في ضوء العقود الأربعة التي قضيتها في الولايات المتحدة وفي ظلّ خبرتي في التعامل مع النظام السياسي الأميركي، سألني العديد من الأصدقاء في أميركا عن المرشح الذي ينبغي للمجتمع العربي والمسلم هناك أن يصوتوا له في الانتخابات المقبلة.

تاريخيًا، يتنافس مرشحو الحزبين الرئيسيين على من يمكنه أن يخدم مصالح الكيان الصهيوني بشكل أفضل، أو يخدم مصالح أخرى مماثلة تتماشى مع تحقيق أهداف الإمبراطورية الأميركية واستمرار هيمنتها.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2سباق البيت الأبيض يحتدم والولايات المتأرجحة في الواجهةlist 2 of 2منها حضارة متعددة الكواكب.. ما أسباب دعم ماسك ترامب بملايين الدولارات؟end of list

غالبًا ما تكون مثل هذه المواقف ضارة بمصالح الولايات المتحدة على المدى الطويل، وبالأخص ضد مصالح العرب والمسلمين أو عالم الجنوب بشكل عام.

لذا، كانت الحكمة التقليدية هي التصويت لصالح المرشح "الأقل شرًا" بدلًا من التصويت لمرشح حقيقي قد يهتم بالفعل بالقيم الإنسانية العليا أو مصالح الناس والمجتمع، حتى ولو لم تكن لديه أي فرصة في الفوز بالانتخابات.

ومع ذلك، فإن الانتخابات هذا العام مختلفة تمامًا.

بعد أربع سنوات مظلمة من حكم دونالد ترامب، وبعد أكثر من عام من الإبادة الجماعية المدمِّرة التي لا تزال مستمرة بدعم كامل ومشاركة مباشرة وحماية شاملة من إدارة جو بايدن/كامالا هاريس، فإنه يجب أن يكون من الواضح أن الناخب العربي والمسلم الأميركي لا يستطيع التصويت لأي من هذين المرشحين بضمير مرتاح. هذا الموقف يعتمد على أسس مبدئية ووضوح أخلاقي.

قبل تقديم التوصية، علينا أن نسأل سؤالًا وهو: هل هناك فرق جوهري بين هاريس وترامب فيما يتعلق بالقضايا التي تهم شعوب المنطقة؟

بعد دراسة موقف المرشحَين من القضايا التي تهم العالم العربي والإسلامي، فإني وجدت أن الفرق بينهما ليس كبيرًا أو إستراتيجيًا.

فبالنسبة لحرب الإبادة في غزة، فإن هاريس سوف تدعم أهداف مجرم الحرب بنيامين نتنياهو، ولكن مع وضع قيود محدودة عليه، في حين أن ترامب سوف يدعم أهداف نتنياهو دون وضع أي قيود. أمّا بالنسبة للفلسطينيين، فإن هاريس سوف تتعامل معهم على أنهم مصدر إزعاج، وسيكون تعاملها معهم بدون أفق سياسي، بينما ترامب سيتجاهلهم ويتعامل معهم بازدراء.

بالنسبة للحرب والاعتداء الإسرائيلي في لبنان، فإن هاريس ستضغط على لبنان؛ لتحقيق أهداف الكيان الصهيوني، في حين أن ترامب سيهدد لبنان لتحقيق أهداف الكيان.

أما فيما يتعلق بالتعامل مع أنظمة الاستبداد العربية، فإن هاريس سوف تقوم بدعمهم والتنسيق معهم بهدوء، بينما ترامب سيحتضنهم ويدعمهم بصورة علنية وحماس شديد.

أما في سياسات التعامل مع إيران، فإن هاريس سوف تستمر في سياسة احتوائها وتهديدها وزعزعة استقرارها باستخدام إستراتيجيات الضغط الشديد، كذلك فإن ترامب سوف يستمر في نفس هذه السياسة التي بدأها في دورته الأولى باستخدام إستراتيجيات أعلى درجات الضغط الشديد.

كذلك الأمر بالنسبة لتركيا، فإن هاريس سوف تمارس ضغطًا كبيرًا على تركيا حتى تخضع سياساتها للأجندة الأميركية، في حين أن ترامب قد يمارس ضغوطًا أقل، ولكنه سيعمل على إخضاع تركيا للأجندة الأميركية.

