "الصهيونية الدينية" الذي يتزعّمه بتسلئيل سموتريتش. ويعتبر هذا المشروع أحد بنود اتفاق تشكيل الائتلاف الحكومي مع حزب الليكود برئاسة بنيامين نتنياهو، وحزب قوة يهودية بزعامة إيتمار بن غفير.
ورغم أن القانون لم يمرر، واعتبرته أوساط سياسية إسرائيلية أنه شعبوي، فإنه يشكل بيئة خصبة للعنف والتعذيب المنظم ضد الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين. تمامًا كما أن وصف وزير الدفاع الإسرائيلي لسكان قطاع غزة بأنهم حيوانات بشرية يعني أمرًا واحدًا بالنسبة للجنود أو السجانين: أنهم يجب قتلهم إما بالقصف أو التجويع أو التعذيب حتى الموت.
ثانيًا: مجزرة "سدي تيمان" الحقوقيةكشفت لجنة تحقيق إسرائيلية، برئاسة القاضي المتقاعد إيلان شيف، عن الظروف الصعبة التي يخضع لها المعتقلون الفلسطينيون من قطاع غزة في معسكر "سدي تيمان" جنوب إسرائيل، وأوصت بإغلاق السجن ونقل المعتقلين إلى مصلحة السجون الإسرائيلية.
وتحدثت تقارير عديدة أيضًا عن ظروف احتجاز المعتقلين في هذا المعسكر، حيث يظلون مكبلي الأيدي ومعصوبي الأعين في منشآت مؤقتة تفتقر للشروط المناسبة. وتتزايد بحقهم حالات الاعتداءات والتعذيب، بما في ذلك اعتداء جنسي قام به جندي إسرائيلي ضد أحد الأسرى. وقد أحيط هذا المعسكر بالكثير من السرية والكتمان إلى أن كُشف أمره أخيرًا. ومنعت إسرائيل اللجنة الدولية للصليب الأحمر من زيارته والاطلاع على ظروف المعتقلين المقدّر عددهم بالمئات.
واللافت أن التحقيق في مجزرة "سدي تيمان" جاء بعد التماس تقدمت به منظمات حقوقية إسرائيلية إلى المحكمة العليا، وهي جمعيات" حقوق المواطن، وأطباء لحقوق الإنسان، ومركز حماية الأفراد، ولجنة مناهضة التعذيب في إسرائيل، ومسلك-جيشا "(وهي منظمة تطالب بحرية تنقل الفلسطينيين في الأراضي المحتلة). وقد أمرت المحكمة العليا بإغلاق المعسكر، ووقف تعذيب الأسرى ونقلهم إلى سجن النقب "كتسيعوت".
الشهادات الموثقة عما يجري في المعسكر ضد الأسرى والمعتقلين مروعة وتكشف أن التعذيب الذي يمارس هناك ممنهج ووحشي بصورة لم تسجل في أقسى سجون العالم مثل غوانتانامو أو أبو غريب.
كان الأسرى في هذا السجن يُحتجزون في أقفاص حديدية في مناطق صحراوية مفتوحة دون توفير الحد الأدنى من الظروف الإنسانية، ولم يكن المستشفى الميداني في المعسكر يقدم لهم الرعاية الطبية اللازمة، حيث أُجريت لبعض الأسرى الجرحى عمليات جراحية دون تخدير، وتسببت القيود الحديدية في بتر أعضاء بعضهم. كما ذكرت التقارير أن الأسرى يتعرضون للضرب والتنكيل والتعذيب ليس بناءً على شبهات أو معلومات استخباراتية ضدهم، بل انتقامًا لعملية الـسابع من أكتوبر/تشرين الأول. وقد استشهد 48 أسيرًا على الأقل نتيجة هذا التعذيب، معظمهم من غزة.
