أقولها للمرة الرابعة.. من حق أطفال الصعيد دخول الكونسرفتوار ومعهد الباليه، مثلهم مثل أطفال القاهرة والإسكندرية، بل ومن حق كل أطفال محافظة فى مصر أن يكون بها أكاديمية للفنون تعلمهم الموسيقى والبالية، وليس من حق أحد أن يمنع عنهم هذا الحق!
والصعايدة كلهم شعراء.. وهذه حقيقة قد يراها البعض موهبة فى الجينات يولد بها كل صعيدى.
.. لأن أرخص آلة يتعلمها الطفل فى الصعيد هى القلم.. نعم القلم هو الآلة أو الأداة الوحيدة التى يتعلمها ويعرف كيف يمسكه ويكتب به، وبعدها لا يحتاج سوى ورقة بيضاء حتى لو لم تكن كذلك ليخط عليها ما يجيش فى صدره من احاسيس ما فيكتب شعرًا.. وربما هو ليس شاعرًا ولكن يشعر أن لديه موهبة ما ولا يعرف التعبير عنها لأن الآلة الوحيدة والرخيصة التى تعلمها هى القلم.. فليست لديه إمكانيات لشراء ألوان ليرسم أو شراء آلة موسيقية ليعزف.. ومن فى معظم مدن وقرى الصعيد لديه الامكانية ليشترى أورج أو كمان أو اكورديون.. وماذا تفعل فتاة صغيرة إذا ارادت أن تلعب باليه؟!
ربما يقول أحد إن هذه رفاهية بالنسبة لأبناء الصعيد لا يمكن الحديث عنها قبل أن تتوفر الضروريات مثل مدرسة يتعلمون فيها أو فصل يسع من 50 إلى 60 طفلا وأن هناك مدارس فى الصعيد تلزم أولياء الأمور بشراء «تختة» ليجلس عليها طفله.. وأنت تريد أن تعلمهم الموسيقى والباليه!!
لكن.. هنا يأتى دور الدولة التى تريد أن تهيأ بيئة حضارية تنويرية وأن يكون هناك بديل من الظلام الثقافى الذى يعيشه أبناء الصعيد حتى يمكن استيعاب طاقات الأطفال والشباب التى لا تجد شيئًا بديلًا عن التطرف الفكرى والدينى لتفريغ هذه الطاقات والتى قد تصل إلى حد الكفر بالنظام وبالدولة.. وإذا كان البعض يتساءل عن أسباب انتشار التحرش أو التطرف أو المخدرات وكذلك الإلحاد.. فإن السبب الوحيد هو عدم قدرة أو عدم معرفة هؤلاء الشباب من الصغر طريقة لإفراغ وتوجيه وتنمية قدراتهم وطاقاتهم ومواهبهم داخل اكاديمية علمية تنقذهم من هذا الفراغ الحضارى والثقافي!
وأعتقد أن أبناء الصعيد الذين أصبحوا الآن فى مواقع مسئولية عليهم واجب ودور كبير تجاه أطفال الصعيد.. لأنهم أكثر الناس معرفة بواقع أطفال الصعيد ومدى حاجتهم لأكاديمية للفنون فقد عان الكثير منهم فى الصغر بسبب ذلك، واضاعوا سنوات كثيرة من عمرهم للحصول على فرصة.. ولهذا أناشد الزميل الصحفى الكبير محمود مسلم، عضو مجلس الشيوخ، ورئيس لجنة الثقافة والسياحة والآثار والإعلام بالمجلس، أن يتبنى من موقعه مقترح انشاء فرع لأكاديمية الفنون بالصعيد، فهو من أبناء الصعيد وعاش سنوات هناك وما زال على تواصل واتصال بالحياة القاسية الجافة فى الصعيد!
وإننى على ثقة أن الأستاذ محمود مسلم، وفى إطار مسئولياته الصحفية والإعلامية والنيابية، يدرك مخاطر الفراغ الثقافى والفنى بالصعيد ويعلم مدى حاجة أبناء الصعيد لمثل هذه الاكاديمية، ويعرف سياسيًا وثقافيًا أهمية وجود بيئة ثقافية تنويرية فى الصعيد تستوعب طاقات أبنائه وامكانياتهم ومواهبهم بعيدًا عن فقر الشعر وشعر الفقر!
