فورين أفيرز: احذروا الجيل الرابع من الحرس الثوري.. أكثر تشددا تجاه إسرائيل
تاريخ النشر: 15th, October 2024 GMT
نشرت مجلة "فورين أفيرز" تقريرًا يناقش تصاعد التوترات بين إيران و"إسرائيل"، مشيرًا إلى أن الهجوم الصاروخي الإيراني على تل أبيب زاد قوة الشباب المتشددين في الحرس الثوري الإيراني، خاصةً بعد الهجمات المتتالية على قادة حزب الله؛ حيث يسعى الجيل الأصغر لإزاحة القيادات التقليدية، مما يمكن اعتباره مؤشرًا على تزايد التشدد داخل إيران.
وقالت المجلة، في هذا التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إنه مع اقتراب إيران و"إسرائيل" أكثر من الحرب شاملة، يمكن اعتبار الهجوم الصاروخي الباليستي الضخم الذي شنته الجمهورية الإسلامية على تل أبيب في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر نقطة تحول حاسمة، فبعد الانتكاسات المتتالية لطهران، لم يبق أمام المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي خيار سوى الرد، والآن، باتت المنطقة مقبلة على صراع أكبر.
ورغم أن الهجوم الإيراني كان حتميًا، إلا أن خامنئي فاجأ العديد من المراقبين باتخاذه أحد أكثر الخيارات تطرفًا؛ فقد كان بإمكانه استخدام شبكة وكلائه لشن هجوم غير مباشر ضد "إسرائيل"، لكنه اختار أن يطلق مئات القذائف على ثاني أكبر مدينة في "إسرائيل" في واحدة من أكبر الهجمات بالصواريخ الباليستية في التاريخ.
لكن خامنئي اتخذ هذه الخطوة الجريئة لسبب ما، فالحرس الثوري الإسلامي، قوة خامنئي المسلحة المؤثرة والعقائدية المؤدلجة، ممزق بالانقسامات بين قادته المحافظين الأكبر سناً وصفوفه المتشددة الأصغر سنًا، فالجيل الأكبر يفضل ممارسة بعض ضبط النفس عندما يتعلق الأمر بـ"إسرائيل"، في حين يريد الجيل الأصغر استهداف عدو الجمهورية الإسلامية مباشرة، وعادة ما كانت النخبة الأكبر سنًا تتمتع بنفوذ أكبر لدى المرشد الأعلى، ولكن مع مقتل الكثير من قادة الحرس الثوري الإيراني وشركائه، اكتسبت الأجيال الشابة نفوذًا أكبر، وقد فعلوا ذلك من خلال التشكيك في كفاءة من هم أكبر منهم سناً، وأيضًا من خلال الإشارة إلى أن بعض نخب الحرس الثوري الإيراني هم في الواقع من أصول إسرائيلية، وبعد أن قتلت "إسرائيل" نصر الله، يبدو أن هذه المجموعة الأصغر سنًا هي من شكلت حسابات خامنئي، وهذا أحد الأسباب التي دفعته إلى شن هجوم 1 تشرين الأول/أكتوبر.
ومن المرجح أن تزداد قوة هؤلاء المتشددين الشباب في السنوات المقبلة، إذ لم يعد بإمكان خامنئي الاعتماد على الحرس القديم لإدارة إيران بعد الإخفاقات الاستخباراتية المتتالية، وحتى لو استطاع، فإن الوقت في صالح متشددي الحرس الثوري، فخامنئي يبلغ من العمر 85 سنة، والعديد من مستشاريه كبار في السن أيضًا، ويمكن للأجيال الشابة أن تنتظر شيخوختهم.
لذلك من غير المرجح أن تصبح الجمهورية الإسلامية أكثر سلمية في السنوات المقبلة، بل إنه من المحتمل أن تصبح أكثر قمعًا وعنفًا وتشددًا، بحسب المجلة الأمريكية.
