لُغة لا تموت.. المعلم سما عيسى
تاريخ النشر: 12th, November 2024 GMT
تحتاج الحضارات القوية دوما إلى الاعتراف بجذور تنتسب إليها وتعود، إلى الرجوع إلى ثوابت فكرية وأخلاقية هي محل إجماع واجتماع، هي أصول وإن اختُلف معها، فإنها تظل أرض وفاق للأجيال اللاحقة وصُورا نموذجية تُقْتدى ويُهتدى بها، وهذا دأْبُ أغلب الثقافات التي يتناحرُ مثقفوها ويختلفون فـي التوجهات والأفكار والرؤى، ولكنهم يُؤمنون بمرجع ينتسبون إليه، ولم أجد فـي تجربتي الحياتية والثقافـية والعلمية شخصا متفقا على سعة صدره وقدرة إبداعه وحسن أخلاقه، شبيها بالشاعر الكاتب والمثقف سما عيسى الذي يؤم المختلف ويجمع المتفرق ولا تصدر عنه كلمة السوء، وأحسستُ باحترام أجيال المثقفـين له، وبتنزيله المنزلة التي يستحق وبتقدير كبير له، وبأخْذ فاعل برأيه، وهو الشخص البشوش، المحبوب، على ما يمنحه الشعر من علو ونرجسية هو فـي غنى عنهما.
لم أرد أن أخصص هذا المقال للحديث عن القيمة الأدبية لنصوص سما عيسى، ذلك أنها قيمة ثابتة وقد كتبت فـيها سابقا، كما لم تكن فـي نيتي أن أتعمق فـي الوقوف على خصائص هذه التجربة وعمقها وأثرها فـي الأدب العماني، بل كانت غايتي الأساس أن أتحدث عن ظاهرة لا نثيرها كثيرا فـيما نكتب، وهي قيمة الرجل ومنزلته فـي نفوس الكُتاب والأدباء، وسلوكه هو مع أجيال لاحقة ومع أشباهه وأمثاله من جيله. كتب سما عيسى من الشعر والنثر والمقالة والسينما ما يركزه منزلة المؤسس، وسلك فـي الحياة أبوة ورعاية تجعله المثال والقدوة والمعلم، وهو الذي أعطى الشعر وهجا وعانق عوالم جامعة بين عمق القدم وألق الحداثة، أعمال فـي الأدب امتدت من سبعينيات القرن الماضي إلى اليوم، راجت وأحبها مريدوه وعشاق نظمه ونثره، منها: «للنساء اللواتي انتظرن طويلا(1974)» - «ماء لجسد الخرافة (1985)»- «نذير بفجيعة ما (1987)»- «مناحة على أرواح عابدات (1990)»- «منفى سلالات الليل (1999)»- «درب التبانة (2001)»- «ولقد نظرتك هالة من نور (2006)»- «أبواب أغلقتها الريح (2008)»- « دم العاشق (2011)»- «أغنية حب إلى ليلى فخرو (2012)»- «استيقظي أيتها الحديقة (2018)»- «كيف نضحك أمام القتلة؟ (2024)». هذا بعض من وفـير ما أنتجه سما عيسى، وكل كتاب حامل لمشروع فـي الكتابة ولرؤية يختص بها، ولا أحب أن تُختصر تجربةُ سما فـي التفاعل الصوفـي، ذلك أن الصوفـية عمق وليست سمة، بل هي رفض للمعنى وبعث لعميق الإدراك والإحساس والشعور بالوجد الذي يعسر أن يحمله المعنى، ودوما كان الشعر أعمق من ظاهر المعنى وأقدر على بعث الوعي بالمعاني قبل أن تحملها الألفاظ، وقد قيل إن تجربة التوحد بين الذاتين ظهرت فـي شعر المجنون قبل أن ينطق بها الحلاج، إذ قال «أنا ليلى». يأخذ سما عيسى من التصوف جوهر علاقته بالمعنى، ومن الثقافة الشعبية عمق وجود البشر، ولم أحب بحثا كما أحببتُ مداخلته (وإن لم أكن حاضرا) عن «أمهات الأرض» تأريخا لنساء عابدات، متصوفات، زاهدات، حاكمات، أهملهن التاريخ ووثق أحوالهن صاحب الأدب، ورصد أثرهن فـي الذاكرة الشعبية. نصوصُ سما عيسى لامست السينما أيضا، فكتب سيناريوات عديدة