غزة .. عام على الطوفان
تاريخ النشر: 5th, October 2024 GMT
حيروت – الأناضول
تكمل الحرب على قطاع غزة عامها الأول ولا تزال إسرائيل ترتكب “إبادة جماعية” بحق الفلسطينيين، بزعم الرد على هجوم “طوفان الأقصى” الذي نفذتها حركة حماس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
في ذلك اليوم، هاجمت حماس قواعد عسكرية ومستوطنات بمحاذاة غزة، فقتلت وأسرت إسرائيليين، ردا على “جرائم الاحتلال الإسرائيلي اليومية بحق الشعب الفلسطيني ومقدساته، ولا سيما المسجد الأقصى”، وفق الحركة.
وعبر دعوى أمام محكمة العدل الدولية (مقرها في مدينة لاهاي بهولندا)، نجحت جنوب إفريقيا في تسليط الضوء على مأساة غزة؛ باتهامها إسرائيل بارتكاب “أعمال إبادة جماعية”.
وإلى حين البت في الدعوى، أصدرت المحكمة أوامر لإسرائيل باتخاذ تدابير لمنع أعمال الإبادة الجماعية وتحسين الوضع الإنساني المزري بغزة، لكن تل أبيب لم تستجب لهذه الأوامر.
وحولت إسرائيل قطاع غزة إلى أكبر سجن في العالم، إذ تحاصره للعام الـ18، وأجبرت حربها نحو مليونين من مواطنيه، البالغ عددهم حوالي 2.3 مليون فلسطيني، على النزوح في أوضاع كارثية، مع شح شديد ومتعمد في الغذاء والماء والدواء.
وبينما يجري الحديث عن مستويات التطرف غير المسبوقة التي وصلت إليها حكومة إسرائيل الراهنة، يهمل كثيرون التركيز على التفاعل الشعبي مع الإبادة الجارية في غزة.
وتشير استطلاعات عديدة إلى أن أغلبية الإسرائيليين على اختلاف توجهاتهم السياسية والأيديولوجية تؤيد الإبادة في غزة، لكن الاختلافات الراهنة تتعلق بفعل ذلك والأسرى بقبضة الفصائل الفلسطينية، أم بعد تحريرهم ضمن صفقة.
تأييد شعبي لجرائم نتنياهو
بعد “طوفان الأقصى” والفشل المخابراتي والعسكري في إسرائيل انهارت شعبية رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو (74 عاما)، لكنه استعادها بمرور الوقت، بل وتفوق على منافسيه بصورة دراماتيكية، حسب استطلاع للرأي بصحيفة “معاريف” العبرية في 13 سبتمبر/أيلول 2024.
نتائج الاستطلاع أظهرت أن 41 بالمئة من الإسرائيليين يعتقدون أن نتنياهو الأنسب لرئاسة الحكومة، مقابل 40 بالمئة لزعيم حزب “معسكر الدولة” بيني غانتس.
وأفادت بأن حزب غانتس سيحصل على 21 مقعدا من أصل 120 في الكنيست، مقابل 24 لحزب “الليكود” الحاكم بقيادة نتنياهو، حال إجراء الانتخابات يوم الاستطلاع.
الاستطلاع نفسه توصل إلى أن 47 بالمئة من الإسرائيليين يعتبرون نتنياهو الأنسب لرئاسة الحكومة، مقابل 34 بالمئة لزعيم المعارضة يائير لابيد.
تلك النتائج تظهر صعودا في شعبية نتنياهو، وتأييدا ضمنيا لاستمرار “الإبادة الجماعية” في غزة، وذلك مقارنة بنتائج استطلاعات سابقة للرأي.
ففي 13 يوليو/ تموز الماضي، أظهر استطلاع أن 70 بالمئة من الإسرائيليين يطالبون بإقالة نتنياهو، بينهم 44 بالمئة يؤيدون استقالته فورا، حسب “القناة “12” العبرية.
