تواتر بعد حديث الفريق ركن عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة والقائد العام للقوات المسلحة، إلى الصحفيين حديث عن نذر لتقسيم السودان تكون به دارفور للدعم السريع والخرطوم القوات المسلحة مع تنويعات في القسمة هنا وهناك.
وجاءت أكثر المخاوف من تقسيم السودان من مصادر ثلاثة:
أولاً: من النموذج الليبي المنقسم بين بنغازي وطرابلس.

ورأينا كيف لوّح به كل من خالد عمر يوسف وتاج السر عثمان من غير اتفاق. ومن يجلب هذا النموذج إلى الحالة السودانية يغض الطرف عن أمرين: أولهما أن بنغازي وطرابلس ظلتا دولتين منفصلتين حتى وحّدهما الاستعمار الإيطالي في 1924، أما الثاني فهو أن ليبيا، خلافاً للسودان، خاضت حربها الأهلية بالميليشيات من الطرفين وخلت من جيش قومي مهني كما عندنا. ومهما كانت قيمة هذين العاملين فهما مما لا بد من أن يُستصحبا متى قاربنا بين الوضعين في السودان وليبيا.
ثانياً: وبالنظر إلى دارفور والسودان، ذاع خلال الحرب الأهلية بين جمهرة في إقليم دارفور أنه ظل معتزلاً السودان في سلطنته التاريخية حتى أخضعه النظام التركي – المصري (1821-1885) في 1874 قبل عقد من سقوطه هو نفسه على يد الثورة المهدية. كما اعتزلت دارفور السودان بعد استعماره بواسطة الإنجليز حتى ضموه إليه بعد نحو عقدين من احتلالهم له في 1898. ونواصل

وهذه “حجة بلا سيقان” في تكوّن الأمم. فلم يكُن إقليم دارفور في تاريخه الوسيط بمنأى عن الجغرافيا السياسة لما سيكون عليه السودان لو لم “تتطفل” عليه قوى أجنبية استعجلت تكوينه لمآربها الخاصة. ولهذا يقال عن عيب الاستعمار في المدى الطويل إنه قطع التطور التاريخي الطبيعي للممالك والجماعات التي احتلها. فلربما كانت أسفرت تلك الكيانات عن أمم مطابقة لما اتفق للاستعمار، أو اختلفت قليلاً أو كثيراً. وتغطي عن ذلك الإمكان في تكوّن السودان أمة بغير حاجة لتدخل أجنبي مقولة إن الاستعمار اصطنع مثل حدودنا بإملاء من مصلحته ومنافسته مع مستعمرين آخرين. وكأن البلاد التي أنشأها الاستعمار مثل السودان حالة مصطنعة مغشوشة. وقد يصدّق هذا في حالات بعينها من صناعة الاستعمار للحدود كما حصل في فصل غامبيا عن السنغال بصورة كاريكاتيرية تعسفية لمجرد فضّ نزاع وقع يومها بين بريطانيا وفرنسا.

وقال عالم سياسي نيجيري إن نيجيريا بحدودها الحالية كانت مخيال أمة تحت التكوين جاء الاستعمار أو لم يأتِ. فكانت نيجيريا ما قبل الاستعمار بصدد أن تكون نيجيريا قصُر الزمن أو طال. وكانت دارفور بسلطنتها المستقلة في العصر الوسيط لبنة في خيال أمة سودانية تحت التكوين لو لم يقطع الغزو التركي – المصري ذلك التطور التاريخي لتلك الأمة.

فتقاطع تاريخ سلطنة دارفور في القرنين الـ 17 والـ 18 مع التاريخ السياسي والاقتصادي للوسط النيلي كما تمثل في سلطنة الفونج (1540-1821) وعاصمتها سنار على النيل الأزرق. وكان إقليم كردفان، ومركزه مدينة الأبيض، هو عظمة النزاع بين السلطنتين، فاتخذه فرع من الأسرة الحاكمة في دارفور، عرف بـ “المسبعات”، مهجراً ودولة. وكان ذلك الفرع خسر مطلبه بعرش السلطنة، وبقي في كردفان يتربص للعودة إلى الحكم في الفاشر. واتصلت علاقتهم مع سلطنة الفونج مما أقلق سلطنة الفور، بل تحالف ذلك الفرع الغبين مع جماعات من دارفور وكردفان والنيل الأوسط لغرض استعادة عرشه في الفاشر. وظلت المعارك للسيطرة على كردفان بين الجماعات الثلاث سجالاً، وظهر من “المسبعات” أمير مغامر هو هاشم المسبعاوي الذي جيّش حملة من جماعات بدوية من كردفان ودارفور، بل من أهل النيل مثل الشايقية والدناقلة وهجم على شرق دارفور، فلقيه سلطان الفور وهزمه ورده لاجئاً إلى حلفائه شعب الشايقية على النيل ليتقوى ويعود لمطلبه في حكم دارفور، وبلغ جيش الفور في حروبه في كردفان النيل مرة إلا أنه رجع. ودانت كردفان لسلطنة الفور ثلاثة عقود حتى خلعهم منها جيش محمد علي باشا بقيادة الدفتردار.

