إسرائيل في مفترق الحسم: هل تُشن حرب شاملة على لبنان؟
تاريخ النشر: 12th, September 2024 GMT
توالت هذا الأسبوع تهديدات قيادات إسرائيلية باحتمال شن حرب على لبنان، ولوحظ تصعيد في حدة الوعيد بالاجتياح البري. وفي زيارة له لقيادة المنطقة الشمالية، تحدث وزير الأمن الإسرائيلي الجنرال احتياط يوآف غالانت، بشكل صريح عن الحرب قائلا: «لقد أنهينا تدريب كل التشكيلات العسكرية نحو عملية برية في لبنان»، وتبعه رئيس الأركان الجنرال هرتسي هليفي: «الجيش بجهوزية عالية والخطط العملياتية مُعدّة ومستعد لتنفيذ أي مهمة تُطلب منه».
وبالمجمل تتزايد شدّة ووتيرة الدعوة لشن الحرب على لبنان، وتتراجع الأصوات الحاثّة على الامتناع عنها في هذه المرحلة. هذا لا يعني أن القرار قد اتخذ، لكن الحسم به قريب كما يبدو، خاصة بعد انقشاع جزء كبير من الضباب، الذي عطّله. وتبعا لتصريحات التصعيد الإسرائيلية، تزايد القلق الأمريكي من احتمال التدهور نحو حرب شاملة بين إسرائيل وحزب الله، خاصة في ظل الجمود الذي حلّ بالمفاوضات حول صفقة التبادل ووقف إطلاق النار في غزة. ونشرت صحيفة «هآرتس» أمس الأربعاء، أن الإدارة الأمريكية وجهت رسائل صارمة لإسرائيل تحثّها فيها على الامتناع عن أي فعل يمكن أن يؤدّي إلى حرب شاملة. ويستشف من التصريحات والتسريبات الأمريكية والإسرائيلية، أن الولايات المتحدة تلتزم بالوقوف إلى جانب إسرائيل في هذه الحرب، حتى لو كانت هي المبادرة إليها وحتى لو كان الأمر مناقضا لإرادة واشنطن.
أهداف التهديدات
هناك بالطبع بون شاسع بين التهديد بشن الحرب وشنّها فعلا. وليس واضحا إلى الآن لماذا يطلق مسؤولون إسرائيليون تهديدات الحرب بهذه الكثافة. لربما يكون مصدرها الصراع القائم بين القيادة العسكرية ومعها وزير الأمن غالانت، والقيادة السياسية المتمثّلة بشخص بنيامين نتنياهو. العسكر يعلنون ليل نهار أن الجيش جاهز للحرب، ونتنياهو قليل الكلام حول هذا الموضوع، إلى درجة أنه لم يدرج الملف اللبناني ضمن أهداف الحرب المقرّة رسميا. رسالة الجيش هي أن المشكلة عند نتنياهو الذي لا يحسم ولا يتخذ القرار، وليس عند القيادة العسكرية، التي تؤكد جهوزيتها لتنفيذ قرارات الحكومة. لقد دأب نتنياهو بعد السابع من أكتوبر إلى تحميل الجيش مسؤولية التقصير والفشل، وسرّب بأن القيادة العسكرية الحالية غير مؤهّلة لإدارة الحرب وتحقيق النصر فيها. والجيش من جهته يرد ويلقي الكرة في ملعب نتنياهو عبر تصعيد التهديدات والترويج لاستكمال الاستعدادات للحرب، والتصريح بأنّه بانتظار الأوامر من الحكومة والكابينيت.
، زادت احتمالات شن حرب عدوانية إسرائيلية على لبنان، لكن يبدو أن القرار لم يحسم، وهناك عوامل قويّة جدا ضده، بالأخص أن القيادة الإسرائيلية واعية إلى حجم الدمار الذي ستخلّفه الحرب، والثمن الباهظ الذي ستدفعه الدولة الصهيونية إن هي قررت خوض مغامرة غير محسوبة.
