يتركَّز فعل السرد في رواية «طبول الوادي»(1) للروائي العماني محمود الرحبي حول شخصية سالم، الشاب الواقع تحت سلطة الأب وصرامته والراغب، من زاوية أخرى، في الحرية والانعتاق من هذا الطوق الأبوي القاسي. إنها حياة منذورة للخوف الصاخب الممزوج بالأمل الطافح والآمال الخادعة، تختلط فيها أدخنة الرغبات بالطبول التي تقرع ما بين «وادي السحتن»، حيث مشيخة الأب المكان السرمدي لممارسة كل أشكال التّسلُّط و«وادي عدي» الذي يَتَعَيَّنُ وصفه بأنه الملاذ الآمن المجهول الذي يحتضن ولادة سالم الثانية.

رواية «طبول الوادي» تنهضُ بقدرتها التخييلية وتعدد أصواتها وحواراتها، وأيضا بمخيالها الاجتماعي المازج بين الحكي الكرنفالي والأغاني العمانية الشعبية المفعمة بروح الإيقاع وجماليات البناء، إضافةً إلى كثافة السرد وشعريّة اللغة والأسلوب، وهي كلها علامات دالة تُؤَمِّنُ للروائي إمكانية دمج «تلك الأفكار في صلب الرواية لفتح منافذ أخرى للحوار يتعين فيها الأفق السردي التخييلي بوصفه نقطة ارتكاز أساسية للتعبير عن الانشغالات والآمال التي قد لا تستوعبها المفهومات والمقولات النظرية»(2)، ومن هنا، فالمتّأمل في مسار الرواية المشدود للرّد وفعل الرّد، وتمثيل العلائق الاجتماعية في هشاشتها من جهة، وتصلُّبها وقوتها من جهة أخرى، سيلمس فعالية التجارب الإنسانية في خلق دينامية داخل نسيج أي نص روائي.

ووجب التشديد ها هنا على أن «الكاتب إذا لم يختر الهامش، ستفقد كتابته قدرتها على التحرر والنقد، وسيصبح صوتا من أصوات عشيرة ما، وحتى إن كانت هذه العشيرة هي الجماعة البشرية التي يلتقي معها في الرأي والموقف، فإن المسافة التي تسمح بالنقد تبقى أساسية»(3)، وعلى هذا الأساس، فإن سالم هو الشخصية الأكثر تمثيلا للصوت المتحرّر الدنيوي المقاوم للشرط الاجتماعي الأبوي المُتَصَلِّب. يقول السارد: «فكَّر كذلك، في حرية التدخين، يستطيع الآن أن يدخن من دون أن يراقب مسار دخان سيجارته، إلى أي نافذة سيتسلل، أو في أي فتحة أنف سيسقط، أسيطير الدخان إلى الأعلى ويتبدد أم أنه سيراوغ بخبث ويسقط فوق رأس المارة؟ ولأنه حر فلم يشعر بضرورة البحث عن سيجارة. يمكنه أن يفعل ذلك مع أي كائن يدخن في الطريق، أن يطلب منه عودا ليدخنه كما فعل في طريقه إلى قمة الجبل، فلا تنقصه الجرأة ولكن هناك وقت لكل شيء»(ص/ 76)، والواقع أن هذا المنظور التحرري لسالم هو الذي يساعد على صوغ ردّ الفعل والمقاومة، ويُقَلِّصُ من حجم الأضرار النفسية والاجتماعية والثقافية. وانطلاقًا من هذه الزاوية، فإن «الحبكات الروائية تأخذ في الغالب شكلا تعاقديا، فهي تحكي المسرّات والأحزان، الانتصارات والإخفاقات، وتتحدث عن مواثيق تتأسّس وأخرى تنهار وتتحطم»(4)، وما يؤكد هذه المعطيات هو أن النص الروائي يقول الشيء وضده، بعبارة أخرى، يهدم ويبني، وكأنه بناء فوق الأنقاض بالتعبير الهايدغري، وعندما نضيف إلى ذلك كله، محاولات الروائي تفكيك جدلية: النسب والانتساب بالمفهوم الإدواردي، فالنسب باعتباره حاملًا أسريًّا اجتماعيًّا يحيل على الولادة والقرابة والثبات على الدم الواحد، في حين، يدلُّ الانتساب على قيم التحرر والانعتاق ونشدان التغيير، وهو ما تؤكِّده مقتضيات السرد ومستويات الكتابة ككلّ، حيث تغدو الرواية فضاءً رحبًا لإفراز النقيض من العلائق والقيم الاجتماعية.

نشدان التغيير، إذن، هو مبتغى سالم بعد أن ضاق ذرعًا بسلوكات أبوية سلطوية تعكس وضعية المجتمع العماني في ثمانينيات القرن الماضي، وهي وضعية تَتَأَسَّسُ على الصراع السرمدي المستمر في أشكال التعاقد الاجتماعي المنشود، ومن ضمنها علاقة الأب بابنه من جهة، ثم، علاقاته مع باقي أطياف المجتمع من جهة أخرى. وواضح أن السارد يُراهن منذ البدء على تفكيك هذه العلاقة المُلْتَبَسَة بين أبٍ صارمٍ سلطوي وابن ثائر متمرّد حالم مُتَعَطِّشٍ للحرية. وهنا، يبرز الصراع بين ذاتين، أو قل ذات مقابل آخر على أساس الاختلاف في الرؤى والتّصورات، لكنه، صراع قائم، من جهة أخرى، على التفاوض المزعوم وسيظلُّ قائمًا لأن له علاقة وطيدة بالواقع الاجتماعي، ومن ثم، على الروائي أن يبقى قريبًا دائمًا من تحولات المجتمع وإشكالاته، ذلك أن «الخطاب الروائي، كل خطاب روائي، بل إن الأدب عامة لا مصدر له غير الواقع الذاتي، الاجتماعي، الموضوعي»(5)، والتشديد هنا على علاقة النص الروائي بمجريات الواقع الحياتي، يدخل في صلب الكشف عن المخبوء واللامرئي والدّنيوي، وقد تبدو السرديات المتخيّلة أقلّ تأثيرًا لما نعيشه على أرض الواقع من تفاصيل وخطابات مهيمنة، إلا أنها تبرز بالملموس التناقضات الموجودة في أرجاء المجتمعات والأفراد، فالرواية تعيد خلق واقعٍ موازٍ مختلف و«شحنه بدينامية متحررة من القيود والمواضعات، لتنقل القارئ إلى العيش في الجانب اللامرئي من خضم التناقضات الأزلية التي تصاحب الإنسان خلال رحلته من المجهول إلى المعلوم ومن الوجود إلى العدم»(6). بهذا المعنى، فإن شخصية سالم بما تنطوي عليه من إحالة على عيِّنات مجتمعية، لا تنفك تقيم علائق مع الآخر، بحثًا عن هويّة جديدة، فلا معنى للسرد ما لم يَتَشَكَّل من تعقيدات العلاقات المجتمعية، ومواضعات الإنسان الفكرية والثقافية، مما يسمح بتجاوز الرؤية الأحادية الضيقة نحو رؤية تعددية مغايرة في مستويات الوعي والتفكير العقلاني والتجربة.