إلى أقصى الحدود
وأفادت المجلة أن الحرس الثوري الإيراني يعد العمود الفقري للجمهورية الإسلامية؛ فقد تأسس في سنة 1979 لتوطيد النظام الديني الجديد في إيران، واكتسب سلطة في كل جوانب المجالات الاقتصادية والأمنية والثقافية والاجتماعية والسياسية في البلاد، وبعد أن كان مجرد ميليشيا بسيطة نسبيًا، أصبح يسيطر الآن على أكثر من 50 بالمئة من الاقتصاد الإيراني، ووطد نفسه في بيروقراطية الدولة الإيرانية وهيمن على الوزارات الرئيسية، بما في ذلك وزارتي الداخلية والخارجية.
ويمتد أعضاء الحرس الثوري الإيراني إلى أربعة أجيال، وكان الجيل الأول يتكون في المقام الأول من الثوريين الإيرانيين الذين ينحدرون من عائلات محافظة ومتدينة فقيرة، وعندما تولى خامنئي السلطة كمرشد أعلى في سنة 1989، تقاعد معظم هذا الجيل أو تم استبعاده، فقد كان العديد من أعضائه مؤيدين لآية الله حسين علي منتظري لخلافة روح الله الخميني كمرشد أعلى لإيران، ولم يكونوا سعداء بصعود خامنئي، لكن الموالين للمرشد الأعلى الجديد تمسكوا به، وقد كافأهم بنفوذ اقتصادي كبير على إيران.
وانضم الجيل الثاني إلى الحرس الثوري الإيراني في العقد الذي أعقب الحرب العراقية الإيرانية، عندما توسع الحرس الثوري في تنفيذ مشاريع إعادة الإعمار المربحة بعد الحرب، وعلى عكس أفراد الجيل الأول الذين انضموا للحرس الثوري لأسباب أيديولوجية في المقام الأول، انضم أفراد هذه المجموعة سعيًا للثراء، وكان الكثير منهم غير مهتمين نسبيًا بالمبادئ الإسلامية الصارمة، ووفقًا لمذكرات الرئيس الإيراني السابق هاشمي رفسنجاني، أحد المقربين من الخميني، فإن حوالي 15 بالمئة فقط من الجيل الثاني صوتوا للمرشح الذي أيده خامنئي في الانتخابات الرئاسية سنة 1997.
وأشارت المجلة إلى أن هذا الافتقار في الولاء أثار قلق المرشد الأعلى، فبدأ العمل على جعل الحرس الثوري الإيراني مجموعة أيديولوجية أكثر وضوحًا؛ حيث زاد من الوقت الذي يقضيه الحرس الثوري الإيراني في ما يسميه "التدريب الأيديولوجي والسياسي" الذي يروج لعقائد خامنئي الشيعية المتشددة، وقد نجحت هذه الجهود، وأثبت أعضاء الحرس الثوري الإيراني الذين انضموا خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين - الجيل الثالث من الحرس الثوري - أنهم مخلصون جدًا لمبادئ الجمهورية الإسلامية وحكمها، إذ لم يتورعوا مثلًا عن قمع الاحتجاجات الجماهيرية ضد النظام في سنة 2009.
وقد أبدى خامنئي رضاه عن هذا الولاء، وضاعف جهوده لزيادة النقاء الأيديولوجي داخل الحرس الثوري؛ حيث خصص وقتًا إضافيًا للتلقين السياسي، وأعاد صياغة كيفية قبول الأعضاء الجدد. كان الانضمام إلى الحرس الثوري سهلًا نسبيًا بالنسبة للإيرانيين ذوي الخلفية الدينية، ولكن بدءًا من سنة 2010، استبدلت المنظمة عملية تقديم الطلبات المفتوحة بأخرى كانت تتم عن طريق الدعوة فقط، وتم حصريًا تجنيد أولئك الذين تم فحصهم والموافقة عليهم مسبقًا، وكانت المعايير الأكثر أهمية لتلقي الدعوة هي التدين والولاء للمرشد الأعلى.