بالنسبة للقضايا المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان في المنطقة، فإن هاريس سوف تقول ما يجب أن يقال، ولكن بدون أي أفعال تؤيد أقوالها، بينما ترامب سوف يتجاهل تمامًا هذه المسائل، ولن يلقي لها بالًا.

أمّا فيما يتعلق بمستقبل النظام الدولي، فإن هاريس سوف تتصرف كما لو أنه لا يزال قائمًا كما هو، وأنه يمكن لأميركا أن تستمر في قيادته وإدارته، بينما ترامب لن يهتم به كثيرًا، بل وعلى المدى الطويل قد يقوم دون قصد بتفكيكه.

عودة إلى الانتخابات، أوجز رأيي وتوصيتي في النقاط التالية:

يعتبر ترامب رجلًا كارهًا ومعاديًا للإسلام بشكل خطير، كما أنه يكره ويستهدف المهاجرين غير الأوروبيين بشدة. ولقد أظهر علنًا عداوته وكراهيته للعرب والمسلمين عمومًا في العديد من تصريحاته. ومن ثم فإن حكمه سيكون كارثة بالتأكيد، ليس فقط على الجالية العربية والمسلمة في الولايات المتحدة، بل أيضًا على معظم القضايا التي تهم العالم العربي والإسلامي بل وحتى خارجه.

وحيث إن ترامب قد تبنى كل المواقف الصهيونية في ولايته الأولى، فإنه من المؤكد لن يكبح جماح الكيان الصهيوني المجرم أو يحد من سلوكه الوحشي وحرب الإبادة الجماعية التي يقوم بها في غزة، أو حملات الاستيطان في الضفة إذا تم انتخابه لولاية ثانية. بل وربما يشجع في الواقع نتنياهو وحكومته الفاشية على مواصلة مجازر الدماء، كما حثهم خلال الحملة الانتخابية على "إكمال المهمة"؛ أي مواصلة حملة التطهير العرقي.

بعد عام من الدمار الشامل على يد الكيان الصهيوني في غزة، والآن في لبنان، وبالشراكة الكاملة والمشاركة المباشرة من إدارة بايدن/هاريس، ليس هناك أدنى شك في أن هاريس كانت ومازالت متواطئة في جرائم الحرب التي ارتكبت ضد الفلسطينيين واللبنانيين.

لقد كان أمامها شهور لإصلاح أو تغيير هذه السياسات المدمرة، أو على الأقل التعبير عن موقف حقيقي ضدها، إلا أنها اختارت دعم استمرار الإبادة الجماعية وتبرير العدوان المستمر، على الرغم من تحذيرات قدمها العديد من الديمقراطيين، وأعضاء الجالية العربية والإسلامية في الولايات المتحدة.

لا بد أن يتحمل أي سياسي يتجاهل هذه التحذيرات العواقب الوخيمة التي ستقع عليه إزاء ذلك. إن أي شخص يؤمن بالمبادئ الإنسانية العليا والقانون الدولي والقيم والمواقف الأخلاقية، لا يمكنه ببساطة أن يتجاهل مثل هذه الإبادة الجماعية المروِّعة.

أتفق على أن إدارة ترامب الثانية ستكون بمثابة كارثة داخليًا وخارجيًا في العديد من القضايا التي تهم المواطنين أصحاب الضمائر الحية والبسطاء، بما في ذلك القضايا التي تتجاوز قضية غزة.

ولكن يجب الانتباه إلى أن حكم ترامب في ولاية ثانية قد يؤدي في الواقع إلى تسريع انهيار الإمبراطورية الأميركية، وإجبار العديد من المواطنين والمؤسسات الاجتماعية والسياسية في جميع أنحاء الولايات المتحدة، وخاصة غير الجمهوريين، على الانعتاق فعليًا من قبضة الصهاينة، وهو ما سيكون أمرًا عظيمًا لمستقبل الحياة السياسية في أميركا.

إن الحياة السياسية الأميركية بحاجة ماسّة إلى بديل سياسي حقيقي غير صهيوني. ولذا فإنه إذا تم انتخاب ترامب، فربما تكون هذه اللحظة التاريخية فرصة نادرة لظهور حركة اجتماعية وسياسية غير صهيونية جديدة ونابضة بالحياة في الولايات المتّحدة.