ومن اللافت للانتباه في هذه الرواية أنها تُشَكِّلُ مرصدًا لتجاذبات المجتمع العماني، حيث يَتَعَيَّنُ اعتباره مجتمعًا منفتحًا مُتَقَبِّلًا للآخر، لا مكان فيه للأحقاد الدفينة ولا تلك التّمييزات العنصرية المقيتة، ويبدو ذلك جليًّا من خلال تقديم السارد لنماذج إنسانية غير عمانية (شبوت الهندي صانع حلوى الزلابيا على سبيل المثال) استطاعت الذوبان في النسيج المجتمعي العماني، بل شَكَّلَت عاملًا مساعدًا لسالم من أجل تجاوز محنة الهروب من قريته إلى العاصمة مسقط، وهذا ليس بغريب كون الرواية تتميّز «بمسارها التاريخي الممهور بزمن المعيش وأمكنته وأناسه، وبتقاليد وهويات وعادات تسمُ حياة الناس وتُشكِّلُ، بكل ذلك، مادة السرد وعالم المسرود، الحكاية، أو هذا المختزن في الذاكرة»(7). إن ما يَهُمُّنَا إبرازه ها هنا، هو أن السارد لا يعثر على هويته الجديدة إلا من خلال تفاعله مع الآخر: شخصيات، أمكنة، أحداث، مبادئ دنيوية، علامات لغوية متعددة..، حيث إن هذا الآخر يُشَكِّلُ مُنعطفًا حاسمًا في تشكيل وعيه الفردي والجماعي لمجابهة سديمية الذات المغتربة المنقسمة القلقة والمجتمع الذي استقبله وفَتَحَ له محاضنه الكبرى، والحال أن جوهر الكتابة الروائية المعاصرة، بما تنطوي عليه من تنوع على مستويات الشكل واللغة والخطاب والبناء الروائي، إضافة إلى تعدّد الرهانات والمقترحات الجمالية، تتغيّا بلورة واقع اجتماعي معين بما يعرفه من اختلالات ومفارقات، في سياق عالمي متغير ودينامي مأزوم بكثرة الصراعات، فإنها، أيضا، من جانب آخر، أضحت قادرة على نقل تجارب إنسانية منذورة للهامش والانكسار والاغتراب.

وفي ضوء هذا الفهم، لا بد من الإشارة إلى كفاءة الروائي محمود الرحبي الإبداعية وقدرته على إنتاج مثل هذه السرديات، فهي تُشَكِّلُ بحقٍّ نصوصًا غير مألوفة، ترتكز على وعي أدبي وجمالي رفيع، مما يبرز بالملموس استسعاف السرد لتمثيل أصوات الهامش ورصد لأهم التّحولات التي عرفها المجتمع العماني في ثمانينيات القرن الماضي، وهي كلّها علامات تؤكد على نبوغ الروائي وقدرته على التفاعل مع أحداث زمنه، أو مع وقائع من السراديب السفلى. ومن المهم التأكيد، في هذا السياق، أن وظيفة الرواية هي العمل «على إحياء وتوظيف الجمالي لتخفي به سديمية الواقع، وبذلك تعيد ترصد مكامن الداء، قصد إعادة صياغة الذات، وتجعل السؤال وسيلتها قصد التنبيه بشكل غير مباشر إلى نواحي القبح، بحثا عن المعنى الحقيقي للإنسان فيه»(8). وكان من الطبيعي، أن تلتفت الرواية إلى كل هذه الظواهر، لأن صلتها بالفرد والمجتمع صلة عميقة، من خلال تمثيل الذات الفردية كجزء من الذات الجماعية، وهو ما انتبه إليه بول ريكور حين قال: «أنْ أفهم ذاتي هو أن أقوم بالدورة الكبرى، أي الدورة الخاصة بالذاكرة الكبرى التي تحتفظ بكل ما أصبح ذا دلالة بالنسبة إلى مجموع البشر»(9)، وها هنا، في هذا النّمط التَّطوري لوعي الفرد وهو يحاول الخروج من نظرة المجتمع الضيقة والمُتصلِّبَة إزاء عددٍ من العادات والقيم والسلوكات والممارسات، تَتَشَكَّلُ رحلة البطل الملحمي بما تنطوي عليه من تعثرات وآلام وأحلام، إضافة إلى قوّة الخيال في ترسيخ قيم لها علاقة مباشرة مع السياق الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي أَسْهَمَ في إنتاج النص الروائي، وفي هذا الصدد، يقول طه الوادي: «إن القيمة الجمالية لأي نص أدبي، -في تقديرنا- تتحقق من خلال دلالاته الفنية، التي تعبر عن رؤية إنسانية نبيلة: تحارب الظلم والقهر والاستبداد، وتناصر الحرية والعدل والمساواة، من هنا، فإن جماليات الأنواع الأدبية في مجملها تتشكل من رؤية سامية لقيم الحياة ورؤية الإنسان»(10)، ومن ثمّ، فالأعمال الروائية الجيّدة، هي التي تُقَدِّمُ صورة بانورامية للحياة الواقعية، وللعلاقات المتشابكة فيها في الفضاءات المختلفة والمتعددة رغم وساطة المتخيّل.

