الاستعلاءُ النُّخبوي والغَرقُ في وحلِ إيران
تاريخ النشر: 27th, September 2024 GMT
لطالما أدّت النُخب المثقفة ورجال الفكر أدواراً محورية في الظروف التاريخية الحرجة، وتزخر صفحات تاريخنا العربي والإسلامي بأمثلة لا حصر لها. غير أن الأحداث الراهنة، وعلى وجه الخصوص حرب غزة، والهجوم الإسرائيلي على جنوب لبنان، كشفت بوضوح عن انسياق شريحة معروفة من النخب والمفكرين العرب والمسلمين خلف المشروع الإيراني، سواء عن قصد أو من دون قصد، تحت ذريعة أن إيران الدولة الوحيدة التي ناصرت قضية فلسطين، بعدما خذلتها الحكومات العربية.
وقد بلغ هؤلاء درجةً من الانحدار في خطابهم، دفعنا إلى مراجعة المفاهيم، ومحاولة إعادة تعريف المثقف. وبالرجوع إلى معاجم اللغة العربية، وجدت أن “المثقف” مشتق من الجذر “ثَقِفَ”، الذي يدل على الحذق والفطنة في مجال ما، سواء كان مادياً أو فكرياً، إلا أن استخدام هذا المصطلح في السياق العربي والإسلامي لا يتجاوز نصف قرن، فيما يُستمد في الثقافة الغربية من المصطلح الإنجليزي”Intellect”، الذي يشير إلى الشخص المنتمي إلى طبقة “العُمال الفكريين”.
وقد تعمق الغربيون في دراسة دور المثقف العضوي، وكان من أبرز من تناول هذا الطرح المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، في كتابه “دفاتر السجن”، مطلع القرن العشرين. ووفقاً لغرامشي، فإن المثقف العضوي لا يَقتصر دوره على التعليم أو العمل الأكاديمي، بل هو فاعل نشط في الكفاح الاجتماعي والسياسي لتحقيق تغييرٍ ملموسٍ. وتأثر به المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، حيث رأى أن للمثقف دوراً اجتماعياً محورياً، وقسم المثقفين إلى فئتين: المثقف العضوي، الذي يحمل هموم الطبقات الاجتماعية كافةً، ويواصل العطاء عبر الأجيال. والمثقف التقليدي، الذي يبقى منعزلاً في “برجه العاجي”، متصوراً أنه أعلى من الجميع. فيما رأى المفكر المصري نصر حامد أبو زيد أن المُثقَّف هو الإنسان الذي ينخرط في عملية إنتاج الوعي الديني والشعوري والفكري والأخلاقي. ومن ثم فإن النخبة المثقفة تدل على المثقفين الذين يمتلكون دوراً رئيسياً في توجيه الرأي العام، والإسهام في تشكيل الأفكار، والقيم الثقافية للمجتمع.
علة الوعي في فهم المشروع الإيراني
يعاني بعض المثقفين والنخب العربية والإسلامية من إشكالية عميقة في فهم المشروع الإيراني، إذ انغلقوا في رؤاهم التي تدعو إلى “وحدة الأمة” و”التضامن الإسلامي”، مما جعلهم أدوات إعلامية تخدم مشروع “الولي الفقيه” في إيران. وهذا المشروع السياسي والعقائدي الذي أعاد صياغة نفسه مؤخراً، وأعلن بصورة صريحة فلسفته العدائية تحت شعار “الجبهة الحسينية ضد الجبهة اليزيدية للأبد”، في إشارة واضحة إلى الصراع الذي يراه مستمراً ضد خصومه من أبناء الأمة الإسلامية.