إذا كان فوز هاريس هو المفضل، فإنها تحتاج لأن تفوز دون دعم الجالية العربية والإسلامية في الولايات المتحدة. كما يجب عليها أن تكافح من أجل الحصول على الأصوات اللازمة للفوز بولايات ميشيغان وبنسلفانيا وويسكونسن حتى تصبح رئيسة للولايات المتحدة بدون الحصول على أصوات العرب والمسلمين الأميركيين.

لا بد للسياسيين أن يفهموا أن هناك عواقب حقيقية وخيمة لتجاهل حياة البشر في خضم الإبادة الجماعية. إن حرب الإبادة في غزة لم تكن أمرًا حدث لمرة واحدة يمكن تبريره أو التغاضي عنه، إنها جريمة مستمرة مضى عليها أكثر من 390 يومًا؛ ليس فقط بمعرفة ورضا إدارة بايدن/هاريس، ولكن بالمشاركة المباشرة لهذه الإدارة ودعمها الكامل.
في رأيي، يجب على الناخب العربي والمسلم في أميركا، وكذلك أصحاب الضمائر الحية في جميع أنحاء البلاد، أن يتوجهوا إلى صناديق الاقتراع ويصوتوا، وليس الاتجاه نحو مقاطعة الانتخابات.

كما ينبغي اعتبار تصويتهم بمثابة بيان صارم ورسالة قوية ضد حرب الإبادة الجماعية في غزة.
ولذا ينبغي عليهم إما:

التصويت لمرشحة حزب الخضر، جيل ستاين، التي جعلت من الإبادة الجماعية في غزة القضية المركزية في حملتها الانتخابية. أو يمكنهم بدلًا من ذلك كتابة "غزة" على ورقة الاقتراع (خاصة عندما لا يظهر مرشح حزب الخضر على ورقة الاقتراع). وفي هذه الحالة، سيعلم السياسيون والإعلاميون والنخب السياسية والاجتماعية وغيرهم أن الدم الفلسطيني واللبناني ليس مستباحًا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات فی الولایات المتحدة الإبادة الجماعیة القضایا التی تهم الکیان الصهیونی بینما ترامب العدید من فی أمیرکا فی غزة

إقرأ أيضاً:

من سيتزعم العالم بعد أميركا؟ وكيف؟

تواجه الولايات المتحدة تحديًا وجوديًا متناميًا يتمثل في أزمة طاقة محتملة خلال العقد القادم، ناتجة عن تفاعل معقد بين السياسات الداخلية التي يقودها الرئيس الأميركي ترامب، والتطورات التكنولوجية المتسارعة، خاصة في الذكاء الاصطناعي، وديناميكيات التنافس العالمي.

يأتي في صلب هذه الأزمة "مشروع القانون الكبير الجميل" One Big Beautiful Bill Act، الذي وقّعه الرئيس دونالد ترامب 19 يوليو/ تموز 2025. هذا القانون، بتخفيضاته الضريبية الهائلة، يهدد بتقليص الدعم الحيوي للطاقة النظيفة، في وقت تزداد فيه شراهة نماذج الذكاء الاصطناعي لاستهلاك الكهرباء بشكل غير مسبوق.

فبينما تسعى الولايات المتحدة للحفاظ على ريادتها في مجال الذكاء الاصطناعي، قد تجد نفسها في مفارقة غريبة: تقدم تكنولوجي هائل يقابله تراجع في البنية التحتية للطاقة التي تغذيه.

في المقابل، تُراهن الصين على إستراتيجية مغايرة تمامًا، ترتكز على هيمنة الطاقة المتجددة والاستثمار المكثف في البنية التحتية للطاقة، مما يثير تساؤلًا جوهريًا: هل تفتح أميركا الطريق بيدها أمام تفوّق صيني شامل في هذا السباق الحاسم؟ وهل يسرّع ترامب بخطواته بهذا القانون  احتضار الهيمنة الأميركية؟

يهدف هذا المقال إلى تحليل تأثير "مشروع القانون الكبير الجميل" على الاستثمار في الطاقة والبنية التحتية، وكيف يساهم في إضعاف قدرة البلاد على مواجهة تحديات الطاقة المستقبلية. ثم ننتقل إلى استكشاف الطلب غير المسبوق على الطاقة الذي يفرضه النمو الهائل في قطاع الذكاء الاصطناعي، وكيف يمكن أن يؤدي هذا الطلب إلى إجهاد شبكات الكهرباء الحالية.

