قدمت شركات عالمية مثل غوغل ومايكروسوفت وأمازون خدمات الذكاء الاصطناعي لصالح "رفع القدرات التشغيلية" الخاصة بجيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة؛ وتم تخزين معلومات استخباراتية "لا نهائية" على خدمات أمازون لاستخدامها في الهجمات على غزة.
 
وكشف تحقيق لموقع "سيحا ميكوميت" حمل عنوان: "طلبية من أمازون.. هكذا تساعد شركات خدمات التخزين السحابي الجيش في غزة"، عن العلاقة العميقة بين هذه الشركات وجيش الاحتلال.



وأكد التحقيق أنه منذ بداية الحرب، قدمت الشركات السحابية "غوغل كلاود - Google Cloud"، و"مايكروسوفت أزور - Microsoft Azure"، وأمازون أيه دبلو إس - Amazon AWS"، خدمات التخزين وخدمات الذكاء الاصطناعي لوحدات الجيش.

وذكر أن هذا يظهر مما قالته قائدة وحدة الاستخبارات العسكرية المسؤولة عن البنى التحتية السحابية والحوسبة في الجيش راشيلي ديمبينسكي، في محاضرة لها، وهذه هي المرة الأولى التي يؤكد فيها ممثلو الجيش علنا أن الجيش يستخدم الخدمات السحابية لجوجل وأمازون ومايكروسوفت لتلبية الاحتياجات العسكرية في الحرب في غزة. 


وجاء هذا الاعتراف على خلفية احتجاج موظفي الشركات العملاقة في الولايات المتحدة ضد بيع الخدمات السحابية والذكاء الاصطناعي لـ "إسرائيل"، بدعوى أن النظام الإسرائيلي يستخدمها لشن هجمات مميتة على الفلسطينيين وانتهاك حقوق الإنسان.

وتتوافق تصريحات دمبينسكي مع التحقيق الذي أجرته كل من "تاشا لوكال" و"مجلة 972+"، بناءً على محادثات مع كبار المسؤولين في وزارة الحرب وصناعة الأسلحة الإسرائيلية والشركات السحابية ووكالات الاستخبارات. 



وقالت دمبينسكي وفي محاضرة ألقتها خلال مؤتمر "تكنولوجيا المعلومات للجيش الإسرائيلي - IT FOR IDF" في 10 تموز/ يوليو الماضي: إنه "مع بداية المناورة البرية في غزة في 27 تشرين الأول/ أكتوبر، كان هناك حمولة على ما وصفته بالسحابة العملياتية للجيش بسبب الكم الهائل من المستخدمين المضافين إليها، يتم تشغيل السحابة التشغيلية بواسطة وحدة MMARM، ووفقًا لمصادر أمنية والمتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، لا يتم تخزينها على خوادم الشركات المدنية، ولكن على خوادم مستقلة تابعة لشركة الجيش".

وتشمل "السحابة التشغيلية"، بحسب ديمبينسكي، من بين أمور أخرى، تطبيقات تسمح بتحديد الأهداف للقصف، وبوابة لعرض الطائرات بدون طيار الحية في سماء غزة، وأنظمة إطلاق النار والقيادة والسيطرة في السحابة التشغيلية تم تعريفها من قبلها بأنها "منصة وسيلة للحرب".

وكشفت أنه مع بداية الاجتياج البري "نفدت الموارد"، ولم يكن لدى الجيش مساحة تخزين كافية وقوة المعالجة الخاصة به، قائلة: "أدركنا أنه إذا لم نهتم بالأمر بسرعة، فسيظهر الازدحام والبطء، وفي الأسابيع الأولى من الحرب، حاولت شعبة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات حل المشكلة بنفسها: فقد تم إخراج جميع الخوادم المجانية من المستودعات ووضعها قيد الاستخدام، وتم إنشاء مركز بيانات آخر داخل الجيش، لكن ذلك لم يكن كافيا، وفي مواجهة هذا أدركنا أننا بحاجة إلى القيام بشيء آخر".

واعتبرت أن الحل الرئيسي للمشكلة، هو "الخروج إلى العالم المدني"، بحسب قولها، وسمحت الشركات السحابية بذلك وقام الجيش بشراء خوادم تخزين وقوة معالجة أثناء الحرب، بضغطة زر وحسب الحاجة، دون الالتزام بتخزين الخوادم فعليًا في مراكز الحوسبة التابعة للجيش الشركات السحابية.

