محمد عبدالسميع

أخبار ذات صلة كارلوس خويديس: توفير تسجيلات عالية الجودة وأفلام وثائقية مريم الشحي: «أصوات من رأس الخيمة» رحلة في نغم الموروث

القول إنّ «الموسيقى هي لغة الشعوب» قولٌ صحيح، تدعمه هذه «التراثات» المحمولة على الموسيقى المعبّرة في حقيقتها عن المجتمع وسِماته الاجتماعية وسلوكه في المظاهر الاحتفالية ورؤيته للحياة بشكلٍ عام.

والدول تفزع إلى تراثها وتقرأه وتبذل لأجله الوقت والمال لكي يكون متاحاً للاطلاع، ويعطي صورةً عن مجتمعها والتأثيرات الحضارية والجغرافية والأطياف السكانية التي مرّت عليه.  
وفي هذا الملف الذي يتزين بإبداعات عدسة المصور الفوتوغرافي سالم الصوافي، نستعرض أهمية وتفاصيل مشروع «استكشاف التقاليد الموسيقية للشحوح» الذي تم تمويله من مؤسسة الشيخ سعود بن صقر القاسمي لبحوث السياسات، وأشرف عليه كارلوس خويديس الأستاذ المشارك في الموسيقى بجامعة نيويورك أبوظبي، حيث نجد أنفسنا أمام تراثٍ عريق محمول على الغناء أو الصوت والموسيقى، ويدرك العلماء والخبراء أنّ الموسيقى ليست فقط في الألحان الظاهرة، وإنما في ما تحمله هذه الألحان من معانٍ دالّة، وما يتمخض من معانٍ عن الصوت الإنساني الذي يتخلل الأهازيج والرقصات التراثيّة وألوان التعبير الثقافي الفلكلوري، ولذلك فقد كانت التقاليد الموسيقية لقبيلة «الشحوح» في شمال دولة الإمارات العربية المتحدة تقاليد راسخة تحيلنا إلى هذا التنوع الرائع في الدولة من خلال تراثها، ومدى التأثير والتأثّر بمحيطها الإنساني في أفريقيا وآسيا.
تهتم الدراسات عادةً بسبر أغوار التقاليد والموسيقى والغناء والأصوات، ليس فقط لأمور احتفاليّة، ولكن لقراءة المضمون والجوهر في كل ذلك. 
وفي حالة قبيلة الشحوح، يمكن أن ندرس بكل ارتياح من المصادر التراثيّة ومن صدور المعمرين والمهتمين والجمعيات العاملة، أربعة عناصر، هي: «الندبة»، و«الرواح»، و«رزيف» و«المهوبي» الشحوح، وما يصبّ في ذلك من تقاليد موسيقية صوتية تراثية.
ومن هذه الدراسات دراسة قيّمة قام بها كارلوس جويديس، الأستاذ المشارك في الموسيقى بجامعة أبوظبي، وهذه الدراسة تضعنا باستنتاجات الباحث في جولته الميدانية ومنهجه العلمي، في استكشاف التقاليد الموسيقية لقبيلة الشحوح، دارساً موضوع التنوع العرقي والتأثيرات الثقافية في الموسيقى الخليجية بعامة، ذاهباً من بعد ذلك إلى قراءة جذور قبيلة الشحوح، وفقاً لأهم المصادر البحثية، ومن ثم يدرس العناصر الأربعة، كتقاليد موسيقية متوارثة، معرّفاً الندبة والرواح والرزيف والمهوبي، ومكاشفاً بأهمية البحث في مثل هذه المواضيع، وضرورة توفير تسجيلات نوعية سمعية وبصرية لتراث هذه القبيلة، نحو إنشاء محتوى سمعي بصري عالي الجودة، يصوّر التقاليد الموسيقية لقبيلة الشحوح العريقة، خالصاً من بعد ذلك إلى توصيات يمكن الاستهداء بها في أهمية المشروع البحثي والفريق العامل ميدانياً، والتأسيس عليه لتحفيز الإبداعات المعاصرة حول التقاليد المحلية.
هذا التقرير الميداني للدكتور كارلوس جويديس، وهو من تمويل مؤسسة الشيخ سعود بن صقر القاسمي لبحوث السياسة العامة، اشتمل على تسجيلات للممارسات الموسيقية للقبيلة، ومناقشة جماعية مركّزة، ومقابلات فردية، بهدف تكوين فهم أفضل للأشكال الموسيقية لقبيلة الشحوح وعلاقتها بالقيم الاجتماعية للقبيلة والهوية الثقافية، فتم استخدام أحدث معدات وتقنيات التسجيل لإنتاج أربعة تسجيلات عالية الجودة، لإنشاء أفلام وثائقية قصيرة وغنية بالمعلومات وثنائية اللغة حول قبيلة الشحوح.