والنتيجة هي أن الجيل الرابع من الحرس الثوري الإيراني أكثر تشددًا من الجيل الثالث، ومثل أسلافهم، كان هؤلاء الأعضاء الأصغر سناً سعداء بقمع الاحتجاجات المناهضة للنظام، كما كانوا أيضًا متحمسين للانتشار في سوريا؛ حيث قاتلوا لدعم نظام بشار الأسد بحجة الدفاع عن المراقد الشيعية المقدسة، وأخيراً، سعوا بتشجيع من خامنئي وراء العناصر الأقل نقاءً من الناحية الأيديولوجية في الجمهورية الإسلامية الأوسع، بما في ذلك حسن روحاني، الرئيس الإيراني الأسبق.
الحصاد والغرس
أوضحت المجلة أن خامنئي أصدر بيانًا في سنة 2019 أعلن فيه أن الحرس الثوري الإيراني يجب أن يكون نموذجًا لجميع مؤسسات الدولة، وجادل بأن البيروقراطية الإيرانية يجب أن تكون "شابة ومتشددة عقائديًا"، وكلف ابنه وخليفته المحتمل، مجتبى، بمتابعة هذا الأمر، وكان كلا الرجلين يهدفان إلى تعزيز سيطرة خامنئي الشخصية على إيران وضمان انتقال سلس للسلطة بعد وفاته.
واستنادًا إلى بنود البيان، كانت عملية إعادة التنظيم التي نفذها مجتبى ناجحة؛ فقد بدأت البيروقراطية الإيرانية في توظيف وترقية الشباب المتشددين في الحرس الثوري، مما أدى إلى سياسات خارجية وداخلية أكثر تشددًا، لكن هذا التحول جاء مصحوبًا ببعض العيوب، فعلى الرغم من أن المسؤولين الجدد الذين تدربوا في الحرس الثوري كانوا يتمتعون بسيرة ذاتية أيديولوجية مناسبة، إلا أنهم لم يكونوا على مستوى مهمة إدارة الحكومة فعليًا، مما أدى إلى تفاقم الأزمات الهيكلية في إيران، بما في ذلك اقتصادها المتعثر والكثير من الكوارث البيئية، واتسعت الفجوة السياسية بين النظام الإيراني والشعب الإيراني.
وبالنسبة لخامنئي، فإن تمكين المتطرفين الشباب كان له عواقب عكسية أخرى: فقد أدى إلى تعزيز الانقسامات داخل الحرس الثوري الإيراني نفسه. وبعد أن تم توجيههم من قبل خامنئي لملاحقة القادة الإيرانيين غير الأخلاقيين والأقل التزامًا بالتوجيهات الإسلامية، بدأ الضباط الأصغر سنًا في المنظمة بشن هجمات على بعض قادة الحرس الثوري، متهمين إياهم بالفساد نتيجة للمصالح المالية وبالتقاعس في تعاملاتهم مع الغرب. وقد أعلن البعض علنًا أن قادة الحرس الثوري، بما في ذلك علي شمخاني، الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للأمن القومي، ومحمد باقر قاليباف، رئيس البرلمان الإيراني، كانوا متورطين في الفساد.
وأوضحت المجلة أن تفاقم الأزمات في إيران أدى إلى دفع خامنئي للتساؤل عن مسار عمله. وبعد وفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي بشكل مفاجئ في حادثة تحطم مروحية في أيار/ مايو، سعى خامنئي لاستغلال الفراغ الناتج لتقليل تنفيذ برنامجه. وفي الانتخابات الرئاسية المبكرة التي جرت في البلاد، دعم القائد الأعلى ترشيح قاليباف، كجزء من جهوده لتسليم عجلة القيادة إلى مجموعة الحرس الثوري الإيراني الأكبر سنًا والأكثر خبرة.
وأضافت المجلة أن الأعضاء الأصغر سنًا، بما في ذلك من ميليشيا الباسيج، قد رفضو الانصياع لاختيار القائد الأعلى، حيث اعتبروا قاليباف رمزًا للفساد. وبدلاً من ذلك، دعموا سعيد جليلي، السياسي صاحب السجل الأنظف والآراء المتشددة، مما ساعده على الحصول على المركز الثاني في الجولة الأولى من الانتخابات، بينما جاء مسعود بيزشكیان في المركز الأول، وتم إقصاء قاليباف.