איך אמזון, גוגל ומייקרוסופט עלו על מדים והתגייסו לשירות המלחמה בעזהhttps://t.co/q6SUaXCWoK — Haggai Matar (@Ha_Matar) August 4, 2024
والميزة الأهم التي قدمتها الشركات السحابية، كما شهدت ديمبينسكي، كانت قدرات الذكاء الاصطناعي المتقدمة التي وفرها مقدمو الخدمات السحابية الثلاثة للجيش، مشيرة إلى أنه "بالثروة الهائلة من الخدمات والبيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي، قد وصلنا بالفعل إلى نقطة تحتاج فيها أنظمتنا حقًا إلى ذلك". 

واعتبرت أن العمل مع جوجل وأمازون ومايكروسوفت هو "عالم رائع من مقدمي الخدمات السحابية مكّن الجيش من تحقيق فعالية عملياتية كبيرة جدا في قطاع غزة".

ولم تحدد دمبينسكي ما هي الخدمات التي تم شراؤها من الشركات السحابية، وكيف ساعدت الجيش، بينما أكدت مصادر دفاعية لـ "لوكال توك" أن الأنظمة السرية ومنظومات النيران، بما فيها بنك الأهداف، لم تنتقل إلى السحابة العامة، وبقيت في السحابة الداخلية للجيش. 

ومع ذلك، يكشف التحقيق أن الأنظمة التي ساعدت في القتال تم نقلها إلى السحابة العامة، بما في ذلك نظام استخبارات "AMN" واحد على الأقل، وأن خدمات الذكاء الاصطناعي لعمالقة السحابة تم بيعها إلى وحدات عسكرية، بما في ذلك وحدات سرية، بكميات غير مسبوقة منذ تشرين الأول، أكتوبر الماضي.

وصرح متحدث باسم الجيش الإسرائيلي أنه "في مؤتمر "IT FOR IDF، لم يُذكر في أي مرحلة يتم نقل المعلومات من السحابة التشغيلية إلى السحابة العامة، بينما يعمل الجيش الإسرائيلي بالتعاون مع جميع مقدمي الخدمات السحابية، وخاصة في إطار اتفاقية "نيمبوس"، ولا يتم نقل المعلومات السرية للجيش إلى مقدمي الخدمة المدنيين، وتبقى في شبكات الجيش المنفصلة".

#Hyperscale cloud services are directly being used by the #IDF in its ongoing war in Palestine.

It is primarily using #Amazon’s cloud service to store surveillance information on Gaza’s population, and also procuring AI tools from #Google and #Microsoft for military purposes. pic.twitter.com/W6BFj2ITzq — TruthGateOfficial (@TruthGateOff) August 8, 2024
وقال سبعة من مسؤولي المخابرات الذين خدموا في غزة منذ تشرين الأول/ أكتوبر إن التعاون بين الجيش وشركة أمازون وثيق بشكل خاص، وبدأ حتى قبل الحرب، إذ توفر شركة السحابة العملاقة للجيش الإسرائيلي مزرعة خوادم، حيث يتم تخزين المعلومات التي تساعد الجيش في الحرب.

وذكرت مصادر دفاعية إن نطاق المعلومات الاستخباراتية التي تم جمعها من مراقبة جميع سكان قطاع غزة كبير جدا بحيث لا يمكن تخزينها على خوادم الجيش، وشهدوا أن المعلومات المخزنة في السحابة "ساعدت في تأكيد عدد هجمات الاغتيال الجوية التي نُفذت في غزة خلال الحرب".

مشروع "نيمبوس"
يوفر مشروع "نيمبوس - Nimbus"، وهو عقد بقيمة 1.2 مليار دولار، الخدمات السحابية لجيش وحكومة الاحتلال، ما يسمح من خلال هذه التكنولوجيا بمزيد من المراقبة وجمع البيانات غير القانونية عن الفلسطينيين، وتسهيل توسيع المستوطنات غير القانونية على الأراضي الفلسطينية.

ويتكون المشروع من أربع مراحل مخطط لها: الأولى هي شراء وبناء البنية التحتية السحابية، والثانية هي صياغة سياسة حكومية لنقل العمليات إلى السحابة، والثالثة نقل العمليات إلى السحابة، والرابعة هي تنفيذ العمليات السحابية وتحسينها.