من جهة أخرى تتزايد التهديدات وترتفع حدة التصريحات والتسريبات تبعا لفشل مفاوضات الهدنة المؤقّتة في غزة، والهدف منها، كما يقولون، الضغط على حماس لتقبل بالشروط الإسرائيلية. هذا يتناقض مع التحليل الإسرائيلي المجمع عليه، بأن حماس معنية بتوسيع الحرب إلى حرب إقليمية، والتفسير لهذا التناقض هو أن ما يجري هو تهديد بالحرب وليس حربا فعلية، وهدفه «الضغط على حزب الله حتى يضغط على إيران حتى تضغط على حماس لتقديم تنازلات وللقبول بشروط نتنياهو لتعجيل التوصل إلى هدنة تمنع حربا إسرائيلية على لبنان». واتباع مثل هذا التكتيك هو مؤشر إلى يأس إسرائيلي من المسار الموازي: أمريكا تضغط على مصر وقطر وهما يضغطان بدورهما على حماس لتقبل بما تعرضه إسرائيل. من المهم الإشارة إلى أن القيادة العسكرية، هي التي تهدد بالحرب، وربما تفعل ذلك على أمل، ساذج باعتقادي، أن يقبل نتنياهو بشروط نتنياهو.
شروط الحرب متغيّرة
من الواضح أن حزب الله غير معني بحرب شاملة، ويرى أن دوره في هذه المرحلة هو مواصلة فتح جبهة الإسناد، التي يحرص على إبقائها مشتعلة، ما لم تتوقف حرب الإبادة في غزة. وقد رفض الحزب فصل الجبهتين الفلسطينية واللبنانية، ورد على التصعيد الإسرائيلي بتكثيف القصف الصاروخي. فقد ارتفع عدد الصواريخ التي يطلقها من 337 صاروخا في شهر يناير مطلع العام إلى 1307 صواريخ في أغسطس الماضي، وفق إحصائيات «برنامج الصراعات المسلحة ـ الموقع ومعلومات الحدث».
أمّا إسرائيل فهي تعلن على لسان نخبها الأمنية والسياسية كافة أنها ستشن حربا على لبنان، عاجلا أم آجلا. وحتى الذين يعارضون الحرب الآن، يرون أنه ينبغي التخطيط لها جيّدا، والمبادرة إليها لاحقا في الموعد المناسب، ولاحقا هذه تعني بضع سنين. وفي هذا السياق، ما زال النقاش في الدولة الصهيونية بشأن الحرب ومصير «النازحين الإسرائيليين» عن المستوطنات الحدودية في الجليل الأعلى، على أشّده، ويبدو أن هناك إجماعا لصالح شن الحرب في الشارع الإسرائيلي ولدى النخب والقيادات المختلفة، لكن الأمر لم يحسم بعد. لقد حصلت تغييرات وازنة في الظروف المحيطة والمؤثّرة على اتخاذ القرار الحربي، وسأحاول هنا باختصار استعراض «الشروط اللازمة لشن الحرب على لبنان» وما طرأ عليها من تغيّرات في الأشهر الأخيرة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن لكل شرط وزنه الخاص يرتفع وينخفض تبعا لتحوّلات السياق:
توفّر الذخيرة والأسلحة: قبل أشهر عارض الكثيرون في إسرائيل الحرب على لبنان بسبب النقص في الذخائر والأسلحة. لقد تغيّر هذا الواقع مؤخّرا وامتلأت مخازن الجيش الإسرائيلي بالعدة والعتاد والسلاح. وصرّح بعض الجنرالات بأن هذه لم تعد مشكلة، وأن ذلك يسهّل اتخاذ قرار بشن الحرب.
الشرعية الدولية: ما زالت الولايات المتحدة تعارض شن الحرب، وتبحث عن مخرج سياسي – دبلوماسي، وهي تعتقد بأن هدنة في غزة ستؤدّي إلى وقف إطلاق النار على خط الحدود اللبنانية وشمال فلسطين، وتفتح الباب أمام وساطة للتوصل إلى حل. في إسرائيل يسألون ليل نهار ماذا ستفعل الولايات المتحدة في حال فشل الوساطة؟ يبدو أن اللا جواب الأمريكية، تحوّل إلى جواب وهو أن الولايات المتحدة ستحمي إسرائيل في كل حال، سياسيا وعسكريا واقتصاديا. ولكن لنتنياهو حساباته الخاصة وقد يبادر إلى حرب في موعد مزدوج: الانتخابات الأمريكية في الخامس من نوفمبر المقبل وشهادته في المحكمة بشأن ملفات الفساد في الثاني من أكتوبر. يساعد ترامب في الفوز من جهة ويؤجّل شهادته إلى موعد غير مسمّى.
