سؤال النازح الغزي اليومي: ما أخبار منزلي؟
تاريخ النشر: 1st, October 2024 GMT
غزة- 5 أشهر كاملة مرّت على عطاف أبو الجديان عقب نزوحها من مخيم جباليا شمالي قطاع غزة، وهي لا تعلم شيئا عن مصير منزلها الذي تركته مُرغمة.
كانت هذه الأم الفلسطينية (47 عاما) تُمنّي نفسها أن المنزل سليم ولم تهدمه قوات الاحتلال الإسرائيلي، وأنها ستعود إليه بعد انتهاء الحرب لتقطنه مع أسرتها المكونة من زوجها و3 أبناء مكفوفين، ويعاني أحدهم من ضمور دماغي.
وغادرت عطاف منزلها رابع أيام الحرب التي بدأت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 بعد تعرض المنطقة التي تقطنها لوابل من قذائف الاحتلال، ونزحت إلى مركز إيواء بمدينة دير البلح وسط القطاع.
ومنذ ذلك الوقت، لم يكد ينقضي نهار، إلا وتتصل عطاف بأقاربها ومعارفها الذين لم يغادروا شمالي القطاع لتسألهم عن مصير المنزل، دون جدوى، حيث إنه يقع في منطقة قريبة من أماكن وجود قوات الاحتلال، إلى أن جاءها خبر هدمه بشكل كامل في شهر مارس/آذار الماضي، وهو ما وقع عليها كالصاعقة.
وتقول للجزيرة نت "لم ينكسر ظهري على تربية أولادي المكفوفين الثلاثة طوال 27 عاما، لكن هدم منزلي كسر ظهري، عمري ما يئست ولا تعبت، أعاني وأشعر بمتعة المعاناة في تربية أولادي وأنا صابرة، لكن تدميره هدمني، لم أمر بأصعب من ذلك".
ورغم إعاقتهم البصرية، حصل اثنان من أبناء عطاف أبو الجديان على درجة البكالوريوس من كلية الآداب في تخصص اللغة الإنجليزية.
وتُكمل "كنت في منزلي مستورة، والآن نعيش في خيام بلا كرامة ولا نعرف ماذا ينتظرنا، وحينما تنتهي الحرب لن أجد بيتي الذي كنت أعيش فيه بعزة وكرامة".
وبعد انتهاء العدوان، تخطط عطاف أبو الجديان للعودة لبيتها وإقامة خيمة على أنقاضه والعيش فيها، مضيفة "على الأقل سأكون بكرامتي على بيتي وأرضي".
سنة مرت على الحرب الإجرامية المروعة التي تشنها إسرائيل على غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وأسفرت عن استشهاد أكثر من 41 ألف شخص وإصابة أكثر من 96 ألفا آخرين، إضافة إلى 10 آلاف مفقود.
ومنذ الأسبوع الأول للحرب، شردت إسرائيل مئات الآلاف من الفلسطينيين من مناطق سكنهم، وخاصة من شمالي القطاع، إلى جنوبه، ويعيشون في مراكز إيواء مصنوعة من الخيام وسط ظروف معيشية قاسية.
بدوره، نزح أبو محمد الخالدي من منزله في الشهر الأول للحرب، نظرا لموقعه القريب من محور "نتساريم" الذي يفصل شمالي القطاع عن جنوبه. ويسكن حاليا في خيمة بمركز إيواء بدير البلح.
وعلى مدار شهرين، ظل يحاول الاطمئنان على منزله البالغة مساحته حوالي 150 مترا مربعا، من خلال زيارته بشكل خاطف وبحذر شديد، أو الاتصال ببعض جيرانه ممن بقوا قريبين من المكان.
ويقول للجزيرة نت "كنت أذهب للاطمئنان عليه عبر طرق فرعية، وأُحضر منه بعض الأغراض الشخصية، ثم توقفت بسبب الخطورة الشديدة واكتفيت بالاتصال هاتفيا ببعض المعارف".
وبعد حوالي شهرين، جاء الخبر الذي كان الخالدي (50 عاما) ينتظره ويخشاه، وهو هدم قوات الاحتلال منزله بالكامل وتسويته بالأرض، والذي كان قد اشتراه قبل الحرب بنحو 3 أشهر بقرابة 70 ألف دولار.