Joint statement from Amazon, Google, and Microsoft workers organizing with the No Tech For Apartheid and No Azure For Apartheid campaigns: pic.twitter.com/LWXANCz7yb — No Tech For Apartheid (@NoTechApartheid) August 6, 2024

وبموجب العقد الضخم، تم اختيار شركتي التكنولوجيا غوغل (Google Cloud Platform) وأمازون (Amazon Web Services) لتزويد وكالات الاحتلال الحكومية بخدمات الحوسبة السحابية، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، بحسب ما جاء في صحيفة "جيروساليم بوست" الإسرائيلية.

بهذا، يمكن استخدام خدمات الشركتين السحابية لتوسيع المستوطنات غير القانونية من خلال دعم بيانات ما يُسمى إدارة الأراضي الإسرائيلية "ILA"، إضافة لمراقبة الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة بما يعزز انتهاكاتها لحقوق الإنسان وتهجير الفلسطينيين.


ويعتمد جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية بالفعل على نظام متطور للمراقبة الحاسوبية، وتطويره من قبل غوغل سيؤدي إلى تفاقم الاحتلال العسكري الذي يعتمد على البيانات بشكل متزايد، بحسب موقع "ذا انترسيبت".

وقال أحد مهندسي البرمجيات في غوغل إنهم "قلقون من أن الموظفين لا يعرفون شيئًا عن المشروع مثلهم مثل عامة الناس، ويخشون من استخدام تكنولوجيا الشركة لقمع الفلسطينيين".

وأضاف في حديثه إلى الموقع دون الكشف عن اسمه "لقد أصبح الأمر بمثابة نقطة عار، نحن نعلم أن أحد مشاريع الجيش الإسرائيلي هو المراقبة الجماعية المستمرة لمناطق مختلفة من الأراضي المحتلة، ولا أعتقد أن هناك أي قيود على الخدمات السحابية التي تريد الحكومة الإسرائيلية شراءها مع تحليل البيانات الضخمة والتعلم الآلي ومجموعات أدوات الذكاء الاصطناعي من خلال السحابة؛ ولا أعتقد أن هناك أي سبب لافتراض أنهم لا يستهلكون كل هذه المنتجات لمساعدتهم على العمل على هذا الأمر".

تحليل المشاعر
بحسب وثائق تدريب ومقاطع فيديو مسربة من خلال بوابة تعليمية متاحة للعامة ومخصصة لمستخدمي مشورع نيمبوس، تقدم غوغل لحكومة الاحتلال مجموعة كاملة من أدوات التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي المتاحة من خلال منصة غوغل كلاود. 

وتشير الوثائق إلى أن الخدمات الجديدة ستمنح الاحتلال قدرات للكشف عن الوجه، وتصنيف الصور الآلي، وتتبع الكائنات، وحتى تحليل المشاعر مع تقييم المحتوى العاطفي للصور والكلام، ويعد الأخير شكلا من أشكال التعلم الآلي المثير للجدل بشكل متزايد وفاقد للمصداقية. 

وتدعي غوغل أن أنظمتها يمكنها تمييز المشاعر الداخلية من وجه الشخص وأقواله، وهي تقنية مرفوضة عادة باعتبارها زائفة، ويُنظر إليها على أنها أفضل قليلا من علم فراسة الدماغ. 

وفشلت تقنية غوغل عند اختبارها في تصنيف ابتسامة الرجل الضاحك الشهير على مدخل "لونا بارك" في سيدني الأسترالية على أنها تعكس مشاعر إنسانية، كما قامت بتحليل الموقع كمعبد ديني بنسبة يقين 83 بالمئة مقابل 64 بالمئة فقط لمدينة ملاهي ترفيهية. 




عقب ذلك، كشف موظفون في غوغل، دون الكشف عن أسمائهم، عن "ذعرهم" من تحويل تقنية الذكاء الصناعي الخطيرة، إلى أداة عسكرية بيد جيش الاحتلال، رغم ضعف نتائجها وهامش الخطأ الكبير فيها، الذي سيتسبب بنتائج مرعبة على الأرض.