الشرعية الداخلية: اشتدت ضغوط النازحين عن مستعمرات الشمال لإيجاد حل يعيدهم مطمئنين إلى بيوتهم، وتزايدت تبعا لذلك المطالبة «الجماهيرية» بشن حرب على لبنان. وفي مظاهرة جرت هذا الأسبوع في نهاريا، شمال فلسطين، دعا المتظاهرون إلى «شن حرب قوية وإزالة التهديدات». الشارع الإسرائيلي يتجه أكثر فأكثر نحو تفضيل خيار الحرب. أمّا مشاهد الدمار في عشرات البلدات والمستعمرات الشمالية، فلها تأثير متناقض، فهي من جهة تدفع للانتقام والعمل على وقف مسلسل الدمار، ومن جهة معاكسة لها تأثير رادع، لأنها صورة مصغّرة عن الدمار الهائل الذي سيحصل في إسرائيل في حال اندلاع حرب شاملة. وعلى الرغم من ذلك وفي المحصلة، زاد تأثير ضغط مستوطني مستعمرات الشمال باتجاه شن الحرب.
العامل الاقتصادي: الأوضاع الاقتصادية في إسرائيل في تدهور مستمر وجميع مؤشّراتها باتجاه السلب، وتكلفة حرب الإبادة على غزة تصل إلى ما يقارب 70 مليار دولار ومرشّحة للزيادة، والمساعدة الأمريكية الإضافية بمبلغ 14 مليار دولار، لن تنشل الاقتصاد الإسرائيلي من ورطته. هناك من يقول إن الاقتصاد الإسرائيلي لن يتحمل حربا على لبنان ستزيد الطين بلة وتكلفتها ستكون أعلى بكثير من الحرب على غزة. العامل الاقتصادي يبرّد الحماس الحربي ويساهم في لجم الاندفاع نحو حرب شاملة على حزب الله.
جهوزية الجيش الإسرائيلي: من جهة تقليل عدد القوات الإسرائيلية في غزة، وجرى نقل قسم كبير منها إلى الشمال. من جهة أخرى قسم كبير من القوات النظامية وجنود الاحتياط، في حالة من الإعياء والإنهاك والتعب. ومن جهة ثالثة يجري تحضير قوات كبيرة لاجتياح لبنان. المهم أن القيادة العسكرية تعتقد أن لديها ما يكفي من القوّات الجاهزة للحرب، وهذا يساهم في قرار الذهاب إلى الحرب.
انسداد الباب السياسي: تعلن القيادة الإسرائيلية أنها ستذهب إلى الخيار العسكري في حال فشل الحل السياسي. لكنّها في المقابل أعدّت خطة بديلة لإعادة المستوطنين وتشمل مساعدات سخية وإعادة بناء ما تهدم وخطة أمنية دفاعية محكمة. والمرجّح أن تذهب إسرائيل إلى خيار الحرب في حال فشل الحل السياسي، لأن المستوطنين، كما يرشح من كلامهم، لن يقتنعوا بالخطة البديلة.
الخشية من العاصفة التامة: هذا هو الاسم الذي تطلقه إسرائيل على حرب إقليمية شاملة على كل الجبهات. إسرائيل تخشى التورّط في مثل هذه الحرب دون أن تكون مستعدة لها سلفا بدعم أمريكي وإقليمي كبير. هذا العامل يجعل إسرائيل أكثر حذرا في قرار الحرب.
عنصر المفاجأة: في الظرف الحالي فقدت إسرائيل عنصر المفاجأة في شن حرب على حزب الله. وعليه يدعو بعض المحللين العسكريين الإسرائيليين، إلى تأجيل شن الحرب إلى موعد تختاره إسرائيل ويضمن لها عنصر المفاجأة المهم في أي حرب.
