قبل أيام ثار الجدل حول قصيدة للشاعر أزهري محمد على مضمونها مطالبته بإيقاف الحرب. وقصدنا ألا ندخل ذلك الجدل حتى ينتهي إلى زبده الذي يذهب جفاءً. ذلك لإحساسي أن بعض الأمر كان فيه تبييت النية المسبقة ضد مواقف الشاعر. أو قل إن الموضوع برمته كان من أفاعيل الجماعة مع البلابسة، والذين يحاولون السيطرة على الرأي العام، وتوجيهه عبر مهام تضطلع بها غرف إعلامية محددة الوظيفة.
أي "سواقة الناس بالخلا" كما دلت عبارة العارفين بمهام هذه الغرف، والتي ظلت بعد نجاح الثورة تشوه رموزها السياسيين، والأدباء، جملة واحدة. وأزهري أعداؤه كثر من الذين وقفوا مع الاستبداد الذي نافح ضده. ومع ذلك لم يسلم من نقد بعض الداعمين لاستمرار الحرب، إذ بينهم من كانوا مع الشاعر في خط الثورة ضد الظلم الإسلاموي. والحقيقة أن هذه
الحرب جمعت بعض الثوار في خندق واحد مع الجيش، وآخرين مع الدعم السريع، أي أن كل ثوار ديسمبر، ومؤيديها، لم ينضموا إلى صف المنادين بإيقاف الحرب. فبعضهم لأسباب إما جهوية، أو نتيجة كراهية تجاه طرفي الحرب، فضلوا الانحياز لطرف، ودعمه بشكل مباشر، ومستتر أحياناً. والملاحظة الأهم أن كثيراً من مؤيدي ثورة ديسمبر تبعثروا في مواقف مناقضة لأزهري، وهو أحد شعراء الثورة، وبالتالي لم تسلم القصيدة المعنية من زحف النقد غير الأدبي عليها. فبناءً على موقع الناقد المؤيد لاستمرار الحرب والرافض لاحظنا الهجوم على القصيدة، والشاعر، وكذلك الدفاع عنهما. وكما نعلم فإن للنقاد أجندة، أو قل إن لكل من يكتب في المجال العام بعض أهداف ظاهرة، وأخرى مبطنة. والناقد - أي ناقد - ينتقي موضوعه لدعم إما مواقفه السياسية، أو المناطقية، أو الجيلية، أو الأيدلوجية، أو الفقهية، أو المذهبية، أو الاستنارية. والناقد كذلك ليس هو شخص مجرد من الموقف تجاه العالم، والأشياء، وطبيعة الممارسة الاجتماعية، سواء كان محترفاً، أو هاوياً، أو مواطناً ناقداً منحته التطبيقات الجديدة الفرصة للدلو بدلوه. وبرغم أن من المقبول نقد الصور الفنية لقصيدة أزهري، وتركيبتها، ووزنها، إلا أننا رصدنا أن الحوار حولها انحرف في مرات ليشكك في الاستقامة الوطنية لأزهري محمد علي. وبعض من الكيزان حاولوا ابتزازه من موقع مناطقي، وطالبوا أن ينظر للحرب من زاوية أنها حرب كرامة، ووجود لأهله، أكثر من كونها نوعاً من تجليات الصراع الطبقي على السلطة، أو أنها حرب بين قوتين عسكريتين اجتمعتا على حيازة السلطة، والثروة، والنفوذ، على حساب كل السودانيين، وليس أهل أزهري فحسب. واعتقد أن ذلك كان الهدف الجوهري للذين روجوا للحملة ضد القصيدة، وأزهري. فهدفهم لم يكن إلا خلط الأوراق لينالوا من قامة الشاعر الكبير. وكانت بصمة الإعلام الإسلاموي واضحة في هذا الشأن. وأزهري الذي أعرفه لمدى قارب الأربعة عقود لو وزنوا استقامته في كفة مع أخلاق الكيزان في أخرى لرجحت كفة الشاعر. فمحاولة الاتهامات العديدة