بعد ذلك، سنقارن الإستراتيجيات الأميركية والصينية في مجال الطاقة، مسلطين الضوء على الفروقات الجوهرية في النهج والتداعيات المحتملة لكل منهما. كما سنبحث في سؤال العدالة: من سيدفع فاتورة هذه الأزمة؟ وأخيرًا، سنختتم بتأمل حول التداعيات البيئية والوجودية لهذه الأزمة المحتملة.

أولاً: الذكاء الاصطناعي كساحة تنافس إستراتيجي

تحول سباق الذكاء الاصطناعي إلى ساحة تنافس إستراتيجي عالمي، حيث وصف نائب الرئيس الأميركي جيه دي فانس 21 مايو/ أيار 2025، تطوير الذكاء الاصطناعي بأنه أصبح بمثابة "سباق تسلح" مع الصين، مشددًا على أن التفوق في هذا المجال سيحدد ميزان القوى في المستقبل، ليس فقط اقتصاديًا بل وعسكريًا وإستراتيجيًا.

إعلان

كما أكّد فانس في مقابلات إعلامية أن الفارق بين الولايات المتحدة والصين في بعض تقنيات الذكاء الاصطناعي الحيوية لا يتجاوز بضعة أشهر إلى عامين، وأن أي تراجع في وتيرة الابتكار قد يؤدي إلى فقدان الريادة بشكل دائم".

هذا التوصيف يعكس قلقًا عميقًا من التقدم الصيني السريع في هذا المجال، حيث تقلصت الفجوة بين الذكاء الاصطناعي الأميركي والصيني إلى بضعة أشهر فقط.

هذا التهديد، المفترض أن يدفع واشنطن إلى ضخ استثمارات هائلة في البنية التحتية اللازمة لتطوير وتشغيل أنظمة الذكاء الاصطناعي المتقدمة، خاصة مراكز البيانات العملاقة التي تعتمد بشكل أساسي على الطاقة النظيفة.

هذه المراكز، التي تضم آلاف الخوادم، هي العصب الحيوي الذي يغذي نماذج الذكاء الاصطناعي المعقدة، وتتطلب استثمارات رأسمالية ضخمة في الطاقة الكهربائية. هذا الاستثمار الضخم يضع ضغطًا هائلًا وغير مسبوق على موارد الطاقة والبنية التحتية للكهرباء في الولايات المتحدة، مما يمهد لأزمة طاقة محتملة في العقد القادم.

ثانياً: الذكاء الاصطناعي يستهلك الكهرباء بشراهة

إن التوسع المتسارع في تطبيقات الذكاء الاصطناعي يترجم مباشرة إلى طلب غير مسبوق على الطاقة الكهربائية. هذه المراكز تستهلك كميات هائلة من الطاقة؛ إذ يعادل استهلاك مركز واحد استهلاك 100 ألف أسرة سنويًا.

مع وجود أكثر من 250 مشروعًا لمراكز البيانات قيد الإنشاء في الولايات المتحدة، يصبح سباق الذكاء الاصطناعي في جوهره سباقًا على تأمين الكهرباء.

هذه المشاريع الضخمة تضاف إلى شبكة كهرباء تعاني بالفعل من تحديات متعددة، حيث لم تُصمم لتلبية هذا النوع من الطلب المتزايد والمتقلب، والذي يتوقع أن يزيد سنويًا بنسبة 15٪، مما يسبب ضغطًا هائلًا على الشبكة الكهربائية.

هذه الزيادة في الطلب، إلى جانب ضعف البنية التحتية وازدحام شبكات الجهد العالي، قد تُفضي إلى صراع حاد على الطاقة بين مختلف القطاعات، يهدد استقرار الشبكة الكهربائية الوطنية، وقد يؤدي إلى انقطاعات متكررة في التيار الكهربائي، وارتفاع في أسعار الطاقة، وهو ما يجعل الدولة الأولى عالميًا قد تقترب مستقبلًا من دول العالم الثالث في أزمة الطاقة إذا ما ظلّت السياسات الحالية كما هي.

