نحنُ جيلٌ يشدُّه الطَّربُ، طربنا بأحْزاننا، وأشدّ ما حوّلنا هزائمنا وخساراتنا وانتكاساتنا وأملنا إلى طرب، إلى رقصةٍ أحيانًا، إلى نغم شجيّ حَزنٍ أحيانًا أخرى، إلى تقطُّعات صوتِ شاعرٍ تتحشرج كنزْعٍ أخير. طرِبْنا في هزائمنا وغنّيْنا جُرُوحَنا، نكسةً، هزيمةً، ألمًا، مجزرةً، مذْبَحةً. في النكسة 1967 طربْنا لأغنية عبد الحليم حافظ «عدّى النهار»، كتبها الأبنودي وصاغ ألحانها بليغ حمدي.
في صبرا وشاتيلا تألّمنا، كنتُ صغيرا، ورأيتُ الدبابات الإسرائيلية تَطَسُ وتدوس رُكام البشر، فغنّى أصحابنا في «الغيوان» صبرا وشاتيلا مجزرة الكبيرة، وأبدع العربي باطما وصحبه، فأطْرَبَنا، نحنُ الذين نريد أن نحوِّل ألمنا، جرحنا، أغنيةً، كلمةً، لحنا. وقْتها كان أثرُ العربي باطما المغربي، من فرقةٍ موسيقيّة نكرة، لا يُماثل أثر عبد الحليم، ولا أثر فيروز، ولكنّه وصَل العالم بقوله: يا عالمُ، فيك القُتَّال، وجائزة، «وفيك الحقْرة (الاحتقار) فائزة، ومن كلّ ماضٍ أحكام»، ولن تجد تمثيلا يُمكن أن يُقنعك، لمجزرة صبرا وشاتيلا سوى أغنية «ناس الغيوان» الذين وصفوها «بالمهزلة الكبيرة». تراكُمٌ من أغانٍ تهزّنا، نحن أجيال الهزائم، وقد تُبكينا أحيانا، وقد تُشجينا، ولكنّنا نفتقد الفرح، نفتقد الطربَ المرح. لقد حفّزني المغنّي المُطرب لطفي بوشناق بعد أن سمعت رائعته «أجراسُ العودة»، بصوْته، وبصوت رلى عازر، التي كتبها الشاعر السوري باقتدار عماد الدين طه، على تذكُّر صلة الكلمة باللحن، وصلة الكلمة واللحن بالألم، وصلة الطرب عندنا بالوجع، كلماتُ الشاعر التي تلقّفها المتذوِّقُ الفنّان لطفي بوشناق، وأدخلها في لحن رائقٍ مناسب، وغنّاها هو كأحسن ما يكون الغناء، تقول: «أجراسُ العودةِ إنْ قُرِعَتْ، أو لمْ تُقْرَعْ فلِمَ العجلةْ؟ / لو جئنا نقرعها حالا، كانتْ «دُمْ تكُ» كالطبلةْ/ فالعُرْبُ بأخطرِ مرحلةٍ، وجميع حروفِهمُ عِلّةْ/ أغرتهم كثرتهمْ لكنْ، وبرغمِ جموعِهُمُ قِلَّةْ/ وبوادي النّملِ إذا عَبَروا، سَتموتُ مِنَ الضحكِ النّملةْ». وهي في الأصْل مُستقاةٌ من أغنية لفيروز بعنوان «الآن
الآن وليس غدا»، غنّتها قصيدةً للشاعر سعيد عقل ولحّنها الأخوان الرحباني، تقول: «سيفٌ فَلْيُشهَر في الدنيا/ ولتَصْدَعْ أبواقٌ تصدعْ/ الآنَ الآنَ وَلَيسَ غداً/ أجراسُ العَودةِ فَلْتُقرعْ/ أنا لا أنساكِ فلسطينُ/ ويشدُّ يشدُّ بِيَ البُعدُ/ أنا في أفْيائِكِ نِسرينُ/ أنا زهرُ الشوكِ أنا الوردُ/ سَنَدُكُّ نَدُكُّ الأسوارا/ نَسْتَلْهِمُ ذاكَ الغارْ/ ونعيدُ إلى الدارِ الدارا/ نمحو بالنارِ النارْ/ فَلْتَصْدَعْ، فَلْتَصْدَعْ/ أبواقٌ أجراسٌ تُقْرَعْ/ قد جُنَّ دَمُ الأحرارْ»، وهي أغنيةٌ مُعْضِلةٌ، أثارت ثائرة الشعراء، ودفعتهم إلى البناء عليها. والقول الحقُّ، الأجودُ، هو الذي يُلْهم اللاّحقين، ويبعث فيهم رغبةً في القول. عندما قالت فيروز «الآن الآن وليس غدا» أجابها نزار قبّاني بقوله: «غـنّت فيروزُ مردِّدة / آذان العـُرب لها تسمع / الآنَ، الآنَ وليس غداً/ أجراسُ العـَودة فلتـُقـرَع / عـفواً فيروزُ ومعـذرة / أجراسُ العَـوْدةِ لن تـُقـرَعْ»، وأجابها أيضا البرغوثي بقوله: «عـفواً فيروزٌ ونزارٌ/ أجراسُ العـَودةِ لن تُقـرَع / مِن أينَ العـودة، إخـوتـنا/ والعـودة تحتاجُ لإصبَع / والإصبعُ يحتاجُ لكـفٍّ/ والكـفُّ يحتاجُ لأذرُع / والأذرُعُ يَلزمُها جسمٌ/ والجسمُ يلزمُهُ مَوقِـع / والمَوقِعُ يحتاجُ لشعب / والشعـبُ يحتاجُ لمَدفع / والمدفعُ في دِبر رجال / في المتعة غارقة، ترتـَع / والشعبُ الأعزلُ مِسكينٌ/ مِن أينَ سيأتيكَ بمَدفع؟!». أجراسُ العودة التي ابتدأها سعيد عقل وخطّ ملامحها، أثارت الموسيقيين والشعراء، فكان غناؤها وكان الجواب عليها شعرا ممّن ذكرنا من الشعراء. يُولِّدُ الشعرُ الشعرَ، ويُحفِّز الشعر النّغمَ والموسيقى، ولقد ولّى زمنٌ كان فيه اللّقاءُ بين الشعراء والموسيقيين، بين المبدعين على اختلاف أصنافهم، حيث كانت تُدَارُ حواراتٌ بين اللاّعبِ بالكلمات، واللاّعب بالأنغام والأصوات. يُحرّكنا النّغم، وهو القادرُ على تحريك سواكننا، وبعْث الموات منها، وعلى حدّ قول حُجّة الإسلام أبي حامد الغزالي، فـ»من لم يحرّكه الربيعُ وأزهاره، والعودُ وأوتاره، فهو فاسدُ المزاج ليس له علاج»، ونحن شعوبٌ تُحرّكنا الموسيقى، ونرقص «الدبكة» على آلامنا، على مآسينا. فهل ما زلنا نَطربُ، وهل ما زالت الكلماتُ تفعلُ فينا فعلَها، وتُحيينا. عندما كُنتُ يافعا، كنت أظن -وبعضُ الظنّ إثمٌ- أنّ الشعر فعلٌ، وأنّنا ونحنُ ننشدُ الأغاني في حفلة لمارسيل خليفة في الثمانينيات من القرن العشرين، أو ونحن ننشد مع الشيخ إمام أو ونحن نطرب مع ناس الغيوان أو جيل جيلالة أنّنا نصنع عالما جديدا، أنّنا نغيّر الكون، فلا الكون تغيّر، ولا عالم صُنِع، ولكن فقدنا طرب المآسي، غلبت الإحنُ حتّى بُحَّ الشاعر، وصمت الملحّن وتوقّف الشادي، فأثر الواقع صار أشدّ إيلاما، أشدّ تخييلا ممّا يُمكن أن يخيَّله شاعر. عذرا سعيد عقل، وهذرا فيروز، وعذرا الأخوان الرحباني، لا جرس لعودة.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
أغنية: الدبيبة على استعداد أن يحرق طرابلس مقابل عدم خروجه من السلطة
قال عبدالعزيز أغنية، الباحث السياسي، إن رئيس حكومة الوحدة المؤقتة عبدالحميد الدبيبة على استعداد أن يحرق طرابلس كاملة مقابل أن لا يخرج من السلطة، مشيرا إلى أن الجميع شاهد المظاهرات الحاشدة التي خرجت ضده وضد حكومته بجانب استقالات المسؤولين في حكومته استجابة لرغبة الجماهير لكنه لم يستجب لأحد.
وأضاف “أغنية”، في تصريحات لتلفزيون المسار، إن رئيس المجلسي الرئاسي محمد المنفي ظل صامتا في وضع المتفرج رغم الأحداث التي شهدتها البلاد، مشيرا إلى أن الأجهزة والمؤسسات الموجودة في ليبيا ليس لها قرار، وأن القرار الحقيقي الآن في يد الشعب.
وشدد على أن الجميع لا يزال يعول كثيرا على الشعب الليبي، الذي لا يمتلك من المؤسسات المنتخبة الشرعية سوى مجلس النواب سواء رضينا به أو رفضناه أو انقسمنا عليه أو كانت لنا عليه بعض الملاحظات، والتي تولد منه مجلس الدولة، مشيرا إلى أنهما يجب عليهما الخروج بآلية للانتقال بالبلد إلى بر الأمان.
وتابع، لو استطاع الشارع أن ينتفض ليفرز من ذاته قيادات تتحدث وتتحاور مع مجلس النواب، الذي لديه اتفاقات مع مجلس الدولة، مؤكدا أنه مجلس الدولة وقوى الأمر الواقع لو خافت من الشارع وانتفاضته تستطيع أن تسكت الصوت المعارض في مجلس الدولة، الذي يضم عددا من الأعضاء لديهم رغبة في الاتفاق مع البرلمان، موضحا أن مجلسي النواب والدولة هما الوحيدين اللذين يستطيعان أن ينتجا حكومة جديدة موحدة تتولى إدارة المرحلة الانتقالية.