بالمجمل، زادت احتمالات شن حرب عدوانية إسرائيلية على لبنان، لكن يبدو أن القرار لم يحسم، وهناك عوامل قويّة جدا ضده، بالأخص أن القيادة الإسرائيلية واعية إلى حجم الدمار الذي ستخلّفه الحرب، والثمن الباهظ الذي ستدفعه الدولة الصهيونية إن هي قررت خوض مغامرة غير محسوبة.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه لبنان الحرب حزب الله لبنان حزب الله الحرب دولة الاحتلال سياسة عربية رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة القیادة العسکریة الولایات المتحدة حرب على لبنان إسرائیل فی أن القیادة فی إسرائیل حرب شاملة الحرب على شن الحرب حزب الله یبدو أن فی حال من جهة فی غزة شن حرب
إقرأ أيضاً:
لماذا لا تستطيع إسرائيل أن تنتصر في غزة؟
عندما بدأت إسرائيل حربها على غزة في أكتوبر 2023، لم يكن الهدف المعلن أقل من «القضاء التام على حماس». بدا ذلك، لحظة انفعالية، وكأنه مهمة ممكنة. فإسرائيل دولة ذات تفوق عسكري لا يُضاهى في المنطقة، وتتمتع بدعم غربي سياسي وتسليحي ضخم، بينما تقاتل حركة محاصَرة، محدودة الموارد، ومعزولة جغرافيا. لكن أكثر من 20 شهرا من القصف والدمار والإبادة الجماعية لكل ما يدب على الأرض، لا يبدو النصر، وفقا للتوجيه السياسي المعلن والصادر للمؤسسة العسكرية، في الأفق، بل إن إسرائيل نفسها باتت أبعد من أي وقت مضى عن تحقيق أهدافها في الحرب.
ما الذي يحدث إذن؟ ولماذا لم تعد القوة العسكرية كافية لتحقيق الانتصار؟ ولماذا تصبح كل حرب تشنها إسرائيل على غزة أطول، وأكثر دموية، وأقل فاعلية؟
في عمق العقيدة العسكرية الإسرائيلية ـ كما هو الحال في كثير من العقائد العسكرية الغربية ـ ترسّخت فكرة الحرب الخاطفة، التي تحقّق النصر السريع من خلال الضربة الأولى الساحقة، وقد نجحت هذه العقيدة في حرب 1967، لكنها فشلت مرارا منذ ذلك الحين، خصوصا في مواجهة الخصوم غير النظاميين الذين يتقنون حرب المدن والأنفاق، ويجيدون تحويل نقاط ضعفهم إلى أدوات استنزاف طويلة الأمد.
تشبه الحالة الإسرائيلية في غزة ما يسميه بعض الاستراتيجيين «مغالطة الحرب القصيرة»؛ حيث يُفترض أن صدمة القوة ستدفع الخصم إلى الانهيار، لكن الواقع يُثبت أن الخصم ـ عندما يكون متجذرا شعبيا، وعقائديا، ومتحركا جغرافيا ـ لا يُهزم بهذه الطريقة، بل على العكس، كلما طال أمد الحرب، زادت فاعليته، واهتزت صورة القوة المتفوقة أمام جمهورها.
تُظهر تجربة إسرائيل في غزة أن التفوق العسكري وحده لا يكفي؛ فإسرائيل دمرت معظم البنية الأساسية في القطاع، وقتلت عشرات الآلاف، وهجّرت الملايين في غزة لأكثر من مرة، لكنها لم تستطع إقناعهم بالتخلي عن المقاومة، ولم تستطع فرض سيناريو «ما بعد حماس» رغم أنه كان شغل العالم الشاغل أكثر من شغلهم بإنهاء الحرب ووقف الإبادة. وفي غياب هذا السيناريو، تبدو الحرب بلا غاية واضحة سوى التدمير، وهذا ما يحدث الآن، فلا هدف واضح لجيش الاحتلال إلا التدمير والاستمتاع بالقتل والتجويع.. لكن هذا الأمر رغم فظاعته إلا أنه بات يفقد إسرائيل زخمها السياسي ويقوّض مشروعيتها الأخلاقية التي كانت توهم العالم بها.