وبدلاً من أن يقرأ هؤلاء المثقفون أحداث التاريخ بعين فاحصة، ويُمعنوا النظر في خطاب “الولي الفقيه”، الذي بُثّ بلغتهم العربية، راح بعضهم يلتمس تأويلات إيجابية لهذا الخطاب لا يحتملها النص الصريح، ولم تخطر أساساً في بال قائلها نفسه، وانخرطوا في دعوات للوحدة الإسلامية الشاملة بين جميع المذاهب والأعراق، وكأن أبناء الأمة العربية والإسلامية هم المتسببون في الطائفية، وتعميق العداء التاريخي، وهو ما دفع الباحث الفلسطيني مضر أبو عبد الله للقول: “التصور الإسلامي تجاه المشروع الإيراني عليل”، حيث ينظر هؤلاء المثقفون إلى المذهب الاثني عشري بمنظور فقهي تقليدي، دون إدراك للتحولات التي أضافتها عقيدة “الولي الفقيه” في الإيديولوجيا السياسية الإيرانية المعاصرة.
هذا المشروع لم يعد محصوراً في الإطار الفقهي اليوم، بل تحول إلى مشروع سياسي وعسكري توسعي، يمتلك جيوشاً، وقدرات مالية وإستراتيجية، وفي طريقه لامتلاك سلاح نووي، وهذا ما جعله لاعباً خطيراً في تدمير المجتمعات العربية من داخلها، حيث استفادت إيران من تقارب مصالحها مع القوى الغربية في المنطقة، مما جعلها قوة فاعلة في المشهد السياسي، وسيطرت خلال عقدين من الزمن على أربع عواصم عربية “مهد الحضارة العربية والإسلامية”.
فوقية ونرجسية نخبوية!
لم تستفد النخب العربية والإسلامية من دروس التاريخ في فهم طبيعة الدور الإيراني تاريخياً، والأدهى من ذلك أن بعضهم أصبح بعد الطوفان يعتبر إيران جزءاً من الأمة، دون أن يُكلفوا أنفسهم عناء البحث عن معنى “الأمة” في المعاجم اللغوية. فالأمة، وفق المفهوم “Nation”، تشير إلى جماعة من البشر يجمعهم رابط مشترك واحد، سواء كان دينياً أو ثقافياً أو لغوياً أو تاريخياً، وبذلك تُعبر عن حالة من الوحدة الجماعية التي تتجاوز الحدود الجغرافية. فأين هي تلك المقومات الجامعة التي تربطنا بالإيرانيين وأتباعهم في المنطقة العربية؟!
وأخذ أولئك المثقفون العرب، بكل نرجسيةٍ وتَعالٍ، يروجون في كتاباتهم، ومداخلاتهم الإعلامية، أن حرب إيران ليست ضد عدو صائل، بل حرب داخلية، وترافقت هذه الرؤية السطحية مع اتهام كثير من الناس بالجهل، والانسياق وراء الطائفية، وحتى الاتهام بالصهينة والخيانة، حتى غدت هذه السمات طاغية على خطاب النخب الذين قصدناهم، وأصبح الاستعلاء، والتمادي على الناس، والاستخفاف بمعاناتهم، سمة بارزة لتلك الفئة.
ونتيجة تماهي هؤلاء المثقفين مع المصالح الإيرانية، تحولت خطاباتهم إلى مجرد شعارات جوفاء، فاقدة إلى المصداقية، وهو ما أدى إلى تراجع مكانتهم بين الفئات التي كانت تنظر إليهم باحترام، وتقدر علمهم، وفكرهم؛ فلا هم حفظوا مكانتهم بصمتهم، ولا هم نَطقوا بخير حين نطقوا، أو أصلحوا أحوال أمتهم بحكمة وعقل واتزان، وقد صدق قول أحد المفكرين فيهم: “هناك فئة مثقفة تسعى دائماً إلى تعزيز استعلائها على الهياكل الاجتماعية والثقافية، بينما تترك الناس في الهامش”.
ما حاجة الناس إلى علمٍ لا ينفع صاحبه؟!