كما حذر تقرير "ذا انترسيبت" من أن غوغل الواثقة بقدرة الحوسبة على تطوير نظامها الجديد، تسعى لإقناع حكومة الاحتلال باختباره ميدانيا، وهو ما يعني أن الشركة تريد تطوير تقنياتها ومعالجة أخطائها على أرواح الفلسطينيين ودمائهم.

وأظهرت مجموعة واسعة من الأبحاث أن فكرة "جهاز كشف الكذب"، سواء كان جهاز كشف الكذب البسيط أو التحليل القائم على الذكاء الاصطناعي للتغيرات الصوتية أو إشارات الوجه، هي "علم تافه". 

في ظل ذلك، بدأ ممثلو غوغل واثقين من أن الشركة يمكن أن تجعل مثل هذا الشيء ممكنا من خلال القوة الحاسوبية المطلقة، بينما يقول الخبراء في هذا المجال إن أي محاولات لاستخدام أجهزة الكمبيوتر لتقييم أشياء عميقة وغير ملموسة مثل الحقيقة والعاطفة هي محاولات خاطئة إلى حد الخطر.

مشروع "سيريوس"
وكشف العقيد الاحتياطي آفي دادون، الذي كان حتى عام 2023 رئيسا لإدارة المشتريات في وزارة الحرب الإسرائيلية، وكان مسؤولا عن مشتريات الجيش بمبالغ تزيد عن عشرة مليارات شيكل سنويا، أنه جرى الحفاظ على الاتصال مع عمالقة الشركات السحابية.

وقال دادون لـ "Chaseh Local": "بالنسبة لهم (يقصد الشركات السحابية)، يعد هذا أقوى تسويق، ما يستخدمه الجيش الإسرائيلي كان وسيظل من أكثر المنتجات والخدمات مبيعا في العالم، بالنسبة لهم هو مختبر، بالطبع هم يريدون ذلك".

 وكشف أنه عقد العديد من الاجتماعات مع ممثلي الشركات السحابية مثل أمازون ومايكروسوفت وجوجل، في "إسرائيل" وفي رحلات إلى الولايات المتحدة، وأنه كان على اتصال معها بشأن مشروع سري وأكثر حساسية بكثير من نيمبوس، المعروف بمشروع "سيريوس - Sirius"، وهو الذي يتحقق بعد.




وأوضح أن الهدف من المشروع الذي نشرته صحيفة "غلوبز" الإسرائيلية عام 2021 هو إنشاء سحابة أمنية للنظام الأمني على خوادم الشركات المدنية، وهو عبارة عن "سحابة أمنية خاصة ومتميزة ومخصصة فقط للجيش الإسرائيلي ووزارة الدفاع".


 واستمرت المناقشات بشأن المشروع لأكثر من عقد من الزمن حول الشكل الذي ستبدو عليه، ومن المفترض أن تكون هذه السحابة، وفقًا لثلاثة مصادر أمنية، منفصلة عن الإنترنت، حيث سيتم بناؤها على البنية التحتية لمقدمي الخدمات الرئيسيين، مع السماح لجميع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية باستخدامه للأنظمة السرية.

وبحسب تحقيق "سيحا ميكوميت" تظهر الأدلة على تحول الجيش إلى الشركات السحابية أيضا من إعلان وظائف نُشر في شهر أيار/ مايو الماضي، على موقع جيش الاحتلال لوظيفة تعتمد على "العمل والتدريب مع كبار مقدمي الخدمات السحابية".

وجاءت هذه الوظيفة لصالح "التعامل مع ترحيل الأنظمة إلى السحابة العامة "نيمبوس"، ومن ثم "تدريب الأنظمة الأساسية التشغيلية للسحابة الأمنية"، كجزء من مشروع سيريوس، كما تم مؤخرًا نشر إعلانات وظائف مماثلة على موقعي الشاباك والموساد.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة سياسة عربية مقابلات سياسة دولية غوغل الإسرائيلي غزة أمازون مايكروسوفت إسرائيل غزة غوغل مايكروسوفت أمازون المزيد في سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الخدمات السحابیة الجیش الإسرائیلی الذکاء الاصطناعی الشرکات السحابیة مقدمی الخدمات على خوادم من خلال بما فی فی غزة

إقرأ أيضاً:

كيف أصبحت المقاومة البديل الذي لا يُهزم؟

أمام الهزائم العسكرية والسياسية للأنظمة العربية، كانت الشعوب العربية تفرز أدواتها في المواجهة. فمنذ ثلاثينيات القرن العشرين تحولت القضية الفلسطينية من رخاوة الأنظمة إلى صلابة التنظيمات.

