السودان بعد حرب أبريل: من مخاطر التقسيم إلى تفكك الدولة!
تاريخ النشر: 10th, December 2025 GMT
الواثق كمير
[email protected]
تورونتو، 9 ديسمبر 2025
المقدمة
منذ انفصال جنوب السودان عام 2011، واجه السودان منعطفًا تاريخيًا حاسمًا أصبحت فيه بنية الدولة أكثر هشاشة من أي وقت مضى. وفي مطلع عام 2013، وفي ظل توتر سياسي متصاعد وأزمة اقتصادية خانقة وتنامٍ ملحوظ للنزاعات في الأطراف، نشرت ورقة تحليلية تناولت مستقبل الدولة السودانية عبر ثلاثة سيناريوهات رئيسية: 1) إما بقاء الوضع حينئذٍ على ما هو عليه مع إصلاحات شكلية، أو 2) انزلاق البلاد نحو تفكك مُتدرّج للدولة، أو 3) الوصول إلى تسوية سياسية شاملة تُعيد تأسيس الشرعية وتمنع الانهيار.
لم تكن الورقة محاولة للتنبؤ بقدر ما كانت قراءة لبُنية الأزمة ولمنطقها الداخلي، حيث أكدت أن تجاهل متطلبات التسوية التاريخية—باعتبارها المدخل الوحيد لمعالجة جذور الصراع—سيجعل من سيناريو التفكك هو الأكثر احتمالاً. ومع اندلاع الحرب في أبريل 2023، وتغير طبيعة النزاع بشكل جذري، تبرز الحاجة لإعادة ربط اللحظة الراهنة بالسيناريوهات التي عُرضت في 2013، ليس للمقارنة التاريخية فحسب، بل لاستخلاص الدروس العملية التي يمكن أن تُسهم في وقف الحرب وصياغة مسار جديد لإعادة تأسيس الدولة.
تفكك الدولة: السيناريو الأكثر ترجيحاً!
حرب أبريل 2023 لم تكن مجرد تصعيد جديد للصراع، بل شكلت منعطفًا نوعيًا في مسار النزاعات السودانية. ظهور لاعب جديد على المسرح، قوات الدعم السريع، وتحالفه العسكري والسياسي مع جهات محلية وإقليمية، وتسيطره على كامل إقليم دارفور وأجزاء من غرب وجنوب وشمال كردفان وجنوب النيل الأزرق، مع إعلان حكومة ودستور لدولة، جعل الواقع السياسي والجغرافي أكثر تعقيدًا. وبينما الانفصال السلمي قد لا يكون ممكنًا—مخالفًا لما حصل في جنوب السودان—يظل سيناريو تفكك الدولة الأكثر ترجيحاً.
ثلاثة عوامل رئيسة تعزز هذا الترجيح:
التدخل الإقليمي وتضارب المصالح: تشاد وإثيوبيا وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان، بدعم من الإمارات، من جهة، ومصر وإرتريا من جهة أخرى، تشارك في الصراع بشكل مباشر وغير مباشر. خاصة بعد سيطرة الدعم السريع على حقول النفط في منطقة هجليج، وخروج الفرقة العسكرية للجيش السوداني، ودخول الجيش الشعبي من جنوب السودان والتنسيق المشترك مع الدعم السريع لحماية المنشآت الحيوية. هذا التعقيد الإقليمي يجعل من إدارة الأزمة الداخلية دون تفكك الدولة أمراً بالغ الصعوبة.
إمكانية انفجار صراعات محلية جديدة:
بافتراض سيطرة الدعم السريع على كل دارفور وأجزاء من كردفان، وحتى في حال توجهه نحو انفصال هذه المناطق، فإن غياب توافق شعبي وسياسي حول تقرير المصير كما حدث في الجنوب يفتح الباب أمام حرب “أهلية” جديدة بين مجموعات دارفور الأخرى ذات الأصول الأفريقية (الزغاوة، الفور، المساليت، البرتي، الداجو، التنجر، التامة، الميدوب، الفلاتة، القرعان، وغيرهم) وبين حواضن الدعم السريع الاجتماعية من ذوي الأصول العربية. ذلك، بجانب أنّ هناك الحركات المسلحة التي تتباين مواقفها السياسية من هذه الحرب ومستقبل دارفور، مما قد يُنبئِ باستمرار النزاع. هذا الصدام الداخلي يزيد احتمالات التفكك ويؤكد هشاشة الدولة.