وتسبب ذلك بصدمة كبيرة له حيث يقول "حينما أفكر بهدم المنزل، أُصاب بأزمة نفسية، لكن أحاول أن أنسى حتى أقدر أعيش، حتى الآن أنا في صدمة، هذا شقاء العمر، هذا منزلي الذي وضعت فيه كل ما أملك وبقي 10 آلاف دولار من ثمنه ديونا عليّ لم أدفعها".
وقرر الخالدي أن يبني خيمة على أنقاض بيته عقب انتهاء الحرب، والإقامة فيها، آملا أن تسارع الدول الصديقة للشعب الفلسطيني بإعادة إعمار القطاع، أو -على الأقل- توفير خيام "قابلة للحياة".
ورغم المخاطرة الكبيرة التي تصل إلى حد الموت برصاص الطائرات الإسرائيلية المسيّرة أو قذائف الدبابات، يصر عادل فرج الله على تفقد منزله بنفسه، بين الفينة والأخرى. ويقول للجزيرة نت "آخر مرة زرت منزلي، كانت قبل يومين، كانت مخاطرة كبيرة".
يقع منزل الشاب الفلسطيني جنوبي محور "نتساريم"، ونزح عنه قبل 5 أشهر، ويقيم حاليا في مركز إيواء بمدينة دير البلح. ويوضح أن منزله متضرر بشكل جزئي بفعل قذائف الدبابات الإسرائيلية، لكنه قابل للترميم والسكن بعد انتهاء الحرب.
وفي آخر زيارة له، انطلق فرج الله من مخيم النصيرات باتجاه منزله الكائن جنوبي وادي غزة، مصوبا بصره نحو السماء لتلافي خطر المسيّرات الإسرائيلية الصغيرة "كواد كابتر"، وتستخدمها قوات الاحتلال لاغتيال الفلسطينيين. ولم يمكث فيه أكثر من 5 دقائق، وعاد أدراجه بسرعة قبل اكتشافه من هذه القوات.
كما يُجري -بشكل شبه يومي- اتصالات ببعض جيرانه الذين يقيمون في مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" القريبة من المكان، عله يجد لديهم معلومات حول حالة منزله.
ويحلم فرج الله باليوم الذي تنتهي فيه الحرب ويتمكن من العودة لبيته، حيث سيعمل على تنظيفه وترميم ما تهدم منه، وتغليف شبابيكه بالنايلون كي يتمكن من السكن فيه مجددا.
وعلى خلاف سابقيه، لا يجد خليل عِيطة معاناة في الاطمئنان على حالة منزله الذي نزح عنه بداية شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بعد أن سكنت فيه شقيقته مع أسرتها إثر فقدانها منزلها.
ويقول للجزيرة نت إن بيته الكائن في شمالي مدينة غزة، متضرر جزئيا بفعل قذائف الدبابات، لكنه صالح للعيش. ويشعر بالراحة نظرا لعيش أخته فيه، فهذا "يحميه من السرقة" ويوفر له وسيلة للاطمئنان على وضعيته.
ويخشى عيطة من إمكانية عدم سماح إسرائيل له ولمئات الآلاف من النازحين من العودة لشمالي القطاع، وتكرار ما حصل في نكبة 1948. ويؤكد "أنا خائف جدا من تكرار النكبة وعدم قدرتنا على العودة لمنازلنا، هناك مخطط إسرائيلي لتهجير بقية السكان والاستيطان اليهودي في أراضينا".
وطردت العصابات المسلحة الصهيونية عام 1948، غالبية عرب فلسطين عن ديارهم عبر إرهابهم بالمذابح وقصف قراهم بالطائرات، ولم تسمح لهم بالعودة منذ ذلك الوقت.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات قوات الاحتلال شمالی القطاع للجزیرة نت
إقرأ أيضاً:
كيف يفكر الوحش الذي يستخدم التجويع لإخضاع الشعوب؟
يوم 11 يونيو/حزيران 2024 نشر حساب رسمي تابع لوزارة الخارجية الإسرائيلية مقطعا دعائيا على منصة إكس، زعم فيه "عدم وجود مدنيين أبرياء في غزة". وجاء هذا الادعاء ضمن منشور يتهم المدنيين الفلسطينيين بالمشاركة في هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وإيواء أسرى احتجزتهم حركة حماس خلال الهجوم.
