د. صبري محمد خليل/ أستاذ فلسفة القيم الاسلامية في جامعة الخرطوم

تمهيد: تهدف الدراسة إلى التأسيس ' النظرى' ، لتيار فكري شامل(إسلامي معاصر، ذو طابع : انساني - روحي - مستنير )، إستنادا إلى الأبعاد المعرفية " الفلسفية والمنهجية والمذهبية" لمفهوم الإستخلاف القرآنى، يهدف إلى تحقيق إستخلاف الأمة الثانى.

تعريف المفهوم: الإستخلاف لغة الوكالة.

وهي نوعان :عامة وهى نيابة شاملة ، وخاصة وهى نيابة مقصورة على موضوع معين . وقد ورد المصطلح بمعنى الوكالة العامة ، وطبقا للمعنى الحقيقي للمصطلح ،ومضمونه إبدال وتغيير قوم بآخرين، وهو الإستخلاف التكويني " الإجتماعى" . كما ورد بمعنى الوكالة الخاصة ، وطبقا للمعنى المجازى للمصطلح، مضمونه تصوير القرآن للوجود ' الشهادى 'بمملكة ملكها الله تعالى ، والإنسان نائب ووكيل عنه في الأرض، تكريما للإنسان، وهو الإستخلاف التكليفى، يقول الراغب الأصفهانى (الخلافة النيابة عن الغير ، إما لغيبة المنوب عنه…وإما لتشريف المستخلف)( المفردات في غريب القرآن ، ص 156).

البعد الفلسفى لمفهوم الإستخلاف: ويتمثل في فلسفه 'حكمه' الإستخلاف ، التي تقوم على محاولة تحديد العلاقة بين المستخلف بكسر اللام" الله تعالى” ،والمستخلف بفتح اللام”الإنسان”، والمستخلف فيه “الكون”- اى محاوله تحديد العلاقة بين أطراف علاقة الاستخلاف - وذلك بإتخاذ المفاهيم القرآنية الكلية"التوحيد والاستخلاف والتسخير"مسلمات أولى ، ثم محاوله إستنباط النتائج الفلسفية لهذه المفاهيم الكلية، متخذة من إجتهادات أهل السنة -بمذاهبهم العقدية “الكلامية ” المتعددة - نقطة بداية- وليس نقطة نهاية – لهذا الإجتهاد.

الإنطلاق من المفهوم الاسلامى للفلسفة: و تستند فلسفه “حكمه” الاستخلاف ، إلى مفهوم إسلامي للفلسفة ، مضمونه:
أولا: أن مصطلح 'حكمة'هو المصطلح القرآنى المقابل لمصطلح 'فلسفة'في الفكرالفسفى الغربي، وهذا ما يمكن إستنباطه من ورود المصطلح في القرآن بمعاني كالعقل والعلم والفهم والإصابة في القول ،كما قررت كتب التفاسير .
ثانيا: لا يعنى هذا عدم جواز إستخدام مصطلح ' فلسفة'، إستئناسا بقاعدة "لا مشاحة في الألفاظ بعد معرفة المعانى" ( المستصفى: 1/23 ) ، وقد إستخدم علماء الإسلام مصطلح الفلسفه ومشتقاته ، يقول الإمام إبْنَ حَنْبَلٍ" الشافعي فيلسوف في أربعة أشياء: في اللغة، وإختلاف الناس، والمعاني، والفقه "(البيهقي ، معرفة السنن والآثار : 1 /118).

البعد المنهجي لمفهوم الإستخلاف "منهج الإستخلاف": ويتمثل في الإستخلاف كمنهج للمعرفة ، ومضمونه أن صفات الربوبية " ما دل على الفعل المطلق لله تعالى" تظهر في عالم الشهادة على شكلين:
تكويني: يتمثل في السنن الإلهيه التي تضبط حركه الوجود الشهادى ، وهى على نوعين:
ا/ كلية: تضبط حركه الوجود الشامل للطبيعة المسخرة والإنسان المستخلف ، وهى سنن”الحركة ، التغير،التأثير المتبادل”.
ب/نوعية: تضبط حركة نوع معين من أنواع الوجود الشهادى ،كسنة “الكدح إلى الله ”، المقصورة على الإنسان :(يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه) .
تكليفي : يتمثل في مفاهيم وقيم وقواعد الوحى الكلية، التى تحدد هذا الشكل التكويني ولا يلغيه.