الشروخ داخل التحالفات العسكرية والسياسية: تبرز احتمالات تصدع داخل التحالف الحكومي بين الجيش السوداني والحركات المُشكلّة ل “القوة المشتركة”، بجانبِ المجموعات المسلحة الأخرى المُقاتلة مع الجيش في شرق ووسط وشمال البلاد، في سياق التنافس على الأنصبة في السلطة والثروة. بينما ليس من المستبعد أنّ هذا التصدع قد يُصيب التحالف العسكري لقوات الدعم السريع مع الجيش الشعبي شمال وحركات دارفور المنشقة النى انضمت إلى تحالف “تأسيس”، ما ينذر بتفكك الدولة على الصعيد العسكري والسياسي، ويعقد جهود السيطرة على كامل التراب الوطني وإعادة الشرعية، حيث تصبح الولاءات متناقضة والمصالح متضاربة، مما يُضعف القدرة على إدارة الدولة بشكلٍ موحد وفعال.
بالنظر إلى هذه العوامل، يبدو أن السودان بعد أبريل ليس على حافة الانقسام فحسب، بل على طريق خطير نحو تفكك الدولة—الذي طرحته في ورقة 2013— الذي ما زال هو السيناريو الأكثر ترجيحاً بعد حرب أبريل، يعكسه واقعٌ متناميٌ على الأرض.
الخاتمة
ما كشفته الحرب ليس مجرد أزمة عابرة بل تحذير صارخ بأن وحدة الدولة السودانية مهددة على نحوٍ غير مسبوقٍ. فبعد مرور أكثر من عقد على السيناريو الذي رسمته في الورقة التحليلية لعام 2013، حول تفكك الدولة أصبح أقرب من أي وقتٍ مضى، مُعززاً بتدخلات إقليمية مُعقدة، صراعات داخلية حادة بين المكونات المجتمعية والسياسية، وشروخ في التحالفات العسكرية. اليوم لا يمكن معالجة الوضع عبر الإجراءات الشكلية أو الحلول الجزئية. إنّ ترجيح كفة تفكك الدولة يُحتم على القيادات السياسية وصانعي القرار التفكير بجدية في مسارات حل سلمي شامل، يُعيد تأسيس الشرعية، ويضع الأسس لانتقال مستدام يحمي السودان من الانهيار الكامل.
فبدون تبني مسار تسوية سياسية شاملة قادرة على دمج كل الأطراف، واستعادة الدولة من جديد، ستظل المخاطر قائمة، والبدائل محدودة، فيما يعاني الشعب السوداني من آثار النزاع وتشتت السلطة وفقدان المؤسسات. إنّه اختبار حقيقي لقدرة الدولة السودانية على تجاوز أخطر أزماتها منذ الاستقلال.
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الواثق كمير الدولة السودانیة الأکثر ترجیحا الدعم السریع تفکک الدولة
إقرأ أيضاً:
هل أصبحت الفاشر مدينة موت بعد سقوطها في يد الدعم السريع؟
دارفور – تقول أمينة آدم، وهي نازحة من حي السلام جنوب مدينة الفاشر، إن أحدا "لا يستطيع الخروج من المدينة، ولا يزال المئات مشردين ومتكدسين في أماكن مثل حي الدرجة الأولى، وداخلية الرشيد التابعة لجامعة الفاشر".
كما تشير أمينة، في حديث للجزيرة نت، إلى أن حركة السكان مقيدة جدا في بعض مراكز الإيواء العشوائية غربي المدينة. وأضافت "نعيش على القليل من المساعدات.. والخوف رفيقنا الدائم".
وبعد نحو سبعة أسابيع من سيطرة قوات الدعم السريع على الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور وآخر معاقل الجيش السوداني في الإقليم، تبدو المدينة اليوم غارقة في واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في تاريخ الحرب بالسودان.
فبينما تتحدث القوات المسيطرة عن "النصر والتحرير"، يُعتقد أن ما يبلغ 150 ألفا من سكان المدينة فُقدوا منذ سقوطها، وفق تقديرات محلية ودولية.