وكشفت منظمة "هيومن رايتس ووتش" بعضًا من أشكال التعذيب، الذي لا يستثني الأطفال، وهو يتضمن إيثاق أطرافهم وهم عراة لالتقاط صور وفيديوهات ينشرها الجنود على وسائل التواصل الاجتماعي. ووصفت المنظمة هذه الأفعال بأنها "معاملة غير إنسانية واعتداء على الكرامة الشخصية"، مؤكدة أنها ترقى إلى جرائم حرب وعنف جنسي.
قطع الطريق على أي تحقيق دولييثير قرار المحكمة العليا الإسرائيلية بإغلاق المعسكر أسئلة كثيرة حول جديته ورغبة إسرائيل الحقيقية في احترام القواعد الدولية. إذ إن كثيرًا من المراقبين يعتبرون المنظومة القضائية إحدى أدوات الاحتلال لتقنين الاعتقال والتعذيب، فيما تغضّ الطرف عن آلاف أوامر الاعتقال الإداري وهدم المنازل وبناء الجدار العنصري العازل.. فما الذي دفعها لتغيير هذا النهج لاتخاذ قرار كهذا؟
الإجابة تكمن في أن مبدأ "التكامل" يعد حجر الزاوية في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وينص هذا المبدأ على أن تكون الأولوية في فض المنازعات هي للقضاء الوطني، وفي حال عجز أو امتناع القضاء الوطني عن ممارسة اختصاصه، ينتقل الاختصاص إلى المحكمة الجنائية الدولية كقضاء مكمل. ويرسم هذا المبدأ الحدود بين اختصاص القضاء الجنائي الوطني والدولي، ويطرح تساؤلات حول دور المحكمة في الرقابة على القضاء الوطني وعلاقته بالقوانين الوطنية وتأثيره على السيادة، ومبدأ عدم المحاكمة مرتين.
وبناء على ذلك، فإن قرار المحكمة العليا بإغلاق المعسكر وتوزيع الأسرى على سجون رسمية، ثم إرسال الشرطة العسكرية إلى معسكر سدي تيمان للتحقيق مع جنود متهمين، يوحي بأن إسرائيل جادة في التحقيق في الانتهاكات وتوقيع العقوبات المناسبة لمنع المزيد منها. كما أن اقتحام المركز من طرف متطرفين يوحي بأن الانتهاكات فردية وليست منهجية، وها هي دولة إسرائيل تقوم بالتحقيق.
هذا سلوك، بقدر ما يعبر عن دهاء الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في التحايل على القانون الدولي، فإنه مثير للسخرية أيضًا. إذ إن تاريخ إسرائيل مع التحقيقات واللجان طويل ولا يكاد أي منها ينتهي أو يصل لنتيجة. والأمر بهذه الصورة لا يعدو عملية إضاعة للوقت ومحاولة للتشويش على الحقيقة وتعطيل العدالة.
هل تذهب جريمة "سدي تيمان" إذن، دون عقاب؟
نظريًا، ثمّة إمكانية لتحميل كبار المسؤولين والقادة العسكريين المسؤولية الجنائية، سواء عبر محكمة إسرائيلية أو عبر المحكمة الجنائية الدولية. ولكننا نعلم على أرض الواقع أن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية طلب في مايو/أيار 2023 إصدار أوامر توقيف من الغرفة التمهيدية بحقّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، ولكن هذه المذكرات لم تصدر رسميًا حتى الآن. وسيبقى كذلك أن هناك شركاء في هذه الجريمة من المسؤولين اختاروا تجاهلها وعدم فتح التحقيقات في الوقت المناسب.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الجنائیة الدولیة المحکمة العلیا سدی تیمان قطاع غزة من غزة
إقرأ أيضاً:
تلغراف: هل يتحرك الغرب ضد الإمارات بعد مجزرة الفاشر؟
نشرت صحيفة "ديلي تلغراف" تقريرًا أعده أدريان بلومفيلد، قال فيه إن الأشقاء المؤثرين في حكم الإمارات يواجهون معوقات في جلب التكنولوجيا المتقدمة من الغرب بسبب المذبحة التي ارتكبتها قوات الدعم السريع السودانية بمدينة الفاشر الشهر الماضي.