ففي المواجهة لم تسقط الزعامات والأيديولوجيات فقط، بل سقطت أيضا الجيوش النظامية ومعها سقط دورها في التحرير. وخلف عجز الأنظمة كانت تتراءى حماسة الشعوب. وخلف ضعف الجيوش كانت تبرز جسارة القوى الضاربة.

فكأن التنظيمات السياسية والأيديولوجية قد جاءت لملء الفراغ. فقد أحيت نكبة 1948 في الأمة مفهوم الجهاد. وحررت هزيمة 1967 المبادرة الشعبية وأيقظت مفهوم التحرير. وفجرت معاهدة كامب ديفيد 1978 حركات المقاومة مع بداية الثمانينيات. وعلى طول تاريخ القضية الفلسطينية، كانت تتعايش أطروحتان: واحدة للمقاومة، وأخرى للسلام.

النكبة

لقد وجدت الجامعة العربية نفسها بعد بضع سنوات من تأسيسها أمام أصعب اختبار لها: القضية الفلسطينية. لم يكن تأسيسها من أجل تحرير فلسطين، بل كان محاولة بريطانية لتجاوز ضغائن الخديعة البريطانية للشريف حسين.

فكان ميلاد الجامعة تعويضا عن دولة الوحدة بوجهيها القومي والإسلامي. ومن ثم لم تكن فلسطين على جدول أعمال تلك المنظمة الإقليمية الناشئة. ولا شك في أن عجز المنظمة وأنظمتها على معالجة المسألة منذ بواكيرها قد دفع نحو تدويل القضية. فكان قرار التقسيم نوفمبر/ تشرين الثاني 1947 حجر الأساس للكيان الغاصب. لتندلع بعده إحدى أعتى المواجهات.

قررت الحكومات العربية في اجتماع "العالية" 1947 أن تكوّن فصيلا شبابيا حسن التدريب والأداء. وتولت جامعة الدول العربية تأسيس "جيش الإنقاذ" بقيادة فوزي القاوقجي. ولكن الضغط البريطاني كان كفيلا بإسقاط ذلك المشروع. وهو المصير نفسه الذي لقيته لجنتهم العسكرية بقيادة "طه الهاشمي" واللواء إسماعيل صفوت باشا.

إعلان

وحتى النجاحات التي حققتها تلك الجيوش في الجولات الأولى للصراع ذهبت أدراج الرياح بفعل المناورات الغربية (الهدنة الأولى والثانية). فكانت نكبة 1948 فاتحة الهزائم العربية. إذ لم تكن الحكومات العربية في حجم القضية.

فما بين العجز الذاتي والارتهان للقرار البريطاني والخيانة الصريحة، كانت الحكومات العربية تُسقط من حسابها أي مواجهة جدية للأطماع الصهيونية في فلسطين، وتتنصل من مسؤولياتها القومية والإسلامية.

فقد خضعت أغلب الحكومات العربية لإرادة الغزاة. وظلت "تستجدي الحلول من القوى الإمبريالية التي كانت ولا تزال تشكل رأس حربة في أزمة القضية الفلسطينية".

ففلسطين لم تكن "المحرك الرئيسي لسياسات الدول العربية، بل كان الدافع وما يزال هو تأمين الأنظمة الحاكمة في الدول الوطنية في مرحلة ما بعد الاستعمار". وتلك الحسابات كانت السبب المباشر في تأخير الاستجابة لداعي الجهاد في فلسطين.

التنظيمات الشعبية ونقد الدولة

أمام عجز الأنظمة العربية كانت التنظيمات قبل النكبة وبعدها تدخل على خط الصراع. فكتب ميشال عفلق سنة 1946 يقول: "لا ينتظر العرب ظهور المعجزة: فلسطين لا تنقذها الحكومات بل العمل الشعبي". وساد اعتقاد لدى حسن البنا أن الأنظمة العربية ليست جادة في مقاومة الاحتلال.