كما أظهر استطلاع في 12 أبريل/نيسان الماضي أن 47 بالمئة من الإسرائيليين يرون غانتس الأنسب لرئاسة الوزراء، مقابل 35 بالمئة لنتنياهو.
وفي 4 يناير/ كانون 2024، بلغت نسبة تأييد نتنياهو، حسب استطلاع، 15 بالمئة فقط، إذ دعت الغالبية العظمى من الإسرائيليين إلى استقالته.
من هنا يتبين أن شعبية نتنياهو كانت في انهيار خلال الأسابيع التي تلت 7 أكتوبر، إلا أنه مع استمراره في “الإبادة الجماعية” بغزة، استعاد شعبيته المفقودة وواصل تمسكه بمنصبه.
وتحتجز تل أبيب في سجونها ما لا يقل عن 9 آلاف و500 فلسطيني، وتقدر وجود نحو 101 أسير إسرائيلي في غزة، في حين أعلنت حماس العشرات منهم في غارات عشوائية إسرائيلية.
ويمنع نتنياهو إبرام اتفاق مع حماس، بإصراره على استمرار احتلال ممر نتساريم، الذي يقسّم قطاع غزة إلى شمال وجنوب، بالإضافة إلى معبر رفح ومحور فيلادلفيا الحدودي مع مصر، وهو ما ترفضه حماس.
إقرار إسرائيلي بالإبادة
“إذا لم تكن هذه إبادة جماعية، فما هي؟”.. بهذا التساؤل الاستنكاري عنون الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي مقاله بصحيفة “هآرتس” العبرية في 14 يناير/ كانون الثاني الماضي.
وانتقد ليفي التناقض في إسرائيل بين الأقوال والأفعال خلال مسار الدعوى المرفوعة من جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية.
وتساءل عما “يجري في غزة من قتل جماعي دون تمييز وضبط للنفس، وبشكل لا يمكن تصوره”، مؤكدا أنها “إبادة جماعية لا يمكن تغييرها بتعريف قانوني”.
ليفي اعتبر أن “إسرائيل ستتنفس الصعداء إذا أسقطت المحكمة الدولية التهمة عنها، وكأن ضميرنا سيكون نظيفا إذا قالت لاهاي إن هذه لم تكن إبادة جماعية، وسنكون الأكثر أخلاقية في هذا العالم!”.
وبعد جلسة لمحكمة العدل الدولية، تحدث الكاتب الإسرائيلي بي ميخال، في مقال بـ”هآرتس” يوم 14 يناير/ كانون الثاني الماضي، عن “المستوى الهائل لكذب فريق الدفاع الإسرائيلي أمام المحكمة”.
ومستنكرا، قال ميخال: “لو أوصلنا جهاز كشف الكذب بمحامينا في لاهاي لانهارت شبكة الكهرباء”.
وقبل الجلسة، قال الكاتب الإسرائيلي جيرمي شارون، عبر مقال بصحيفة “تايمز أوف إسرائيل” في 10 يناير/ كانون الثاني الماضي، إن إسرائيل ستجد نفسها في قفص الاتهام بتهمة “الإبادة الجماعية” لسكان غزة.
وقال شارون إن “التصريحات التحريضية العديدة التي أدلى بها وزراء إسرائيليون بشأن الفلسطينيين في غزة، مثل (وزير الأمن القومي إيتمار) بن غفير و (ووزير المالية بتسلئيل) سموتريتش عززت موقف جنوب إفريقيا بأن إسرائيل لديها النية لارتكاب إبادة جماعية، وهو جانب حاسم في أي اتهامات بالإبادة الجماعية”.
واستندت المحكمة على تصريحات عنصرية لوزراء إسرائيليين، أبرزها تصريح وزير التراث عميحاي إلياهو في 5 يناير/ كانون الثاني الماضي بشأن إمكانية إلقاء قنبلة نووية على غزة.