وبينما تبحث إسرائيل عن «نصر كامل»، تواصل حماس الظهور والاختفاء، القتال والتكتيك، مقاومة القصف وممارسة الإعلام. لم تعد المعادلة تقتصر على مَن يملك الطائرات والدبابات، بل مَن يملك القدرة على الصمود، وعلى إدارة زمن طويل من القتال غير المتكافئ.. ومن يستطيع أن يقنع العالم بسرديته، ويبدو أن غزة تحقق تقدما عميقا في هذا الجانب رغم أنه بطيء جدا بسبب عملها منفردة في ظل غياب المشروع العربي الموحد في هذا الجانب.
وإذا كانت حرب إسرائيل الظالمة تفشل فإن السبب لا يعود كما يعتقد البعض إلى ضعفها العسكري ولكن إلى حجم التناقض بين الوسائل والغايات؛ فبينما تُستخدم القوة التدميرية بأقصى درجاتها، يبقى الهدف السياسي ـ القضاء على حماس ـ أو بمعنى آخر القضاء على المقاومة هدفا مجردا وغير واقعي بالنظر إلى عقيدة المقاوم الفلسطيني الذي ما زال متمسكا بحقه في أرضه وبأن مشروعه الأول هو تحرير أرضه من المحتل الإسرائيلي.
وأثبتت التجربة أن قتل القادة وتدمير المباني لا يعني نهاية المقاومة، بل إن رفض المحتل الإسرائيلي لأي شكل من أشكال الحل السياسي وإمعانه في التدمير والإبادة يحفز المقاومة ويوسع قاعدتها الشعبية وحاضنتها الاجتماعية وتغلغلها في العقيدة الفلسطينية. وما حدث في غزة خلال العامين الماضيين من شأنه أن يعمق الحقد ويحفز مشاريع الانتقام حتى عند أولئك الذين آمنوا في لحظة من اللحظات بفكرة «السلام» مع إسرائيل.
ومن الواضح أن الحروب بين الاحتلال والمقاومة في العقدين الماضيين لا تنتهي إلى نتيجة واضحة، إنها أقرب إلى «صراعات بلا نهاية»، لا اتفاقات سلام واضحة ولا بيانات استسلام، بل جولة تضع بذورا لجولة أخرى، وكل هدوء هش يفضي إلى انفجار عنيف جدا وهو ما يجعل من الصعب قياس النصر والهزيمة.
رغم ذلك فإن «حماس» في نظر الفلسطينيين والكثير من العرب تنتصر بمجرد بقائها على قيد الحياة، واستمرارها في المقاومة أو نجاحها في تنفيذ عملية نوعية مهما كانت نتائجها، وهذا يعكس الفارق بين من يُقاتل من أجل بقاء دولة، ومن يُقاتل من أجل بقاء القضية.
ربما كان الدرس الأهم من هذه الحرب ـ والحروب التي سبقتهاـ هو أن الاستراتيجية العسكرية يجب أن تكون امتدادا لرؤية سياسية واضحة، وليس بديلا عنها، وحين تنفصل عن السياسة، تتحول إلى عبث.
تستطيع إسرائيل أن تُلحق أذى هائلا بغزة كما تفعل الآن، لكنها لا تستطيع فرض السلام من طرف واحد، ولا بناء واقع دائم بالقوة فقط.
لكن ما يعيق إسرائيل عن تحقيق النصر في غزة ليس فقط قدرة حماس على القتال، بل غياب الاعتراف الإسرائيلي بأن هذا النوع من الحروب لم يعد يُنتصر فيه بالطريقة التقليدية، وقد آن الأوان أن تعترف بأن قوة السلاح وحدها لا تكفي، وأن غزة ومن فيها واقع لا يمكن أن تمحي وجوده أبدا وإن لم تبدأ بقراءة هذا الواقع بعيون سياسية لا عسكرية، فستظل تدور في حلقة حرب لا تنتهي، وتتحول حربها الظالمة بالضرورة إلى مجرد إبادة إنسانية.
عاصم الشيدي كاتب ورئيس تحرير جريدة عمان