وقالت الصحيفة إن الأشقاء المؤثرين في حكم الإمارات لديهم مليارات الدولارات في ثروة العائلة ويسيطرون على صندوق سيادي بتريليون دولار، وهو ما يجعلهم من أثرى الأخوة في العالم، وساهموا معا في تحويل دولة الإمارات العربية المتحدة من اتحاد قبلي هامشي قبل استقلالها عن بريطانيا عام 1971 إلى دولة نفطية قوية وحليف غربي مهم.
وبرزت الإمارات، خلال العقدين الماضيين كمركز استراتيجي للاستثمار والتمويل والطاقة، وشريك رئيسي في استراتيجية واشنطن الأمنية الإقليمية. وقد تصدت لإيران، ودعمت التطبيع مع إسرائيل، وتستضيف عددا من السفن الحربية الأمريكية يفوق أي ميناء خارج الولايات المتحدة.
ومع ذلك، تتعرض العلاقة الحيوية لكل من بريطانيا والولايات المتحدة مع الإمارات لضغوط بعد مزاعم متكررة، نفتها أبوظبي بشدة، بأنها تزيد من فتيل الحرب الأهلية في السودان عبر دعمها فصيلا متهما بارتكاب فظائع واسعة. وعليه، فقد كشفت الحرب في السودان عن توتر في صميم السياسة الخارجية الإماراتية: فالدولة التي تفخر بالاستقرار والتحديث تتهم بترسيخ الفوضى في الخارج.
وقال دبلوماسيون إن الجدل يهدد بتعقيد العلاقات مع الغرب في الوقت الذي يوسع فيه الإخوة الثلاثة من آل نهيان، الأقوى نفوذًا، إمبراطورية تجارية طموحة في جميع أنحاء أفريقيا في سعيهم لبسط النفوذ الإماراتي خارج الشرق الأوسط، وينظر إلى الإخوة على أنهم لا غنى عنهم للمصالح السياسية والاقتصادية الغربية، وهم يتحركون بسهولة في أروقة القوة الأمريكية.
ويعد الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، حاكم أبو ظبي الذي تدرب في ساند هيرست ورئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، من بين أكثر الأصوات الأجنبية نفوذًا في واشنطن. فهو مقرب من دونالد ترامب، الذي وصفه بأنه "رجل رائع"، ويتنقل بين زيارات البيت الأبيض ورحلاته السرية إلى عالم ديزني مع أحفاده.
كما ويعمل شقيقه رئيس جهاز المخابرات، الشيخ طحنون، مع مارك زوكربيرغ، ويختلط بنخبة وادي السيليكون، وقد بِنَى لنفسه مكانة في ثورة الذكاء الاصطناعي العالمية، أما شقيقهما الأصغر، الشيخ منصور، وهو فارس ماهر، فيمتلك يختا بحجم مدمرة بحرية، ويشرف على إمبراطورية رياضية مترامية الأطراف، يقع نادي مانشستر سيتي في قلبها، واستطاع الأخوة الثلاث بفضل فطتنهم وتآلفهم تعزيز قيمة الإمارات لدى الغرب وتوسيع النفوذ العالمي لدولة كانت، في الذاكرة الحية، تعتمد بشكل أساسي على رعي الإبل وصيد اللؤلؤ.