وأعرب إلياهو عن رفضه دخول أي مساعدات إنسانية إلى غزة؛ بدعوى أن بلاده لن تنقل المساعدات إلى “النازيين”، على حد زعمه، و”لا يوجد شيء اسمه مدنيون غير متورطين في غزة”.
تلك الممارسات والتصريحات الإسرائيلية دفعت دولا عديدة إلى تأكيد أن ما يحدث في غزة هو “إبادة جماعية حقيقية”.
ففي 9 مايو/ أيار الماضي، حذر وزير الحقوق الاجتماعية الإسباني بابلو بوستندوي شركات بلاده في إسرائيل من “خطر المساهمة في الإبادة الجماعية في فلسطين”؛ مما أثار استياء السفارة الإسرائيلية في مدريد.
وفي 25 سبتمبر/ أيلول الماضي، أكدت صحيفة هآرتس نقلا عن جمعيات حقوقية إسرائيلية، أن القناة 14 (العبرية) اليمينية المتطرفة دعت إلى إبادة الفلسطينيين في غزة أكثر من 50 مرة منذ 7 أكتوبر.
إبادة متواصلة
وفي ضوء الأحاديث عن الإبادة، أكدت منظمة العفو الدولية “أمنستي” في 5 سبتمبر 2024، أن الجنود الإسرائيليون يدمرون منازل ومرافق المدنيين في غزة بشكل غير مبرر.
وفي هذا السياق، سلطت الضوء على مقاطع فيديو نشرها جنود إسرائيليون على وسائل التواصل الاجتماعي خلال الفترة بين أكتوبر/تشرين الأول 2023 ومايو/أيار 2024.
ويظهر الجنود الإسرائيليون في المقاطع وهم يتهيؤون لالتقاط الصور أو يرفعون الأنخاب من أجل عائلاتهم أو أصدقائهم الأحياء أو الأموات، احتفالًا بالتدمير بينما تُهدم مباني المدنيين في الخلفية.
وعادة ما ترد الخارجية الإسرائيلية على اتهامات “الإبادة الجماعية” بزعم أنها “اتهامات كاذبة يُروجها البعض”، وأن دولا، بينها جنوب إفريقيا، تعمل على “شيطنة” إسرائيل ونزع الشرعية عنها.
وفي 29 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، تقدمت جنوب إفريقيا بطلب إلى محكمة العدل الدولية للتحقيق مع إسرائيل في انتهاك بعض مواد اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية المعاقبة عليها.
ومع توالي جلسات المحكمة، طالبت جنوب إفريقيا بالتعليق الفوري للعمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، مع ضمان حصول سكان القطاع على الغذاء والماء والمساعدات الإنسانية.
غير أن إسرائيل لا تزال مستمرة في “الإبادة الجماعية” للمواطنين الفلسطينيين في غزة، ولم تعر أي اهتمام لأوامر المحكمة ولا المناشدات الدولية بتقديم مساعدات إنسانية كافية.
كما تتحدى تل أبيب طلب مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية كريم خان إصدار مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو ووزير دفاعها يوآف غالانت، لمسؤوليتهما عن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة.
فمع ارتفاع عدد الضحايا في غزة، خلال الحرب المدعومة من الولايات المتحدة، تتزايد شعبية نتنياهو ويضمن الاستمرار في منصبه، في مواجهة ضغوط المعارضة، وكذلك الرأي العام الدولي المندد بالحرب على غزة.
وهي حرب أسفرت عن أكثر من 138 ألف قتيل وجريح فلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 10 آلاف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة أودت بحياة عشرات الأطفال، في إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية بالعالم.