الطابع الإنسانى-الروحي: مما سبق نخلص إلى أن البعدين الفلسفى والمنهجي لمفهوم الاستخلاف" يقومان على تأكيد قيمة الوجود الإنسانى، وإثباته بأبعاده المتعددة، مع التأكيد على انه وجود محدود تكليفيا 'بالسنن الالهيه'، و تكليفيا 'بالوحي '، وبالتالي يجعلان العلاقة بين الوجودين الإلهى و الإنسانى علاقة تحديد وتكامل- فالأول يحدد الثانى ولكن لا يلغيه -وليست علاقة إلغاء وتناقض ، كما في النزعة الإنسانية الغربية ، التي تطرفت في تأكيد الوجود الإنساني، فحولته من وجود محدود 'تكوينيا وتكليفيا' ، إلى وجود مطلق “قائم بذاته ومستقل عن غيره” .

البعد المذهبي لمفهوم الإستخلاف: يتمثل في الاستخلاف كمذهب “اى كمجموعة من الحلول للمشاكل التي يطرحها الواقع المعين”.

الوعد الالهى بإستخلاف الأمة : فقد أشار القرآن الكريم إلى الوعد الإلهى بإستخلاف الأمة (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ …)(النور:55).
التصور الشامل للاستخلاف : والإستخلاف مفهوم شامل ذو مستويات متعددة، بتعدد مجالات الحياه " السياسية، الإقتصادية، الاجتماعية، الحضارية…"،وبالتالى لا يجوز إختزاله في أحد مستوياته( كمستواه السياسي مثلا كما يفعل مذهب التفسير السياسي للدين 'الذى يطلق عليه البعض خطأ اسم الإسلام السياسي')

أنماط الاستخلاف: والآية تتضمن الإشارة إلى أنماط متعددة من الاستخلاف هي :

أولا: الأستخلاف الأصلى'المثال' : ويتضمن أيضا نمطين:
ا/ الإستخلاف النبوي" المثال الإتباعى": فى عهد الرسول "صلى الله عليه وسلم".
ب/الإستخلاف الراشدي"المثال الاقتدائى": فى عقد الخلفاء الراشدين "رضى الله عنهم".

ثانيا:الإستخلاف التبعى "إستخلاف الأمة بعد الخلافة الراشدة": ويتضمن أيضا أنماط متعددة:
ا/ إستخلاف الأمة في الماضي"الإستخلاف العام الاول للأمه" : وهو إستخلاف الأمة بعد الخلافة الراشدة، و كان قائما على الإتصال الزمانى بالاستخلاف المثال بنوعيه 'النبوي و الراشدي' ، و الإتصال القيمى المتناقص به، بمعنى أنه تضمن إنقطاع قيمي تدريجي عنه' قيمه الشورى مثلا'.
ب/ إستخلاف الأمة في الحاضر " الإستخلاف العام الثانى للأمة": وهو إستخلاف الأمة في الحاضر ، وتحققه يكون بعد إنقطاع زماني وقيمي عن الإستخلاف المثال بنوعيه .
ج/ إستخلاف الامه في المستقبل الدنيوى “الشهادى” :وعدد مرات تحققه غير معلومه ، لان زمن إنقضاء الدنيا غيب.
د/ إستخلاف الامه فى المستقبل الأخروى ” الغيبى” : وهو إستخلاف الامه آخر الزمان- والذي هو ممكن التحقق في كل زمان- وهو مرتبط بظهور أشراط الساعة الكبرى.