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الناصية ناقشوا الفكرة وادرسوها 4 أطفال القاهرة غير حقيقى أبناء الصعید فى الصعید
إقرأ أيضاً:
"زهرات".. الحزن
صريخ وعويل ونواح وأهات أمهات ثكلي وتمتمات قلوب آباء طعنها ألم فقد فلذة الكبد فجأة، مأتم جماعي وحزن مقيم سكن قرية بأكملها، وسرادق عزاء امتد فى مشهد مهيب وموجع، والسبب سائق طائش يقول إنه فقد السيطرة على عجلة القيادة، فدهس السيارة "الميكروباص" تحت عجلاته بلا هوادة، فتناثرت الأشلاء وصعدت الأرواح إلى بارئها، تاركة خلفها قصصا دامية، وتساؤلات حائرة لن نجد لها إجابات أبدا ودوما.
ثماني عشرة فتاة لم يزد عمر الكبرى منهن على 23 عاما، دفعهن تحمل المسئولية وعدم الارتكان إلى ظروف الواقع، إلى العمل رغم حداثة أعمارهن، وهى قصة مأساوية متكررة، تحكمها أسباب عدة، فهذه طالبة فى كلية الهندسة لم تتعال ولم تخجل من الذهاب مع رفيقاتها إلى جني محصول العنب مقابل 130 جنيها يوميا، أرادت أن تخفف عن أسرتها مصروفات الكلية، وتلك انتهت للتو من امتحانات الشهادة الإعدادية، وكانت تحلم باقتناء جهاز هاتف، وثالثة كانت تنتظر زفافها بعد أسبوعين، بعد أن رفضت أن ترهق أهلها فى مصروفات تجهيز العرائس التى لا تنتهي بحكم عادات بالية فى القرى والأرياف.
كل واحدة من البنات لها قصة، وما أكثر القصص المؤلمة التى يعيشها كثير من البسطاء فى صمت، عزة النفس عنوانهم، والستر أبلغ أمانيهم، يسعون لكسب رزقهم من عمل أيديهم، لا يسألون الناس إلحافا، يشحنون فى سيارات ميكروباص أو نصف نقل يتكدسون فوق بعضهم، يقودها سائق أرعن متهور، يتمايل بهن يمينا ويسارا يتخطى تلك السيارة ويقفز أمام الأخرى فى حركات بهلوانية، تشعلها سيجارته الممزوجة بالمخدرات، ولا يوفقها حذر من خطورة الطريق، أو حتى مجرد محاسبة ومراقبة للقيادة الطائشة على الطرق، فيتحول الركب إلى نعش تتناثر أشلاؤه على الاسفلت.
من منا لم يشاهد تلك العربات النقل التى تحمل فى صندوقها فتيات فى عمر الزهور وقد تكدسن فوق بعضهن بينما تتمايل بهن العربة يمينا ويسارا وهن يغالبن تيارات الهواء فى الشتاء القارس أو لفحة الشمس الحارقة فى نهار الصيف، تلك هى الصورة لنساء وفتيات تهربن من ذل الحاجة وسياط الفقر فى رحلة سعي وراء لقمة عيش محفوفة بالمخاطر وربما الأهوال، وصفحات الحوادث فى أرشيف صحفنا يمتلئ بسواد لحظات قاسية أودت بحياة الكثيرات منهن، مرة غرقا فى نهر النيل وأخرى تحت عجلات قطار وثالثة فى حادث مروع.
هل نسينا ما حدث منذ عام تقريبا لفتيات معدية أبو غالب، وهو حلقة من سلسلة حوادث الفقر والإهمال، حيث سبع عشرة فتاة رحن ضحية الحادث غرقا، أعمارهن لا تتجاوز العشرين عاما والغالبية أقل من ذلك بكثير، تكدسن مع سبع أخريات فى عربة ميكروباص واحدة ليصبح العدد 24 راكبا فى مركبة لا تتجاوز مقاعدها على الـ14 راكبا، كن ذاهبات للعمل فى مزرعة لجمع زهور الياسمين.
وقتها تم حبس السائق وصرفت تعويضات لأسر الضحايا، ثم طويت الصفحة وما أشبه الليلة بالبارحة، أمس تكرر نفس المشهد على الطريق الإقليمي بالمنوفية، المواقع الاخبارية نقلت لنا لقاءات مع أمهات شهيدات لقمة العيش، ما أصعب وما أقسى ما تحملنه من حزن، على فقد بناتهن، لا تكفي كل الكلمات للمواساة ولا أكبر التعويضات لتحل محل فلذات الأكباد، هل سنستمر فى هذه الدائرة المفرغة من الإهمال ثم الحوادث المفجعة، دون أن يحاسب المتسبب بعقوبة رادعة، ودون أن يتم النظر فى منح التراخيص لسائقين معدومي الكفاءة، ودون أن تتم مراقبة القيادة الآمنة على كل المحاور؟!.. .ليتنا نعيد النظر فى كل هذه الامور حتى لا نفيق كل فترة على مأساة جديدة ننعى فيها "زهرات الحزن".