المصدر: موقع حيروت الإخباري
كلمات دلالية: بالمئة من الإسرائیلیین کانون الثانی الماضی الإبادة الجماعیة العدل الدولیة جنوب إفریقیا إبادة جماعیة فی غزة
إقرأ أيضاً:
حين يصبح الغذاء سلاح إبادة..مأساة ضحايا التجويع تكشف خيانة العالم لغزة
الثورة / وكالات
في أحد أقسام مستشفى شهداء الأقصى وسط قطاع غزة، أسلمت الرضيعة الفلسطينية مكة صلاح الغرابلي، ذات العام الواحد، روحها بعد معركة صامتة مع الجوع وسوء التغذية، لتُضاف إلى قائمة ضحايا التجويع الإسرائيلي، وسط عجز دولي تام عن إجبار نظام الإبادة الجماعية على السماح بدخول الغذاء بإنسانية، أو حماية وكالات الأمم المتحدة للقيام بدورها.
لم تتمكن مكة من النجاة، رغم محاولات الإنقاذ اليائسة، فالحليب العلاجي الذي كانت تحتاجه بشدة لم يكن متوفرًا، كما غابت الأدوية الأساسية، في ظل نقص حاد ناتج عن الحصار الإسرائيلي الذي شل النظام الصحي وأغلق المعابر أمام الإمدادات المنقذة للحياة.
كانت مكة واحدة من عشرات آلاف الرضع المهددين بالمصير ذاته، بحسب بيانات صادرة عن مكتب الإعلام الحكومي في غزة. احتاجت إلى تركيبة غذائية مخصصة للأطفال الذين يعانون من أمراض مثل سوء التغذية الحاد أو مشاكل في الهضم، لكن كل ما تلقته كان الانتظار على سرير بارد في مستشفى خالٍ من الإمكانيات.
في مقطع مصور التُقط لها قبل وفاتها، ظهرت مكة مستلقية بصمت على سرير المستشفى، فيما برزت علامات واضحة على جسدها النحيل، من بينها إحمرار في الظهر، ناجم عن ضعف المناعة وسوء العناية الصحية في بيئة تفتقر لكل مقومات الحياة. ذبل جسدها تدريجياً، تقوّس صدرها، وبدت بطنها منتفخة بشكل مروّع. عيناها الغائرتان كانتا تنطقان بما لا يستطيع الرضع قوله: ألم الجوع، وقسوة الموت البطيء.
رحلت مكة بعد عام واحد من الحياة، لم تعرف فيه إلا المعاناة، في زمن تحوّل فيه الغذاء إلى أمنية، والحليب إلى رفاهية لا يطالها المحاصرون.
لم تكن مكة سوى واحدة من 89 طفلاً خانهم المجتمع الدولي دون أن يعلن المجاعة بشكل صريح، رغم التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي الذي وضع غزة على حافة المجاعة الشاملة، بتجاوزها المؤشرات الثلاثة التي تعني نقص الغذاء ثم سوء التغذية وصولا إلى الوفيات.
ووفقا لتقرير لجنة المسؤولية التي تم تشكيلها عام 1919 بعد الحرب العالمية الأولى، فقد أدرج “التجويع المتعمد للمدنيين” باعتباره انتهاكا لقوانين وأعراف الحرب يخضع للملاحقة الجنائية، ومنذ ذلك الحين أصبح قاعدة من قواعد القانون الدولي العرفي.
وينص القانون الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أن “استخدام تجويع المدنيين عمدا كأسلوب من أساليب الحرب” يعد جريمة حرب في النزاعات المسلحة الدولية.
وتشكل هذه القاعدة الأساس القانوني لمحاكمة دولة الاحتلال أمام كل من محكمة الجنايات الدولية ومحكمة العدل الدولية بفعل جرائمها في قطاع غزة، وفي مقدمتها جريمة الإبادة الجماعية من خلال التجويع.
فقد شكل “تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب” البند الأول من التهم التي وجهها مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية كريم خان إلى كل من رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير جيشه السابق يوآف غالانت، والتي طلب على أساسها في 20 مايو 2024 إلقاء القبض عليهما.