لكن الكارثة في السودان، التي تحولت إلى أكبر أزمة إنسانية في العالم، أثارت قلقا واسعًا، رغم أن قلة من المسؤولين الغربيين مستعدون لمواجهة أبوظبي علنا، ومع ظهور تفاصيل جديدة عن المجزرة التي وقعت في مدينة الفاشر السودانية الشهر الماضي، كانت وزيرة الخارجية البريطانية، إيفيت كوبر في البحرين تدعو إلى لقاء في حوار المنامة التابع للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، وهو القمة الأمنية السنوية الرئيسية في الشرق الأوسط، للرد على الوضع "المروع حقا" في السودان. وقالت: "كما توحدنا لدعم مبادرة الرئيس ترامب للسلام في غزة، نحتاج إلى جهد دولي جديد لإنهاء الحرب في السودان". ومع ذلك، تجنبت هي ونظراؤها الغربيون والعرب إلى حد كبير التطرق مباشرةً إلى الدور المزعوم للإمارات في الصراع.
وألحقت الحرب الأهلية في السودان التي اندلعت في نيسان/أبريل دمارًا لا مثيل له لم ير في أي مكان آخر. وتشير التقديرات الأمريكية إلى مقتل أكثر من 400,000 شخصا، ونزوح ملايين آخرين إلى مخيمات تنتشر فيها المجاعات، وقد انخرطت عدة دول في دعم الأطراف المتنازعة، ولا سيما الإمارات العربية المتحدة، التي تنفي تزويد قوات الدعم السريع بالسلاح.
وقد اشتدت حدة التدقيق بدورها في أواخر تشرين الأول/أكتوبر عندما استولت قوات الدعم السريع على الفاشر، عاصمة إقليم دارفور، بعد حصار قاسٍ دام 18 شهرا. ووصف الناجون مقاتلين دخلوا "كجيش من العصور الوسطى"، واغتصبوا ونهبوا ورموا الجثث في الشوارع. يقول مسؤولون غربيون إن الإمارات العربية المتحدة زودت قوات الدعم السريع بطائرات مسيرة ومدافع هاوتزر وقذائف هاون، وكثفت عمليات التسليم بعد إجبار المليشيا على مغادرة الخرطوم، عاصمة السودان، في آذار/مارس.
ونقلت الصحيفة عن مسؤول إماراتي قوله: "نرفض رفضا قاطعا أي مزاعم بتقديم أي شكل من أشكال الدعم لأي من الطرفين المتحاربين منذ بداية الحرب الأهلية، وندين الفظائع التي ارتكبها الطرفان"، وتعلق الصحيفة أنه سواء لعبت الإمارات العربية المتحدة دورا في حرب السودان أم لا، فإنها تشغل مكانة محورية في حملة استثنائية تهدف إلى فرض قوتها وتأمين نفوذها في مختلف أنحاء أفريقيا.
ولفتت الصحيفة الانتباه إلى نشاطات الإمارات في أفريقيا حيث تستحوذ الشركات الإماراتية على الأراضي الزراعية والمناجم والموانئ من المغرب إلى مدغشقر، ويشبه النقاد هذا التوسع بمشروع استعماري، بينما يرى المؤيدون أن الإمارات تضخ رؤوس أموال وتبني بنية تحتية وتساهم في تقليص الهيمنة المالية الصينية، وتتمحور هذه الاستراتيجية حول شركة أثار صعودها دهشة المحللين.
فقبل أقل من عقد كانت الشركة الدولية القابضة (أي أتش سي) شركة صغيرة تهتم بمزارع السمك ولديها 40 موظفًا، أما اليوم فهي ثاني أكبر شركة في الشرق الأوسط وتقدر قيمتها بحوالي 182 مليار دولارًا، ويعمل فيها 86,000 موظفًا ولديها 1,300 شركة تابعة وحصة في كل شيء بدءًا من مجموعة أداني الهندية ووصولًا إلى سبيس إكس التابعة لإيلون ماسك. حتى أنها تتطلع إلى فندقي آيفي وأنابيل في لندن سعيا منها لترسيخ مكانتها في قطاع الضيافة البريطاني.