من زاوية أخرى، فهذه الدورة الكبرى في تعالقها مع تحولات المجتمع، جعلت من الشخصية المحورية لسالم موضوعًا لتمزّق الذات، على الرغم من محاولات التّمرّد والثورة وعدم الامتثال للنسق الأبويّ المزعوم، وسواء نجح سالم في مسعاه أو لم يُكتب له النجاح، إلا أنه طَوَّرَ نمط الوعي لديه مما جَعَلَه يذوب وينصهر في جحيم المدينة بحثًا عن الفردوس المفقود، وبين الحنين للماضي والانغمار في الحاضر واستشراف المستقبل، تتغيّر نبرة السارد، خصوصًا بعد موت الأب وأثر ذلك كله على نفسية سالم، مما جعله يدخل في دائرة اللايقين والشك كنوعٍ من الإحالة على أهمية الأب في المجتمعات العربية وتَجَذُّره في النسيج البنيوي المجتمعي. وعليه، فإن رواية «طبول الوادي» تُقَدِّمُ للقارئ نمطًا سرديًّا مفعمًا بروح المخاطرة والتقاط تفاصيل تطوّر المجتمع العماني ورصد تحولاته من خلال هذه القدرة على تمثيل أسئلته الحارقة المفعمة بالغنى والتعدد والاختلاف، وهو ما يؤكد أن الراوية ظاهرة اجتماعية بامتياز، فهي لا تكشف فقط عن حياة الأفراد والجماعات، بل تلتقط النبض الكامن في كل فرد، وما يكتنزه من أحلام وآمال ومفارقات، كما تُعَبِّرُ عن معنى كينونتنا، «وما يُمكن قوله في تجربتنا»(11).

بيد أن تمثيل هذه الأصوات الروائية المتنافرة يَتَطَلَّبُ وعيًا بالكتابة، ومن المؤكد أن محمود الرحبي له من التجربة ما يكفي حتى يكتب نصًّا سرديًّا مختلفًا ومغايرًا، وبالتالي، فاستحضار هذه العيّنات إلى مختبر السرد هو -في حدّ ذاته- استجابة لوعي روائي كامن في التجربة الروائية ككل، دون إغفال مكون اللغة الذي يُمَثِّلُ جوهر الكتابة، ومحمود في لغته يكشف عن وعي خلاّق بها، فهي لم تعد بالنسبة إليه مجرد رموز وإشارات، بل أَضْحَتْ ملتحمة مع الفضاء والشخصيات والبناء السردي ككل، كاشفةً عن «مكامن الجمال في الحياة وفي الذات الفردية، لتضيئها وتبرزها لتقوي الحب والثقة في الوجود»(12)، وهذه الجماليات تظهر من خلال الرؤى المتفرّدة المنذورة للآلام وهو ما يضيف للنص الروائي قوة في المعنى والدلالة وغنى في مسارها السردي المشدود للفضاء الاجتماعي المتغيّر، وعليه، فإن الراوية باعتبارها فضاء لاكتشاف نبض المجتمع في بعديه الفردي والجماعي، فإنها تبرز للقارئ والعالم تلك النزعات الإنسانية التي تسعى إلى إنتاجها عبر فعاليّة التّخييل.

في ضوء هذا الفهم للعلاقة بين الرواية والفضاء الاجتماعي، يَتَجَدَّدُ الوعي بشرطها الكتابيّ الموغل في التخييل، ورواية «طبول الوادي» كأي نص روائي يتغيّا التقاط أسئلة الفرد والمجتمع وتعميق الدلالة حول هذه العلائق المتشابكة، فإنه بَقِيَ مشدودًا إلى صوت الذات في تناقضه الجدلي مع الآخر، ومن ثم، الانجرار إلى دائرة القلق والحيرة والاغتراب ونقد المجتمع، ومن اللافت للنظر أن تسعى هذه التجربة الروائية إلى استثمار تفاصيل الحياة الواقعية وإبراز دلالاتها وأدوارها في تحقيق الوعي بالكتابة الروائية وطرق إنتاج المعاني والدلالات، فالرواية لم تعد مجرد إفرازات لتجربة ذاتية فحسب، وإنما أضحت، من جهة أخرى، فضاء للتأمل في وعي الرواية ذاتها وطرائق التركيب الفني.

إن هذا الجمع بين الرغبة في الوعي الذاتي والحنين إلى دفئ الجماعة هو ما يُشَكِّلُ جوهر الرواية ومرتكزها الأساس، ولا شك أن نهوض رواية «طبول الوادي» بهذا الدور يبرز قدرة الرواية على التفاعل مع كل ما يمور في المجتمعات من قضايا ورؤى، فهي المُعَبِّرُ الصادق عن التّجربة الإنسانية وتعقيدات العلائق المجتمعية، وعن معنى الوجود الإنساني.

على هذا الأساس، فإن ما يَحكم فعل الكتابة، في مختلف أجناسها وتجلِّياتها الجمالية هو قدرة المبدع على النّفاذ إلى صلب التّجربة الإنسانية وإيصال صوتها إلى القارئ، فالكتابة بلا تجربة، تبقى كتابة خرساء، غير ذات جدوى، لأنها بعيدة كل البعد عمّا يجري في نهر الحياة من مفارقات وتحولات، وهنا، تكمن أهمية فعاليّة التّخييل ودوره في نقل التّجارب الحياتيّة إلى القارئ. تتبدّى، هذه الرواية إذن، في طريقة معالجتها لبنيةٍ مجتمعيّةٍ مُفعمة بالثنائيات (الفرد/ المجتمع، المدينة/ القرية، السكون/ الجلبة...)، وهي ثنائيات برزت في المتن الروائي للتأكيد على ذلك الصراع الكينوناتيّ/ الهويّاتيّ القائم بين الذات والآخر، بين الفرد والجماعة، وبشكل أدق بين الأب والابن، ولا شك أن هذه العناصر مُجْتَمِعَةً، قد أسعفت الروائي محمود الرحبي في الكتابة والتعبير عن رؤيته للحياة وللعالم.

الهوامش

1- محمود الرحبي: طبول الوادي، محترف أوكسجين للنشر، أونتاريو- بودابست، ط 1، 2023.

2- إدريس الخضراوي: سرديات الأمة، تخييل التاريخ وثقافة الذاكرة في الرواية المغربية المعاصرة، أفريقيا الشرق، ط 1، 2017، ص: 50.