كما تضمنت التهم “الإبادة (و/ أو) القتل العمد، بما في ذلك الموت الناجم عن التجويع باعتباره جريمة ضد الإنسانية”، مشيرا إلى أن الجرائم ضد الإنسانية التي وجِّه الاتهام بها قد ارتكِبت في إطار هجوم واسع النطاق ومنهجي ضد السكان المدنيين الفلسطينيين عملا بسياسة الدولة.
وتأتي مأساة مكة في سياق أوسع من التواطؤ والصمت الدولي، الذي يسمح باستمرار هذه الجرائم، كما يؤكد الخبير الحقوقي رامي عبده، رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، حيث تجاوز ما تتعرض له غزة حدود النكبات الإنسانية إلى خيانة سياسية وأخلاقية غير مسبوقة.
خيانة عميقة بغطاء سياسي
ويقول في منشور عبر منصة إكس: “على الساحة الدولية، لم يواجه أي نضال تحرري حديث خيانةً عميقةً كتلك التي عانتها غزة. ولم تُقابل أي إبادة جماعية في الذاكرة الحديثة بمثل هذا التواطؤ الصارخ والصمت المطبق. لأكثر من عامين، تبنى العالم رواية القوة المحتلة، مانحًا إياها غطاءً سياسيًا وأخلاقيًا سمح لها بالاستمرار في ارتكاب الفظائع دون هوادة. في غضون ذلك، لم تواجه سلاسل إمدادها العسكرية أي عائق، بل على العكس تمامًا”.
ويؤكد عبده أن الدول الغربية التي ترفع شعارات العدالة والدفاع عن حقوق الإنسان، باتت تعرقل بفعالية الجهود القانونية للمساءلة سواء في محكمة العدل الدولية أو المحكمة الجنائية الدولية، مشيرًا إلى أن “أقصى ما قدمه المجتمع الدولي، بعد عامين من الإبادة المنهجية، هو مقترحات هزيلة لدولة فلسطينية منزوعة السيادة، مشروطة بالطاعة والتنازل الكامل عن الحقوق.”
وأضاف: “بعد عامين من تدمير مدن بأكملها، ومقتل عشرات الآلاف على الهواء مباشرة، وتجويع المدنيين عمدًا، لم يفعل الاتحاد الأوروبي شيئًا سوى إعادة النظر في شراكته مع النظام المرتكب للإبادة الجماعية. حتى الفكرة الرمزية المتمثلة في تعليق برنامج تعاون علمي هامشي مثل “أفق أوروبا” لم تحظَ بدعم سوى عشر دول من أصل سبع وعشرين دولة عضو”.
تعبئة شعبية ضعيفة
أما على المستوى الشعبي، فرغم اتساع رقعة التضامن العالمي، إلا أن زخم هذا التعاطف يتلاشى سريعًا ما لم يتم تحويله إلى حراك منظم ومستدام، فقد فشلت التعبئة العالمية في تحويل المظاهرات إلى إضرابات عمالية جادة أو حركات جماهيرية أو حملات ضغط مستدامة، “وهو فشل أخلاقي للضمير العالمي”.
ويُحمّل عبده المجتمع الدولي مسؤولية مباشرة في استمرار الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين، خصوصًا في ظل عجزه عن فرض أبسط الشروط الإنسانية، مضيفًا: “اليوم، ومنذ أكثر من شهرين، أثبت المجتمع الدولي نفسه عجزه عن إجبار نظام الإبادة الجماعية على السماح بدخول الغذاء بإنسانية، أو حماية وكالات الأمم المتحدة الإنسانية، أو حتى ضمان بقاء الأونروا ــ وهو تفكيكٌ لطالما تصوّره المشروع الصهيوني”.