حين قرر خوض غمار السياسة كاد يشعل حرباً إقليمية بين بلدين مسلمين، في ظل أوضاع متأزمة بينهما. وعندما قال: “زمن الريسوني قد ولى إلى غير رجعة”، استبشرنا خيراً بأن الرجل سيعود إلى ميدانه الذي أبدع فيه، حتى وصفه المختصون بأنه “شاطبي العصر في مقاصد الشريعة”. غير أنه عاد مع اندلاع حرب غزَّة ليقف في وجه المشككين في الدور الإيراني، ويصرح بأن “المسلمين الشيعة قد أيدوا ونصروا إخوانهم المجاهدين في أرض فلسطين.. وبذلوا في ذلك أرواحاً وأموالاً وأسلحة، وتضحياتٍ جساماً، لم يقدم أهل السنة شيئاً منها”، متناسياً الجرائم الشنيعة، والانتهاكات الجسيمة التي ارتكبتها إيران وميليشيات “حزب الله” في سورية والبلدان العربية، وما زالت، من قتل وتشريد واغتصاب، بل استخف بقاعدة شعبية عريضة من أبناء الأمة، والتي تمثل “الحاضنة التاريخية” لشعب فلسطين، وقضيته العادلة.
أكثر الشيخ من مؤلفاته ومداخلاته، لكن للأسف لم تنعكس هذه الإنتاجات الفكرية على مواقفه السياسية والإنسانية. بل على العكس، بقي متمسكاً برواية من تاريخنا الإسلامي يتهم فيها بني أمية بشتم آل البيت على منبر رسول الله ﷺ حتى عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز، ناسياً دور تلك الدولة في حفظ عقيدة المسلمين، والدفاع عن شرف الأمة، وبناء شخصيتها الحضارية، ولم يتذكر من حاضر الأمة إلا دور إيران المزعوم في نصرة المسجد الأقصى وفلسطين. وبدا لي الإشكال الأكبر في عقلية الشيخ حينما بادرناه بالنصح، فاستقبل ذلك بإصرار على الرأي، بقوله: “يا ولدي، إن نُرد إلا الإصلاح بين أبناء الأمة”. ولم يفكر بعواقب موقفه، وإن نخشاه هو أن إيران التي يحاول تحسين صورتها في المغرب الأقصى، بدأت تلقى دعايتها الشيعية قبولاً لدى محبيه، وخاصة أن البيئة الصوفية هناك مستعدة لاستقبال مثل هذه الأفكار.
وينبري أكاديمي آخر “مثقف” كان له وزنٌ كبيرٌ بين المفكرين الإسلاميين، وذلك حين كان همه الأساسي التصدي للظلم، ونصرة المستضعفين، ورغم أنه حاول جاهداً في تنظيراته السياسية أن يبين أن المشكلة الجوهرية للأمة نابعة من عهد بني أمية “العهد السفياني”، فإننا كنا نقول: هذه وجهة نظره، ونحسن الظن بأن هدفه هو محاولة بناء الوعي، والتعلم من أحداث التاريخ. ولكن المفاجأة كانت حين شمر عن ساعديه في حرب غزة، محاولاً إثبات أن الجهاد في هذه الأمة مشروع واحد، يضم في خندقٍ واحد السني والشيعي، أيّ الإيراني والسوري واليمني والعراقي واللبناني والفلسطيني، وأبناء الأمة جمعاء من جاكرتا إلى طنجة، وأن العدو الصائل هم اليهود.
وبدأ بنشر سلسلة من التغريدات والمقالات التي أظهرت تخبطه الفكري، وسطحية طروحاته، وضعف مقارباته السياسية، حتى غرق الرجل في الوحل الإيراني بكل معنى الكلمة. والغريب أنه كان نموذجاً يحتذى به لدى عدد من الشباب الملتزمين بقضايا الأمة، خاصةً أنه على دراية بمعاناة الناس الذين هشمت إيران عظامهم، وقتلت أبناءهم. ورغم ذلك أحذ يُكرر بأن إيران ليست “عدواً صائلاً”، بل “شقيقٌ جائر”. ونشر على حساباته أن “إيران جزءٌ من نسيج الأمة، وإسرائيل كيان لقيط غريب، وإيران جار دائم باقٍ، وإسرائيل جار مؤقت زائل”، وأخذ يستصغر شباب الأمة، ويحظر كل من يُعقب على آرائه في حساباته في مواقع التواصل الاجتماعي.