ويرى الباحث، أنّ جمع هذه المعرفة وتوثيقها يُعدّ أمراً مهماً، لأنه يوفر نظرة ثاقبة للممارسات الثقافية للقبيلة التي سكنت الإمارات منذ عصور ما قبل الإسلام. وتحت عنوان «السياق والخلفية»، يؤكد الباحث وفريقه الميداني التنوع العرقي، كسِمة مميزة للخليج العربي، نتيجةً للروابط التجارية والسياسية مع المجتمعات الأخرى على شواطئ المحيط الهندي وبحر الصين الجنوبي، ويستند في ذلك إلى مراجع مثبتة في بحثه، دارساً ما تحمله هذه المصادر في البصمة الوراثية لشرق أفريقيا وجنوب شرق آسيا وشبه القارة الهندية، حيث كانت هذه البصمة موجودة بالفعل بقوة بين سكان الخليج من وقت طويل قبل القرن العشرين، ليشير إلى الازدهار النفطي وتدفق العمال المغتربين إلى المنطقة، وكون حوض الخليج ملجأ للعديد من المجموعات الدينية واللغوية الغريبة، فكان انصهار الثقافات مدار بحث لعلماء الموسيقى في محاولة فهم التأثيرات العديدة التي تؤثر في الموسيقى في هذه المنطقة، وكذلك دراسة التأثيرات الأفريقية في الثقافة والموسيقى الإماراتية، وبالتحديد كيف تم استيراد ممارسات الشفاء الروحية، مثل الزار من أفريقيا، وتعديلها وفق متطلبات الممارسات الإسلامية وقواعد الأخلاق، وكيف يمكن سماع أنماط الموسيقى من شرق أفريقيا، مثل: النوبان، والزار، والليوا «التي تغنى باللغة السواحلية» اليوم في دولة الإمارات العربية المتحدة، وكذلك الأساليب البدوية الأكثر شيوعاً، مثل رقصة العيّالة.
عابرة لزمن
ويرى الباحث كارلوس جويديس، أنه لم يُنشر الكثير من الدراسات باللغة الإنجليزية عن الشحوح، ويورد رأياً للباحث فالح حنظل، الذي يرى أنّ الشحوح يعرفون بالقبائل التي هاجرت أثناء هدم سد مأرب في اليمن عام 450 م، وكانوا يسكنون منطقة رؤوس الجبال التي تمتد من «كمزار» وحتى «دبا»، بما في ذلك أجزاء مما يعرف الآن برأس الخيمة. كما يشير الباحث إلى فئة البدو من القبيلة والساكنين الجبال والعاملين في الزراعة والري والتجارة في المدن، وسكان المدن وأهل البحر الذين تعتمد حياتهم على الصيد، ومعظمه صيد الأسماك، وقد توسعوا على مرّ السنين ليصلوا وينتشروا في المنطقة الشمالية من الإمارات العربية المتحدة بشكل رئيس في رأس الخيمة.
وتحت عنوان «التقاليد الموسيقية للشحوح»، يؤكد الباحث أنّ التقاليد الموسيقية في دولة الإمارات العربية المتحدة من جيل إلى جيل تجسّد شكلًا من أشكال الفن الذي يقاوم التغيرات عبر الزمن، مقتدياً بمقولة  المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، «من لا يعرف ماضيه لا يعرف حاضره ولا مستقبله».
أمّا فن «الندبة»، والذي يسمى «الكبكوب»، أو المجموعة، فهي لفظة مشتقة من الجذر نَدَب، وتعني العويل أو النواح أو الصراخ، وهي شكل مشهور من أشكال التعبير الصوتي في المناطق الجبلية بالمنطقة الشمالية في دولة الإمارات العربية المتحدة ومسندم، وتحديداً يستخدم هذا الفن في قبيلة الشحي التي تضمّ قبائل بني شميلي والحبسي والظهوري، وهو مقابل فن العازي في الفخر والثناء، كما تشير إلى ذلك مصادر يوردها الباحث في بحثه الذي يصف «الندبة» بوجود مجموعة من عشرة رجال أو أكثر يطلق عليهم اسم «الرديدة»، من عائلة النديب أو جيرانه، وعادةً ما يكون الندّيب الأكبر سنًّا بين المجموعة أو يكون رجلًا من القبيلة يتمتع بصوت قوي قادر على ترديد الأبيات عدة مرات وبكاريزما أدائية.