وأورد المقطع كلمات لأسيرة إسرائيلية سابقة تدعى ميا شيم وهي تقول: "لا يوجد مدنيون أبرياء هناك"، وهو اقتباس تكرر بخط عريض في الوصف التعريفي للفيديو.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2لماذا اعترف ماكرون بفلسطين الآن؟list 2 of 2الهزائم العسكرية العجيبة.. لماذا نتفاجأ مما نعرفه؟end of listسرعان ما حذف الحساب الإسرائيلي المقطع بعد أن نال تغطية ناقدة واسعة في الصحافة الغربية، ولكنه سلط الضوء على الطريقة التي تعمل بها الدعاية الإسرائيلية على تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم وحشد جنود الاحتلال نفسيا لممارسة أفعال الإبادة، بل ومحاولة تهيئة الرأي العام العالمي لقبولها باعتبار أن ضحاياها "ليسوا مدنيين" أو ربما "ليسوا بشرا على الإطلاق" مصداقا لوصف وزير الدفاع السابق يوآف غالانت الذي اعتبر الفلسطينيين "حيوانات بشرية".
هناك عديد من الدراسات التي تؤصل لهذه الممارسة في مجال علم النفس بشكل عام، وعلم النفس الحربي على وجه الخصوص، إذ لا يكتفي الجلاد أحيانا بإنكار إنسانية ضحيته، بل يلقي عليها اللوم في مأساتها كي يبرر لنفسه العنف المفرط ويتحرر من أي صراع أخلاقي. يشكل هذا النهج حائط صد نفسيا، يسمح للقاتل بالتعايش مع أفعاله من دون شعور بالذنب، بل إنه يمنحه شعورا زائفا بالقوة والتفوق، لأنه لا ينظر إلى الضحية باعتبارها بشرا مكافئا ومساويا، بل مجرد كبش فداء لتحقيق طموحاته.
وفي غزة، تتجسد أبشع صور هذه الإستراتيجية: أطفال يموتون جوعا، ونساء حوامل ومرضعات يعانين سوء التغذية، وشيوخ يسقطون في الطرقات المهدمة تحت وطأة الإعياء. وبعد نحو 660 يوما من القصف والتجويع، وجد سكان القطاع أنفسهم محاصرين بين "مصايد الموت"، المتمثلة في الجوع الذي يفتك بهم من الخلف، وآلة القتل الإسرائيلية التي تحصد أرواحهم من الأمام. حتى المساعدات الإنسانية تحولت إلى فخاخ موت، بعدما أُطلق الرصاص على الجموع الجائعة، فسقط أكثر من ألف شهيد و6 آلاف جريح، فقط لأنهم حاولوا الحصول على لقمة تسد رمقهم.
إعلانغير أن هذه المأساة ليست مجرد كارثة إنسانية على هامش الحرب فحسب، بل تكشف عن سياسة ممنهجة ذات صلة بالأهداف العسكرية لجيش الاحتلال في قطاع غزة، حيث وظف الغذاء باعتباره أداة للإبادة الجماعية منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وفق تقارير منظمة العفو الدولية، فخلق مزيجا مروعا من الجوع والمرض دفع سكان القطاع إلى الهاوية. التجويع هنا ليس أداة قتل جسدي فقط، بل وسيلة لتحطيم الإرادة. إنه سلاح نفسي مميت، يصنع صدمة جماعية تهدف إلى كسر مقاومة شعب بأكمله ودفعه نحو الاستسلام.
فكيف تشرح دراسات علم النفس الحربي توظيف الجوع كسلاح؟ وكيف تفسر الأبعاد النفسية لمرتكبي الإبادة الجماعية؟
"سلطات الاحتلال الإسرائيلي تستخدم التجويع سلاحا يهدف إلى تركيع الشعب الفلسطيني".
المقررة الأممية لحقوق الإنسان فرانشيسكا ألبانيزي
يوم 22 يوليو/تموز 2025، أصدرت وكالة الأنباء الفرنسية بيانا غير مسبوق، حذرت فيه من أن صحفييها في غزة يواجهون خطر الموت جوعا، في سابقة لم تعرفها الوكالة منذ تأسيسها عام 1944، فالجوع في غزة لا يستثني أحدا، فالأطباء، والمسعفون، والصحفيون، وعمال الإغاثة، الجميع يتساقطون تحت وطأته. أما المدنيون المحاصرون، فهم على حافة كارثة جماعية قد تفتك -حسب وزارة الصحة في غزة- بحياة 100 ألف طفل بينهم 40 ألف رضيع، جراء انعدام حليب الأطفال بعد منع الاحتلال دخول المساعدات الإنسانية بالكامل.