وأكد كامل الشريف "أنه لا خير يرجى في هذه الحكومات". فالعوائق أو "المصائب" أو "العبث" الذي يجد ترجمته في فساد أنظمة الحكم القائمة، وهيمنة الاستبداد السياسي، واختلاف الدول العربية فيما بينها… كل تلك العوامل في تضافرها كانت "كافية لإيقاع الهزيمة".

وقد كان نقد الموقف العربي الرسمي من القضية الفلسطينية مقدمة لسحب القضية من الأنظمة ووضعها بين أيادي الفعاليات الشعبية المدنية والعسكرية. ففي فلسطين بادرت "الهيئة العربية العليا" برئاسة الحاج أمين الحسيني بتشكيل قوات "الجهاد المقدس" بقيادة عبدالقادر الحسيني.

وخلال الأشهر الخمسة الأولى للحرب تمكنت تلك القوات من تكبيد العصابات الصهيونية خسائر فادحة. ولكن مع دخول جيوش الدول العربية فلسطين 15 مايو/ أيار 1948 "ظهرت سياسة إقصاء الفلسطينيين عن ميادين المعركة ومنع الأموال والأسلحة عنهم".

وقد جاء تقرير عبدالقادر الحسيني للجامعة العربية في أبريل/ نيسان 1948 يقطر مرارة وأسى بسبب خذلان لجنتها العسكرية التي ماطلت في إمداده بالمال والسلاح. وفي ذلك التقرير حمّل الجامعة مسؤولية ضياع فلسطين. ليستشهد بعدها بيومين في معركة القسطل.

أما عربيا فقد زحف المتطوعون العرب نحو فلسطين. وبرزت في الأثناء كتائب الإخوان المسلمين كقوة وازنة في الصراع. فرغم تضييق السلطات، نجحت طلائع الإخوان في التسلل إلى داخل فلسطين، حيث تمكنت قوة من المتطوعين بقيادة أحمد عبدالعزيز من الوصول إلى خان يونس. والتحقت بهم قوة أخرى من شرق الأردن بقيادة عبداللطيف أبوقورة. ثم حلت قوة أخرى من سوريا بقيادة زعيم الإخوان مصطفى السباعي.

وفي غزة استقرّت قوة البكباشي عبدالجواد طبالة. وعلى أرض فلسطين أدارت تلك الطلائع معارك ضارية ضد العصابات الصهيونية. وقد علق هيكل على تلك الاشتباكات بالقول: "لقد أثبت بعضهم نفسه تحت نيران القتال". وهكذا فقد كانت الجماهير العربية خلال النكبة متقدمة على حكامها.

إعلان النكسة

لقد أجهزت قوات الاحتلال في صباح الخامس من يونيو/ حزيران على القوات الجوية المصرية بضربة خاطفة. فدمرت مئات الطائرات المصرية في قواعدها. وضربت المطارات وعطلت قواعد الصواريخ أرض-جو.

مشهد أجمله أنور عبدالملك في قوله: "كانت القوات المصرية المسلحة قد ضُربت بشكل خطير، واحتلت سيناء، وشلت قناة السويس، ومُحي سلاح الطيران عمليا كوحدة مقاتلة، وتفجرت أعمال الخيانة والإجرام والتآمر، وانتشرت في كل مكان". كل ذلك في سويعات معدودات. وبإخراج القوات الجوية المصرية من الخدمة، فقد تركت بقية القوات في العراء من دون أي غطاء جوي.

وجاء قرار الانسحاب غير المدروس من سيناء ليزيد من الكلفة البشرية للهزيمة. ومع انهيار الدرع الواقي الذي كان يحمي عمق الأمة، فقد أصبح عمق الجغرافيا العربية – فضلا عن أطرافه- مهددا. فزحفت قوات العدو نحو سيناء بعد أن دمرت بقية القوات المسلحة المصرية.

واندفعت نحو الضفة الغربية فاحتلتها واستولت على القدس الشرقية بعد أن انهارت الدفاعات الأردنية في اليوم التالي. وكذلك فعلت في قطاع غزة. أما القوات التي اتجهت نحو سوريا فقد "تمكنت من احتلال مرتفعات الجولان دون مواجهة أي مقاومة تتناسب مع القوات العسكرية الضاربة المحتشدة هناك".