وأشارت المجلة إلى أن الجيل الأكبر من الحرس الثوري صُدموا بفقدان السيطرة، فقاموا بدعم بيزشكیان في جولة الإعادة مما ساعده على الفوز في المنصب. وحاول الرئيس الجديد، بدوره، تهميش المتطرفين الشباب من المستويات العليا في البيروقراطية الحكومية. لكن الصراع لم ينته بعد، حيث أصبح الجيل الأصغر من الحرس الثوري أكثر نفورًا من قيادته. ومن خلال الصراع مع "إسرائيل"، قد يكونون قد وجدوا وسيلة للرد.
توقع الأسوأ
وبعد هجوم حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، بدأ الجيش الإسرائيلي سلسلة من الضربات ضد قوات الحرس الثوري الإيراني وشركائها؛ حيث استهدفت "إسرائيل" مسؤولين من الحرس الثوري والمليشيات المدعومة من إيران في العراق وسوريا، وقامت بإسقاط القيادة العليا لحزب الله. كما استهدفت منشأة قيادة تابعة لفيلق القدس في الحرس الثوري الواقعة في ملحق مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق.
وأفادت المجلة أن الهجمات أثارت غضب جميع أعضاء الحرس الثوري، لكن الأجيال الأصغر شعرت بالخيانة عندما رفضت طهران ضرب "إسرائيل" مباشرة بعد الهجمات الأولى. وحتى بعد إطلاق الحرس الثوري مئات الصواريخ والطائرات المسيرة في نيسان/ أبريل 2024، لم يكن العديد من المسؤولين الأصغر سنًا راضين، حيث اعتبروا أن الرد لم يُلحق أضرارًا حقيقية وكان رمزيًا إلى حد كبير.
وبينت المجلة أن بعض الأعضاء الأصغر سنًا في الحرس الثوري يعتقدون أن إيران قد ضبطت نفسها بدافع الخوف، بينما يعتقد آخرون أن هناك دوافع خبيثة تعيق البلاد. فبعد مقتل إسماعيل هنية في طهران واغتيال نصر الله في بيروت، استنتج الكثير من المتطرفين أن الأقلية في الحرس الثوري مخترقة من قبل الاستخبارات الإسرائيلية. ووفقًا لهذا المنطق، فإن بعض كبار المسؤولين في الحرس الثوري مشغولون بجني المال لدرجة أنهم قد تم شراء ذممهم من قبل مسؤولين إسرائيليين، مما أدى إلى تقييد رد إيران.
وقد وضعت هذه المزاعم ضغوطًا كبيرة على خامنئي والقيادة العليا للحرس الثوري لتوجيه ضربات قوية ضد "إسرائيل"، وهو ما يفسر جزئيًا الهجوم الواسع الذي شنته إيران هذا الشهر. لكن الهجوم في 1 تشرين الأول/ أكتوبر، مثل الهجوم في نيسان/ أبريل، لن يسكت الأعضاء الأصغر في الحرس الثوري، بل قد يزيد من حماس المتطرفين. وقد يجد خامنئي هؤلاء الشباب محبطين، لكنه استنتج على الأرجح أن ادعاءاتهم صحيحة جزئيًا. فمن الصعب تصوّر عدم تعاون أي مسؤول من الحرس الثوري مع "إسرائيل" بعد مقتل هنية في انفجار قنبلة عن بُعد في منزل آمن يديره الحرس. لذا لن يكون أمام خامنئي خيار آخر سوى تطهير بعض من صفوفه العليا واستبدالهم بمسؤولين أصغر سنًا.