ورغم توقف الاشتباكات المباشرة، يعيش سكان الفاشر في أجواء من الخوف المستمر. وتتحدث شهادات محلية عن انتشار نقاط تفتيش وحواجز أمنية تابعة لقوات الدعم السريع، تحدّ من حركة المدنيين وتثير المخاوف من استهداف من يُشتبه في تعاطفه مع الجيش.
وفي الأحياء الجنوبية والغربية للمدينة، تتناثر الجثث داخل المنازل المهجورة، حيث تتحلل تحت وطأة الحرارة المرتفعة. وتحدثت مصادر محلية للجزيرة نت عن عشرات الجثث التي لم تُرفع منذ أكثر من شهر، في ظل غياب تام للجهات الصحية والإنسانية.
وفي حي الرديف غربي المدينة الذي كان مسرحا لمعارك عنيفة قبل سقوطها، يحكي أحد السكان، الذي فضل عدم ذكر اسمه، للجزيرة نت كيف زار قريبه منزلَ جارٍ انقطع التواصل معه، ليتفاجأ بمنظر مروّع: جثتان متحللتان عند المدخل، وثالثة وسط المنزل.
ويضيف الرجل "لم أستطع التقدم داخل البيت بسبب شدة الروائح الكريهة"، مشيرا إلى أن الحي أصبح خاليا تماما من السكان، وتحول إلى منطقة أشباح، لا ينتشر فيها سوى رائحة الموت.
وباء صامت
ومع انهيار النظام الصحي بالكامل، تحدثت مصادر للجزيرة نت عن تفشى وباء الكوليرا بشكل مريع، فالمستشفيات تعرضت للنهب، والفرق الطبية غادرت المدينة، في حين تحولت المراكز الصحية إلى مجرد نقاط إسعاف أولي تفتقر لأبسط الأدوية والمعدات.
إعلانوفي حديثه للجزيرة نت، قال المتحدث باسم المقاومة الشعبية بولاية شمال دارفور أبو بكر أحمد إمام إن تقارير ميدانية تتحدث عن انتشار الكوليرا داخل معتقلات قوات الدعم السريع، و"أدى ذلك إلى وفاة مئات المحتجزين نتيجة غياب الأدوية والغذاء والاكتظاظ الشديد".
وأوضح إمام أن احتجاز بعض المعتقلين في غرف ضيقة أو حاويات غير مؤهلة يسرّع من تفشي الأمراض ويهدد حياتهم بشكل مباشر.
كما وثّقت فرق المقاومة -وفقا للتقرير الميداني الصادر في 7 ديسمبر/كانون الأول 2025- حالات يُعتقد أنه تم فيها التخلص من جثث الضحايا عبر الحرق. ووصفت هذه الممارسة بأنها "انتهاك صارخ للأعراف الإنسانية والقوانين الدولية" دون تأكيد من مصدر مستقل حتى الآن.
وفي تغريدة على صفحته الرسمية في فيسبوك، قال ممثل اليونيسيف في السودان شيلدون يت، عقب زيارته مخيم طويلة، "يصل الأطفال خائفين ومنهكين بعد فرارهم من العنف. تعمل اليونيسيف وشركاؤها بلا كلل لتقديم الدعم المنقذ للحياة للأطفال وأسرهم".
وبدورها قالت منظمة أطباء بلا حدود في السودان إن أكثر من 10 آلاف شخص فرّوا من الفظائع الجماعية التي تشهدها مدينة الفاشر والمناطق المحيطة بها، وصلوا إلى بلدة طويلة بحثا عن ملاذ آمن. غير أن الواقع الذي واجهوه كان قاسيا ومروّعا، حيث تحوّل ملاذهم الأخير إلى مشهد من المعاناة الإنسانية المتفاقمة.
ومنذ أكثر من عامين، تتحول الحياة في مدينة الفاشر إلى كابوس يومي مع انهيار شبه كامل للبنى التحتية والخدمات. فانقطاع التيار الكهربائي صار حالا دائما، وغابت شبكات الاتصالات التقليدية لتبقى أجهزة "ستار لينك" القليلة شريان اتصال هش مع العالم.
وتفاقمت المعاناة مع انعدام المواد الغذائية جراء الحصار وارتفاع أسعار المياه النظيفة إلى مستويات خيالية، في وقت توقفت فيه جميع المخابز ومولدات الكهرباء بسبب شح الوقود، مما حول مسألة البقاء إلى تحد مرير.