3- محمد عز الدين التازي: عصر الغضب (حوار)، ضمن كتاب: نحو رؤية شاملة للرواية العربية، القلق، التجريب، إعداد: حليم بركات وعائدة بامية، دار بدايات للنشر والتوزيع، دمشق، 2010، ص: 20-21.

4- إدريس الخضراوي: سرديات الأمة، مرجع سابق، ص: 19.

5- محمود أمين العالم، يمنى العيد، نبيل سليمان: الرواية العربية بين الواقع والأيديولوجيا، دار الحوار للنشر والتوزيع، سوريا، ط 1، 1986، ص: 131.

6- محمد برادة: تخييل الذات والتاريخ والمجتمع، قراءة في روايات عربية، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط 1، 2017، ص: 14.

7- يمنى العيد: الرواية العربية، المتخيل وبنيته الفتية، دار الفارابي، بيروت، 2011، ص: 8.

8- نجاة بوتقبوت: التمثيل السردي النسوي، حوارية الخطاب والمتخيل، رواية «قلادة قرنفل» لزهور كرام نموذجا، منشورات مكتبة سلمى الثقافية، تطوان، ط 1، 2021، ص: 270.

9- بول ريكور: الذات عينها كآخر، ترجمة وتقديم: جورج زيناتي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2005، ص: 41.

10 - طه الوادي: الرواية السياسية، منشورات الجامعة المصرية، ط 1، 1996، ص: 177.

11- بول ريكور: صراع التأويلات، دراسة هيمينوطيقية، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2005، ص: 130.

12- إبراهيم الفقيه: الرواية العربية وقضية الحرية، ص: 133.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: المجتمع العمانی طبول الوادی من جهة أخرى من خلال الذی ی التی ت وهو ما

إقرأ أيضاً:

أوهام الازدهار العالمي.. تفكيك أسباب الفقر في عالمٍ يزداد غنى .. كتاب جديد

يعيش العالم أزمات اقتصادية طاحنة: دول ثرية وآخرى يقتلها الجوع والفقر، دول تتحسن مؤشرات أدائها الاقتصادي وباتت تشكل قوة صاعدة على المستوى السياسي الدولي، ودول يهوي بها قادتها إلى مهاوي التبعية والتخلف والتفريط في المقدرات. لذلك، يكتسب الكتاب الذي بين أيدينا اليوم ، "لماذا نزداد فقرا؟ دليل واقعي للاقتصاد وكيفية إصلاحه"، أهمية خاصة حيث ينكأ الجراح، ويجيب على تساؤلات مهمة، ويرسم طريق الحل. ومؤلفه هو عالم الاقتصاد البريطاني كاهال موران المتخصص في علم الاقتصاد السلوكي. والكتاب صدر عن دار هابر كولين للنشر بنيويورك في 2025.

عرض موجز للكتاب

لطالما شكّلت الأزمات الاقتصادية مسار حياة الشعوب. ورغم كارثية الركود، فإنه يصبح هو الوقت مناسب لدراسة الاقتصاد. ولكن الأزمة الاقتصادية التي أصابت العالم بين عامي 2007 و2009، أثبتت أن السنوات الخمس والعشرون اللاحقة كانت فترة مثالية لدراسة الاقتصاد. إذ كان ذلك الركود هو الأكبر منذ سبعين عاماً، وشهد ارتفاعاً حاداً في معدلات البطالة، وتراجعاً في مستويات المعيشة، وإغلاق عدد لا يحصى من الشركات. ووجد كثيرون حول العالم أن حصولهم على الضروريات الأساسية كالغذاء بات مهدداً. لكن حتى تلك الأحداث الصعبة بدت ضئيلة مقارنة بما سيأتي.

نهاية التاريخ؟

منذ التسعينيات، سادت عقلية "نهاية التاريخ". فقد انتهت الحرب الباردة، وانتصرت الدول الغربية الرأسمالية الليبرالية على الشيوعية. وكان يُعتقد أن هذا هو النموذج لجميع الدول الذي يجب أن يكون وجهتها النهائية. وطوال التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، بدت المملكة المتحدة وغيرها من الدول في وضع جيد بفضل "النهج الثالث": رأسمالية معها شبكة أمان تحمي من قسوة النظام. مما يعني إمكانية الإصلاح التدريجي بدلًا من التخلي عن كل شيء والبدء من جديد. وفي بعض الحالات، مع نمو الاقتصاد، كان خروج الدول من دائرة الفقر مسألة وقت فقط لتنضم إلى الدول الغنية. فارتفاع المد يرفع جميع السفن.

الفقاعة العقارية

كشفت الأزمة 2007-2009 عن مشاكل عميقة في الاقتصاد كانت مخفية مؤقتًا وراء طفرة غير مستدامة. وطوال العقد الأول من الألفية الجديدة، منحت البنوك في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة قروضًا عقارية لأشخاص غير قادرين على السداد، مما أدى إلى تضخم فقاعة في أسعار المنازل. رغم أن هذا وحده كان كافيًا لإحداث ركود اقتصادي، إلا أن الأمر تفاقم بسبب شبكة الأدوات المالية المعقدة التي أنشأتها البنوك حول العالم استنادًا إلى هذه الرهونات العقارية.

منذ التسعينيات، سادت عقلية "نهاية التاريخ". فقد انتهت الحرب الباردة، وانتصرت الدول الغربية الرأسمالية الليبرالية على الشيوعية. وكان يُعتقد أن هذا هو النموذج لجميع الدول الذي يجب أن يكون وجهتها النهائية. وطوال التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، بدت المملكة المتحدة وغيرها من الدول في وضع جيد بفضل "النهج الثالث": رأسمالية معها شبكة أمان تحمي من قسوة النظام. مما يعني إمكانية الإصلاح التدريجي بدلًا من التخلي عن كل شيء والبدء من جديد. وفي بعض الحالات، مع نمو الاقتصاد، كان خروج الدول من دائرة الفقر مسألة وقت فقط لتنضم إلى الدول الغنية. فارتفاع المد يرفع جميع السفن.وعندما انفجرت الفقاعة، امتدت آثارها إلى النظام المالي بأكمله، وشعرت المؤسسات المالية الكبرى بانهيارها. ومن الأمثلة على ذلك، إفلاس بنك ليمان براذرز في بداية الأزمة، وهو ما كان كارثيًا لدرجة أن الخيار الوحيد المتاح أمام الحكومات كان ضخ الأموال العامة في البنوك لإنقاذها.