ثالثاً: دور الطاقة النظيفة في سد الفجوة

في مواجهة الطلب المتزايد على الطاقة من قطاع الذكاء الاصطناعي، كان دور الطاقة النظيفة يُنظر إليه على أنه حاسم في سدّ الفجوة، حيث أدركت إدارة بايدن، قبل التغييرات الأخيرة في السياسات الضريبية التي أقرّها الكونغرس بضغط من ترامب، الأهمية الإستراتيجية للطاقة المتجددة كركيزة أساسية للأمن الطاقوي والتفوق التكنولوجي.

ولهذا الغرض، اعتمدت الإدارة على دعم ضخم للطاقة المتجددة عبر قانون خفض التضخم (Inflation Reduction Act – IRA)، الذي يُعد أكبر استثمار في تاريخ الولايات المتحدة لمكافحة تغير المناخ وتعزيز الطاقة النظيفة. لقد مكّن قانون خفض التضخم من توسيع قدرات التوليد بسرعة عبر مشاريع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والهيدروجين الأخضر.

لقد أظهرت البيانات الأولية أن قانون خفض التضخم بدأ بالفعل في إحداث تأثير إيجابي، حيث شهدت الولايات المتحدة زيادة ملحوظة في مشاريع الطاقة المتجددة. ومع ذلك، فإن هذا التقدم يواجه الآن تهديدًا كبيرًا؛ بسبب التغييرات في السياسات الضريبية التي أقرّها "مشروع القانون الكبير الجميل".

إعلان

هذه التغييرات تقوّض الحوافز التي كانت تدعم نمو الطاقة النظيفة، مما يعيد الولايات المتحدة إلى نقطة البداية في سباق الطاقة، ويجعلها أكثر عرضة لأزمة طاقة في المستقبل القريب.

رابعاً: قانون ترامب: تخفيضات ضريبية وعجز كارثي

في 19 يوليو/ تموز 2025، وقّع الرئيس دونالد ترامب على قانون "One Big Beautiful Bill Act"، الذي يُعد نقطة تحول حاسمة في مسار أزمة الطاقة المحتملة في الولايات المتحدة. هذا القانون، الذي جاء تحت شعار تحفيز الاقتصاد، تضمن تخفيضات ضريبية هائلة بلغت قيمتها 4.5 تريليونات دولار.

المشكلة الجوهرية تكمن في عدم توفير تمويل كافٍ لهذه التخفيضات، مما يعني أنها ستُضاف إلى الدين العام وتفاقم العجز في الميزانية الفدرالية، حيث يُتوقع أن يصل إلى 3.3 تريليونات دولار بحلول عام 2034.

هذا النقص في التمويل سيؤدي إلى زيادة هائلة في العجز في الميزانية الفدرالية، ويقيد قدرة الحكومة على الاستثمار في القطاعات الحيوية. ولتمويل هذه التخفيضات الضريبية، قام ترامب برفع سقف الديون بمقدار 5 تريليونات دولار، مما يزيد من حجم الدين الوطني إلى مستويات غير مسبوقة. الأخطر من ذلك، أن هذا القانون لم يكتفِ بالتخفيضات الضريبية غير الممولة، بل قلّص في الوقت نفسه الإنفاق الإستراتيجي في قطاعات حيوية، لا سيما في قطاع الطاقة النظيفة.

هذا التوجه يعكس رؤية اقتصادية وسياسية تعطي الأولوية للتخفيضات الضريبية قصيرة الأجل على حساب الاستثمار طويل الأجل في البنية التحتية الحيوية والطاقة المستدامة.

إن هذا النهج المالي يهدد بتقويض قدرة الولايات المتحدة على تلبية احتياجاتها المستقبلية من الطاقة، ويزيد بشكل كبير من احتمالية حدوث أزمة طاقة عميقة.

خامساً: تداعيات القانون على قدرة توليد الكهرباء

إن التداعيات السلبية لـ"مشروع القانون الكبير الجميل" تتجاوز مجرد الأرقام المالية، لتصل إلى صميم قدرة الولايات المتحدة على توليد الكهرباء.