شروط الاستخلاف: وتنقسم الى:
أولا: شروط نصية مطلقة ' تكليفية': وتتضمن مفاهيم وقيم وقواعد الوحي الكلية.
ثانيا: شروط إجتهادية مقيدة 'تكوينيه': تتضمن أهداف الإرادة الشعبية للأمة:
أولا: الحرية والتحرر الوطنى والقومى" المستوى السياسى للإستخلاف": فقد أكد المنظور القيمي الإسلامي على قيمه الحرية بأبعادها المتعددة ، يقول عمر بن الخطاب " رضى الله عنه "( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهم أحراراً) (فتوح مصر ، ص 290 )
ثانيا: العدالة الاجتماعية والتنمية المستقلة " المستوى الإقتصادى للإستخلاف " : فقد إعتبر المنظور الإجتماعي والإقتصادى الإسلامى أن العدل الاجتماعي غاية للنشاط الاقتصادي للفرد والدولة ”كممثل للمجتمع” ، وذلك من خلال تقريره لشرطي العدل الاجتماعي: الأول تكافؤ الفرص، ومثال له قول عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ( والله ما أحد أحق بهذا المال من أحد )، والثانى هو عدالة توزيع الثروة ،ومثال له روي أن ابوعبيدة تحدث يوماً مع عمر(رضي الله عنه) في إستخدام الصحابة في العمل فقال ( فأغنهم بالعمالة عن الخيانة) .
ثالثا: الوحده "المستوى الاجتماعى للإستخلاف": حثت النصوص المسلمين على الوحدة-بشكليها التكليفي 'الديني'، والتكويني' السياسي'- :(وأعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) .
رابعا:الجمع بين الأصالة' بدون تقليد وجمود''، والمعاصرة' بدون تغريب' " المستوى الحضارى للإستخلاف": وهو ما يتحقق فى التجديد طبقا لدلالاته المنضبطه دينيا وقيميا واجتماعيا( إن الله يبعث على رأس كل قرن من يجدد لهذه الأمة أمر دينها).
فالتاصيل لهذه الأهداف يتضمن أن السياسة الشرعية هي ما كل يحقق مصلحة الجماعة ولو لم يرد فيه ، يقول ابْنُ عَقِيلٍ(السِّيَاسَةُ مَا كَانَ فِعْلاً يَكُونُ مَعَهُ النَّاسُ أَقْرَبَ إلَى الصَّلَاحِ، وَأَبْعَدَ عَنْ الْفَسَادِ، وَإِنْ لَمْ يَضَعْهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا نَزَلَ بِهِ وَحْيٌ)( ابن القيم / الطرق الحكمية في السياسة الشرعية).

الإستخلاف وتفعيل الإرادة الشعبية للأمة : يثبت المنظور السياسي الإسلامي الإرادة الشعبية للأمة، لأنه يسند اليها السلطة ' المقيدة ' ، بموجب الاستخلاف العام (وأمرهم شورى بينهم)- بعد إسناده الحاكمية "السيادة -السلطة المطلقة “ لله تعالى - أما الحاكم فنائب ووكيل عن الأمة ، لها حق تعيينه ومراقبته وعزله اذا جار- بالطرق السلمية – يقول أبو يعلي "الخليفة وكيل للمسلمين " (المارودي، الأحكام السلطانية، ص 7 ). فغاية الإستخلاف تفعيل الإرادة الشعبية للأمة. أما غاية ثنائيه ” الإستكبار- الإستضعاف” فهى إلغائها- وهو ما يؤدى إلى تعطيلها وليس إلغائها ' فهى غير قابله للإلغاء” -

أنماط-مراحل- تفعيل وتعطيل الإرادة الشعبية للأمة :
أولا: في مرحله الإستخلاف الأول للأمة :
ا/ التعطيل الإستبدادي'الداخلي ':عدم الإلتزام -بدرجات متفاوتة - بقيمة الشورى، التي كانت متحققة في مرحلتي الإستخلاف الأصلى ' النبوي والراشدي'..
ب/ التعطيل الغزوى 'الخارجي' : تعرض الأمة لغزوات خارجية متتالية "الغزو المغولي - التتري ، الغزو الصليبى، الإستعمار القديم …" .
ج/ التفعيل الزعامي : نجاح الإرادة الشعبية للأمة في تحقيق أهدافها- والتي تضمنت نجاحها في مقاومة وهزيمة الغزوات الخارجية المتتالية - من خلال توحدها حول زعمائها التاريخيين .

ثانيا: فى مرحله الإستخلاف الثاني للأمة :

التعطيل الإرتدادي لإرادة الأمة على المستوى الرسمي: وتتزامنت مع تطبيق مشروع "الشرق الأوسط الجديد : الإمبريالى- الصهيونى"، وتمتد ' زمنيا' منذ سبعينات القرن الماضى الى واقعنا المعاصر ، ومضمونها ' السياسى' الإرتداد بالنظام الرسمى العربى من مرحلة التجزئة على أساس شعوبى ( سيكس بيكو ١٩١٦) . الى مرحله التفتيت على اساس قبلى - طائفى( محاولات تأسيس دويلات قبليه - طائفيه" ،على أنقاض الدولة الوطنية العربية، مع بقاء الكيان الصهونى كحارس لهذا التفتيت، كما كان حارس للتجزئه فى المرحله السابقه) . وهي مرحله الإنتهاء ” الفعلي ” لإستخلاف العام الأول للأمة' على المستوى الرسمى' . مع تضمنها مؤشرات لبداية الإستخلاف العام الثاني للامة'على المستوى الشعبى'.