ولم تضع الحرب أوزارها إلا بعد أن أحكمت قوات الاحتلال سيطرتها على مساحات جديدة. وحسبنا من القراءات لتلك الكارثة المدمرة وصف هشام شرابي للهزيمة بـ "أيام حزيران السوداء". فكيف انعكست الهزيمة على الاختيارات النضالية للفلسطينيين؟

مثلت هزيمة 1967 منعطفا إستراتيجيا في الوعي السياسي الفلسطيني. وكان من نتائج الهزيمة "ظهور المقاومة الفلسطينية المسلحة وتعاظمها، وبروز الهوية الوطنية الفلسطينية التي قررت أن تأخذ زمام المبادرة بعد أن تبين لها مدى الضعف العربي". فقد قضت الهزيمة على إيمان الفلسطينيين بالحكومات "التقدمية" التي كانت معقد الآمال. "وأثبتت فشل الأنظمة العربية وعجزها عن تحرير فلسطين".

وينقل يزيد صايغ عن خليل الوزير أنه كان يرفض "الاعتماد على الدول العربية وجيوشها". وهكذا فقد ساعدت تلك البيئة على الاعتراف بالحركة الوطنية الفلسطينية كلاعب أساسي في الشرق الأوسط.

ويحسب للحركة أنها نجحت في "فرض نفسها كمعبرة عن الطموحات الوطنية للشعب العربي الفلسطيني". وهو ما أسهم في تشكيل الرؤى السياسية والميدانية للمنظمة. ففي المستوى الأيديولوجي قلبت حركة فتح ذلك الشعار الذي لطالما تغنى به القوميون العرب "الوحدة طريق فلسطين" إلى شعار "فلسطين طريق الوحدة". شعار ستتأسس عليه الكثير من التحولات التكتيكية والإستراتيجية. ومنذ أن استعادت منظمة التحرير المبادرة، اختارت الاستقلال السياسي والتنظيمي عن الجامعة العربية وأنظمتها.

وأما ميدانيا فقد بدأ مفهوم العمل الفدائي يتبلور كبديل من الحروب النظامية. وعلى تلك القاعدة كانت انطلاقة الثورة الفلسطينية مطلع 1965. وساد إجماع لدى أغلب الفصائل الفلسطينية مفاده أن تحرير الأرض لا يكون إلا عبر الكفاح المسلح. وهو المضمون المركزي الذي تبناه "الميثاق الوطني الفلسطيني".

وتفجرت سجالات سياسية حول نظرية التحرر الوطني من خلال دراسة النظريات الثورية وتجارب الشعوب المستعمرة. وهو ما أنتج مجموعة من الأدبيات دارت أغلبها حول حرب الشعب، وحرب التحرير الشعبية وغيرها.

وفي ضوء تلك الأدبيات جرى تأسيس عدة قواعد للعمل الفدائي في أغلب دول الطوق. وكانت ملحمة الكرامة 1968 ترجمة عملية لتلك التوجهات الجديدة. وهو ما زاد في ترسيخ النهج المقاوم حتى أصبح "الكفاح المسلح مصدر الشرعية السياسية ورمز الهوية الوطنية، والمادة الجديدة للمجتمع الفلسطيني المتخيل".

والحقيقة أن الأداء الفصائلي بعد الهزيمة لم يقطع الصلة تماما مع الأنظمة الراديكالية. فغالبا ما كانت التصورات الثورية تأخذ بعين الاعتبار الظروف التي تمر بها الأنظمة. ولكن رياح يونيو/ حزيران بقدر ما أذكت نار الاستنزاف، فقد هيأت للعبور.

إعلان حرب العبور

لقد عرفت مصر بعد وفاة عبدالناصر تحولات سياسية مهمة. فالمناخات الراديكالية في مصر والعالم العربي بدأت في الضمور لصالح اتجاه عربي ميّال إلى "الاعتدال" في مقاربة الصراع. وكانت القناعة الحاصلة لدى السادات أن "تدمير الدولة اليهودية هدف غير قابل للتحقيق". وفي تلك السياقات لم تكن حرب العبور إلا عملية جراحية القصد منها الإعداد لمسرح التسوية.

مثلت حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 أول انتصار مصري على قوات الاحتلال بعد ثلاثة حروب متتالية. فقد بدأ الهجوم المصري ظهيرة السادس من أكتوبر/ تشرين الأول على مواقع العدو في سيناء قصد تحييدها وحرمانها من أي قدرة على الرد أو الحركة قبل تحقيق العبور إلى شرق القناة. فكان "وقع المفاجأة بنوعيها الإستراتيجية والتكتيكية قد تحقق إلى نهايته".