إلا أن تأثيرها الأعظم واضح في أفريقيا، حيث استحوذت على أصول استراتيجية من مناجم النحاس والقصدير في زامبيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية إلى مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية في السودان ومصر، وتسارع توسع الشركة بعد تولي الشيخ طحنون مجلس إداراتها في عام 2020. ويرى ناشطون ودبلوماسيون إن الشركة تعمي الحدود بين سلطة الدولة وعمل الشركات، ويشبهها مسؤول غربي بـ "شركة الهند الشرقية"، وهي شركة تجارية متواضعة نمت لتصبح قوة شبه إمبريالية، وهو اتهام تنفيه الشركة.
وقال متحدث باسم الشركة: "الشركة الدولية القابضة شركة مدرجة في البورصة تعمل وفقا لمعايير الحوكمة والامتثال والكشف التي وضعها سوق أبوظبي للأوراق المالية والهيئات التنظيمية المعنية"، وبالنظر لحجم الأراضي الزراعية التي استحوذت عليها شركات إماراتية مثل الشركة الدولية القابضة والتي يتم تصدير جزء كبير من إنتاجها إلى الإمارات العربية المتحدة، يرى بعض النقاد الأفارقة أن هذا التوجه يمثل شكلا جديدًا من أشكال الهيمنة الخارجية.
وتأتي أشد الإنتقادات من السودان حيث تشير تقارير إلى أن الشركة الدولية القابضة، هي أكبر شركة أجنبية عاملة في القطاع الزراعي. وتسيطر بشكل مشترك على أراض زراعية تعادل مساحتها مساحة مقاطعة كامبريدج شاير تقريبا. وكان من المفترض شحن المنتجات إلى الإمارات العربية المتحدة عبر ميناء بنته الإمارات بموجب صفقة بلغت قيمتها 5 مليارات جنيها إسترلينيا، إلا أن كلا المشروعين لم يحرز أي تقدم بسبب الحرب.
ويقول كريستيان أولريشسن، خبير شؤون الشرق الأوسط في معهد بيكر للسياسات العامة بجامعة رايس في تكساس: "يتحدث الناس في أفريقيا، وبخاصة في السودان، عن الاستعمار الجديد لأن جهات خارجية تستحوذ على حصص ضخمة في قطاعات التعدين والطاقة والزراعة، وهي قطاعات تشارك فيها الإمارات العربية المتحدة بشكل كبير". ويضيف: "تسيطر عائلة واحدة على هذه الشركات. إنها شركات استغلالية لأن فوائدها لا تعود بالنفع على المجتمع المحلي، بل تعود إلى المستثمر. وبهذا المعنى، فهي تشبه عملية استعمارية". وترفض الإمارات العربية المتحدة هذا الكلام، مؤكدة على أن هدفها هو دمج أفريقيا في الأسواق العالمية.
ويقول محمد بحرون، المدير العام لمعهد "بحوث" للدراسات، ومقره دبي، والذي يقدم الدعم السياسي للحكومة الإماراتية: "نسعى إلى ربط دول الجنوب العالمي بدول الشمال العالمي"، وتضيف الصحيفة أن بصمة الإمارات العربية المتحدة في القارة الأفريقية تثير الانتباه، وتمتلك الشركات الإماراتية الآن أراض زراعية في ما لا يقل عن اثنتي عشرة دولة أفريقية، وعددا من المصالح التعدينية في سبع دول أخرى، وسلسلة من الموانئ التي تنقل الصادرات إلى ميناء جبل علي الإماراتي، مما يعزز مكانتها كمركز لوجستي رئيسي. ومنذ عام 2019، خصصت الإمارات العربية المتحدة أكثر من 100 مليار جنيها إسترلينيا لمشاريع أفريقية، متجاوزة الصين كأكبر مستثمر في القارة.
وإذا كان الشيخ طحنون هو المهندس المالي لهذه الدفعة، فالشيخ منصور، يلعب دورا سياسيًا أكثر بكثير. ويتمتع مالك نادي مانشستر سيتي، بعلاقات وثيقة مع العديد من القادة الأفارقة، بمن فيهم اثنان من أبرز أمراء الحرب في المنطقة. وقبل أسابيع من اندلاع الحرب الأهلية في السودان، استضاف منصور محمد حمدان دقلو، قائد قوات الدعم السريع المعروف باسم حميدتي، للمرة الثانية خلال عامين.