السياسات التقشفية وآثارها في الدول الغربية

في أعقاب الأزمة المالية، انتهجت العديد من الحكومات الغربية سياسات تقشفية لتحقيق التوازن في الميزانية العامة. وكان هذا تشخيصًا خاطئًا وتوجيهًا خاطئًا: فقد أدت الأزمة إلى انهيار الإيرادات الضريبية وارتفاع إعانات البطالة المصاحبة لأي ركود اقتصادي، وهو ما يفسر اختلال الميزانية. ولم تحقق سياسة التقشف في المملكة المتحدة هدفها المعلن المتمثل في تحقيق التوازن في الميزانية على وعد تحقيق فائض بحلول 2015، ولكن مع حلول ذلك العام، كانت الحكومة لا نزال تقترض 4,4% من الناتج المحلي الإجمالي. ولم تسفر التخفيضات فقط عن توقف النمو بين طلاب المدارس، بل أدت أيضًا إلى انهيار سقف مدرسة في مقاطعة كينت. ولا تزال آثار التقشف محسوسة، حيث علقت المملكة المتحدة في "حلقة مفرغة"، إذ يعني ضعف الأداء الاقتصادي انخفاض الموارد المالية المتاحة، مما يعني مزيدًا من التخفيضات في الخدمات العامة.

أزمة الديون السيادية في منطقة اليورو

شهدت منطقة اليورو أزمة ديون سيادية خاصة بها في نفس الفترة تقريبًا، في دول البرتغال وإيطاليا واليونان وإسبانيا، التي كانت تعاني جميعها من انخفاض النمو وارتفاع الديون. ونظرًا للاختلالات الاقتصادية في جميع أنحاء القارة، فإن استخدام عملة واحدة لم يمنح هذه الدول مجالًا كبيرًا للمناورة بعد انهيار 2007-2009. كان اليورو بمثابة قيد، يمنع كل دولة من اتباع سياساتها الخاصة. ولذلك، رُئي أن إجراءات تقشفية أشد قسوة من تلك المطبقة في المملكة المتحدة ضرورية. وكانت النتيجة تدهورًا حادًا في الخدمات العامة، وانخفاضًا في مستويات المعيشة، واضطرابات في اليونان. وعندما تم تقويض شبكة الأمان الاجتماعي، ارتفعت ديونهم على الفور بدلًا من أن تنخفض على عكس التوقعات. وكان على أثينا أن تحترق حرفيًا لإثبات أن التقشف كان مأساويًا وغير فعال. وفي النهاية، اعترفت السلطات بأن هذه الإجراءات لم تكن مجدية، مما استدعى مزيدًا من المرونة. على الرغم من أن بعض هذه الدول وأبرزها إسبانيا - قد تحسنت أوضاعها كثيراً في الآونة الأخيرة، إلا أن آثار أزمة منطقة اليورو ستستمر لعقود.

أفول العصر الذهبي للاقتصاديات الغربية

تفاقمت هذه الكوارث بسبب تراجع نسبي شهدته العديد من المدن والبلدات في الغرب منذ "العصر الذهبي" (1945-1973)، حيث اختفت الصناعة خلال ثمانينيات القرن الماضي، وتراجعت اقتصاداتها المحلية. عانت ريكسهام في المملكة المتحدة من اختفاء مناجم الفحم، وعانت ديترويت من انحسار صناعة السيارات الشهيرة فيها، وشهد شمال فرنسا انتقال صناعة الملابس إلى مناطق أخرى. ولم تقتصر هذه المشكلة على العالم الغني فحسب، بل تحولت البرازيل بأكملها من تصدير الآلات الصناعية إلى تصدير سلع أساسية كالحديد والنفط. وشهدت الهند نموها الرئيسي في أشكال العمل غير المستقرة: وظائف قطاع الخدمات منخفضة الأجر. وبينما قابلت هذه الاتجاهات نمو ملحوظ في أماكن أخرى، تجسد بشكل خاص في صعود الصين، إلا أنها تركت أثراً بالغاً في مناطق أخرى مع نضوب الفرص ومعاناة المجتمعات.

تحولات في المشهد السياسي

في 2016، رفعت المجتمعات صوتها. ففي المملكة المتحدة، صوّت البريطانيون للخروج من الاتحاد الأوروبي، أكبر تكتل تجاري في العالم؛ وفي الولايات المتحدة، انتخبوا دونالد ترامب، الذي وعد بوضع أمريكا في المقام الأول؛ وبعد عامين، انتخب البرازيليون جاير بولسونارو المعروف بـ"ترامب الاستوائي". وشعرت دول أوروبية أخرى بقلق مماثل، مع انتخاب فيكتور أوربان رئيسًا لجمهورية المجر عام 2010، واستمرار صعود اليمين المتطرف في أوروبا حتى يومنا هذا، بما في ذلك دول تُعتبر نمطيًا تقدمية مثل السويد وهولندا. وفي 2024، اتجهت بريطانيا وفرنسا نحو اليسار؛ لكن اليمين المتطرف لا يزال حاضرًا بقوة فيهما.

يعيش الناس في فقرٍ أكبر بكثير مما ينبغي أن يكونوا عليه. وقد أدت ديناميكيات الاقتصاد العالمي المختلة إلى أوضاعٍ أوضاعٌ كان من الممكن تحسينها جذريًا لو كان اقتصادنا مُصممًا بشكلٍ أفضل. فاقتصادنا العالمي غير المتكافئ والمختل قد جعل حياة الفرد العادي أسوأ دون أي مبرر. ومع ازدياد صعوبة الحياة، تتبدد التوقعات بشأن التقدم، ولذلك يأتي السؤال: لماذا نزداد فقراً؟!
هذه التحولات السياسية، التي شكلت صدمة للنخب، كانت تداعيات سياسية لاقتصادات فاشلة. ورغم أن لكل حالة تعقيداتها الخاصة، إلا أن جميعها تُشير بوضوح إلى تحول عن العولمة لإعطاء الأولوية لمواطني الوطن. وانتهج جو بايدن ودونالد ترامب، ورغم اختلافاتهما الواضحة، سياساتٍ تُعطي الأولوية لأمريكا، ومن أبرزها فرض تعريفات جمركية على البضائع الصينية. ويبدو أن عهد العولمة والتجارة الحرة قد ولّى.