تحولت بفعل قُدرة عدد من المخرجين أفلاما لها وقْع وأثر: «الوردةُ الأخيرة» (1995) - «شجرة الحداد الخضراء» (فـيلم روائي طويل من إخراج حاتم الطائي) - «بنت غربي» (2006) - «الكارثة» (2006) - «الزهرة «(2008) - «ملائكة الصحراء» (2010) - «البهلاني شاعر بحجم الأرض والسماء». ليس لي أن أقف على هذه التجارب المتنوعة أجناسا وأشكالا وأنواعا، من الشعر إلى القصص إلى المقالة إلى السينما، وليس لي أن أفتت أعمال سما وأن أتدبر أثرها فـي الواقع الفني فـي عُمان وفـي الخليج، وإنما لي أن أقف على دور جلل لرجل له فعلُ البعْث والتأسيس، ووضع اللبنات الأولى، ولقد صدقت بدرية الوهيبية عندما وسمته بغوغول الشعر العماني الذي خرجت من معطفه أجيال من الأدباء، ما زال يقف فـي كل محفل ثقافـي ينصت إليهم باهتمام وعناية، هو الأب الحقيقي الذي يأسرُك بخُلقه وعميق ثقافته قبل أن تأخذك عوالمه الشعرية. لُغةُ سما عيسى هي لغة كبار لا يُمكن أن تموت، وهي المتجلية، المُعبأة بممكن المعاني، الماتحة من عمق التراث معتقداته وأساطيره وأوهامه التي يعيش بها الناس أزمنة مديدة، العابداتُ الفاعلاتُ القويات الزاهداتُ، عوالمُ من الشعر، الأمهاتُ الواجداتُ الباعثاتُ من عميق المعاني ما به شكلن مرجعيات مغروسة فـي النفوس الباقيات، الموتُ وعوالمه الساكنة والمتحركة، العشق على مختلف أوجهه، هي عناصر الحياة، وعناصر الشعر التي فطن سما إلى اللغة التي لا تموتُ إذ تعبر عن جوهر الوجود، جوهر الإنسان. |
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: سما عیسى
إقرأ أيضاً:
“لن نترك غزة تموت جوعاً”… مسيرات ووقفات جامعية حاشدة تجدد التفويض للمرحلة الرابعة وتفضح الصمت العربي
يمانيون | تقرير
شهدت عدد من الجامعات اليمنية، اليوم الأربعاء، 30 يوليو 2025، خروج مسيرات ووقفات احتجاجية حاشدة، عبّرت عن غضب واسع وتضامن عميق مع الشعب الفلسطيني في غزة، في ظل في مشهد يختزل مواقف الشعوب الأصيلة في مواجهة قوى الظلم العالمي.
المسيرات التي خرجت من جامعات صنعاء، صعدة، عمران،تحت عناوين وشعارات موحّدة، تعبّر عن الوعي الجمعي اليمني بخطورة ما يجري في فلسطين، وتؤكد الدعم الكامل للمرحلة الرابعة من التصعيد الذي أعلنته القيادة الثورية والعسكرية اليمنية في مواجهة العدو الصهيوني.
جامعة صنعاء: حشود تتكلم لغة الجهاد والكرامة
في قلب العاصمة صنعاء، تحوّلت باحات جامعة صنعاء إلى ساحة غضب ووفاء، حيث خرج الآلاف من الطلاب والكوادر الأكاديمية والإدارية، يتقدمهم رئيس الجامعة الدكتور محمد البخيتي، وعدد من عمداء الكليات، رافعين أعلام اليمن وفلسطين، هاتفين بشعارات منددة بالإبادة الجماعية في غزة، ومعلنين تفويضهم الكامل للقائد السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي للمضي في خيارات التصعيد العسكري.
الدكتور البخيتي، وفي كلمته أمام الجموع، شدد على أن “خروج أبناء الجامعة اليوم ليس فعلاً طارئًا، بل امتداد طبيعي لإيمان راسخ بقضية عادلة وتاريخية، تتصدر ضمير الأمة”، مشيرًا إلى أن غزة لا تدافع عن نفسها فقط، بل عن شرف الأمة الإسلامية ومقدساتها.
