الابتكار في عصر اقتصاد «الدونات»
تاريخ النشر: 5th, November 2024 GMT
إذا تأملنا الشركات الابتكارية العملاقة سنجد بأن محور الاستدامة هو الأبرز لديها، وتتراوح درجات الاستدامة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية بحسب مجالات الابتكار، ففي الابتكارات التكنولوجية ينصب التركيز على الجوانب الاقتصادية والبيئية، وتركز الابتكارات الاجتماعية على البعد الإنساني والمجتمعي، ولكن قلَّما أن يحدث وتجتمع كل هذه الأبعاد في ابتكار واحد، ليس هذا فحسب، بل إن العديد من شركات الابتكار الناشئة لا تنظر إلى الاستدامة باهتمام كاف رغم أن جائحة كوفيد -19 قد برهنت بأن البشرية على أعتاب عالم تتفاقم فيه التحديات الصحية والاجتماعية والبيئية، فهل حان الوقت لترسيخ الاستدامة البيئية والاجتماعية بعقلية اقتصادية أكثر ملاءمة لواقع القرن الحادي والعشرين؟ ولعل البداية تكمن في حقيقة أن النظريات الاقتصادية في القرن الماضي، والفكر السائد عن اكتساب القيمة من الاستثمار في الابتكار لم يتطرق للاستدامة كمنطلق أساس لحل التحديات عن طريق المعرفة، وهذا ما أنتج المسار التقليدي للنمو الاقتصادي الذي يتمحور حول تحقيق عوائد الاستثمار، وانعكس هذا التفكير على الخطط الاستراتيجية والسياسات ونماذج الأعمال وموضوعات البحث والتطوير، مما دفع بالمفكرين والأكاديميين ولممارسين إلى البحث عن أطروحات تتناسب مع متغيرات العصر، ومن أبرزها وأحدثها أطروحة «اقتصاد الدونات» الذي سُمي على صورة «الكعكة الدائرية»، وقد قدمتها للمجتمع العلمي الخبيرة الاقتصادية، وزميلة معهد الاستدامة البيئية بجامعة أكسفورد؛ البروفيسورة كيت راورث التي طورت هذا المفهوم، وأسست كذلك مختبر عمل اقتصاد الدونات في عام 2012، ويقوم اقتصاد الكعكة الدائرية على فكرة أن التنمية يجب أن تسعى لتعزيز تكامل الأبعاد الاجتماعية والبيئية مع البعد الاقتصادي، وقد استقطب مفهوم اقتصاد الدونات في بداية ظهوره انتباه منظمات الأمم المتحدة، والناشطين البيئيين، وقادة الأعمال، ولكنه اكتسب أهمية كبيرة بعد جائحة كورونا، وفي ربيع هذا العام 2024م، استضافت قمة الاستدامة التي نظمها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا البروفيسورة راورث كمتحدثة رئيسية لشرح نموذجها، وتوضيح آليات الاستفادة من هذا الفكر الجديد الذي يتألف من حلقتين متحدة المركز تشكلان ما يشبه الدونات، حيث تمثل الحلقة الداخلية الأساس الاجتماعي للتنمية، في حين تمثل الحلقة الخارجية السقف البيئي لاستدامة النظم البيئية والتي يجب عدم تجاوزها، والفضاء بين هاتين الحلقتين هو النقطة المثالية لمجتمع متزن بيئيًا وصحيًا وآمن من الكوارث الطبيعية والأوبئة، ومستقر اجتماعيًا، وبقيادة اقتصاد متجدد، وتكمن المساهمة الحقيقية لهذه الأطروحة في أن إنشاء النقطة المثالية لهذا النموذج هو في الأصل دور شركات الابتكار ذات التفكير المستقبلي المسؤول، والتي ترتبط ابتكاراتها بالموضوعات الراهنة مثل التكنولوجيا الخضراء، والطاقة المتجددة، وتوظيف التقنيات الرقمية المتقدمة للثورة الصناعية الرابعة والذكاء الاصطناعي.