وجه واحد من أوجه عدم المساواة

لم يكن تراجع المراكز الصناعية القديمة سوى وجهٍ واحدٍ من أوجه تفاقم عدم المساواة. فقد ازداد عدد المليارديرات في العالم عشرين ضعفًا بين عامي ١٩٨٧ و٢٠٢٤، وتضاعفت ثرواتهم الإجمالية أربعين ضعفًا، من ٢٩٥ مليار دولار إلى ١٤.٢ تريليون دولار. وسمحت هذه الثروة لقلةٍ مختارةٍ بالسيطرة على الاقتصاد: فقد تمكّن إيلون ماسك، أغنى رجلٍ في العالم آنذاك، من شراء أهم منصة تواصل اجتماعي في العالم، على ما يبدو بدافعٍ من نزوة، وإدارتها وفقًا لمصالحه ومعتقداته.

والحقيقة المُرّة هي أن عدم المساواة والفقر كانا سمتين مُلازمتين للعالم، فبأي مقياس معقول، يعيش معظم سكان العالم في فقر؟!! حفنةٌ من الدول فقط، معظمها في جنوب شرق آسيا، استطاعت أن تُصبح "غنية" خلال العقود القليلة الماضية. العديد من دول أمريكا اللاتينية، رغم أنها شهدت بعض النمو الإجمالي، تبدو عالقةً في مرحلة متوسطة من التنمية الاقتصادية، ولا تزال تضم نسبةً كبيرةً من فقر العالم. ولا تزال دول في أفريقيا تُعاني من سوء التغذية المُنتشر. وكل ذلك يعني فشلًا ذريعًا لاقتصادنا العالمي.

أزمة دائمة

قال المؤرخ الإنجليزي جي. إم. يونغ ذات مرة إنه لفهم شخص ما، عليك أن تنظر إلى ما كان يحدث في العالم. لقد دفعت تجربة الأزمة المالية المبكرة الكاتب إلى دراسة الاقتصاد في الجامعة، وشكل مع طلابه حيث مجموعة أطلقوا عليها اسم "جمعية اقتصاديات ما بعد الأزمة"، والتي تساءلت علنًا عن سبب عدم تدريس أي شيء في جامعتهم عن الأزمة التي شكلت حياة الناس. وأصدر الكاتب مع مجموعته تقريرًا عن حالة التعليم في جامعة مانشستر عام 2014، اتهموا فيه نظامهم التعليمي يركز بشكل مفرط على النظرية الرياضية المجردة، المنفصلة عن الواقع، والعاجزة عن تزويد الطلاب بمهارات التفكير النقدي التي يتوقعونها في الجامعة.

خارج قاعات الدراسة، ألقوا بعض المؤلفين باللوم في الأزمة على المصرفيين والاقتصاديين أنفسهم. كان هذا اللوم رغم أنه مبالغ فيه جزئيًا، إلا أنه مرتبط بلصورة العامة التي يُحب علم الاقتصاد إظهارها بمظهر العارف بكل شيء، أو كما قال كتاب تحرير الاقتصاديات، الصادر عام 2006، إن علم الاقتصاد قادر على كشف "الجانب الخفي لكل شيء"، ومطبق أفكار الاقتصاديين على الجريمة والمدارس والعنصرية. ولم يُشر الكتاب، ولو تلميحًا بسيطًا، إلى ما كان يجري في القطاع المالي قبيل انهياره.

لقد تغير الكثير منذ ذلك الحين، ولا سيما أن مهنة الاقتصاد قد خضعت لمراجعة شاملة لأوجه قصورها. لكن الحقيقة المُحزنة هي أنه لا تزال دراسة الاقتصاد مُجردة للغاية، وضيقة الأفق، وتُغفل العديد من الأزمات التي نواجهها.

الأسوأ لم يأتِ بعد

مع تقلبات المناخ العالمي، أصبحت الظواهر الجوية المتطرفة أكثر شيوعًا: الفيضانات والأعاصير ودرجات الحرارة القصوى في كلا الاتجاهين. ومع ارتفاع منسوب مياه البحر، ستشهد مدن ساحلية لا حصر لها فيضانات، وقد تختفي العديد من جزر المحيط الهادئ تمامًا. وستواجه البشرية صعوبات جمة في إنتاج الغذاء، وانتشار الأمراض، والهجرة الجماعية، بل وحتى الحروب. وبطبيعة الحال، سيؤدي كل هذا إلى تكاليف اقتصادية باهظة، تعيق النمو وتعطل سبل العيش في جميع أنحاء العالم.

وعندما اجتاح كوفيد-19 العالم في عام 2020، دخل العالم في عمليات إغلاق غير مسبوقة، أدت إلى توقف نصف اقتصاداته. كان ما يقرب من 93% من العاملين في العالم يعيشون في دول فرضت عمليات الإغلاق. ووصل عدد وفيات إلى الملايين. وقُدرت الخسائر في الناتج الاقتصادي بتريليونات الدولارات. وشهدت شمال أفريقيا والشرق الأوسط ارتفاعًا غير مسبوق في معدلات الفقر حتى قبل الجائحة.

وبمجرد أن خرج العالم من الإغلاق، اعتقد البعض أننا قد نتجه نحو انتعاش اقتصادي قوي، على غرار "العشرينيات الصاخبة" التي أعقبت جائحة الإنفلونزا الإسبانية عام 1918. إلا أن إعادة تشغيل اقتصادنا العالمي المعقد بشكل متكرر خلق مشاكل أكثر مما كان متوقعًا، حيث تعطلت سلاسل التوريد، وظهرت اختناقات في جميع أنحاء العالم. لقد ظلت هذه الاختناقات في كيفية إنتاج سلعنا وشحنها مخفية لسنوات لأن الأمور بدت وكأنها تسير على ما يرام؛ ولكن ظهرت مواطن الخلل بمجرد تعرضها لاختبار حقيقي. وفي سردية بدأت تتكرر، لم يحصل العمال الذين اعتمدنا عليهم للحفاظ على استمرار هذه الأنظمة على حقهم.