أيها المفكر الحذق؛ أيهما أخطر: عدو يحتل فلسطين بناءً على أكاذيب تاريخية مفضوحة عند القاصي والداني، أم عدو يخترق الأمة كالسرطان من داخلها، ويفكك مجتمعاتنا، ويُفسد أبناءها؟ وهل انتهت مأساة الشعب السوري والعراقي واليمني واللبناني؟ وهل توقف الإيرانيون وأذرعهم الميليشياوية عن أعمالهم الإجرامية في بلادنا؟ وهل تطلبون من الشعب السوري الحرّ، الذي يُقتل كل يوم من إيران وحزبها اللبناني، أن ينسى واقعه الأليم، ويتصالح مع المجرمين الظلمة الذين لم يُظهروا أي ندم على جرائمهم، أو اعتذار عن مساندة الطاغية الأسد الذي قتل شعبه؟! ألا ترى أعينكم بأن في سورية وحدها أكثر من 47 ميليشيا شيعية إيرانية موزعة في 515 نقطة عسكرية، و55 قاعدة عسكرية، ويساندون الأسد والروس في قتل وإذلال الشعب السوري!؟.
الذاكرة الضائعة.. وأوميغا 3 هو الحل
إن “أوميغا 3” يمثل حلاً ناجعاً لاستعادة الذاكرة الضائعة، ففي الوقت الذي تتناسى فيه بعض المثقفين العرب والمسلمين ما ارتكبته إيران بحق الفلسطينيين في العراق، بعد الغزو الأمريكي في أعوام 2004 وحتى 2007، إذ قتلوا منهم المئات قبل أن يُهاجروا إلى دول أمريكا الجنوبية، فإنه يغيب عن هؤلاء ما ارتكبته قوات إيران وحزب الله من جرائم بشعة خلال حصار مخيم اليرموك الفلسطيني، وتجويع سكانه، وتدميره بالكامل، إضافة إلى تدمير تجمعاتهم في ريف دمشق، وحمص، واللاذقية، وكذلك موت العشرات من الفلسطينيين – السوريين تحت التعذيب في سجون الأسد وإيران.
وفي مقابل هذا الاستعلاء لدى بعض النخب والمثقفين العرب والمسلمين، والغرق في وحل المشروع الإيراني، نجد صمتاً غريباً من بعض العلماء ورجال الفكر، إذ كان دورهم سلبياً في انسحابهم، وعدم تحملهم المسؤولية، وتركهم الناس بلا توجيه أو قيادة أو توعية. فأين هم من مراقبة الله؟ وأين هم من كشف خطر مشروع “ولاية الفقيه”، الذي يشوه عقيدتهم وتاريخهم، ويهدد مستقبل أبنائهم؟
إن الرسالة السامية التي يحملها رجال الفكر والإعلام والدعوة تجاه مجتمعاتهم وأمتهم، ذات قيمة بالغة، إذ يمثل هؤلاء الرأس للجسد في زمن الأزمات، وحين يتحلى أحدهم بالمسؤولية الكاملة، يُوصف بالمثقف العضوي، وهو الذي يُحرّك الذاكرة التاريخية، ولا يفصل بين القضايا المصيرية بتأويلات واجتهادات مزاجية، ولا يقرأ التاريخ قراءة مجتزأة، بل يُعيد إحياء الأفكار والمعاني الروحية والجمعية في نفوس الثائرين، ويقول كلمته بجرأة. وتتمثل مهمته الأولى والأخيرة في البحث عن الحقيقة، وبذلك يستحق بجدارة لقب “مثقف المجتمع”، أو “المثقف العضوي”.