والندّيب كالشاعر الذي يحتاج إلى الدعم من الرجال من حوله، ليشعل حسّ الشجاعة والإثارة، وهو يرفع يده وينقل كلمات التقدير للقبيلة أو يعبّر عن اعتزازه بقبيلته، وتكون الندبة منظمة بطريقة موسيقية مسلية، حيث يكرر الندّيب النداء ثلاث مرات، مع استراحة لمدة دقيقتين بينهما، فعند آل شحوح يبدأ النديب بترديد كلمة «يا شحوح»، أمّا عند «الظهور» فيبدأ النديب بترديد كلمة يا «ظهر»، وهذا يستدعي اجتماع القبيلة للإشارة إلى أنّ هناك شيئاً ما يحدث، ويتجمع الرجال المحيطون ويستجيبون للنداء ويرددون «هو.. هوا»، عدة مرات، كصدىً موجه للنديب.
أمّا «الرواح»، فهو تقليد موسيقي للمنطقة الشمالية في الإمارات العربية المتحدة وفي محافظة مسندم بسلطنة عُمان، ويقدم لغاية الترفيه، حيث يتألف من أربعة أجزاء يتم تنفيذ كل منها في جزء معين من النهار أو الليل، وهو ما قد يعكس التأثير الهندي على هذا الفن.
ويشير الباحث إلى مصادر تقسّم «الرواح» إلى: «سارح» في الصباح، و«الصدير» في منتصف النهار، و«الرواح» فيما بعد الظهر، و«ساري» في المساء، حيث يؤديه الرجال واقفين بصف واحد مع طبولهم يتحركون للأمام والخلف مع ثلاثة أو أربعة طبّالين في كل مرة، ويعتمد تصميم الرقصات على تنظيم الرجال وهم يدورون في دائرة أو يصطفون في صف واحد، ويتحركون جيئةً وذهاباً بشكل إيقاعي، وبالنسبة للنساء، فعادةً ما يتم تأدية الرواح أثناء الجلوس في صف أو دائرة، وتكرار أبيات شعرية مختلفة عن التي يرددها الرجال، مع تحريك شعرهنّ إلى الأمام والخلف، وكما الندبة، يؤدى الرواح في الأعراس والاحتفالات الوطنية وعند استقبال الحكام والضيوف.
كما أنّ «رزيف» الشحوح يسمى أيضاً بـ«الحربية»، وكان في الماضي يتميز بصفين من الرجال يؤدون حركات متكررة باستخدام أعواد الخيزران، ويقفون أمام بعضهم بعضاً، بينما يقف شاعر في المنتصف يلقي الشعر لكل صف، ويكرر الرجال في الأبيات الشعرية الواحد تلو الآخر، عدة جولات، وعادةً ما ترتبط الأبيات بمناسبة أداء الرزيف، ويتبع قارئ الطبول إيقاع الأبيات، وقد تم إدخال الطبول في وقت لاحق من ثمانينيات القرن الماضي، في حين تم إدخال آلات أخرى، مثل العود والأورغ والآلات الأكثر حداثةً في التسعينيات، ومن خلال دمج الرقص مع الموسيقى والشعر، يتم أيضًا تقديم التقليد الأدائي لـ«اليولا» أو رقصة السلاح مع الرزيف، ويتم أداء الرزيف في الأعراس والاحتفالات الوطنية واستقبال الحكام والضيوف.
تحفيز الإبداع
ويشير الباحث إلى تنفيذ المشروع في مراحله الثلاث كعمل ميداني وتسجيلات سمعية وبصرية وتحليل للتسجيلات، وفي تحليله للتسجيلات التي تم ترجمتها بوساطة مريم الشحي، يقول إنّها قدمت منظوراً شاعريّاً إضافيّاً لهذا التقرير الميداني، حيث تم فهم جوانب مهمة لكيفية عكس الأشكال الموسيقية للرابطة القوية بين الشحوح كمجتمع وترابطهم الاجتماعي الذي يتم تأكيده، ويتجلى في «الندبة»، و«الرزيف»، و«الرواح»، و«المهوبي».
ويؤكد الباحث أنّ طبيعة النداء والاستجابة للنداء والرزيف، تسلّط الضوء على الطبيعة التعاونية والتضامنية لهذه الموسيقى، أمّا «الرواح»، فهي رقصة لا تمثل فقط أخلاقيات الشحوح، وإنما تصور يومّا كاملاً من العمل، كما أنّ «المهوبي» هو بمثابة أهزوجة عمل يتم ترديدها أثناء طحن القمح، وتتغير كلماتها خلال النهار.
ويلفت الباحث إلى مهرجان عامل، وجمعيّة متخصصة، مثل مهرجان «فن رأس الخيمة»، الذي يزداد نموّ شعبيته ويجذب حشوداً أكبر كلّ عام.
كما يدعو الباحث إلى تحفيز الإبداع الفني المعاصر حول هذه التقاليد لجعلها أكثر اندماجاً في الحياة المعاصرة لدولة الإمارات، مؤكدًا دور ورشات العمل والبحث الميداني والمبادرات في فهم وكيفية أداء هذه الفنون.