التي طالت أزهري بعد قصيدته التي نشرها داعياً للسلام باضت، وأفرغت الفشل عينه. -٢- ولكن ما أحزنني أن كثيراً ممن عرفوا بمواقفهم الثورية تأثروا بالحملة، ودخلوا الحلبة ليعينوا في إشاعة فكرة الهجوم المنظمة، والتي لم يكن هدفها بالطبع تبيين الزعم بكسور في بيوت القصيدة، وإنما كان الهدف استهداف كل من ينادي بايقاف الحرب. الحقيقة أن أزهري محمد علي كرس غالب شعره للوطن، ومنازلة المستبدين، والحلم بواقع زاهر للمواطن. ولو كان تقييم نقاط القوة والضعف في أعماله الشعرية مشروع، فإن من الغرض المرض التخفي خلف قصيدة أزهري لتحقيق نقاط سياسية تجرد مواقفه من الوطنية. ولم نصل بعد إلى الاتفاق على جماعة أو فرد يمنح صكوك الوطنية بخلاف طق الحنك في المضمار، وهو في آخر المطاف زبد كثير متراكم منذ استقلالنا. فالحملة التي أثارت هذا الموضوع من النوع الذي يصب في مجرى الإرهاب الفكري. وهي سمة الحركة الإسلامية التي تقف وراء المخزون الإعلامي لاستمرار الحرب. وهذا الخط الإعلامي الذي نبصر سيماءه في الإعلام المصاحب للحرب منذ يومها الأول مبتغاه تلويث سمعة الرموز الذين شاركوا في ثورة ديسمبر. والشواهد هنا عديدة، ومتنوعة، ومستمرة بتهافت، وسعار. وهذه الحملة لا تستثني السياسي، أو القاضي، المتقاعد، أو الشاعر، أو المحامي، أو الإعلامي، أو الفنان الثوري. إذا تحدثنا عن قصائد الشعراء المغناة، وغير المغناة، نجدها تتراوح بين القوة، والضعف، وما بينهما. وكذلك الحال مع الألحان التي قاربت هذا العمل. وشاعر مثل ازهري تنطبق عليه هذه الحسابات الأدبية. فضمن معظم أعماله تجد أنه وصل إلى مستوى متقدم من التميز في معظم قصائده حتى صنع بصمته الشعرية. والذين دخلوا بحسن نية من الثوريين، ومتذوقي شعره، في حلبة الجدل حول القصيدة الرافضة للحرب أبانوا بعضاً من رؤى موضوعية. ولكن السياق الذي جاء فيه ابتزاز البلابسة، والكيزان، الذين شكلوا وحدة سياسية عابرة للأيديولوجيا، والمعرفة، هو ما جعلنا ننتبه إلى خلفيات "الترند"، وأهدافه غير البريئة. "النقد السياثقافي" للأعمال الفنية ضرب يستخدمه نقاد كثر، وبالتالي ينحازون لتجارب اليمينيين واليساريين من المبدعين. وهذا أمر وسم تجارب نقاد الشعر، والرواية، والتشكيل، والمسرح، والأغنية، لا على مستوانا المحلي فحسب، وإنما هذه هي طبيعة المشهد الإبداعي في أي منطقة في البسيطة. ذلك ما دام للفنانين أجندة كما قلنا، وذاك حال نقادهم، ومتلقينهم، أيضاً. ولو كانت قصائد أزهري، أو التيار الديمقراطي العريض الذي ينتمي إليه، هي محل احتفاء لدى ما نسميهم المستنيرين، أو التقدميين، فإن هذا لا يمنع التعرض لاستناداتها الفنية، ولا "دسدسة" على عمل فني ضعيف. وهنا فإن الناقد المعتمد على منهجية النقد السياثقافي بحاجة إلى دراسة تجوهر نقاط القوة والضعف في التعبير أكثر من تجريد الشاعر من حقه في طرح مضمونه ازاء القضية التي طرحها، أو ابتزازه وطنياً. فالمواقف الأيدلوجية، والسياسية، شيء والملكات الفنية للروائي، والمغني، والدرامي، شيء آخر. ولو كان الهدف التركيز على نقد المضمون للرواية، أو القصيدة، فإن المحاكمة هنا تكون سياسية محضة. وبدلاً من التحايل للدخول للعمل الفني للمبدع يسارياً، أو يمينياً، فإن أقصر