منذ مارس/آذار الماضي، شددت إسرائيل حصارها إلى أقصى درجات القسوة، مانعة حتى الكميات الضئيلة من الغذاء التي كانت تبقي السكان على قيد الحياة. أعلنت وكالات الإغاثة نفاد مخزوناتها، والأسواق خلت من السلع، والأسعار الأساسية ارتفعت بنسبة 1400% أو أكثر. وفي توصيف لحجم الكارثة، كشف مؤشر التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) التابع للأمم المتحدة عن أن محافظات شمال غزة دخلت إلى الدرجة الخامسة والأخطر في سلم المجاعة، في حين انزلقت المحافظات الجنوبية إلى المرحلة الرابعة. بينما وصل انهيار المنظومة الغذائية إلى حدّ يستلزم تدخلا إنسانيا عاجلا لإنقاذ ملايين الأرواح.
بيد أن ما يجري اليوم ليس وليد الحرب الأخيرة فحسب، إذ إن سياسة التجويع الإسرائيلية ممتدة منذ فرض الحصار على القطاع عام 2007، حين قلص الاحتلال عدد الشاحنات الغذائية إلى غزة من 400 إلى 106 فقط. ووفقا لتقرير نشرته صحيفة غارديان عام 2012، فقد أجرت إسرائيل حسابات دقيقة لكمية السعرات الحرارية المسموح بها لمجمل سكان القطاع، لإبقائهم واقفين على حافة الانهيار، بل أعدت "قائمة طعام" تحدد ما يُسمح بدخوله وما يُحظر، في ممارسة وُصفت حينها بـ"حِمية غزة" (Gaza Diet)، وهي عقاب جماعي مقنن يختصر جوهر سياسات الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني.
الجوع سلاحا
على نطاق أوسع، يُستخدم التجويع والحصار في الحروب باعتبارهما أدوات قاسية لتمزيق قابلية الشعوب للمقاومة وإجبارها على الاستسلام. هذا ما أكده أستاذ القانون الدولي، توم دانينباوم، في مقالته المنشورة بمجلة شيكاغو للقانون الدولي، حيث وصف الحصار الخانق الذي تفرضه بعض القوى المتحاربة بـ"التعذيب الجماعي". عقد دانينباوم مقارنة بين التعذيب الجسدي والتجويع الجماعي، معتبرا أن كليهما يسلب إرادة الضحية ويدمر قدرتها على المقاومة. ففي حالة الحصار، لا تُستهدف الأجساد بالقنابل، بل يُفتك بها عبر أساليب أخرى تشبه ما يمارس في المعتقلات، حيث يصبح الألم أداة إخضاع.
إعلانإن التجويع في عمقه هو دفع للجسد كي ينقلب على نفسه، مادة وروحا، مما يقوض إحدى ركائز إنسانيتنا، وهي القدرة على التمسك بالتزاماتنا الأخلاقية العليا، وكل ذلك يسببه الحرمان المتعمد من الطعام. وبناء على ذلك، يرى دانينباوم أن التجويع الجماعي هو النظير المجتمعي للتعذيب الفردي. فرغم أن الضحية لا يخضع في حالة الجوع للسيطرة المباشرة للجلاد كما في المعتقل، فإن الهدف يبقى واحدا، وهو محاولة إخضاع الضحية وكسر مقاومته، بشكل مباشر أو غير مباشر.
الأخطر أن تلك الآثار المدمرة لا تستهدف الأفراد بشخوصهم، ولكنها تضرب نسيج المجتمع ذاته. في كتابيه "المجاعة القاتلة" و"جرائم المجاعة"، يقوم أليكس دو وال، المدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمي في كلية فليتشر للقانون والدبلوماسية بجامعة تافتس في الولايات المتحدة، والخبير في شؤون المجاعة والأزمات الإنسانية، بتسليط الضوء على كيفية استخدام الجوع كأداة للإكراه السياسي، وأنه ليس مجرد نتيجة لوجستية جانبية للحروب.