بالنظر إلى الماضي، ندرك أن النظرة إلى نهاية التاريخ تتطلب دائمًا نظرة متفائلة. ولكن اليوم، يُذكّر غزو روسيا لأوكرانيا عام ٢٠٢٢ الغرب بأن عالمنا ليس عالم سلام ووئام. وإن احتمالية نشوب حروب متجددة بين القوى العظمى، بما في ذلك التداعيات النووية، تُثير قلقًا بالغًا، وتعزز هذا القلق بتصاعد "الحرب الباردة الجديدة" بين الولايات المتحدة والصين. وتهدد حرب غزة بتصعيد التوترات في الشرق الأوسط وخارجه.

إن الأزمات المتنوعة على اختلافها قد تثير اليأس؛ لكن هناك أيضًا العديد من الجوانب الإيجابية في العالم الذي نعيش فيه: فقد تحقق تقدم ملحوظ في مجالات الفقر والصحة والتعليم على مستوى العالم. والتغيير دائمًا متعدد الأوجه ومعقد، ويقع على عاتقنا دراسة هذا التعقيد بدقة على أمل الحفاظ على الإيجابيات والقضاء على السلبيات. وهذا يتطلب واقعية، بدلًا من التفاؤل أو التشاؤم.إن الحرب تُزعزع مفاهيم الازدهار، فضلًا عن الأضرار المباشرة والجسيمة التي تُسببها الصراعات نفسها. بالنظر إلى اعتماد الاقتصاد العالمي الكبير على الاستقرار في المناطق المحيطة بروسيا والصين، فإن تداعيات هذه الصراعات ستكون واسعة النطاق. فقد عانت أوروبا من العقوبات المفروضة على روسيا، إذ نفدت إمدادات النفط والغاز التي اعتمدنا عليها لفترة طويلة. وارتفعت أسعار الطاقة عدة مرات في بعض الحالات، مما فاقم ما يُسمى بأزمة غلاء المعيشة. وتُعد أوكرانيا أيضًا من كبار منتجي القمح، وقد ارتفعت أسعار الحبوب فيها أيضًا، وكان التأثير الأشد وطأة على منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا المجاورة.

من السهل النظر إلى كل أزمة على أنها مُنعزلة؛ ولكننا يجب أن نتبنى عقلية حل المشكلات عبر النظر إلى ترابط مفرداتها ومظاهرها وأسبابها. فمثلاً، يُعدّ تغير المناخ وعدم المساواة قضيتين متلازمتين. ومن الظلم التاريخي الفادح أن الدول التي تُعدّ تاريخياً مسؤولة عن أكبر قدر من الانبعاثات هي الأقل تضرراً من تغير المناخ. وفي المقابل، ستعاني الدول الأشد فقراً، التي لم تُصدر ولن تُصدر نسبة كبيرة من غازات الاحتباس الحراري، أكثر من غيرها. حتى داخل الدولة الواحدة، تُصدر الدول الأغنى انبعاثات أكثر بكثير من الدول الأفقر. فاليخوت الفاخرة، والرحلات الجوية الخاصة، والسلع النادرة، والمنازل المتعددة، ومستويات الاستهلاك المرتفعة عموماً، ليست سوى بعض الأمثلة على كيفية مسؤولية الأغنياء عن الانبعاثات أكثر من الفقراء. ولذلك، يجب على أي حل لتغير المناخ أن يُعالج عدم المساواة بالضرورة.

إن الأزمات المتنوعة على اختلافها قد تثير اليأس؛ لكن هناك أيضًا العديد من الجوانب الإيجابية في العالم الذي نعيش فيه: فقد تحقق تقدم ملحوظ في مجالات الفقر والصحة والتعليم على مستوى العالم. والتغيير دائمًا متعدد الأوجه ومعقد، ويقع على عاتقنا دراسة هذا التعقيد بدقة على أمل الحفاظ على الإيجابيات والقضاء على السلبيات. وهذا يتطلب واقعية، بدلًا من التفاؤل أو التشاؤم.

لماذا نزداد فقرًا؟

يعيش الناس في فقرٍ أكبر بكثير مما ينبغي أن يكونوا عليه. وقد أدت ديناميكيات الاقتصاد العالمي المختلة إلى أوضاعٍ أوضاعٌ كان من الممكن تحسينها جذريًا لو كان اقتصادنا مُصممًا بشكلٍ أفضل. فاقتصادنا العالمي غير المتكافئ والمختل قد جعل حياة الفرد العادي أسوأ دون أي مبرر. ومع ازدياد صعوبة الحياة، تتبدد التوقعات بشأن التقدم، ولذلك يأتي السؤال: لماذا نزداد فقراً؟! والجواب يكمن فيما يلي:

1 ـ اقتصاد غير متكافي: توجد تفاوتات هائلة بين الناس تتجلى بطرقٍ عديدةٍ ومؤذية. ولا يحظى العديد من عمالنا الأساسيين بالتقدير اللائق مقارنةً بمن يؤدون وظائف نعلم يقيناً أنها أقل أهمية. إنه اقتصاد يهيمن فيه الأثرياء والشركات العملاقة على بقية أفراد المجتمع. ويواجه الناس عوائق اقتصادية لا حصر لها بسبب عوامل خارجة عن إرادتهم، كالطبقة الاجتماعية والعرق والجنس. ولا يزال معظم سكان العالم يعيشون في فقر. يمكن معالجة جميع مشاكل الاقتصاد غير المتكافئ بكبح جماح الأغنياء وأصحاب النفوذ، ودعم الفقراء والمهمشين، مع وجود مجال للاختلاف المعقول حول كيفية تحقيق ذلك.

2 ـ الخلل الوظيفي: يبدو أن سوق الإسكان لا يخدم مصالح أحد تقريباً، مما يخلق ظروفاً معيشية غير مقبولة لكثير الناس. إضافة إلى أن النظام النقدي غير مفهوم جيداً، وقد أدى هذا النقص في الشفافية إلى خيارات سياسية خاطئة. ولا تمتلك الدول الأنظمة المناسبة لتوقع التضخم الهائل وإدارته. وأخيرًا، فإن نظامنا التجاري العالمي هشٌّ، مُرهَق، وقائم على الاستغلال، مما يجعله عرضةً للانهيار. هذه المشكلات تؤثر علينا جميعًا، ولذا فإن الحلول أكثر تحديدًا من مجرد إعادة توزيع المال والسلطة. إنها حلولٌ واعدةٌ تعود بالنفع على الجميع، أغنياء وفقراء على حدٍ سواء.