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: الموسيقى التراث سعود القاسمي جامعة نيويورك أبوظبي أبوظبي دولة الإمارات العربیة المتحدة فی الموسیقى الباحث إلى

إقرأ أيضاً:

في اليوم الذي يسمونه يوم القدس

في اليوم الذي يسمونه "يوم القدس"، لا يتم الاحتفاء بالقدس وإنما تتعرض البلدة القديمة للتدنيس، حيث تتحول مسيرة العلم الإسرائيلي، التي تنظم سنوياً تحت راية الفخر القومي إلى مشهد من مشاهد الكراهية التي لا حدود لها.

وهذا العام انحطت إلى قعر الخسة والفجور.

أوردت صحيفة هآريتز أن الفتيان الإسرائيليين انطلقوا في مسيرة عبر الحي الإسلامي وهم يهتفون "الموت للعرب"، "امسحوا غزة"، "لا توجد في غزة مدرسة، لم يبق فيها أطفال". كانت صواري الأعلام تدق في الأبواب العتيقة، بينما ينهال المشاركون في المسيرة بالسباب والشتائم على النبي محمد ويسخرون من ذكرى فلسطين.

لم يُلق القبض على أحد بتهمة التحريض.

في يوم القدس يتم فعلياً تجميد قانون التحريض، وتصبح الكراهية سلوكاً تحض عليه الدولة. ما تنطلق به الحناجر من شعارات ليس هتافاً موجهاً ضد حماس، وإنما إعلان حرب على العرب والمسلمين – وعلى روح المدينة نفسها.