الطرق تتمثل في تركيز النقد لحزبه اليميني، أو اليساري، وعندئذ نحرر الأدب من زحف السياسة المغرضة عليه. وهذا أمر شهدناه لدى كثير من الذين تعرضوا لنقد الإبداع السوداني بمداخل أيديولوجية، أو سياسية مذهبية. ولكن المتنبي سيظل المتنبئ الشاعر سواء حاكمناه بمقاييس عصره، أو عصرنا. -٣- إن انحياز النقاد اليساريين، واليمينيين، نحو المبدعين الذين يقاسمونهم الفكرة في كل المجالات الفنية مما لا شك فيه. وقد تواتت لنا الفرصة لمتابعة النقد الأدبي، والفني، في الأربعة عقود الماضية عن قرب. ومع ذلك فإن هناك قليلاً من النقاد الذين يعلون من قيمة العمل الفني دون اعتبار للخلفية السياسية للمبدع. وهذا أمر يحتاج إلى قدر عال من التجرد عن الانحيازات المجتمعية الكثيرة الدوافع. فالمسيح أمر بحب اعدائه. ولكن ليس كل الناس أنبياء. المشكلة الكبيرة هي أن السياقات التي تنطرح فيها المناقشة الفنية لأعمال المبدع غير بريئة. وكلنا قد لاحظنا محاولات تجريد الروائي عبد العزيز بركة ساكن من قدراته الروائية نتيجة لموقفه من الحرب. ولم تشفع له الجوائز التي حاز عليها داخلياً، وخارجياً، من متخصصين في المجال نظروا إلى متن عمله الروائي وليس تصريحاته الصحفية. ورغم اختلافي مع كل مواقف ساكن بعد الحرب فلا يمكن أن استند إليها لأحرمه من قدرته البديعة في الكتابة الروائية، وقس على ذلك. الشاعر أزهري محمد علي سياسي الفهم بالضرورة. إنه يستخدم الفن لرفض السياسات التي يراها تضر بواقع بلاده. وهو ليس بدعاً في هذا التصرف المشروع. فالمبدعون عموماً لديهم درجة من الوعي السياسي ما تجعلهم قادرين على التمييز بين مساويء الاستبداد ومحاسن الديمقراطية. بل إنهم جزء من صفوة المجتمع، ويعايشون الكبت، والدجل السياسي، ورموزه، وتلحقهم مؤثرات سياستهم في لقمة العيش. وعندئذ حينما يكتبون يضعون في العمل الفني أجندة سياسية للثورة على الاستبداد أو الإصلاح للممارسة الديمقراطية. ولكل هذا السبب فإن من الطبيعي أن يقع أزهري تحت مرمى نيران الإسلاميين والبلابسة في هذا البازار الإعلامي الساعي لتحقيق غاياته الحربية. واعتقد أن معرفة السياقات التي يدير بها الإسلاميون معركتهم مع رموز ثورة ديسمبر ينبغي ألا تفوت على فطنة الثوار. وهذا هو الوعي السياسي عينه الذي يهزم فرص دعاة خلط الأوراق سياسياً، وعرقياً، وجهوياً لصالح ضرب وحدة المجتمع السوداني. فقصيدة واحدة لأزهري - إذا افترضنا ضعفها الفني حتى - لا تحتاج إلى كل هذه الحملة الديكورية الابتزازية التي أرادت النيل من شاعر كبير يدرك الإسلاميون مدى جهده في فضحهم، هذا هو الموضوع، ما عدا ذلك فهو تفاصيل في البركة المنداحة.
suanajok@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية:
أزهری محمد
إقرأ أيضاً:
لماذا بدأت سورة الفاتحة بالحمد لله رب العالمين؟.. عالم أزهري يوضح
أجاب الدكتور مختار مرزوق عبدالرحيم العميد السابق لكلية أصول الدين جامعة الأزهر فرع أسيوط، عن سؤال مضمونة: لماذا جاء في بداية الفاتحة الحمد لله رب العالمين وليس أحمد الله رب العالمين ؟.