وقالت المجلة إن هذه الخطوة الحتمية ستؤدي إلى تفاقم الأزمات المستقبلية، سواء داخل إيران أو بين الجمهورية الإسلامية والعالم الخارجي. فعلى الصعيد الداخلي، عندما يصبح الحرس الثوري الإيراني أكثر تطرفًا وعدوانية، من المرجح أن تكون حملاته القمعية ضد المعارضين أكثر قسوة. وعلى الصعيد الدولي، سيقود الحرس الثوري الأكثر تطرفًا إيران إلى توسيع برنامج الصواريخ الباليستية، وزيادة دعم الميليشيات، والدفع باتجاه امتلاك أسلحة نووية. وستصبح طهران أكثر تصميمًا على تدمير "إسرائيل"، وإخراج القوات الأمريكية من المنطقة، وتقويض النظام الدولي الليبرالي.
وقد أعرب بعض المحللين عن أملهم في أن تصحح إيران مسارها بمجرد وفاة خامنئي، ولكن في الواقع، قد يسرع وفاته من هذا التطرف. وقد أثبت مجتبى أنه مؤيد للأجيال الشابة أكثر مما كان عليه والده. وحتى لو لم يخلفه نجل خامنئي، فإن مكائد المرشد الأعلى قد ضمنت فعلياً انتقال العباءة إلى رجل دين آخر متشدد أصغر سنًا.
واختتمت المجلة تقريرها قائلة إن الشيء الوحيد الذي قد يمنع إيران من أن تصبح أكثر تطرفًا هو انهيار النظام نفسه، وهو ما يبدو ممكنًا. فالجمهورية الإسلامية لا تحظى بشعبية كبيرة بين مواطنيها، وغالبية الإيرانيين يفضلون بالتأكيد حكومة مختلفة وعلمانية وأكثر سلامًا. ومع ذلك، فقد تمكن النظام من مواجهة عقود من الاحتجاجات الجماهيرية دون أن يتزعزع. وقد أثبت مرونة عالية في مواجهة كل التحديات، رغم أدائه الاقتصادي الكارثي. وفي الوقت الحالي، يبدو أن إيران أكثر تطرفًا أمر لا مفر منه، ولا ينبغي لأحد أن يتوقع شيئًا أقل من ذلك.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة إسرائيلية إيران الحرس الثوري إيران امريكا الاحتلال الحرس الثوري صحافة صحافة صحافة سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الحرس الثوری الإیرانی الجمهوریة الإسلامیة فی الحرس الثوری من الحرس الثوری المرشد الأعلى تشرین الأول أکثر تطرف ا بما فی ذلک المجلة أن أدى إلى إلى أن فی سنة
إقرأ أيضاً:
إيران تعيد تموضع نفسها لمواجهة صعود إسرائيل وتركيا
«مشهد جيوسياسي متغير في الشرق الأوسط»، هذا «الكليشيه» السياسي المتكرر ما زال صالحا للانطلاق منه لفهم حالة إعادة التموضع وإعادة صياغة السياسات الخارجية لكل دولة من دول الإقليم. فكما في الاقتصاد، تجري الآن في السياسة الخارجية والدفاع والأمن الوطني عملية إعادة تكيف هيكلي مع هذا المشهد، بغرض أن تتأكد كل دولة في المنطقة من أنها ستكون فائزة في العملية الجارية لإعادة بناء خرائط النفوذ، أو على الأقل التأكد من أنه لن يكون على حسابها.
يمثل تاريخ ٨ ديسمبر الماضي، بسقوط النظام السوري السابق وصعود نظام موال للولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين في المنطقة، أكبر وأهم إعلان عن بدء هذا المشهد الجيوسياسي المتغير.
يتوج أحدث تصريح من الرئيس السوري الجديد، أحمد الشرع، هذا التغير الاستراتيجي، عن انتقال سوريا بعد ٥٤ عاما من نظام البعث المعادي لإسرائيل والولايات المتحدة، إلى معسكر واشنطن استراتيجيا، وإلى معسكر المنسحبين العرب عن المواجهة مع إسرائيل: «مستعدون لتحقيق الاستقرار الإقليمي وأمن الولايات المتحدة وحلفائها جميعا».
إلا أن التصريح الأهم للرئيس الشرع، في سياق التحولات المرتقبة في السلوك السياسي للجمهورية الإسلامية الإيرانية، هو الذي وجهه إلى الأمريكيين وحلفائهم من إسرائيليين، وأيضا من بين السطور، إلى حلفاء واشنطن العرب والأتراك السنة: «لدينا أعداء مشتركون مع تل أبيب (يقصد هنا الإيرانيين)».
يدرك الإيرانيون هنا أنهم خسروا أهم حليف عربي نشأ منذ اتفاق الخميني وحافظ الأسد على أن علاقتهم هي علاقة استراتيجية.. وأن سوريا التي كانت لهم أصبحت عليهم. يدركون أن خسارة سوريا لا تتعلق فقط بخسارة الممر الاستراتيجي الذي صنع نفوذ إيران الإقليمي الهائل في العقود الثلاثة الماضية، ومكنها من إيصال الأسلحة والدعم لمنظمات المقاومة اللبنانية والفلسطينية، ولكن أيضا في نشوء تخطيط استراتيجي أمريكي ستُوظف فيه إمكانات مالية مخيفة لدول عربية، يجعل من سوريا نقطة انطلاق لتقويض النفوذ الإيراني في العراق وما تبقى منه في لبنان. في هذا التخطيط، يجري إعادة رسم الخرائط بحيث يتم عزل وتهميش مصر واستبدال سوريا بها كقاعدة لنفوذ القوى المحافظة العربية، التي توجهها إدارة ترامب في الأسابيع الماضية كقيادة للمنطقة.
تراجع نفوذ طهران في الشرق الأوسط، وتراجع المعسكر الإقليمي صاحب النفس الاستقلالي الرافض للخضوع التام لواشنطن، يفرض على صانعي السياسة الإيرانية الواقعيين إجراء تحولات ملموسة في سياستهم الخارجية، تستوعب هذه التغييرات، ولكن تحافظ على إرث الخميني في إنهاء حالة التبعية للغرب التي اتصف بها حكم شاه إيران.
هذه التحولات لا يمكن التنبؤ بها سوى على المدى القصير، أو في أحسن الأحوال على المدى المتوسط، وهي مرتبطة بفرضيتين إذا تغيرتا تتغير معهما معادلة التحولات المرتقبة:
الفرضية الأولى: نجاح المفاوضات الإيرانية - الأمريكية حول الملف النووي، وبالتالي رفع العقوبات الاقتصادية الغربية عن طهران.
الفرضية الثانية: استمرار المرشد الأعلى خامنئي في قمة الدولة الإيرانية، وترتيب خلافة له تتبنى النهج الاستقلالي نفسه عن واشنطن، أو بعبارة أخرى: عدم ظهور قائد جديد ينقلب على النظام الجمهوري ويعيد إيران إلى الحظيرة الأمريكية كـ«شرطي للخليج» وحليف أمني، ومزود طاقة لإسرائيل كما كانت قبل ١٩٧٩.
وضع جديد سينشأ إذا تُوجت بالنجاح المفاوضات التي تديرها سلطنة عمان بحصافة كبيرة، والتي تقدم فيها جسورا بين المواقف، وتفكك فيها الأزمات التي تنشأ من تباين الأهداف في المفاوضات أو من التصريحات السياسية التصعيدية من الأمريكيين والإيرانيين بغرض الاستهلاك المحلي للرأي العام لديهم.
هذا الوضع سترفع فيه العقوبات عن صادرات النفط الإيرانية، وعن أموال إيران المجمدة في الخارج، وهو ما سيدفع الإيرانيين ـ على المدى القصير ـ لإعطاء الأولوية للداخل الإيراني على الخارج. سيجري التركيز على إصلاح أحوال الاقتصاد الذي أنهكته العقوبات، واستخدام العوائد المتوقعة من العودة التدريجية لصادرات النفط قرب مستوياتها السابقة، وعودة الأموال المجمدة، في تحسين الأحوال المعيشية، وإغلاق أبواب التململ الاجتماعي من تدهور المعيشة، وضخ موارد جديدة في شرايين الصناعة والزراعة والبنية التحتية، وجذب الاستثمارات الخارجية التي حدّت منها كثيرا سياسة العقوبات.