وعلى النقيض من المزاعم بأن هذا من فعل مجموعة هامشية، تبدو الحقيقة أكثر بشاعة. فكما يلاحظ صحفي هآريتز نير حسون، الهاشميون ليسوا العنصريين، وإنما أولئك الذين يرفضون الانضمام إليهم.

وحتى المنظمات المتحالفة مع التيار اليميني السائد، مثل إم ترتوز المنتسب إلى الليكود، انطلقت عناصرها وهي ترفع لوحات كتب عليها "لا نصر بلا نكبة". تلقى مسرح الكراهية هذا تمويله بشكل مباشر من بلدية القدس، التي خصصت 700 ألف شيكل (ما يعادل 200 ألف دولار) – بدون مناقصة عامة – لدعم منظمي المسيرة.

الغزو والتطهير

هذه ليست فورة عاطفية، وإنما عقيدة قيد التطبيق، واستعراض للاهوت يقوم على الاعتقاد بالتفوق العنصري على الآخر، تتواجد في القلب منه رؤية تنبؤية ليس من أجل إقامة السلام أو التعددية وإنما من أجل الغزو والتطهير.

من أبرز مهندسي هذه الرؤية الحاخام إسحق غينزبيرغ، الأب الروحي لما يسمي "شباب رؤوس التلال"، وهي مليشيا مكونة من المستوطنين، تمارس العنف قتلاً وإفساداً في مختلف أرجاء الضفة الغربية. يشيد غينزبيرغ علانية بباروخ غولدستين الذي ارتكب مذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل في عام 1994 وأزهق أرواح 29 فلسطينياً بينما هم ركوع في صلاة الفجر بالحرم الإبراهيمي. بل نشر غينزبيرغ كتابات يحض فيها على قتل نساء وأطفال غير اليهود.

وكان غينزبيرغ قبل عقدين اثنين من الزمن قد ألقى خطبته الشهيرة بعنوان "حان الوقت لكسر الجوزة"، حيث شبه إسرائيل بثمرة محاطة بأربعة أغلفة – تتكون من الدولةل العلمانية ومؤسساتها – كانت لها من قبل غاية ومبررات، ولكنها باتت الآن عقبة تعيق الخلاص.

أعلن في خطبته أنه ينبغي تدمير هذه الأغلفة، ألا وهي الإعلام، والقضاء، والحكومة، والميثاق الأخلاقي للجيش. فقط من خلال القضاء عليها يمكن أن يبرز اللب الخالص للتفوق اليهودي ويمكن للعهد المهدوي أن ينطلق.

هذه ليست حالة من الفوضى وإنما عملية منظمة قيد تنفيذ.

إن الهتافات التي تردد صداها في طرقات القدس هذا العام لم تكن تشوهات، بل أعراضاً لمنظومة تخلصت من رداء الديمقراطية العلمانية. وما تبقى منها غير قومية عرقية ومهدوية معراة، رؤيتها مستمدة من سفر الرؤيا، وتوجهاتها تشي بارتكاب الإبادة الجماعية.

من الوزراء اليمينيين المتطرفين إيتامار بن غفير وبيزاليل سموتريتش، لم تعد النزوة مقصورة على الهمس، بل باتت تذاع على الملأ. في هذه الأثناء، انطلق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عبر نفق "طريق الحاج" تحت المسجد الأقصى، معلناً أمام طلاب المعاهد الدينية اليهودية: "سوف تنطلقون من هناك وتخرجون [إلى الهيكل]."

إلا أن سموتريتش، كعادته، كان أكثر صراحة، فقد أعلن في نفس ذلك اليوم، متحدثاً أمام جمهور من الأتباع المتحمسين: "بعون من الرب، سوف نوسع حدود إسرائيل، ونحقق الخلاص التام، ونعيد بناء الهيكل ههنا."