ليرد مرزوق عبدالرحيم، موضحا، ان السر في ابتداء الفاتحة بالحمد لله رب العالمين وليس أحمد الله رب العالمين، فقد تعرض الفخر الرازي رحمه الله تعالى لهذه المسألة فقال: [اﻟﺤﻤﺪ ﻟﻠﻪ ﺃﺑﻠﻎ ﻣﻦ ﺃﺣﻤﺪ اﻟﻠﻪ] إن الله ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻟﻢ ﻳﻘﻞ ﺃﺣﻤﺪ اﻟﻠﻪ ﻭﻟﻜﻦ ﻗﺎﻝ: ( اﻟﺤﻤﺪ ﻟﻠﻪ ) لأن ﻫﺬﻩ اﻟﻌﺒﺎﺭﺓ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﺃﻭﻟﻰ ﻟﻮﺟﻮﻩ:
أﺣﺪﻫﺎ: ﺃﻧﻪ ﻟﻮ ﻗﺎﻝ ﺃﺣﻤﺪ اﻟﻠﻪ ﺃﻓﺎﺩ ﺫﻟﻚ ﻛﻮﻥ ﺫﻟﻚ اﻟﻘﺎﺋﻞ ﻗﺎﺩﺭا ﻋﻠﻰ ﺣﻤﺪﻩ ﺃﻣﺎ ﻟﻤﺎ ﻗﺎﻝ اﻟﺤﻤﺪ ﻟﻠﻪ ﻓﻘﺪ ﺃﻓﺎﺩ ﺫﻟﻚ ﺃﻧﻪ ﻛﺎﻥ ﻣﺤﻤﻮﺩا ﻗﺒﻞ ﺣﻤﺪ اﻟﺤﺎﻣﺪﻳﻦ ﻭﻗﺒﻞ ﺷﻜﺮ اﻟﺸﺎﻛﺮﻳﻦ، ﻓﻬﺆﻻء ﺳﻮاء ﺣﻤﺪﻭا ﺃﻭ ﻟﻢ ﻳﺤﻤﺪﻭا ﻭﺳﻮاء ﺷﻜﺮﻭا ﺃﻭ ﻟﻢ ﻳﺸﻜﺮﻭا ﻓﻬﻮ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻣﺤﻤﻮﺩ ﻣﻦ اﻷﺯﻝ ﺇﻟﻰ اﻷﺑﺪ ﺑﺤﻤﺪﻩ اﻟﻘﺪﻳﻢ ﻭﻛﻼﻣﻪ اﻟﻘﺪﻳﻢ.

دعاء المعجزات .. يجرّ إليك الخير جرًا ردّده دائمًا
ﺛﺎﻧﻴﻬﺎ: ﺃﻥ ﻗﻮﻟﻨﺎ اﻟﺤﻤﺪ ﻟﻠﻪ، ﻣﻌﻨﺎﻩ ﺃﻥ اﻟﺤﻤﺪ ﻭاﻟﺜﻨﺎء ﺣﻖ ﻟﻠﻪ ﻭﻣﻠﻜﻪ، ﻓﺈﻧﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻫﻮ اﻟﻤﺴﺘﺤﻖ ﻟﻠﺤﻤﺪ ﺑﺴﺒﺐ ﻛﺜﺮﺓ ﺃﻳﺎﺩﻳﻪ ﻭﺃﻧﻮاﻉ ﺁﻻﺋﻪ ﻋﻠﻰ اﻟﻌﺒﺎﺩ، ﻓﻘﻮﻟﻨﺎ: اﻟﺤﻤﺪ ﻟﻠﻪ ﻣﻌﻨﺎﻩ ﺃﻥ اﻟﺤﻤﺪ ﻟﻠﻪ ﺣﻖ ﻳﺴﺘﺤﻘﻪ ﻟﺬاﺗﻪ ﻭﻟﻮ ﻗﺎﻝ ﺃﺣﻤﺪ اﻟﻠﻪ ﻟﻢ ﻳﺪﻝ ﺫﻟﻚ ﻋﻠﻰ ﻛﻮﻧﻪ ﻣﺴﺘﺤﻘﺎ ﻟﻠﺤﻤﺪ ﻟﺬاﺗﻪ ﻭﻣﻌﻠﻮﻡ ﺃﻥ اﻟﻠﻔﻆ اﻟﺪاﻝ ﻋﻠﻰ ﻛﻮﻧﻪ ﻣﺴﺘﺤﻘﺎ ﻟﻠﺤﻤﺪ ﺃﻭﻟﻰ ﻣﻦ اﻟﻠﻔﻆ اﻟﺪاﻝ ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﺷﺨﺼﺎ ﻭاﺣﺪ ﺣﻤﺪﻩ ﻭﺛﺎﻟﺜﻬﺎ: ﺃﻧﻪ ﻟﻮ ﻗﺎﻝ ﺃﺣﻤﺪ اﻟﻠﻪ ﻟﻜﺎﻥ ﻗﺪ ﺣﻤﺪ ﻟﻜﻦ ﻻ ﺣﻤﺪا ﻳﻠﻴﻖ ﺑﻪ، ﻭﺃﻣﺎ ﺇﺫا ﻗﺎﻝ اﻟﺤﻤﺪ/ ﻟﻠﻪ ﻓﻜﺄﻧﻪ ﻗﺎﻝ: ﻣﻦ ﺃﻧﺎ ﺣﺘﻰ ﺃﺣﻤﺪﻩ؟ ﻟﻜﻨﻪ ﻣﺤﻤﻮﺩ ﺑﺠﻤﻴﻊ ﺣﻤﺪ اﻟﺤﺎﻣﺪﻳﻦ، ﻣﺜﺎﻟﻪ ﻣﺎ ﻟﻮ ﺳﺌﻠﺖ: ﻫﻞ ﻟﻔﻼﻥ ﻋﻠﻴﻚ ﻧﻌﻤﺔ؟ ﻓﺈﻥ ﻗﻠﺖ: ﻧﻌﻢ ﻓﻘﺪ ﺣﻤﺪﺗﻪ ﻭﻟﻜﻦ ﺣﻤﺪا ﺿﻌﻴﻔﺎ، ﻭﻟﻮ ﻗﻠﺖ ﻓﻲ اﻟﺠﻮاﺏ: ﺑﻞ ﻧﻌﻤﻪ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ اﻟﺨﻼﺋﻖ، ﻓﻘﺪ ﺣﻤﺪﺗﻪ ﺑﺄﻛﻤﻞ اﻟﻤﺤﺎﻣﺪ.
ثالثها: ﺃﻥ اﻟﺤﻤﺪ ﻋﺒﺎﺭﺓ ﻋﻦ ﺻﻔﺔ اﻟﻘﻠﺐ ﻭﻫﻲ اﻋﺘﻘﺎﺩ ﻛﻮﻥ ﺫﻟﻚ اﻟﻤﺤﻤﻮﺩ ﻣﺘﻔﻀﻼ ﻣﻨﻌﻤﺎ ﻣﺴﺘﺤﻘﺎ ﻟﻠﺘﻌﻈﻴﻢ ﻭاﻹﺟﻼﻝ، ﻓﺈﺫا ﺗﻠﻔﻆ اﻹﻧﺴﺎﻥ ﺑﻘﻮﻟﻪ ﺃﺣﻤﺪ اﻟﻠﻪ ﻣﻊ ﺃﻧﻪ ﻛﺎﻥ ﻗﻠﺒﻪ ﻏﺎﻓﻼ ﻋﻦ ﻣﻌﻨﻰ اﻟﺘﻌﻈﻴﻢ اﻟﻻﺋﻖ ﺑﺠﻼﻝ اﻟﻠﻪ ﻛﺎﻥ ﻛﺎﺫﺑﺎ، ﻷﻧﻪ ﺃﺧﺒﺮ ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻪ ﺑﻜﻮﻧﻪ ﺣﺎﻣﺪا ﻣﻊ ﺃﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻛﺬﻟﻚ، ﺃﻣﺎ ﺇﺫا ﻗﺎﻝ اﻟﺤﻤﺪ ﻟﻠﻪ ﺳﻮاء ﻛﺎﻥ ﻏﺎﻓﻼ ﺃﻭ ﻣﺴﺘﺤﻀﺮا ﻟﻤﻌﻨﻰ اﻟﺘﻌﻈﻴﻢ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻜﻮﻥ ﺻﺎﺩﻗﺎ ﻷﻥ ﻣﻌﻨﺎﻩ ﺃﻥ اﻟﺤﻤﺪ ﺣﻖ ﻟﻠﻪ ﻭﻣﻠﻜﻪ، ﻭﻫﺬا اﻟﻤﻌﻨﻰ ﺣﺎﺻﻞ ﺳﻮاء ﻛﺎﻥ اﻟﻌﺒﺪ ﻣﺸﺘﻐﻼ ﺑﻤﻌﻨﻰ اﻟﺘﻌﻈﻴﻢ ﻭاﻹﺟﻼﻝ ﺃﻭ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ومن ثم فثبت ﺃﻥ ﻗﻮﻟﻪ اﻟﺤﻤﺪ ﻟﻠﻪ ﺃﻭﻟﻰ ﻣﻦ ﻗﻮﻟﻪ ﺃﺣﻤﺪ اﻟﻠﻪ.