يُستخدم الجوع لقمع المقاومة، وتفكيك هوية الجماعات مع مرور الوقت. إنه سلاح مزدوج: قاتل ولكنه محدود بما يكفي لتجنب مشهد ضحايا العنف المباشر، بينما يُقوّض التماسك الاجتماعي والقدرة على الحكم، وهو كذلك شكل من أشكال الإبادة الجماعية الطويلة الأمد من خلال التحكم في الغذاء، إذ يتم توفير ما يكفي من السعرات الحرارية لمنع الموت الجماعي، مع الحفاظ على الجوع الشديد الذي يدمر حياة الجماعة، من حيث كونها اجتماع الناس القادرين على التنظيم في إطار واحد.
يهدف هذا النهج الوحشي، ببساطة، إلى تسليح البيولوجيا في مواجهة الإنسان، وفق تعبير دانينباوم. ويسعى لإعادة هندسة المجتمع على نطاق واسع من كونه كتلة مقاومة متمسكة بقيمها العليا والتزاماتها، إلى أفراد مبعثرين غارقين في صراعات فردية من أجل البقاء. بعبارة أخرى، يزعزع الجوع النظام الاجتماعي، ويختزل الفعل السياسي والاجتماعي إلى قضية واحدة: من يستطيع إطعام الناس؟ وفي غياب الطعام، تغيب أي قدرة على المقاومة أو ممارسة الفعل السياسي أو حتى التعبير عن المشتركات الأساسية للمجتمع.
في أحد مراكز توزيع المساعدات، جثا رجل فلسطيني من غزة على ركبتيه، يلتقط حبات المعكرونة المتناثرة من الأرض. لم يكن مسلحا ولا يشكل تهديدا على الإطلاق، لقد كان مجرد جائع يبحث عن لقمة. رغم ذلك، فإن موظف الأمن الأميركي رشّ في وجهه علبة كاملة من رذاذ الفلفل!
هذه الصورة الصادمة وردت ضمن شهادة محارب أميركي سابق عمل في "مؤسسة غزة الإنسانية" سيئة السمعة المكلفة بتوزيع المساعدات في القطاع المنكوب. لم يحتمل رؤية الوحشية التي تُمارس تحت قناع المساعدات، فترك المؤسسة التي وصفها بـ"اللاإنسانية".
في شهادته، تحدث عن مقتل سيدة فلسطينية بقنبلة صوت أطلقها موظفو الأمن، وعن إطلاق نار عشوائي على مدنيين جوعى لإبعادهم عن مركز توزيع المساعدات. يقول: "خدمت جنديا لأكثر من 25 عاما، وشاركت في 4 حروب، لكن لم أطالَب يوما بأن أطلق النار على مدنيين عزّل كما حدث في غزة".
تحت اسم مخادع، أُسست مراكز "مؤسسة غزة الإنسانية" في فبراير/شباط 2025، تحمل شعارات براقة مثل "تخفيف حدة الجوع"، بينما وظيفتها الفعلية عسكرة المساعدات وتحويلها إلى أداة للسيطرة، مع منع المنظمات الإنسانية من أداء واجبها. ودانت منظمة العفو الدولية -في تقريرها الصادر في الثالث من يوليو/تموز الجاري- هذه الخطة المميتة التي صاغتها إسرائيل بعناية ودعمتها أميركا، لتستخدم المساعدات سلاحا آخر في حرب التجويع.
حسب "هيومن رايتس ووتش"، فإن تدمير البنى التحتية، واستهداف المستشفيات، ومنع وصول الغذاء والماء تعبّر عن سياسات مقصودة روج لها وزراء إسرائيليون بارزون مثل يوآف غالانت (وزير الدفاع السابق) وإيتمار بن غفير، مما يجعلها جريمة حرب مكتملة الأركان وفق ما يقتضيه القرار الأممي 2417 الصادر في 2018، الذي يجرّم استخدام التجويع سلاحا.
إعلانمع إطلاق "مؤسسة غزة الإنسانية"، أصبحت هي المتحكم الوحيد في مسار الجوع والموت، وصار الطريق إلى كيس الطحين مفروشا بالدماء. تحت غطاء "المعونة"، نصبت كمائن الموت للفلسطينيين. هذا الاستخدام الوحشي للسلطة يدفع إلى سؤال مرير: كيف يغمض جفن منفذي الإبادة مطمئنين وقد حاصروا مليوني إنسان حتى تلوت بطونهم وسقط أطفالهم من الجوع؟
والجواب -كما تشير الدراسات النفسية- هو أن السيطرة على الضحية تمنح الجلاد شعورا زائفا بالتفوق، حيث لا يراها بشرا، بل كبش فداء. ومثل هذا التجريد من الإنسانية، المقترن بخطاب كراهية عنصري، يتغلغل في خطاب الاحتلال منذ بداية الحرب، منذ أن صرح وزير الدفاع السابق، يوآف غالانت، واصفا سكان غزة بأنهم "حيوانات بشرية"، في حين استدعى نتنياهو روايات توراتية تحث على إبادة "العماليق"!