إن الدعوة إلى بناء الهيكل الثالث مكان المسجد الأقصى ليست مجرد انتهاك للوضع القائم، وإنما هي إعلان شامل للحرب الدينية، الأمر الذي يتبدد معه وهم التعايش، وذلك أن المشروع الصهيوني ليس إعلان حرب على المسلمين فقط، وإنما هو حرب معلنة على المسيحيين كذلك. ها هو الوجود المسيحي في القدس – بكل عراقته وأصالته وقدسيته – يتعرض للاستئصال بشكل منتظم.

حقبة جديدة

في وقت مبكر من عام 2023، أي قبل شهور من السابع من أكتوبر، حذر زعماء الكنائس من الهجمات المتصاعدة، ومن الاستيلاء على الأراضي، ومن الحصانة من المساءلة والمحاسبة التي تمنح لمن يرتكبون ذلك.

أعلن الأب دون بيندر، من كنيسة القديس جورج، قائلاً: "إن العناصر اليمينية المتطرفة عازمة على تهويد البلدة القديمة." أما الكاردينال بيتزابالا فقال إن عام 2024 كان "أسوأ فترة عشتها على الإطلاق." وبحلول عام 2025، مُنع المسيحيون من حضور الصلوات في عيد الفصح، وارتفع منسوب المضايقات التي يواجهونها والاعتداءات التي تتعرض لها ممتلكاتهم وأعمال التخريب. وغدا البصق على المسحيين روتينا، بحث عليه بن غفير ويصفه بأنه "تقليد يهودي".

هذه ليست أعمالا معزولة، بل جزءا من حملة منظمة. فالصهيونية لا تسعى فقط إلى الهيمنة على المدينة، وإنما إلى مسح خصائصها العربية والإسلامية والمسيحية كذلك.

ما نشهده ليس مجرد عنصرية، بل تهويد، مشروع الغاية منه إعادة تشكيل المدينة لتجسد عقيدة التفوق العرقي اليهودي.

ومع ذلك ثمة نموذج آخر ينبع لا من القهر بل على التعايش. في القرن السابع، كانت القدس المدينة الوحيدة التي شد إليها الخليفة عمر بن الخطاب  الرحال لتسلم مفاتيحها، نزولا عند طلب زعيمها الديني المسيحي البطريرك صوفرونيوس. رفض عمر الصلاة داخل كنيسة القيامة خشية أن يراه المسلمين فيستحوذوا عليها لاحقا، وأدى الصلاة بدلاً من ذلك بتواضع على الدرجات في الخارج، ثم ألصدر مرسوماً بتحريم مصادرتها.

بل سمح العهد الإسلامي الجديد في القدس لليهود بالعيش في المدينة بعد أن كان ذلك محظوراً عليهم لعقود تحت الحكم البيزنطي. في كتابه بعنوان "التاريخ المقتضب لإسرائيل"، يلاحظ المؤلف بيرنارد ريتش أنه "منذ بداية الحكم الإسلامي، استؤنف التواجد اليهودي في القدس، ومُنح المجتمع اليهودي الإذن بالعيش تحت "الحماية"، وهو الوضع المتعارف عليه لغير المسلمين في ظل الحكم الإسلامي، والذي يصون حياتهم وممتلكاتهم وحريتهم في العبادة، مقابل دفع جزية خاصة وضرائب على الممتلكات."

بعد ذلك بقرون، وفي ظل تنازع الطوائف المسيحية على أحقية الإشراف على الكنيسة، عهد السلطان صلاح الدين بمفاتيح نفس تلك الكنيسة إلى عائلتين مسلمتين، آل جودة وآل نسيبة، ظلتا على مدى 850 عاماً هما من يفتح ويغلق أبوابها بكل إخلاص ونزاهة.

"القلق الصليبي"

هذه هي القدس كما ينبغي لها أن تكون، مدينة الأمانة لا الهيمنة، والتوقير لا التطهير.