قال رحمه الله تعالى: ﻧﻈﻴﺮﻩ ذلك ﻓﻮﻟﻨﺎ ﻻ ﺇﻟﻪ ﺇﻻ اﻟﻠﻪ ﻓﺈﻧﻪ ﻻ ﻳﺪﺧﻠﻪ اﻟﺘﻜﺬﻳﺐ، ﺑﺨﻼﻑ ﻗﻮﻟﻨﺎ ﺃﺷﻬﺪ ﺃﻥ ﻻ ﺇﻟﻪ ﺇﻻ اﻟﻠﻪ ﻷﻧﻪ ﻗﺪ ﻳﻜﻮﻥ ﻛﺎﺫﺑﺎ ﻓﻲ ﻗﻮﻟﻪ ﺃﺷﻬﺪ، ﻭﻟﻬﺬا ﻗﺎﻝ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻓﻲ ﺗﻜﺬﻳﺐ اﻟﻤﻨﺎﻓﻘﻴﻦ ﻭاﻟﻠﻪ ﻳﺸﻬﺪ ﺇﻥ اﻟﻤﻨﺎﻓﻘﻴﻦ ﻟﻜﺎﺫﺑﻮﻥ [اﻟﻤﻨﺎﻓﻘﻮﻥ:1] ﻭﻟﻬﺬا اﻟﺴﺮ ﺃﻣﺮ ﻓﻲ اﻷﺫاﻥ ﺑﻘﻮﻟﻪ ﺃﺷﻬﺪ ﺛﻢ ﻭﻗﻊ اﻟﺨﺘﻢ ﻋﻠﻰ ﻗﻮﻟﻪ ﻻ ﺇﻟﻪ ﺇﻻ اﻟﻠﻪ.
سر ابتداء سورة الفاتحة بالتحميد وليس التسبيح
أوضح الدكتور مختار مرزوق عبدالرحيم العميد السابق لكلية أصول الدين جامعة الأزهر فرع أسيوط، أن من أسرار القرآن الكريم، السر في ابتداء سورة الفاتحة بالتحميد وليس بالتسبيح مع أن اﻟﺘﺴﺒﻴﺢ ﻣﻘﺪﻡ ﻋﻠﻰ اﻟﺘﺤﻤﻴﺪ، ﻷﻧك تقول : ﺳﺒﺤﺎﻥ اﻟﻠﻪ ﻭاﻟﺤﻤﺪ ﻟﻠﻪ ﻓﻤﺎ اﻟﺴﺒﺐ ﻫﺎﻫﻨﺎ ﻓﻲ ﻭﻗﻮﻉ اﻟﺒﺪاﻳﺔ ﺑﺎﻟﺘﺤﻤﻴﺪ؟ وما هي فائدة الابتداء بالتحميد والإكثار منه ؟.
وأجاب قائلا: إن القرآن إلكريم قد استخدم الجملتين ( الحمد لله رب العالمين ) كما في بداية الفاتحة كما استخدم سبحان الله رب العالمين في موضع آخر من القرآن إلكريم قال تعالى ( فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين ).