تفعيل إرادة الأمة على المستوى الشعبي: حيث أن هذا التعطيل “الإرتدادي” لإراده الأمة على المستوى الرسمي ، أدى إلى تفعيلها على المستوى الشعبي ، فضلا عن أنه مهد الطريق أمام إنتقالها من نمط التفعيل الزعامي - المشار اليه اعلاه- الى نمط التفعيل الجماهيري ، والذي دعمه تطور وسائل الإعلام والإتصال ، وظهور الخاصية التفاعلية فيهما.
وتشمل هذه المرحلة مرحلتين هما:

ا/ مرحله التفعيل التلقائي: وفيها أخذت حركتها شكل رد فعل ( عفوى، انفعالي' عاطفى '، مؤقت )، ضد مظاهر تردي النظام الرسمي العربي.

ب/ مرحله التفعيل القصدي: إن تردى هذا النظام نحو مزيد من التفتيت، يزيد من إحتمال إنزلاقه نحو الفوضى ، وهذا ما يقتضى ضرورة أن تاخذ حركتها شكل فعل " قصدى ' مخطط' ، عقلاني ، مستمر 'مؤسساتي' " ، يهدف إلى تحقيق ما هو ممكن من خطوات ، تجاه أهدافها بأساليب سلمية .وهذه المرحلة ستمثل مرحله تحقيق الاستخلاف العام الثانى للامه .
منهج التغيير ومراحل تحقيق الاستخلاف “: وهناك مرحلتين أساسيتين للتغير ، تمثل أيضا مراحل تحقيق الاستخلاف:
الأولى”الاستطاعه”: مرحله الانتقال مما هو كائن، إلى ما هو ممكن ، أو الإستطاعة بالمصطلح القرآنى "فَاتّقُوا ْاللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ". ولها مستويين :
أصلى:مستواها الفكري'الاعتقادى '. ويتضمن الإجتهاد فى وضع الحلول النظرية للمشاكل التي يطرحها واقع الأمة المعاصر.
تيار إستخلاف الأمة: ويتضمن هذا المستوى التأسيس لتيار فكري شامل، يشمل كل من يلتزم بهذه الحلول النظريه ،حتى ولو لم يكن هناك رابط تنظيمى بينهم . ويأخذ هذا الالتزام أحد الأشكال التالية:
ا/ التاسيس والإمامة' الفكرية' : الإجتهاد العلمي فى وضع هذه الحلول النظرية.
ب/الطليعية 'الفكرية ': نشر الوعى “النظرى” بها.
ج/ الإنتصار 'الفكري ': التبنى “الفكرى” لها ، إستنادا على أدلتها .
ويتضمن هذا التيار الفكرى توافق التيارات والمذاهب الفكريه على ثوابت الأمة، وقيامها بمراجعات فكرية، لتحديد الإيجابيات والسلبيات، ومن ثم قبول الاولى ورفض الثانيه.
مستوى فرعى : وهو مستواها العملى التطبيقى.
مبادرات الإرادة الشعبية للأمة: ويتضمن هذا المستوى أنبثاق مبادرات تعبر عن الإرادة الشعبية للأمة، فى كل مجالات الحياة ، بصوره منظمة “مؤسسية”، تسعى لتحقيق ما هو ممكن من هذه الحلول النظريه، فى الواقع العملى للأمة بأبعاده المتعددة، بأساليب سلمية وشكل تدريجي.
الثانية ” العزم “: الإنتقال مما هو ممكن إلى ما ينبغي أن يكون ، او العزم بالمصطلح القرآنى ( إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ) ، وهذه المرحلة لها مستويان :
مستوى أصلى : هو مستواها العملي”التطبيقي” .ويتضمن الانتقال مما هو ممكن الى ما ينبغي أن يكون. بإكمال التنفيذ العملى لكل هذة الحلول النظرية فى واقع الأمة.
مذهب مستنير : مما سبق نخلص الى أن مذهب الإستخلاف-الذى يمثل البعد المذهبى لمفهوم الاستخلاف- هو مذهب مستنير ، لأنه يهدف الى:
أولا: على المستوى الذاتي : تحرير عقل الإنسان المسلم من القيود التي تعوق فعاليته كوسيلة للمعرفة ' كأنماط التفكير الخرافي والأسطوري والبدعى' ، بإعتبار أن ذلك هو شرط ذاتي لنقل المجتمعات المسلمة، من تخلف النمو الحضاري إلي التقدم الحضاري .
ثانيا : على المستوى الموضوعي: حل المشاكل التي يطرحها واقع المجتمعات المسلمة، المعين زمانا ومكانا.
........للإطلاع على مقالات أخرى للدكتور صبرى محمد خليل:
مجموعه فى الفيسبوك بعنوان(إستخلاف: تيار فكرى شامل لتحقيق إستخلاف الأمة الثانى. مجموعة من د. صبرى م خليل).