وفي كلمة باللغة الإنجليزية، دعا الدكتور عبد الودود النزيلي، المجتمع الأكاديمي الدولي إلى كسر حاجز الصمت، مؤكداً أن القيم الغربية تتساقط أمام بشاعة الجرائم التي يرتكبها الاحتلال، متسائلًا: “أين هي شرعة حقوق الإنسان؟ أين هي العدالة الدولية؟”.
بيان المسيرة أدان تواطؤ الأنظمة العربية، واعتبر أن خذلان غزة هو سقوط أخلاقي وسياسي لن يغفره التاريخ، مشيرًا إلى أن المرحلة الرابعة من التصعيد تمثل اختبارًا حاسمًا للمواقف، وموقفًا وطنيًا تفرضه كل القيم الإنسانية والإيمانية.
جامعة صعدة: الحاضنة الثورية تعيد التأكيد على النهج الجهادي
ومن معقل الثورة والصلابة، خرجت جامعة صعدة بفعالية طلابية واسعة، تأييدًا لخيار التصعيد ودعمًا للمقاومة الفلسطينية. الوقفة التي أقيمت بالتنسيق مع “ملتقى الطالب الجامعي” عبّرت عن عمق الارتباط بين الوعي الأكاديمي والروح الجهادية التي تشكل نسيج الحياة العامة في المحافظة.
نائب رئيس الجامعة الدكتور حسن معوض، تحدث بلهجة حاسمة، مؤكدًا أن “الدم اليمني لم يتأخر يومًا عن نصرة قضايا الأمة، ولن يتردد اليوم في الوقوف مع غزة مهما غلت التضحيات”.
البيان الصادر عن الفعالية دعا الأكاديميين والعلماء وطلاب الجامعات إلى ممارسة دورهم التنويري في قيادة الوعي الشعبي نحو مواجهة مشروع الهيمنة الصهيوني والأمريكي، مؤكداً أن اليمن اليوم يسجل حضورًا متقدمًا في المعركة المصيرية مع الكيان
جامعة عمران: طلابها يواجهون بالصوت والصورة جرائم العدو
ومن على منبر جامعة عمران، جاء الصوت الطلابي حادًا وواضحًا: “لن نتهاون أمام إبادة غزة واستباحة الأمة ومقدساتها”، حيث شارك في المسيرة آلاف الطلاب يتقدمهم قيادات الجامعة والمحافظة، أبرزهم المحافظ الدكتور فيصل جعمان ورئيس الجامعة الدكتور محمد الضلعي.
البيان الختامي للمسيرة لم يكتف بالإدانة، بل حمّل بالاسم الولايات المتحدة ورئيسها السابق ترامب، وقادة العدو الصهيوني، المسؤولية عن المجازر التي ترتكب بأسلحة الدمار الجماعي، مطالبًا بمحاكمات دولية ومواقف حاسمة لكسر الحصار ووقف الإبادة.
كما أعرب البيان عن الأسى لمشهد التخاذل العربي، ووجّه رسائل واضحة للأنظمة التي تمنع اليمن من الوصول إلى فلسطين، قائلاً: “افتحوا الطريق أو اصمتوا… فدماؤنا لا تُسجن خلف الحدود”.
من الجامعات إلى الجبهات… اليمن يعلن تموضعه في قلب المعركة
ما جرى اليوم في جامعات اليمن لم يكن مجرد احتجاج عاطفي أو فعالية موسمية، بل كان إعلانًا شعبيًا مؤسسيًا عريضًا، عن موقف لا يقبل المساومة، تتلاقى فيه قاعة الدرس مع معسكر الجبهة، ويتعانق فيه صوت الطالب مع بندقية المجاهد، في ملحمة دفاع عن شعب تُباد نساؤه وأطفاله في غزة.
إن هذه المسيرات، والوقفات، والهتافات، ليست بديلة عن الصواريخ ولا بديلاً عن العمليات النوعية، لكنها المدد الروحي والشرعي والسياسي لقرار الردع، وهي الرسالة الواضحة لكل العالم: شعب اليمن لا ينسى، ولا يساوم، ولا يخذل.
“لن نترك غزة تموت جوعاً”… لم تكن شعاراً فقط، بل عهدًا يتجدد في كل جامعة، وكل شارع، وكل جبهة.