سر ابتداء سورة الفاتحة بالحمد وليس الشكر
ولكن الابتداء بالتحميد في أول القرآن له فائدة عظيمة في هذا الموضع نبه عليها الفخر الرازي رحمه الله تعالى بقوله : إﻥ اﻟﺘﺤﻤﻴﺪ ﻳﺪﻝ ﻋﻠﻰ اﻟﺘﺴﺒﻴﺢ ﺩﻻﻟﺔ اﻟﺘﻀﻤﻦ، ﻓﺈﻥ اﻟﺘﺴﺒﻴﺢ ﻳﺪﻝ ﻋﻠﻰ ﻛﻮﻧﻪ ﻣﺒﺮﺃ ﻓﻲ ﺫاﺗﻪ ﻭﺻﻔﺎﺗﻪ ﻋﻦ اﻟﻨﻘﺎﺋﺺ ﻭاﻵﻓﺎﺕ، ﻭاﻟﺘﺤﻤﻴﺪ ﻳﺪﻝ ﻣﻊ ﺣﺼﻮﻝ ﺗﻠﻚ اﻟﺼﻔﺔ ﻋﻠﻰ ﻛﻮﻧﻪ ﻣﺤﺴﻨﺎ ﺇﻟﻰ اﻟﺨﻠﻖ ﻣﻨﻌﻤﺎ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺭﺣﻴﻤﺎ ﺑﻬﻢ،وعلى هذا : يكون ﺎﻟﺘﺴﺒﻴﺢ ﺇﺷﺎﺭﺓ ﺇﻟﻰ ﻛﻮﻧﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﺗﺎﻣﺎ ﻭاﻟﺘﺤﻤﻴﺪ ﻳﺪﻝ ﻋﻠﻰ ﻛﻮﻧﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻓﻮﻕ اﻟﺘﻤﺎﻡ، ﻓﻠﻬﺬا اﻟﺴﺒﺐ ﻛﺎﻥ اﻻﺑﺘﺪاء ﺑﺎﻟﺘﺤﻤﻴﺪ ﺃﻭﻟﻰ، ﻭﻫﺬا اﻟﻮﺟﻪ ﻣﺴﺘﻔﺎﺩ ﻣﻦ اﻟﻘﻮاﻧﻴﻦ اﻟﺤﻜﻤﻴﺔ،ﻭﺃﻣﺎ اﻟﻮﺟﻪ اﻟﻻﺋﻖ ﺗﺤﺼﻴﻞ ﺑﺎﻟﻘﻮاﻧﻴﻦ اﻷﺻﻮﻟﻴﺔ ﻓﻬﻮ ﺃﻥ اﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻻ ﻳﻜﻮﻥ ﻣﺤﺴﻨﺎ ﺑﺎﻟﻌﺒﺎﺩ ﺇﻻ ﺇﺫا ﻛﺎﻥ ﻋﺎﻟﻤﺎ ﺑﺠﻤﻴﻊ اﻟﻤﻌﻠﻮﻣﺎﺕ ﻟﻴﻌﻠﻢ ﺃﺻﻨﺎﻑ ﺣﺎﺟﺎﺕ اﻟﻌﺒﺎﺩ، ﻭﺇﻻ ﺇﺫا ﻛﺎﻥ ﻗﺎﺩﺭا ﻋﻠﻰ ﻛﻞ اﻟﻤﻘﺪﻭﺭاﺕ ﻟﻴﻘﺪﺭ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻳﺤﺘﺎﺟﻮﻥ ﺇﻟﻴﻪ، ﻭﺇﻻ ﺇﺫا ﻛﺎﻥ ﻏﻨﻴﺎ ﻋﻦ ﻛﻞ اﻟﺤﺎﺟﺎﺕ، ﺇﺫا ﻟﻮ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻛﺬﻟﻚ ﻟﻜﺎﻥ اﺷﺘﻐﺎﻟﻪ ﺑﺪﻓﻊ اﻟﺤﺎﺟﺔ ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻪ ﻳﻤﻨﻌﻪ ﻋﻦ ﺩﻓﻊ ﺣﺎﺟﺔ اﻟﻌﺒﺪ ﻓﺜﺒﺖ ﺃﻥ ﻛﻮﻧﻪ ﻣﺤﺴﻨﺎ ﻻ ﻳﺘﻢ ﺇﻻ ﺑﻌﺪ ﻛﻮﻧﻪ ﻣﻨﺰﻫﺎ ﻋﻦ اﻟﻨﻘﺎﺋﺾ ﻭاﻵﻓﺎﺕ، ﻓﺜﺒﺖ ﺃﻥ اﻻﺑﺘﺪاء ﺑﻘﻮﻟﻪ اﻟﺤﻤﺪ ﻟﻠﻪ ﺃﻭﻟﻰ ﻣﻦ اﻻﺑﺘﺪاء ﺑﻘﻮﻟﻪ ﺳﺒﺤﺎﻥ اﻟﻠﻪ.