sabri.m.khalil@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: على المستوى ما هو ممکن الله عنه الله ع

إقرأ أيضاً:

عاشوراء.. شهادة التاريخ المتكررة على انحراف الأمة

 

 

في العاشر من محرم الحرام من كل عام، تجثم على صدور المؤمنين فاجعة كربلاء، تلك الحادثة الأليمة، بأحوالها وأهوالها الرهيبة العظيمة، وما اُرتكب فيها بحق آل البيت عليهم السلام، من أبشع المجازر وعمليات الإبادة المهولة، بتلك الصورة الإجرامية الوحشية القذرة، التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، ولا يجيزها الدين حتى بحق الأعداء والمحاربين، ناهيك عن المسلمين – فيما بينهم – من أبناء الملة الواحدة، ناهيك عن آل بيت رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – موضع النبوة ومختلف الملائكة، ومعدن الرسالة، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
لم تكن فاجعة كربلاء وليدة لحظتها، كما سعت لتقديمها سردية التاريخ السياسي الأموي، بوصفها حادثة قائمة بذاتها، مفصولة عن ما قبلها وما بعدها، بل هي إحدى المحطات التاريخية الكارثية، التي اختطها مشروع الانحراف – الرهيب – عن خط الولاية، منذ يومه الأول، في سقيفة بني ساعدة، حيث استبدل مشروع الولاية، بمشروع البيعة، ورغم الإعلان الصريح ببطلان البيعة، وخطورة مشروعها على الأمة الإسلامية، إلا أن من احتلبها بالأمس لصاحبه، قد عاد اليوم ليأخذ شطره “نصيبه” من الحلب، في ظل صمت وتخاذل جمعي مخزٍ، وتواطؤ وخضوع مهين، حين لم يجرؤ أحدٌ على تذكير صاحب فتوى القتل، بخطورة عودته لمثال تلك البيعة، بل وما هو أخطر منها، في سياق مشروع الانحراف، والتأسيس لنظرية الحكم الملكي القمعي التسلطي، في انقلاب واضح وصريح، حتى على مزاعم الشورى، ومبادئ اختيار الخليفة.
لم تقف خطورة ذلك الانحراف، عند مجرد المخالفة الشرعية، لصريح الأمر الإلهي بشأن الولاية، بل امتدت تداعيات ومخاطر الانحراف، لتشمل الوجود الإسلامي، في بعديه الزماني والمكاني، كما أن الانقلاب على مفهوم الولاية، المنصوص عليه في قوله تعالى:- «انما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا….»، في صفاته المخصوصة، المتعينة – تحديداً – بوجوب أمر البلاغ، المؤكد بأهميته القصوى، بوصفه معادلاً لتبليغ الرسالة بأكملها، التي لا تكتمل إلاّ به، هو ما جعل الرسول الكريم – صلى الله عليه وآله وسلم – يسارع إلى تبليغ الأمر الإلهي، مقدماً – بتلك الصورة المهيبة – في غدير خم، الترجمة الفعلية والتفسير العلمي، لأمر الولاية في ذاته، وتحديد الولي بشخصه، ومشروعية التولي في امتداداتها المقدسة، «إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين أولى بهم من أنفسهم»، وبذات القدر من المشروعية والوجوب، «فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه»، وهو بلاغ صريح لا يخالطه شك، تكلل بالبيعة الشرعية، للإمام علي عليه السلام، بإمرة المؤمنين بلفظ التسليم والمصافحة، من قِبل أكثر من مائة ألف مسلم، أصطفوا أمام خيمته، ودخلوا عليه الواحد تلو الآخر، مصافحين وقائلين: «السلام عليك يا أمير المؤمنين»، وبذلك المشهد العظيم، ختم الرسول الأكرم – محمد صلى الله عليه وآله وسلم – مهمته الرسالية العظيمة، بعد أن أقام عليهم الحجة، وأشهدهم على أنفسهم، وألزمهم العهد.