وأختم بالقول: إن القضية المركزية في هذه المعركة ليست الجغرافيا فحسب، بل العقيدة والقيم والدماء والأعراض والتاريخ والمجتمع والثقافة “منظومة متكاملة”، ويكون المثقف أمام اختبارٍ وتحدٍّ أخلاقي ووجداني، وعليه أن يتحول من مغرّد إعلامي أو متفلسف سياسي إلى قائد اجتماعي وفكري على منهج الرسول ﷺ وصحبه الكرام (رضوان الله علبهم)، ورجال الفكر والتنوير في هذه الأمة، رافعاً مستوى الوعي الجمعي، وحاملاً مهمة الإصلاح بين الناس على أساس الوفاء والعدل والإحسان.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
المصدر: عين ليبيا
كلمات دلالية: العربیة والإسلامیة المشروع الإیرانی أبناء الأمة الذی ی
إقرأ أيضاً:
نكبة فلسطينية أم انقلاب عربي؟
قد يبدو غريبا ـ ربما شاذا ـ أن نتحدث عن أمل في عتمة اليأس، أو أن نمتدح تدفق شلالات النور في قلب الظلام الدامس، وقبل أكثر من عشرين سنة، كانت الأحوال على ما قد نتذكر، كان الجنرال آرييل شارون قد أكمل لتوه اجتياح الضفة الغربية، مدنا وقرى ومخيمات، وكانت السكين تقترب من رأس الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وكان الوضع العربي عموما على ما نعرف من العجز وبؤس المشهد، وفي غمرة الانفعال باللحظة المؤسية، كتبت وقتها تعليقا على ما جرى في الأمة المنكوبة حكاما وشعوبا، نصا «هذه أمة لا يغفر الله لعصاتها، ولا يستجيب لدعاء تقاتها»، ومن شرفة التاريخ اليوم، يبدو ما كتبت وقتها ظلما لما كان، ولا يقاس سلبا إلى ما يقع اليوم، أو لا يقع، فلم تعد لأوصاف من نوع الانهيار والقعود والخيبة والخيانة إن شئت، من معنى يعقل، بل تعدت الأمة حكومات وشعوبا حواجز التردي كلها، وتعدت القاع إلى قاع القاع، ولم يعد للأمة المهزومة المخذولة من معنى مرئي، وانتهت إلى جثة، صارت في طور «التحلل الرمى» بمجازات التشريح الطبي.
وأيا ما كان تعريفك للأمة عربية كانت أو إسلامية، فحالة «التحلل الرمى» أقرب وصف للأمة إياها، وعلى الجبهة الفلسطينية الأمامية، تجرى أهوال يوم القيامة، والعذاب الأسطوري للشعب الفلسطيني، الذى يذبحونه بالجملة، وتقطع أشلاؤه كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة، وحمم النار تحرق كل شيء بشرا وحجرا وشجرا.
وتتلاحق صور المحرقة المهلكة بالصوت والصورة، تستصرخ الضمائر الحية في عواصم بعيدة، بينما لا حس ولا خبر ولا آهة ألم في ما نسميه مجازا بعوالم العرب والمسلمين.
وعلى النحو الغالب الأعم، لا في الشوارع ولا في قصور الحكم، والكل ـ تقريبا ـ يدير ظهره ويشيح بصره حتى لا يرى حقول الدم، إلا من عصم ربك وهم قليل، وفي ساحات بعينها لعل أظهرها في اليمن الأشد فقرا وعاصمته العزيزة صنعاء، التي تخلو من البهارج والقصور وليالي «الهنك والرنك» وموائد الطعام الممدودة، فهم يحصلون على ما يسد الرمق بالكاد، وينافسون بجوعهم ما يجري من مجاعة مفروضة على أهل فلسطين، لكنهم يرسلون صواريخ النجدة يوميا إلى فلسطين المحتلة، التي وإن جرى اعتراضها وإسقاط أغلبها قبل تدمير أهدافها داخل كيان الاحتلال، فإنها تقتل الروح المعنوية لمستوطني الكيان، وتصيب ملايينهم بالفزع والرعب، والفرار إلى الملاجئ، وتهزمهم بالخوف قبل شظايا الصواريخ.