إلا أن المعركة على روح القدس لم تنته، بل إنه الصراع الأكثر رمزية على الإطلاق، بين الغزاة وأهل البلاد، بين دعاة الإقصاء ودعاة الاستيعاب، بين عقيدة استيطانية استعمارية تعبد النقاء الخالص عبر العنف، ومدينة كانت عظمتها ذات يوم ثمرة تعدديتها المقدسة.

ثمة تشابه مع الحروب الصليبية. ففي عام 1099، اجتاحت جيوش الصليبيين القدس وذبحت الآلاف من المسلمين واليهود. واليوم، ها هم الصهاينة يرددون نفس منطق الصليبيين، ويستعيدون صورهم، وينهجون سبيلهم. من إيماءات نتنياهو حول الهيكل إلى عقيدة الإبادة التي يحملها غينزبيرغ، ها هي الصليبية تنبعث من جديد.

إلا أن ممالك الصليبيين تهاوت. فقد حرر صلاح الدين القدس من الصليبيين بعد ثمانية عقود من الاحتلال، وانهارت المغامرة الصليبية بأسرها خلال قرنين، تاركة خلفها ندوباً عميقة، وفي نفس الوقت عزماً قوياً وثابتاً على مقاومة الغزاة.

يشعر الجنود الإسرائيليون أنفسهم بهذه المقارنة. كتب المؤرخ ديفيد أوهانا يقول إن "القلق الصليبي" يطارد النفسية الإسرائيلية – إنها الخشية الدفينة من أن الصهيونية، كما كان حال سلفها في القرون الوسطى، قد تنتهي ذات يوم وكأنها لم تكن من قبل. وهذا حق، لأن القدس لا تجوز لمن ينتهكون حرمتها.

قد تحترق غزة، وقد تنزف الضفة الغربية، ولكن تبقى القدس هي درة التاج. مهما بلغ توحش الصهيونية، فإنها لن تتمكن من طمس ما تشكل بفعل التاريخ والجغرافيا والعقيدة. تعيش فلسطين في قلوب الملايين، والقدس ليست على الهامش من ذلك، بل إنها تتربع في القلب من العالمين العربي والإسلامي.

مهما حفر الصهاينة من أنفاق، ومهما رفعوا من أعلام، ومهما بثوا من أحقاد، سوف يستمر الفلسطينيون في الإنشاد، كما غردت ذات يوم المغنية اللبنانية المسيحية فيروز "يا قدس، يا مدينة الصلاة. عيوننا إليك ترحل كل يوم. تدور في أروقة المعابد، تعانق الكنائس القديمة، وتمسح الحزن عن المساجد .... وبأيدينا سنعيد بهاء القدس، بأيدينا للقدس سلام."

قد تكون مسيرة الكراهية صاخبة اليوم، ولكنها سوف تصمت يوماً لا محالة. وفي ذلك اليوم سوف تتحرر القدس من الاحتلال ومن الغلو ومن العنصرية، وسوف تعود إلى أهلها، لم تنكسر روحها، ولم تُنتقص قدسيتها.

مقالات مشابهة

  • بوريطة: الموقف الذي عبرت عنه المملكة المتحدة بشأن قضية الصحراء المغربية سيعزز الدينامية التي يعرفها هذا الملف
  • سعد: الغائب الذي لم يَغب
  • في اليوم الذي يسمونه يوم القدس
  • عمرو فاروق: ثورة 30 يونيو أجهضت مشروع تقسيم المنطقة العربية
  • ماهر فرغلي: ثورة 30 يونيو أنقذت أغلب شعوب المنطقة
  • تأثرت بمتغيرات الحياة.. الموسيقى العراقية من الأصالة إلى هز الأكتاف
  • في مزاد أوروبي .. موروثنا التاريخي يهرب ويباع علنا ً
  • واتساب يطلق ميزات جديدة على الحالة لتحويلها إلى مساحة إبداعية للتعبير الشخصي
  • لاوتارو مارتينيز.. الباحث عن البصمة الأوروبية الأولى!
  • الدكتوراه بامتياز للباحث إبراهيم زايد من جامعة صنعاء