في نوفمبر/تشرين الثاني 1944، كانت أوروبا ترزح تحت وطأة المجاعة الناتجة عن أهوال الحرب العالمية الثانية، مما استدعى البحث عن حلول لإعادة التأهيل بعد الكارثة. وقتها، أطلق عالم الأحياء الأميركي أنسيل كيز تجربة جريئة عُرفت باسم تجربة مينيسوتا للتجويع، أجريت في غرف سكنية تابعة لجامعة مينيسوتا، بمشاركة 36 متطوعا وافقوا على الخضوع للتجويع المتعمد لمدة عام كامل تحت إشراف طبي.
خلال التجربة، قُسمت السنة إلى 3 مراحل: حمية طبيعية (3200 سعرة حرارية يوميا)، تليها 6 أشهر من التجويع بخفض السعرات إلى 1570 سعرة تعتمد على وجبتين فقيرتين من الخضراوات والخبز والمعكرونة، ثم 3 أشهر لإعادة التغذية. وخلال هذه الفترة، خضع المشاركون لمهام بدنية شاقة لساعات طويلة يوميا.
النتائج كانت صادمة، فقدان 25% من أوزان المشاركين، وانخفاض الكتلة العضلية بنسبة 40%، مع ضعف جسدي وانخفاض درجة الحرارة وبطء معدل ضربات القلب. لكن الأثر النفسي كان الأشد وطأة، من اكتئاب، وقلق، وهوس بالطعام، وبحث عن بقاياه في القمامة، وأحلام دائمة عن الأكل. ومع مرور الوقت، ظهرت حالة من اللامبالاة والتبلد العاطفي وصفها الأطباء بـ"الاستسلام الخالص"، وجوه بلا تعابير، وأجساد تسير إلى مصيرها بلا غضب ولا مقاومة.
تركت هذه التجربة القاسية، رغم أنها جرت تحت إشراف طبي كامل وبصورة طوعية، آثارا مروّعة على من مروا بها. أما ضحايا الحروب (ومنهم سكان غزة اليوم)، فهم يخضعون لتجويع عمدي أشد ضراوة وقسوة، لدرجة أن أحدهم يمكن أن يمكث أياما بلا طعام يذكر، والمحظوظ منهم من يحصل على رغيف من الخبز أو صحن صغير من المعكرونة أو العدس. يدفع هذا الجوع الشديد المتواصل الإنسان إلى حافة اليأس والانهيار النفسي، وهذا بالضبط ما يريده الاحتلال!
غالبا ما يتم تبرير هذه الممارسات الوحشية – بحسب ما يرى بعض الباحثين – بالأيديولوجيا المتطرفة، سواء كانت قومية عنصرية، أو عقيدة دينية منحرفة، أو سياسة استبدادية جامحة. هذه الأيديولوجيات جميعا تمنح "الوحش" راحة زائفة، ومبررا يجعل من سلاح التجويع فعلا ضروريا مبررا، لإنجاز نصر حاسم. وعندما يتحول لبن الأطفال وقطرة الماء إلى سلاح، اعرف جيدا أنك أمام انسان قرر تخلية نفسه من أي معنى إنساني.
في هذا النموذج، كما يرى خبراء علم النفس لا تكون الوحشية أو السادية مجرد انحراف فردي، لكنها بنية مؤسسية تُصنع عبر الأيديولوجيا وتُغذى من خلال نزع الإنسانية عن الضحايا وتبرير الأفعال الوحشية كضرورة أمنية أو عقوبة مبررة. غالبا ما يغيب فيها الشعور بالذنب، ويُستبدَل بمشاعر التفوق والسلطة والتمتع الخفي أو العلني برؤية آلام الضحايا ومعاناتهم الطويلة.