سيتم التركيز على سياسة خارجية وأمن قومي يستهدفان تعافي القوة العسكرية الصاروخية وقوة الدفاع الجوي التي تضررت من الغارات الإسرائيلية، وإعادة بناء قدرات إيران الشاملة كرادع لنتنياهو عن المقامرة بشن هجوم على المنشآت النووية والعسكرية الإيرانية.
سيتم التركيز في هذه السياسة المرحلية على ضمان الأمن القومي المباشر للدولة الإيرانية، في حدودها مع دول الخليج العربية، وحدودها مع العراق وتركيا ودول آسيا الوسطى. في هذه السياسة، ستوثق إيران علاقتها القوية الخالية من الشكوك والقائمة على الاحترام مع عُمان، وعلاقتها ذات الطبيعة غير الصراعية مع قطر والكويت، وتحويل خلافها مع البحرين والسعودية والإمارات إلى خلاف سياسي يتم السعي لحله بالوسائل السياسية، عبر تثبيت الاتفاق الحازم القائم معهم الآن بتجنب الحرب التي قد تدمر المنطقة وتقضي على الجميع.
وبخصوص العراق، ستقاوم إيران ـ ولكن بالسياسة والنفوذ الناعم ـ الجهد المنظم الرامي لدفع السياسيين والمجموعات المسلحة الأقرب إليها بعيدا عن مركز السلطة في بغداد.
هذه السياسة الخارجية ستتبع نهجا «انكماشيا» فيما يتعلق بالعالم العربي، يُخفف فيه النمط التدخلي مع حركات المقاومة على غرار: «لن نكون ملكيين أكثر من الملك»، أو «عربًا أكثر من العرب». هذا النهج سيستمر ـ على الأقل ـ حتى تستعيد إيران عافيتها، وحتى تتضح نتائج حرب غزة ومستقبل حزب الله في لبنان.
سترُضي هذه السياسة فريقًا في النخبة الإيرانية كان يعارض ما يسميه «صرف المليارات على أطراف عربية كان الداخل الإيراني أحق بها»، كما تُرضي فريقًا آخر يرى أن بعض هذه الأطراف العربية كانت ناكرة للجميل في أكثر من موقف وأكثر من ساحة.
لكن هذه السياسة الانكماشية مع محور المقاومة، ومع المحيط العربي الأوسع لحين من الزمن، لن تمنع إيران من السعي لفك الحصار الجيوسياسي عليها. تسعى طهران لتوسيع نطاق حركتها السياسية في المنطقة، خاصة مع دول قديمة تتعرض للتهميش الاستراتيجي في التموضع الجديد الذي نشأ في المنطقة، والذي تقوده واشنطن، ويشمل تركيا والشام وأجزاء في الخليج.
تقع مصر على رأس هذه الدول التي ستجدد إيران محاولتها ـ المستمرة منذ عهد مبارك ـ لإنهاء الفتور القائم منذ عهد السادات. ورغم النجاح المحدود للغاية الذي تحقق لها من هذه المحاولة، فإن إيران تشعر الآن أنه إذا قابلت القاهرة هذه المحاولة الجديدة بإرادة سياسية للتقارب، فإنها قد تنجح هذه المرة.
فالتطور الجيوسياسي الراهن لا يُهمّش الإيرانيين فحسب، بل يُهمّش مصر وكل الدول «القديمة» السابقة على عصر النفط، عصر الاستعمار والهندسة الغربية للعديد من الدول الحديثة في المنطقة.
هل يمكن فهم زيارة وزير الخارجية العراقي، عباس عراقجي، غير المعتادة إلى القاهرة اليوم الاثنين، بأنها تأتي في هذا السياق من تحولات متوقعة للسياسة الإيرانية بعد الطوفان المضاد لطوفان الأقصى؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام المقبلة.
حسين عبد الغني كاتب وإعلامي مصري