ومن باب: «الشيء بالشيء يُذكر» فإن فكر الاستدامة في أطروحة الاقتصاد الدائري لا يختلف عن اقتصاد الدونات، ولكن الأخير ينظر إلى جميع الأبعاد الثلاثة للاستدامة بشكل أكثر تفصيلًا، وبمنهجية توزيعية بحيث لا يطغى الاهتمام على مجال دون آخر، وكذلك منحت هذه الأطروحة دورًا كبيرًا وبارزًا لشركات الابتكار التكنولوجي والاجتماعي في تحقيق التنمية، ورسمت معايير جديدة لما يمكن أن يطلق عليه «النجاح الاقتصادي» والذي يقوم على المعرفة والابتكار، إذ لا يمكن أن يعتبر النمو الاقتصادي الذي يقوم على التأثير السلبي على البيئة نجاحًا، فهو لا يعدو كونه ارتفاعًا في العائدات، والحقيقة أنه من الأولى والضروري أن يسعى المفكرون والأكاديميون إلى تقديم بوصلة جديدة لتوجيه التنمية الاقتصادية، ووضع مسارات ومعالجات جذرية لحالات اختلال التوازن بين أضلاع الاستدامة، وتحقيق الملاءمة بين أهم ركائز أطروحة اقتصاد الدونات وهي ضمان الأساس الاجتماعي الذي يجب تحقيقه من جهة، والالتزام بالسقف البيئي الذي يجب عدم تجاوزه. وهذا يقودنا إلى النقطة الأساسية وهي توظيف الابتكار للقيام بدوره في الوصول للسيناريو المثالي في أطروحة اقتصاد الدونات، وضمان حصول مؤسسات وشركات الابتكار على حصة في عملية صنع القرار في المستقبل، إذ يجب أولًا مراجعة واستقراء الفكر المعاصر في الاقتصاد والاستدامة، وتقييم الفجوة بين معطيات هذا الفكر ومتطلبات واقع ومستقبل الحياة والاقتصاد، ثم تأتي الخطوة الأساسية وهي إسقاط التحديات الاجتماعية والبيئية الحالية على إطار عمل اقتصاد الدونات للتأكد من قدرة هذا الإطار على معالجتها، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بكسر الحلقة المتصلة للفكر السائد عن أهمية اكتساب القيمة، ورفع العوائد كهدف أساسي للنمو في حد ذاته؛ لأن الأجدى هو السعي نحو إعادة تصميم عمليات إنتاج المعرفة والابتكار، وضخ التمويل والاستثمار، وتأسيس الأعمال التجارية القائمة على مخرجات الابتكار، وذلك للوصول إلى الغاية الكبرى وهي خلق اقتصادات متجددة بالابتكار، وتضمينية للأبعاد الاجتماعية والبيئية على حدٍ سواء. إن دور المعرفة في الاقتصاد يتنامى بوتيرة سريعة تسابق الفكر المعاصر للتنمية، مما يتطلب الإسراع في تغيير قواعد اللعبة، وإلهام جيل جديد من المفكرين الاقتصاديين الذين يمكنهم إعادة صياغة فهم التنمية الاقتصادية في سياق الاستدامة بجميع أبعادها، وإبراز وتفعيل أدوار غير تقليدية للمعرفة والابتكار، وهي غايات مستقبلية تستلزم العمل التشاركي بين جميع القطاعات المتعلقة بإنتاج المعرفة، واكتساب القيمة من توظيف مخرجاتها، وبذلك تبدأ سلسلة التكامل بالتركيز على أولويات بحثية وتطويرية موجهة نحو الاستدامة الكاملة، ثم إيصال مخرجات هذه الجهود إلى الجهات المستفيدة لضمات تقليل الهدر في إنتاج معارف وتقنيات غير مستغلة، ويرافق كل هذه الخطوات دراسات تحليلية واستقرائية لضمات الخروج بدروس مستفادة للتغذية الراجعة، والتي يمكنها تعزيز الباحثين والمبتكرين في تحديد النماذج الأكثر توافقًا مع الواقع المحلي، فليست كل الأطروحات المشهورة مناسبة لجميع المنظومات، ولا يستلزم النجاح استنساخ تجارب الآخرين وإن كانت ناجحة ومميزة، فالتنمية القائمة على المعرفة بحاجة إلى وضع نظريات جديدة، واقتراح سياسات محدثة، ودعم الابتكارات غير المسبوقة، وعدم التوقف عن التفكير التجديدي، فكما ظهرت أطروحة اقتصاد الدونات واستحوذت على الاهتمام بعد جائحة كورونا، في المقابل ستظهر نماذج أخرى أكثر تقدمًا، وعلى منظومات الابتكار التعلم المستمر من هذه المعارف، واختيار ما يتناسب مع متطلباتها، وتطوير فكر أصيل يمنحها الميزة التنافسية في العصر الرقمي، لأن عجلة الابتكار والتغيير لا تتوقف. |
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الاجتماعیة والبیئیة
إقرأ أيضاً:
«راكز» تحصد الجائزة الفضية عن «أفضل مبادرة لتحويل النفايات»
رأس الخيمة (الاتحاد)
حققت هيئة مناطق رأس الخيمة الاقتصادية «راكز» إنجازاً بارزاً في مسيرتها نحو الاستدامة، وذلك بفوزها بالجائزة الفضية عن فئة أفضل مبادرة لتحويل النفايات للقطاع الحكومي للعام 2025، وذلك ضمن جوائز الشرق الأوسط للنفايات وإعادة التدوير.