وفي خضم هذه الأزمة الشاملة، تأتي شهادة "م. ن. د"، وهو كفيف تم الإفراج عنه مؤخرا من معتقلات الفاشر، لترسم صورة أكثر قتامة للأوضاع داخل مراكز الاحتجاز.
وقال للجزيرة نت "إذا كانت الحياة خارج السجن صراعا من أجل الحصول على الماء والطعام، فإن الداخل سقوطا في هاوية من الإهمال المطبق".
وأضاف "هناك مرضى مصابون بالسكري وغيره من الأمراض المزمنة يُتركون دون أدوية أو رعاية. كانت الأصوات تتعالى طلبا للعلاج أو حتى مسكّنات الألم البسيطة، ولكن دون استجابة. كنا نسمع أنينهم يخفت تدريجيا حتى يتحول إلى صمت".
ورغم التحذيرات المتكررة من منظمات إنسانية وحقوقية، لم تُسجّل استجابة ملموسة من المجتمع الدولي. فعمال الإغاثة يؤكدون أنهم عاجزون عن الوصول إلى مدينة الفاشر بسبب غياب الضمانات الأمنية وإغلاق الممرات الإنسانية، مما يزيد من تفاقم الأزمة.
وحاولت الجزيرة نت التواصل مع قوات الدعم السريع للحصول على تعليق بشأن الاتهامات المتعلقة بالانتهاكات، إلا أنها لم تستجب حتى لحظة إعداد هذا التقرير.
إعلانومنذ اندلاع الحرب بالسودان في أبريل/نيسان 2023، تسببت المواجهات في أكبر أزمة نزوح في العالم، حيث تم تهجير نحو 13 مليون شخص من منازلهم، وفر أكثر من 4 ملايين إلى دول الجوار مثل تشاد ومصر وليبيا.
وبحسب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، هناك أكثر من 86 ألف سوداني مسجلين كطالبي لجوء أو لاجئين في ليبيا بزيادة قدرها 60 ألفا مقارنة بما قبل الحرب.
مرحلة جديدة
ويرى محللون أن سيطرة الدعم السريع على الفاشر تعكس تحولات في ميزان القوى داخل السودان، وتفتح الباب أمام سيناريوهات أكثر تعقيدا في المشهد السياسي والعسكري في البلاد.
وفي حديثه للجزيرة نت، يقول مدير برنامج شرق أفريقيا بمركز "فوكس للأبحاث" عبد الناصر سلم حامد إن سقوط الفاشر لا ينبغي النظر إليه بوصفه تحوّلا ميدانيا معزولا، بل علامة على انتقال السودان إلى مرحلة جديدة من الصراع، تتراجع فيها الدولة كمركز قرار واحد إلى صالح قوى مسلّحة تفرض وقائعها على الأرض.
ويضيف حامد، وهو خبير إدارة الأزمات والنزاعات، أن ما يجري في الفاشر اليوم يختزل ثلاثة مستويات للأزمة:
أولها المستوى الإنساني، إذ تحوّلت المدينة إلى فضاء للموت البطيء عبر الحصار وانهيار الخدمات. وثانيها المستوى السياسي، حيث باتت قوات الدعم السريع تمارس عمليا "حكم الأمر الواقع". أما المستوى الثالث فهو الإستراتيجي، إذ إن سقوط الفاشر بعد حصار طويل يرسل رسالة بأن ميزان القوة يميل لصالح من يستطيع تطويق السكان وإخضاعهم.ويشرح حامد أن خطر سقوط الفاشر لا يتوقف عند حدودها الجغرافية؛ فالمدينة كانت تاريخيا عقدة وصل بين شمال البلاد وغربه وجنوبه. ومع خروجها من يد الدولة، دخل السودان عمليا في وضع تتوزع فيه السلطة بين جزر مسلّحة، يقود إلى تفكك تدريجي لمفهوم الدولة المركزية.
ويشير الخبير ذاته إلى أن استهداف البنية السكانية للفاشر عبر النزوح الواسع وحرق الجثث لا يمكن قراءته فقط بوصفه فشلا في إدارة الأزمة، بل بوصفه جزءا من نمط أوسع لاستخدام المعاناة اليومية لإعادة رسم الخريطة الديمغرافية والسياسية.