ففي الابتداء بالتحميد والإكثار منه أعظم الفوائد ومنها أن اﻟﺤﻤﺪ ﻟﻠﻪ ﻟﻪ ﺗﻌﻠﻖ ﺑﺎﻟﻤﺎﺿﻲ ﻭﺗﻌﻠﻖ ﺑﺎﻟﻤﺴﺘﻘﺒﻞ، ﺃﻣﺎ ﺗﻌﻠﻘﻪ ﺑﺎﻟﻤﺎﺿﻲ ﻓﻬﻮ ﺃﻧﻪ ﻳﻘﻊ ﺷﻜﺮا ﻋﻠﻰ اﻟﻨﻌﻢ اﻟﻤﺘﻘﺪﻣﺔ، ﻭﺃﻣﺎ ﺗﻌﻠﻘﻪ ﺑﺎﻟﻤﺴﺘﻘﺒﻞ ﻓﻬﻮ ﺃﻧﻪ ﻳﻮﺟﺐ ﺗﺠﺪﺩ اﻟﻨﻌﻢ ﻓﻲ اﻟﺰﻣﺎﻥ اﻟﻤﺴﺘﻘﺒﻞ، ﻟﻘﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﻟﺌﻦ ﺷﻜﺮﺗﻢ ﻷﺯﻳﺪﻧﻜﻢ [ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ: 7] ﻭاﻟﻌﻘﻞ ﺃﻳﻀﺎ ﻳﺪﻝ ﻋﻠﻴﻪ، ﻭﻫﻮ ﺃﻥ اﻟﻨﻌﻢ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﺗﻮﺟﺐ اﻹﻗﺪاﻡ ﻋﻠﻰ اﻟﺨﺪﻣﺔ، ﻭاﻟﻘﻴﺎﻡ ﺑﺎﻟﻄﺎﻋﺔ، ﺛﻢ ﺇﺫا اﺷﺘﻐﻞ ﺑﺎﻟﺸﻜﺮ اﻧﻔﺘﺤﺖ ﻋﻠﻰ اﻟﻌﻘﻞ ﻭاﻟﻘﻠﺐ ﺃﺑﻮاﺏ ﻧﻌﻢ اﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ، ﻭﺃﺑﻮاﺏ ﻣﻌﺮﻓﺘﻪ ﻭﻣﺤﺒﺘﻪ، ﻭﺫﻟﻚ ﻣﻦ ﺃﻋﻈﻢ اﻟﻨﻌﻢ، ﻓﻠﻬﺬا اﻟﻤﻌﻨﻰ ﻛﺎﻥ اﻟﺤﻤﺪ ﺑﺴﺒﺐ ﺗﻌﻠﻘﻪ ﺑﺎﻟﻤﺎﺿﻲ ﻳﻐﻠﻖ ﻋﻨﻚ ﺃﺑﻮاﺏ اﻟﻨﻴﺮاﻥ، ﻭﺑﺴﺒﺐ ﺗﻌﻠﻘﻪ ﺑﺎﻟﻤﺴﺘﻘﺒﻞ ﻳﻔﺘﺢ ﻟﻚ ﺃﺑﻮاﺏ اﻟﺠﻨﺎﻥ،وعلى هذا ﻓﺘﺄﺛﻴﺮﻩ ﻓﻲ اﻟﻤﺎﺿﻲ ﺳﺪ ﺃﺑﻮاﺏ اﻟﺤﺠﺎﺏ ﻋﻦ اﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ، ﻭﺗﺄﺛﻴﺮﻩ ﻓﻲ اﻟﻤﺴﺘﻘﺒﻞ ﻓﺘﺢ ﺃﺑﻮاﺏ ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ، ﻭﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻻ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻟﺪﺭﺟﺎﺕ ﺟﻼﻝ اﻟﻠﻪ ﻓﻜﺬﻟﻚ ﻻ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻟﻠﻌﺒﺪ ﻓﻲ ﻣﻌﺎﺭﺝ ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﻠﻪ، ﻭﻻ ﻣﻔﺘﺎﺡ ﻟﻬﺎ ﺇﻻ ﻗﻮﻟﻨﺎ اﻟﺤﻤﺪ ﻟﻠﻪ، ﻓﻠﻬﺬا اﻟﺴﺒﺐ ﺳﻤﻴﺖ ﺳﻮﺭﺓ اﻟﺤﻤﺪ ﺑﺴﻮﺭﺓ الحمد.

طباعة شارك لماذا جاء في بداية الفاتحة الحمد لله رب العالمين وليس أحمد الله رب العالمين الفاتحة السر في ابتداء الفاتحة بالحمد لله رب العالمين سر ابتداء سورة الفاتحة بالتحميد وليس التسبيح سر ابتداء سورة الفاتحة بالحمد وليس الشكر