ثالثاً: لمجيء دارفور إلى السودان متأخراً في عهدي الحكم التركي والإنجليزي، إذ كان هو الحجة القاطعة على أنه غُصب على الالتحاق بالسودان، وهو تفسير متعلّق بحسابات تلك القوى الغازية لا عن أنها ذاتية للإقليم منفصلة ومعتزلة عنه. فكان الباشا الخديوي في مصر أمر الدفتردار أن يحتل دارفور بعد إقصاء الأسرة الدارفورية الحاكمة عن كردفان، ولم يتمكّن من ذلك. فاستدعته ثورة على النيل على الجيش الغازي قتلت إسماعيل بن محمد علي باشا، فانصرف عن غزو دارفور وتوجه إلى النيل للقضاء على الثورة بصورة فظة عرفت في كتب التاريخ بـ”حملة الدفتردار الانتقامية”. وانتظر ضم دارفور إلى السودان حتى 1874 حول صراع دار إزاء الطريق التجاري الذي يعبره إلى مصر.

أما الإنجليز، فتركوا على دارفور سلطاناً منها هو علي دينار في حالة تباعة vassalage، ودفع الجزية إقراراً منه بسيادة الإنجليز عليه. وخلصوا إلى تلك الصيغة لأنهم استبعدوا دارفور واستكثروا النفقات التي تلزمهم بغزوه، بخاصة إذا كان هناك من سيديره لهم بكلفة زهيدة، ولما خرج علي دينار عليهم موالياً تركياً في 1916 قضوا عليه وأدرجوا دارفور ضمن السودان الإنجليزي – المصري.

كانت سلطنات وجماعات السودان الحالي قبيل الاحتلال التركي – المصري تختمر حرباً وسلماً كأمة تحت التكوين. ولا يصح أن ينهض تأخر انضمام دارفور إلى السودان جراء توقيت اتفق للدول التي احتلت الأجزاء الأخرى حجة لفصل دارفور عنه على بينة منه، بل ربما صحّ القول إن دارفور ربما اندرجت في السودان بأسرع ما فعلت تحت الاستعمار الأجنبي، وربما حدث له ذلك في شروط وطنية أفضل من تلك التي اكتنفت ضمها المتأخر العنيف إلى السودان.
وأن تأتي دارفور أخيراً إلى السودان مهما يكُن أفضل من ألا يأتي.

عبد الله علي إبراهيم

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: إلى السودان

إقرأ أيضاً:

الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال (الجبهة الثورية) تدين الاعتداء على الحدود السودانية

أدانت الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال الجبهة الثورية هجوم مليشيا الدعم السريع المسنودة بقوات خليفة حفتر على السودان في محور المثلث الحدودي .وقالت في بيان لها لقد نفذَّت مليشيا الدعم السريع المتمردة هجوم عسكري إرهابي في محور المثلث على الحدود السودانية الليبية تحت إسناد كتيبة “السلفية” التابعة لقوات خليفة حفتر، ويُعد هذه الهجوم واحدة من مشاهد الإرهاب الإستعماري المستنكر بأشد وأغلظ العبارات، ويمثِّل ذلك إعتداء سافر علي وحدة وسيادة السودان وتقويض مستهجن لإستقرار المواطنيين السودانيين وخرق فاضح لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة وتهديد واضح للسلم والأمن الإقليمي.تُعرِب قيادة الحركة الشعبية-شمال “الجبهة الثورية” عن شجبها وإدانتها بشدة لهذا الهجوم الهمجي الذي نُفِّذ من قِبل مليشيا الدعم السريع الإرهابية وقوات حفتر الليبية على الأراضي السودانية، وهذا يؤكد أن الإستعمار الظلامي ما زال يعمل بخبث على تنفيذ مخططاته العبثية، ولكن القوات المسلحة والقوات المساندة لها والقوى السياسية الوطنية وكافة الشعب السوداني يقفون الآن في صف واحد للدفاع عن قيم الحرية والكرامة والسيادة والتاريخ الراسخ.تطلَّب قيادة الحركة الشعبية “الجبهة الثورية” من الهيئات والمنظمات الإقليمية والدولية إدانة هذا التدخل العسكري الإستعماري الذي لا يمكن إنكاره أبدًا في ظِل إنفتاح العالم المعاصر، والذي يشاهد الأحداث الجارية لحظة وقوعها، وهنالك أدلة من الممكن عرضها في الوقت المناسب، ولا مناص من وقوف العالم إلى جانب الحقائق التي لا يمكن إخفائها البتة، وعلى قوات حفتر وغيرها أن تعلم إستحالة إستعمار السودان، والمقاومة الوطنية مستمرة في نضالاتها بكل صمود إلى أن يكتمل التحرر الوطني.سونا إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • “مياه النيل قضية وجودية” .. د. كامل إدريس يؤكد متانة العلاقات السودانية المصرية
  • الصحة السودانية تعتزم توسيع حملة التطعيم ضد الكوليرا في الخرطوم وشمال كردفان
  • السودان: توقعات بمعدلات أمطار عالية وفيضانات وحرارة مرتفعة
  • السودان.. لجنة إغاثية تتهم (الدعم السريع) بقتل 8 أشخاص في الفاشر
  • تصاعد التوترات الأمنية والإنسانية في السودان وسط انسحاب للجيش واتهامات لليبيا.. التفاصيل
  • البركل: نفير لإعادة توصيل المياه إلى المنازل من نهر النيل – فيديو
  • الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال (الجبهة الثورية) تدين الاعتداء على الحدود السودانية
  • لصد العدوان.. قرار عاجل من القوات المسلحة السودانية بشأن المثلث الفاصل
  • الخارجية السودانية: مشاركة كتيبة السلفية الليبية التابعة لخليفة حفتر اعتداء سافر على سيادة السودان
  • النيل الابيض .. آخر الترتيبات لإمتحانات الشهادة السودانية