وتؤكد بعض الدراسات أنه يمكن نصف ذلك السلوك بأنه نوع من "السادية المؤسسية"، حيث تمارس جهة ما، سواء كانت دولة أو جماعة دون الدولة، العنف والقسوة بشكل جماعي لتدمير إرادة مجتمع كامل لا كحالات فردية أو شذوذ، بل كسلوك مبرمج وسياسة رسمية. في حالة غزة، ظهرت هذه "السادية المؤسسية" في ممارسات، مثل فرض الحصار الشامل لعقود، وتجويع المدنيين حتى الموت، ومنع الغذاء والدواء والماء، واستهداف المناطق المأهولة بالقصف والتهجير المتكرر، بحيث يُجبَر السكان على النزوح عشرات المرات إلى أماكن معدومة الأمان أو الموارد، فضلا عن التعامل مع توزيع المساعدات الإنسانية بأساليب إذلال وإهانة جماعية، حتى وصف مقرر أممي طرق إدخال المساعدات إلى غزة بأنها نوع من "السادية"، بحسب ما ترى تلك الدراسات.
إعلانويترافق مع سلاح التجويع في غزة حملة أخرى قاسية، توضحها الصحفية الأميركية بيلين فرنانديز، في مقال لها بعنوان "الحرب النفسية الإسرائيلية في غزة"، حيث تقول إن إسرائيل تستهدف بتخطيط ممنهج تدمير الحالة النفسية لكل من يعيش في القطاع، مستخدمة أساليب "العمليات النفسية" (Psychological Operations) بغية كسر إرادة الضحايا.
تتعدد وسائل هذه الحرب النفسية، بين تسجيلات لصرخات أطفال ونساء تبثها طائرات مسيرة في منتصف الليل لجذب المدنيين إلى العراء ليصبحوا أهدافا للقناصة، وأوامر إخلاء تصدر في اللحظات الأخيرة قبل القصف لتزيد من الفوضى، وقرارات نزوح تجبر السكان على الفرار الدائم دون وجهة، بينما تتقلص مساحات الأمان يوما بعد يوم.
وصفت منظمة "أطباء بلا حدود" هذه السياسات في تقرير لها في مايو/أيار 2025 بأنها محاولة متعمدة لتحويل غزة إلى جحيم حي، سلسلة من الصدمات النفسية المتواصلة تدفع الناس إلى الانهيار. تحت هذا الضغط المستمر، يتوقف بعض الفلسطينيين عن النزوح ويفضلون البقاء وسط أنقاض منازلهم، رغم إدراكهم أن الموت قد يلحق بهم في أي لحظة. فرنانديز تؤكد أن إسقاط منشورات الإخلاء ثم قصف من يمتثل لها جعل الإخلاء ذاته جزءا من الحرب النفسية، إذ لم يعد يعني النجاة بل الخضوع لابتزاز الموت.
إنها حرب أخرى بخلاف حرب القنابل والطائرات، سجن نفسي مفتوح، سجانه الخوف والصدمة والجوع. هذه الإستراتيجيات تهدف إلى شل الضحايا نفسيا، ليغدوا أسرى في أجسادهم، محاصرين داخل عقولهم، في مواجهة سلاح أخطر من القنابل، الجوع الذي يغزو الجسد والعقل معا. لكن دائما ما تكشف الأحداث في المقابل عن قدرات هائلة لدى الإنسان للمقاومة والإصرار على الحياة بكرامة رغم كل تلك المعاناة.
وهذا ما عبرت عنه بجلاء الورقة التي نشرتها يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 الأستاذة الأسترالية ميشيل بيس في المعهد الأسترالي للشؤون الدولية بعنوان "الغزيون: شعبٌ يتمتع بشجاعةٍ لا تُقاوم، وإيمان، ولطف" ، وأشارت فيها إلى نمط حياة شعب غزة في فترة ما قبل الحرب، وكيف أنهم "رغم الحصار والتضييق الخانق من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، كانوا يجدون وسائل للتكيف مع واقعهم المُعاش ووسائل بناء شبكات تضامن اجتماعية تسيّر حياة المجتمع"، وأن هذه الديناميات والقدرات أسهمتا بصورة أو بأخرى في رفد المجتمع بأساليب وأدوات للبقاء والصمود، وقد زادهم صلابة تتالي الحروب وتنوع وسائل القتل والتدمير التي لم تتخلف عن القطاع طوال الفترة الماضية.