وأيا ما كان رأيك ورأيي في «الحوثيين»، وما فعلوا مع غيرهم باليمن الممزق المتألم، فقد تحولوا إلى ظاهرة كاشفة لمعدن الأمة الغائب، ولقدرتها المحجوزة في أكفانها، وهذا هو الوجه الآخر المغيب لظاهر الموات و»التحلل الرمى» العربي المعمم، تماما كما أن صمود الفلسطينيين الإجباري، وخبزهم لتراب وطنهم بأنهار الدماء، ومحنتهم التي جعلتهم «شعب الله المختار» في زماننا بامتياز، وتخلق تاريخا جديدا طالعا من رماد، لا تخبو فيه أمارات المقاومة الإعجازية من عشرات آلاف الشباب، يسكنون كما شعبهم في العراء وبين الأنقاض، وفي أنفاق تحت الأرض وفوقها، ويصنعون خبزهم ـ كفافهم وقنابلهم وعبواتهم ورصاصهم الذي لا ينفد.
ولا تزال السيرة باقية إلى الأجل غير المعلوم، وتلهم القادمين على ضفاف فلسطين في لبنان الذي يشتعل جمره تحت الرماد، وتظهر نداء الشهيد «محمد الضيف» «حتى في سوريا، التي يلحقونها بأمن «إسرائيل»، ويقتطعون من لحمها لتأكل «بهائم إسرائيل»، وتعبير «البهائم» ليس من عندي، بل هو لكاتبة «إسرائيلية» غاضبة من قطيع المعتاشين على الدم الفلسطيني، وصفت به في صحيفة «هآرتس» مسيرات أعلام المستوطنين، وهم يجتاحون المسجد الأقصى في ذكرى النكبة الكبرى، ويدنسونه بصلواتهم ورقصاتهم «التلمودية»، ويعدون لهدم «الأقصى» وإقامة هيكلهم المزعوم على أنقاضه.
ما أردت قوله إن كل عدوان يزكي نقيضه، وكل موات تبعثه فيه حياة جديدة، مهما عصف الألم وسالت الدماء واستبد الطغيان الوحشي، وإن ظلامنا الدامس لا يخفي شرر النور في رماده، وإن لحظات المآسي تعقبها ـ ربما ترافقها ـ المغازي الكفاحية النبيلة، فوقت أن كتبت قبل أزيد من عشرين سنة ما كتبت، وكدت أنعى الأمة التي نساها الله فأنساها نفسها.
كانت عيني كغيري على ظاهر التدهور والانحدار، مع أن أمة الحقيقة على الجانب الآخر، كانت تصنع بدماء المقاومين القلة تاريخا آخر، كان عبر وقتها من تحرير جنوب لبنان بالدم الذي كسر السيف، وانتقل إلى فلسطين المحتلة مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ونجح في دفع العدو المحتل إلى الجلاء من طرف واحد عن غزة، التي تحولت بعدها رغم القهر والحصار إلى فلسطين مصغرة مكثفة، خاضت حروبا ضارية وحدها، هي أطول حروب عرفها تاريخ الصراع مع العدو «الإسرائيلي» الأمريكي.
ووصلت إلى ذروتها بعد زلزال السابع من أكتوبر 2023 الذي أعلن فيه محمد الضيف بيانه الأول من وراء الظلال، وعلى مدى عشرين شهرا إلى اليوم، كانت حرب الإبادة كفيلة بمحو أمة الملياري نسمة، لكنها عجزت عن كتم أنفاس «غزة» ذات المليونين، التي ظلت وتظل تصرخ وتنزف وتجوع وتعرى وتقاوم، وصهرتها النيران والمحارق والمجازر.