ويجسّد هذا التكريم ريادة «راكز» في تبني ممارسات مستدامة تقلّل الأثر البيئي وتدعم التحوّل نحو اقتصاد دائري متكامل في مجتمعها الصناعي والتجاري المتنامي، فقد طوّرت «راكز» إطاراً متكاملاً لإدارة النفايات يهدف إلى تقليل المخلفات الموجهة للمدافن، وتعزيز الاستفادة من الموارد، وترسيخ ممارسات إدارة النفايات المسؤولة لدى الشركات العاملة ضمن مناطقها.
ويتضمن هذا الإطار إجراءات استباقية تشمل تطبيق لوائح صارمة للتخلص من النفايات، واشتراط تقييمات بيئية إلزامية للمنشآت الصناعية، إلى جانب تنفيذ حملات توعوية متواصلة لتعزيز الوعي بأساليب تقليل النفايات وفرزها وإعادة تدويرها بفاعلية، كما أسهمت مبادرات وحملات التنظيف في تحفيز مختلف الجهات على إعادة تدوير مواد تشمل الورق والزجاج والبلاستيك والمعادن وعلب الألمنيوم.
ونتيجة لهذه الجهود تم تحويل أكثر من 1.18 مليون كيلوغرام من النفايات القابلة لإعادة التدوير عن مكبات النفايات منذ عام 2022، ما ساهم في توفير نحو 27,700 متر مكعب من مساحة المكبات.
كما عزّزت «راكز» جهودها في الاستدامة من خلال إعادة استخدام المواد والمعدات المكتبية والاستفادة من المواد الخردة ضمن منظومة تدوير فعالة، إضافة إلى التحول الكامل لاستخدام المياه المعالجة في ري المساحات الخضراء، مما أسهم في توفير أكثر من 9 ملايين جالون من المياه العذبة سنويا ولضمان وصول أوسع إلى مرافق إعادة التدوير.
وفرت «راكز» حاويات مخصصة لجمع المواد القابلة للتدوير في مناطقها الصناعية، معززة ذلك بشراكات فاعلة مع جهات معنية بالاستدامة مثل مجموعة عمل الإمارات للبيئة، ما يسهم في توسيع المشاركة المجتمعية ودعم تحقيق المستهدفات الوطنية في مجال الاستدامة.
وأثمرت هذه الجهود عن تأثيرات بيئية إيجابية أبرزها الحفاظ على ما يزيد على 78 ألف شجرة، وتقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بما يفوق 164 ألف رطل سنوياً، وتوفير أكثر من 2.6 مليون كيلوواط من الطاقة كما حققت المبادرات عوائد وتوفيرات مالية تفوق 1.2 مليون درهم من خلال برامج إعادة التدوير وخفض تكاليف التخلص من النفايات وترشيد استهلاك المياه.
وقال رامي جلاد الرئيس التنفيذي لمجموعة «راكز»: نفخر بأن تحظى جهودنا في مجال الاستدامة بتقدير محلي ودولي متزايد ويجسد هذا الفوز التزاماً راسخاً من عملائنا وشركائنا وموظفينا الذين يشاركوننا رؤيتنا نحو منظومة صناعية أكثر نظافةً واستدامةً ومسؤولية وسنواصل تعزيز المبادرات، التي تدعم الاستخدام الأمثل للموارد، وتقلّل الأثر البيئي وترسّخ مبادئ الاقتصاد الدائري في رأس الخيمة، بما يسهم في تحقيق مستهدفات رؤية رأس الخيمة 2030 ودفع مسار التنمية المستدامة وتعزيز مرونة الاقتصاد على المدى الطويل في الإمارة.
أخبار ذات صلة