وفقًا لتحليل دقيق وشامل أجراه مركز "إنرجي إنوفيشن"، سيؤدي هذا القانون إلى تقليص هائل في القدرة الكهربائية المتوقعة خلال العقد المقبل.

وتشير تقديرات المركز إلى أن الولايات المتحدة ستفقد ما يُقدّر بـ 344 غيغا واط من القدرة الكهربائية التي كان من المتوقع إضافتها إلى الشبكة الوطنية. هذه الكمية الهائلة من الطاقة تعادل القدرة اللازمة لتلبية احتياجات نصف المنازل الأميركية.

هذا التراجع في القدرة الكهربائية المتوقعة ينبع بشكل مباشر من إلغاء أو تقليص الحوافز الضريبية التي كانت تدعم مشاريع الطاقة المتجددة. إن هذا النقص في القدرة الكهربائية لا يهدد قطاع الذكاء الاصطناعي فحسب، بل يمتد ليشمل الصناعات الأخرى والاستهلاك المنزلي.

فمع تزايد الطلب العام على الكهرباء، ومع عدم وجود قدرة توليد كافية، ستواجه الولايات المتحدة تحديات خطيرة تتمثل في ارتفاع أسعار الكهرباء، وزيادة احتمالية انقطاع التيار الكهربائي، وتراجع موثوقية الشبكة. علاوة على ذلك، فإن هذا التراجع في الاستثمار في الطاقة النظيفة يعيق جهود الولايات المتحدة لمكافحة تغير المناخ.

حتى الطرق التقليدية لتوفير الطاقة، بما فيها بناء المفاعلات النووية، تحتاج سنوات طويلة قبل أن يتم بناؤها ودمجها في شبكة الكهرباء الوطنية.

سادساً: الصين تستغل الفراغ

في الوقت الذي تتخذ فيه الولايات المتحدة خطوات سياسية قد تقوّض قدرتها على إنتاج الطاقة النظيفة، تستغل الصين هذا الفراغ الإستراتيجي ببراعة لتعزيز هيمنتها في هذا المجال.

لقد ضاعفت الصين استثماراتها في الطاقة النظيفة بشكل كبير. تشير الإحصائيات الأخيرة إلى أن الصين أضافت خلال خمسة أشهر فقط من 2025 أربعة أضعاف ما أضافته أميركا في عام كامل من قدرات الطاقة المتجددة، وهو ما يعادل 50٪ من القدرة العالمية.

هذا التوسع السريع في قدرات الطاقة المتجددة يعكس رؤية إستراتيجية صينية بعيدة المدى. تعتبر الصين الطاقة المتجددة ركيزة أساسية لأمنها الطاقوي، حيث تقلل من اعتمادها على واردات الوقود الأحفوري، وتوفر مصادر طاقة مستقرة لدعم نموها الاقتصادي والصناعي المتسارع، بما في ذلك قطاع الذكاء الاصطناعي.

إعلان

كما أن الاستثمار في الطاقة النظيفة يمنح الصين ميزة تنافسية في الأسواق العالمية، حيث أصبحت أكبر مصنّع ومصدّر لمعدات الطاقة المتجددة، مما يعزز نفوذها الاقتصادي والسياسي. هذا التباين في الرؤى والإستراتيجيات يضع الولايات المتحدة في موقف تنافسي صعب.

سابعاً: صمت الصين "الإستراتيجي"

على الرغم من الأثر العالمي الكبير لـ"مشروع القانون الكبير الجميل، لم تُعلّق بكين رسميًا على هذا التطور. هذا الصمت الصيني يحمل في طياته دلالات إستراتيجية عميقة، وهو ما فسرته صحف غربية بأنه تطبيق لمبدأ إستراتيجي قديم وحكيم: "لا تقاطع عدوك أثناء ارتكابه خطأً".

هذا المبدأ يشير إلى أن الصين ترى في هذا القانون الأميركي ليس مجرد خطأ سياسي عابر، بل هو خطوة تُضعف واشنطن ذاتيًا وبشكل منهجي. إن الصمت الصيني يعكس ثقة بكين في مسارها الخاص وإستراتيجيتها طويلة الأمد.