ومنذ ذلك الحين، أصبح التفسير الرسمي، وهو اجتماع لمناقشة "العلاقات الثنائية الوثيقة بين بلدين شقيقين" محلا للتساؤل. وفي حزيران/ يونيو ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز"، نقلا عن مسؤولين لم تسهم، أن وكالات الاستخبارات الأمريكية توصلت، من خلال اعتراضات هاتفية، إلى أن دقلو كان على "خط اتصال مباشر" مع الشيخ محمد والشيخ منصور. وتعود علاقة الإمارات بدقلو إلى عام 2015، على الأقل، عندما أرسلت قوات الدعم السريع مقاتلين لدعم التدخل السعودي الإماراتي في اليمن، وفي العام نفسه، التقى منصور خليفة حفتر، أمير الحرب الليبي الذي يسيطر على شرق البلاد، في أول لقاء من ثلاثة لقاءات علنية. وقد اتهم محققو الأمم المتحدة الإمارات العربية المتحدة بتسليح قوات الجنرال حفتر وتمويل مرتزقة روس، وهي مزاعم ينفيها المسؤولون الإماراتيون
ويشير المحللون إلى عدة أسباب قد تدفع الإمارات العربية المتحدة إلى المخاطرة بسمعتها التي سعت جاهدة إلى بنائها، حيث يعد الذهب السوداني والأراضي الصالحة للزراعة والوصول إلى البحر الأحمر مصالح واضحة لدولة تولي الأولوية للأمن الغذائي وطرق التجارة. كما أن التدخل العسكري المزعوم في السودان وليبيا من شأنه أن يوسع النفوذ الإماراتي. وفي الوقت نفسه تتنافس الإمارات على النفوذ في القرن الأفريقي مع دول أخرى، حيث كل من المملكة العربية السعودية ومصر وتركيا وقطر الجيش السوداني. ويقول أحد المحللين الإقليميين: "السودان هو ملتقى العالمين العربي والأفريقي، وبالنسبة لقادة الخليج، يتمتع بثقل استراتيجي حقيقي"، "لذا، ترى صراعا حقيقيًا على السلطة هناك".
وتساءلت الصحيفة عن سبب صمت الغرب على الدور الإماراتي في السودان؟ فعلى الرغم من الادعاءات الواسعة، لا تزال الدول الغربية حذرة في توجيه انتقادات علنية للإمارات العربية المتحدة. وقد وجه وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو، أقوى انتقاد حتى الآن الشهر الماضي، محذرًا: "يجب اتخاذ إجراءات لوقف إمداد قوات الدعم السريع بالأسلحة والدعم، نحن نعرف الجهات الفاعلة، يجب أن يتوقف هذا". ويتوقع قليلون ممارسة ضغوط أكثر مباشرة، فالأخوة آل نهيان على صلة وثيقة بأعلى مستويات السلطة السياسية والتجارية الأمريكية.
وقد التقى دونالد ترامب بهم جميعا وتناول معهم العشاء. أما الشيخ طحنون، الذي عاش سابقًا في جنوب كاليفورنيا، فقد نسج علاقات متينة مع عمالقة التكنولوجيا الأمريكية، بما في ذلك إنفيديا ومايكروسوفت وأوبن إيه آي، وذلك في إطار سعي الإمارات لتصبح مركزا عالميًا للذكاء الاصطناعي، وبالنسبة لإدارة ترامب، لا تعد الإمارات حليفًا استراتيجيا فحسب، بل شريكًا أساسيًا في التقنيات التي تعيد تشكيل العالم. ولذا، فلا عجب، كما يرى النقاد، غياب الرغبة في كبح طموحاتها في أفريقيا.