وحولت أهلها إلى صورة هي الأصفى والأنقى لجوهر الأمة الذاهلة الغائبة في موات طويل ذليل، لكن «غزة» الدامية ذاتها، سوف توقظ الأمة ولو بعد حين، من رقدة أهل الكهف، فقد نتلفت إلى ما يجري هنا أو هناك، ولا نجد ظاهرا غير قبض الريح والهوان بلا آخر، وهدايا تريليونات الدولارات إلى دونالد ترامب قرن الشيطان وقائد حرب الإبادة الجماعية والاجتثاث العرقي، مع خزي الأنظمة وحكامها، ومباريات الممالك، وتسابقها للفوز بمحبة الكاوبوي ترامب ورضا بنيامين نتنياهو، ومسارعة البعض من غير المرضي عنهم إلى «إعادات تموضع»، وإلى استدارات تكتيكية في المكان نفسه، لكن أحدا في ختام الأمر لن ينجو من مضاعفات وأهوال يوم القيامة في «غزة».
فما جرى ويجري ليس نهاية قصة ولا نكبة فلسطينية جديدة، كما يحلم المتخاذلون وغربان الشؤم، بل نحن ـ في ما نظن ـ على أعتاب انقلاب عربي جديد، لن تستقر معه صورة الشرق الأوسط الجديد المستهدف، ولن تدوم فيه سيادة «إسرائيل» على ما عداها، ولا الترتيبات التي أعدوا لها، ويشرعون فيها، لا إلى الشرق والشمال من جغرافيا كيان الاحتلال، ولا في الغرب والجنوب بالذات، ربما نكون بصدد حركات مقاومة جديدة طالعة من غرس الدم، وبصدد تغييرات سياسية واستراتيجية فيها طابع الإجبار لا الاختيار،.
وكما تزحف المخاطر داهمة بإفناء الفلسطينيين ودفعهم إلى التهجير، فإن دماء «غزة» ودمارها، تعلم المحبين والكارهين، أن الخضوع للكيان «الإسرائيلي» ليس فرضا ولا سنة، ولا شرطا لحياة ولا لبقاء، ولا الركوع لسيد البيت الأبيض من لزوم ما يلزم في الصلوات الخمس، خصوصا أنهم جربوا الوصفة المسمومة على مدى نصف قرن ويزيد، فلا هي صانت أوطانا ولا حمت عروشا ولا كفلت عيشا كريما، والعودة إليها غباء مطلق، وبالذات مع ما يجري عاصفا متلاحقا من تغيرات في خرائط القمة الدولية، التي لا تشير أبدا إلى اتصال طغيان أمريكا وانفرادها بمصائر العالم، وهي التي مشت على بطنها مضطرة لعقد اتفاق وقف نار مع جماعة بمقاس «الحوثي»، بعد أن طاشت غارات ترامب وحاملات طائراته وقوته المسلحة «العظمى» مع الريح، فما بالك إذا استيقظت قطاعات أكبر من الأمة المغيبة في مواتها، ووعت درس التحدي الذى يصنع المعجزات.
والخلاصة فيما يجري اليوم وغدا، أن من يريد أن يشتري يأسا، فبضاعته في السوق كثيرة مغرية، لكنه اليأس الذى ينجب أملا يبدو لناظره مستحيلا، ونحن لا ننظر بل ننتظر بعد كل هذا القتل والدمار والنيران، وقد زالت وتزول معه كل ممالك الأوهام، وثبت أن طلب السلام مع كيان العدوان الهمجي ليس له من معنى، إلا أن يكون خضوعا واستسلاما، لن يحفظ حتى رقاب المستسلمين والخانعين، فطوفان النيران يزحف، ولن يحفظ أمنا لأحد، حتى لو طبعت كل الدول العربية مع «إسرائيل» كما قال رئيس أكبر دولة عربية، فلم تعد «إسرائيل» تطلب مزيدا من «تطبيع»، بل تريد «التتبيع» الكامل، والاستيلاء المباشر على الأرض ودهس العرض، والحكام الذين يطلبون وظائف الخدم في البيت «الإسرائيلي»، لا يخدعون أحدا بأقنعة شرق أوسط جديد ولا قديم.
القدس العربي