أسفر الانحراف عن طريق الولاية، عن نماذج مشوهة، من الاستبداد باسم الشورى الوهمية، إلى الملكية التسلطية المطلقة، التي استعبدت الناس، واستأثرت بالأموال، واستباحة الحرمات، وأسقطت الحدود، وافترت – من خلال علماء السوء – على الله الكذب، وجعلت الدين خادماً لأطماع السلطة، وقتلت أعلام الهدى والآمرين بالقسط، ضلماً وعدواناً، لإسقاط الحق ومن يعمل به.
لم يكن قتل الإمام علي عليه السلام – بسيف محسوب على الإسلام – إلا التجسيد الفعلي لمقولات وفتاوى نظرية السقيفة، التي استمرت في استهداف أعلام الهدى وقرناء القرآن، من الإمام علي عليه السلام إلى الإمام الحسن إلى الإمام الحسين إلى الإمام زيد، وصولاً إلى شهيد القرآن الشهيد القائد السيد حسين بدرالدين الحوثي، وشهيد الأمة والإنسانية السيد حسن نصرالله، وغيرهم من الشهداء الكرام، أنصار المشروع الإلهي، القائمين بالحق على امتداد التاريخ، ولم يكن استهدافهم بتلك الطرق الوحشية، والإمعان في القتل والإبادة، إلا انتقاماً من الرسول الأكرم في شخصه ومشروعه، ورفضاً للنهج الإلهي القويم، وهدماً متعمداً لأركان الحق، وأسس الدين والهداية، وسلب الدين قوته وحامليه، وإقامة مشروع السقيفة، وتقديم الدين بمفهومه الأموي، المليء بالباطل والتدجين، بوصفه الدين الحقيقي، بما يضمن تهيئة الساحة الإسلامية، لسيطرة قوى الكفر والضلال من اليهود والنصارى، وعملائهم من بني أمية “الشجرة الملعونة”، ونظرائهم من قادة التطبيع والنفاق، وهكذا تظل عاشوراء محطة زمنية فاصلة، تدق جرس الإنذار في أوساط المسلمين، وتحذرهم من تداعيات الاستمرار في نهج الانحراف والضلال، وتذكرهم بما
أصابهم من مصائب ونكبات، وترسم لهم مسار الخلاص والانتصار على قوى الشر، إن هم عادوا إلى مصدر الحق، ورفعوا اليد التي رفعها رسول الله بأمر من الله تعالى، والتزموا ولاية أعلام الهدى وأئمة الحق، الذين أسقطوا قوى الطاغوت والاستكبار، باذلين أرواحهم في سبيل الله ونصرة المستضعفين، وهو ما شهد الواقع مع أحداث غزة، في حال محور المقاومة المدافع عن الإسلام والمسلمين والمقدسات، تحت قيادة أعلام الهدى من آل بيت الرسول الكريم، بخلاف أنصار السقيفة والنهج الأموي، الذين تحولوا إلى النفاق والتطبيع، وحرب الإسلام والمسلمين علناً، نيابة عن قوى الكفر والإجرام، أمريكا وإسرائيل وحلفائهم، طلباً لرضاهم، واعتزازاً بهيلمانهم المصطنع، رغم سقوطهم المهين سلفاً، في غزة وجنوب لبنان واليمن وإيران، «ولله العزة ولرسوله والمؤمنين».

مقالات مشابهة

  • لقاء موسّع للعلماء في الأمانة تدشيناً لفعاليات ذكرى استشهاد الإمام زيد
  • لقاء موسّع للعلماء والخطباء في الأمانة تدشيناً لفعاليات ذكرى استشهاد الإمام زيد
  • رسميا.. “الأمة القومي” يعلن عزل برمة ناصر عن رئاسة الحزب
  • الولاء الإلهي أم التبعية للطاغوت؟ تقرير في ميزان القرآن
  • كربلاء.. وتخاذل الأمة
  • عاشوراء.. شهادة التاريخ المتكررة على انحراف الأمة
  • «الأمة القومي» يرحب بتصريحات ترامب بشأن الأزمة السودانية ويدعو لحل شامل
  • إن تُطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب .. رسالة تحذير إلهية للأمة في زمن الصهينة
  • أوقاف طرابلس: الأمة الإسلامية تعتصر ألماً بفقدان الشيخ ربيع المدخلي
  • خور عبد الله: سيادة عراقية مهددة باتفاقات مشبوهة ورفض شعبي شامل قد يقلب الطاولة/ الجزء الاول