3 ـ سياسات التقشف: تُجسد الرعاية الصحية حقيقةً جوهريةً وهي أن الاقتصاد والأهداف الإنسانية ليسا متعارضين. كثيرًا ما يُرادف مصطلح "الاقتصاد" مصطلح "القسوة" و"اتخاذ القرارات الصعبة"، وكأن ما يُفيد الاقتصاد لا يُمكن أن يُفيد الناس. والحقيقة هي أن خفض الإنفاق على الصحة والمدارس يُعدّ بمثابة إلحاق ضرر اقتصادي جسيم، مع تفاقم معاناة المرضى والأطفال بشكل غير ضروري. فقد أشار أحد التقارير إلى أن سوء الصحة يُكلّف سكان المملكة المتحدة حوالي 2200 جنيه إسترليني من دخلهم السنوي بسبب ترك الوظائف، وتقليص ساعات العمل، وتكاليف الرعاية الصحية.

وللمقارنة، يُمثّل هذا المبلغ حوالي 7% من متوسط الدخل في المملكة المتحدة، وهي زيادة ملحوظة في الأجور. حتى لو كان الهدف هو "اقتصاد قوي يُولّد الإيرادات"، فإن انخفاض الدخل والبطالة يعنيان وظائف متدنية الأجر أو البطالة التامة. كما أن التهاون في الإنفاق على الصحة يُمكن أن يُضاعف التكاليف لاحقًا. ولهذا السبب، فإنه في المملكة المتحدة: كل 200 مليون جنيه إسترليني تُخفض من إنفاق هيئة الخدمات الصحية الوطنية  تُكلف مليار جنيه إسترليني لاحقًا. ولا تقتصر هذه الحقائق على الدول الغنية كالمملكة المتحدة، إذ يظلّ الاستثمار في تلبية الاحتياجات الإنسانية الأساسية هو السبيل الأمثل للمضيّ قدمًا في كافة الدول غنية أو فقيرة.

4 ـ  الأفكار الاقتصادية الخاطئة: تكلف هذه الأفكار ثمنًا باهظًا. وبسبب دخول بعض هذه الأفكار علم الاقتصاد، وبدعمٍ من جهاتٍ سياسية، يسود اعتقادٌ واسعٌ بأنّ الأوقات العصيبة حتمية. وميثال ذلك ما حدث في ٢٠٢٣، عندما زعم الخبير الاقتصادي في بنك إنجلترا، هيو بيل، أنّ على البريطانيين "تقبّل أنّهم أفقر حالًا".

سؤال جوهري

السؤال المحوريّ الذي يطرحه الكتاب هو: هل يُمكّن الهيكل الحاليّ للاقتصاد الناس ليس فقط من البقاء، بل من الازدهار؟

هناك من يعتبر هذا السؤال ضربًا من العبث: فبحسب رأيهم، يُعرَّف علم الاقتصاد غالبًا بأنه دراسة "تخصيص الموارد النادرة"، ما يعني ضمنيًا أنه لا يُمكننا فعل الكثير حيال هذه الندرة المتأصلة، على الأقل في المدى القريب. وبالتالي، فإن الاقتصاد نفسه ليس إلا تعميمًا لعدد لا يُحصى من القرارات الفردية المُرتبطة بمواردها، لذا فإن التدخل في هذه القرارات يعني التدخل في الواقع، وهو ما لا يُؤدي أبدًا إلى نتائج إيجابية. على الرغم من أن هذا رأي متطرف، إلا أن التشاؤم بشأن قدرتنا على تحسين الاقتصاد بشكل ملحوظ منتشر على نطاق واسع. قد يتفق الكثيرون بشكل عام مع أهداف الكتاب ويرغبون في رؤية بعض التغييرات، مثل الإصلاحات المنطقية في التعليم والصحة والإسكان. ومع ذلك، فهم أيضًا مترددون في إحداث تغييرات جذرية، خشية أن نُعرِّض للخطر المكاسب المادية التي حققها العالم على مدى القرون القليلة الماضية.

كلا هذين الرأيين ـ سواءً كان يدعو إلى عدم التدخل أو إلى تدخل محدود في الاقتصاد ـ خاطئان بنفس القدر، بل ويقتربان من الخرافة. يكشف بحث معمق في كيفية عمل الاقتصاد عن شبكة معقدة من الممارسات والقوانين والمؤسسات القوية التي تُشكِّله بطرق مُتعمَّدة وقابلة للتغيير. إن اعتبار هذه المؤسسات القائمة أمراً طبيعياً أو حتمياً أمرٌ لا يُمكن تبريره. بإمكاننا فهم كيفية بنائها وتعلم كيفية تغييرها. تُبيّن أمثلةٌ لا حصر لها عبر التاريخ أنواع التحولات الاقتصادية التي يُمكن تحقيقها والتي تُحسّن حياة الناس دون أن تُشكّل خطراً كبيراً على المزايا التي لا جدال فيها لمجتمعنا الحالي. ليس هناك طريقة أفضل لفهم ذلك من النظر إلى كيفية نشأة الاقتصاد نفسه.

مقالات مشابهة

  • أوهام الازدهار العالمي.. تفكيك أسباب الفقر في عالمٍ يزداد غنى .. كتاب جديد
  • حماس: تقرير العفو الدولية مغلوط ويتبنى الرواية الإسرائيلية
  • حماس ترفض تقرير العفو الدولية وتتهمه بتبني الرواية الإسرائيلية
  • "صحح مفاهيمك".. ثقافة القاهرة تنظم لقاءات توعوية متنوعة
  • ابن سائق محمد صبحي يقلب الرواية المتداولة رأسًا على عقب .. تفاصيل
  • الوادي: تفكيك شبكة إجرامية وحجز 10 آلاف قرص مهلوس مموهة وسط التمور
  • جامعة قناة السويس تعزّز دورها المجتمعي بسلسلة ندوات توعوية وتربوية تستهدف طلاب المدارس
  • رئيس هيئة التفتيش القضائي يتفقد المحاكم وأوضاع الإصلاحية المركزية في الحديدة
  • الشباب قلب مصر النابض.. ندوة لمجمع الإعلام وجامعة الفيوم بالمكتبة المركزية
  • «سبع قمم» رحلة تقود لاكتشاف الذات