ومنذ ليلة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول عبرت من الجيش المصري نحو شرق القناة خمس فرق مشاة ومئات من الدبابات وعدد من كتائب الصواريخ وأسلحة إسناد أخرى.

استبشر الفلسطينيون بتلك التطورات الميدانية. واعتبرت منظمة التحرير الفلسطينية أن إعلان الحرب على دولة الكيان كان "فرصة عظيمة أمام الفدائيين الفلسطينيين لتصعيد فاعليتهم القتالية".

ولكن العبور لم يعقبه تطوير للهجوم المصري مثلما خُطّط له. فقد جرى الالتفاف على الانتصار المذهل للمصريين بداية الحرب. ومن خلال "الثغرة" التي أحدثها جيش الاحتلال في جدار المواجهة، بدأ في إحراز تفوق ملموس غرب القناة.

وكشفت تلك الأيام الصعبة عن انعدام التناغم بين المؤسسات. فقد أربك تدخل السادات في إدارة المعركة حسابات العسكر. وحكم على حرب العبور ألا تتجاوز خط العبور.

لقد آل النصر إلى لهاث لا ينقطع وراء سراب "السلام". وانتهى تحطيم جدار بارليف 1973 إلى هدم "جدار الكراهية الحديدي" 1977، مثلما كان يتوهّم السادات. فعوض البناء على "العبور" اندفع العرب نحو التسوية.

وقد أدرك كيسنجر مبكرا أن الإجراءات العسكرية التي اتخذها المصريون سوف "تؤدي آجلا أو عاجلا إلى مفاوضات سياسية". والحق أن مآلات العبور لم تكن مثل مآلات النكبتين. فهي لم تدفع إلى السطح بقوى جديدة تتناقض رأسا مع تصورات الأنظمة العربية للقضية.

بل إن كامب ديفيد قد فتحت الباب على مصراعيه نحو التسوية. فهي لم تكن إلا بداية الهرولة العربية نحو الصلح والاعتراف والتفاوض مع دولة الاحتلال.

وهنا تقول حقائق التاريخ إن منظمة التحرير الفلسطينية قد أضحت متماهية مع الرسمية العربية. وإن عرفات لم يكن مختلفا عن السادات. فكلاهما كان ينشد "التسوية". وإن اختلفت التكتيكات والإستراتيجيات.

لقد ظلت الهوة تتسع بين الأنظمة العربية وشعوبها في التعامل مع القضية الفلسطينية. فكلما وهنت الأنظمة قامت الشعوب تنشد التحرير من خلال المقاومة. فمن نكبة 1948 ولدت القوى الشعبية القومية والإسلامية. ومن نكسة 1967 صلب عود منظمة التحرير الفلسطينية.

ولكن حرب العبور كانت فاتحة للتسوية المعممة. تسوية ستستمر مفاعيلها من كامب ديفيد 1977 حتى أوسلو 1993، مرورا بقصر الصنوبر بالجزائر 1989. وردا على مشاريع التسوية كان أسلوب آخر من المقاومة ينضج على مهل.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • «مكتبات الشارقة» تسلّط الضوء على تجارب شعرية إماراتية
  • غوغل تتعرض للتغريم لانتهاك خصوصية أرجنتيني
  • كيف أصبحت المقاومة البديل الذي لا يُهزم؟
  • تجارب مبشرة على حقنة تنهي معاناة فقدان السمع
  • غضب شعبي يعم ساحل حضرموت وسط شلل في الخدمات وصمت حكومة المرتزقة
  • بـ3 ملايين ريال.. إسناد مشاريع تنموية في الداخلية لتعزيز كفاءة الخدمات
  • هواوي تطلق الإصدار 8.5 من الحزمة السحابية في شمال أفريقيا
  • بـ 3 ملايين ريال إسناد مشاريع تنموية بالداخلية
  • تصاعد التوتر التركي الإسرائيلي.. أردوغان يتحدى مشاريع الاحتلال في سوريا
  • أجمل مدن الملاهي والألعاب.. تجارب ترفيهية لا تنسى في هدا الطائف