علاوة على ذلك، فإن هذا الصمت قد يكون جزءًا من إستراتيجية صينية أوسع تهدف إلى تجنب إثارة المزيد من التوترات مع الولايات المتحدة في الوقت الحالي، مع التركيز على تعزيز قدراتها الداخلية بهدوء وفاعلية.

ثامناً: انتقادات داخلية واسعة

لم يمر "مشروع القانون الكبير الجميل" دون انتقادات حادة وواسعة النطاق داخل الولايات المتحدة. من أبرز المنتقدين كان رائد الأعمال الشهير إيلون ماسك، الذي وصف القانون بأنه "الجنون المدمّر".

هذا الوصف يعكس قلقًا عميقًا من أن القانون، بتخفيضاته الضريبية التي لا تدعم الطاقة النظيفة، يرسّخ الاعتماد على مصادر الطاقة التقليدية التي تحتاج وقتًا طويلًا لتنفيذها، كما يعوق الابتكار في القطاعات الحيوية للمستقبل.

هذه الانتقادات، التي تأتي في وقت تواجه فيه الولايات المتحدة تحديات غير مسبوقة، تزيد من الضغط على الإدارة الأميركية لإعادة تقييم سياساتها الطاقوية والضريبية، والبحث عن حلول أكثر استدامة وشمولية.

الخاتمة

إن أزمة الطاقة المحتملة التي تلوح في الأفق بالولايات المتحدة، والتي تتشابك فيها تداعيات "مشروع القانون الكبير الجميل"، والطلب غير المسبوق من الذكاء الاصطناعي، والمنافسة الجيوسياسية مع الصين، والحرب الأوكرانية الروسية، واستهلاك كثير من مواردها في دعم الكيان الصهيوني، ليست مجرد تحدٍ اقتصادي أو بيئي عابر. إنها أزمة متعددة الأوجه، تحمل في طياتها إمكانية التحول إلى أزمة وجودية تهدد أسس المجتمع الأميركي.

فالقانون الجديد يزيد كذلك من القيود الأميركية على هجرة العقول، مما يضعف تدفق المواهب في هذا القطاع، بينما أصبحت الصين أكثر جذبًا للكفاءات العالمية، حيث زادت نسبة استقطاب الكفاءات 20٪ عن مستويات ما قبل جائحة كورونا، وهو ما يدعم تقدّمها.

لقد توقّع المؤرخ الفرنسي إيمانويل تود في كتابه الصادر في 2001 "بعد الإمبراطورية: انهيار النظام الأميركي"، أنّ تسرّع أمثال هذه السياسات الانحدار الأميركي، وهو ما يعجل من احتضارها وتحوّلها إلى قوة إقليمية فقط قبل 2050.

أما العرب والمسلمون، فموقعهم في هذا المشهد العالمي المتحوّل مرهون بقدرتهم على توطين التكنولوجيا، والتخلي عن النفط كمصدر رئيسي للطاقة، فضلًا عن استقلال مصادر الطاقة لديهم عن الهيمنة الغربية.

إن امتلاك الطاقة النظيفة خلال العقد القادم هو ما سيحدد زعامة العالم للسنوات القادمة، وهو ما سيجعل الصين تتجاوز الولايات المتحدة إذا حافظت على تقدمها المطرد في هذا الملف الحيوي.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • أميركا وحلفاؤها ينددون بتزايد التهديدات من أجهزة المخابرات الإيرانية
  • واشنطن بوست: التراجع عن دعم الديمقراطية يقوّض مكانة أميركا
  • أميركا تُحدد سقفا زمنيا لإنهاء الحرب في أوكرانيا
  • أميركا تعلن اتفاقات تجارية مع كوريا الجنوبية وباكستان وكمبوديا وتايلند
  • لولا يتعهّد بالدفاع عن "سيادة البرازيل" بمواجهة رسوم أميركا
  • كامالا هاريس تحدد موقفها من الترشح لمنصب حاكمة كاليفورنيا
  • وفاء عامر كلمة السر.. من هي بنت الرئيس مبارك التي أشعلت السوشيال ميديا؟
  • من سيتزعم العالم بعد أميركا؟ وكيف؟
  • قيادي بمستقبل وطن: كلمة الرئيس تعكس التضحيات التي تقدمها مصر من أجل القضية الفلسطينية
  • أحرار العالم في مواجهة الإبادة.. أين العرب من تاريخ العدالة؟