ويرى رئيس المرصد الأورومتوسطي أن هذا المشهد من التراخي يُغري الاحتلال بالمضي قدمًا نحو سيناريوهات أشد فظاعة، محذرًا بالقول: “يدرك الاحتلال هذا المشهد جيدًا؛ فهو يُغذي استمرار الإبادة الجماعية وتصعيدها، ويشجعه على استكشاف سيناريوهات أكثر وحشية، بما في ذلك إعادة المستوطنات، وضم أراضي غزة، والسيطرة الكاملة على الضفة الغربية والقدس”.
ويضيف أن الحلول المطروحة على الطاولة بعد عامين من الحرب لا ترقى إلى الحد الأدنى من حقوق الفلسطينيين، بل إنها تضرب بجوهر القضية عرض الحائط، “فأقصى ما تمكن المجتمع الدولي من تقديمه هو مقترحات ضعيفة لدولة فلسطينية مجردة من السيادة والكرامة والمعنى، مشروطة بنزع السلاح والطاعة والتنازل الكامل عن الحقوق التاريخية والسياسية والأخلاقية”.
ورغم بعض الزخم الدولي الذي أعادت إليه الحرب أهمية النضال الفلسطيني في الخطاب العالمي، فإن عبده يشير إلى أن الرواية الإسرائيلية نجحت في احتلال المساحة الرمزية والإعلامية، قائلا إن “القضية الفلسطينية استعادت بعض أهميتها كنضال تحرري عالمي، غير أن النظام المحتل نجح إلى حد كبير في تصوير المقاومة الفلسطينية ــ والشعب الفلسطيني ككل ــ على أنها عنيفة وإرهابية، ودمج روايته الملفقة في الخطاب العالمي.”
ديناميكيات الرأي العام
ويختم عبده تحليله بتشخيص استراتيجي للديناميكيات المحركة للرأي العام العالمي، قائلًا: “يكشف فهم ديناميكيات الرأي العام العالمي عن حقيقة قاسية: التضامن، مهما اتسع نطاقه، يزول ما لم يُوجَّه بشكل استراتيجي وفوري. فبدون حملات منظمة تحافظ على الظهور والضغط، حتى أكثر القضايا عدالةً تُواجه خطر التلاشي من الذاكرة بمجرد أن تتلاشى عناوين الأخبار.”
واستشهد الخبير الحقوقي بالغضب العالمي عام 1982 في أعقاب غزو الاحتلال الإسرائيلي للبنان ومجزرة صبرا وشاتيلا، “لكنه سرعان ما تلاشى، واستأنفت إسرائيل علاقاتها الطبيعية دون عقاب. وفي 2008، شهدت غزة موجة دعم مماثلة، لكنها تراجعت سريعًا مع انتهاء العدوان.”
ومع تكرار هذه الدورة من الصدمة والنسيان، يحذر عبده من أن المجازر الحالية قد تلقى المصير ذاته إن لم يتم التحرك السريع، قائلًا: “اليوم، وبينما ترتبط كلمة إبادة جماعية بشكل متزايد بغزة، فإن خطر النسيان العالمي يلوح في الأفق ــ تماماً كما حدث مع الروهينجا في ميانمار عام 2018، أو مع ناميبيا عام 1971، عندما أعلنت محكمة العدل الدولية أن احتلال جنوب أفريقيا غير قانوني، وهو الحكم الذي لم يُؤخذ بعين الاعتبار لعقود”.
ويختتم قائلاً: “إن القضايا العادلة لا تنتصر بفضل عدالتها وحدها، ولا بفضل عدد الهاشتاغات أو المتعاطفين عبر الإنترنت، ولكن من خلال قدرة شعوبها على الحفاظ على الزخم، وبناء الضغط، واغتنام اللحظة. العالم بلا ذاكرة، يتحرك مع اللحظة. وإن لم تُغتنم هذه اللحظة بحكمة وحزم، فإنها ستتلاشى كموجة تائهة في بحر النسيان الشاسع”.