لجريدة عمان:
2025-06-11@05:14:18 GMT

لُغة لا تموت.. المعلم سما عيسى

تاريخ النشر: 12th, November 2024 GMT

تحتاج الحضارات القوية دوما إلى الاعتراف بجذور تنتسب إليها وتعود، إلى الرجوع إلى ثوابت فكرية وأخلاقية هي محل إجماع واجتماع، هي أصول وإن اختُلف معها، فإنها تظل أرض وفاق للأجيال اللاحقة وصُورا نموذجية تُقْتدى ويُهتدى بها، وهذا دأْبُ أغلب الثقافات التي يتناحرُ مثقفوها ويختلفون فـي التوجهات والأفكار والرؤى، ولكنهم يُؤمنون بمرجع ينتسبون إليه، ولم أجد فـي تجربتي الحياتية والثقافـية والعلمية شخصا متفقا على سعة صدره وقدرة إبداعه وحسن أخلاقه، شبيها بالشاعر الكاتب والمثقف سما عيسى الذي يؤم المختلف ويجمع المتفرق ولا تصدر عنه كلمة السوء، وأحسستُ باحترام أجيال المثقفـين له، وبتنزيله المنزلة التي يستحق وبتقدير كبير له، وبأخْذ فاعل برأيه، وهو الشخص البشوش، المحبوب، على ما يمنحه الشعر من علو ونرجسية هو فـي غنى عنهما.

سما عيسى يحتل منزلة الأب بالنسبة إلى أجيال من الكُتاب العمانيين، وقسطا من كتاب الخليج، وهو أب جامع، لا يُفرقُ، ويُوزع شعورا بالطمأنينة والألفة أينما حل. التقيتُه أول مرة -إن لم تخني الذاكرة- فـي النادي الثقافـي، وكنت أقدم محاضرة هناك، فوجدت شخصا خلوقا أثنى بأُلفة على جهودي، وغمرني بعناية فائقة تحادثا عن الأدب العُماني، ثم التقيته فـي أكثر من مناسبة فـي محافل علمية متعددة، وهو الذي لا يكبر ولا يتكبر ولا يتعالى مثلما يفعل عامة المثقفـين فـي عالم العرب، وإنما تجده أمامك فـي أغلب المناسبات سائلا، مناقشا فـي سكون وهدوء، ومن نكد الدهر أن نظمنا ندوة صغرى حول أدب الرجل، وهو فاتح، مرجع، مؤسس لقصيدة النثر فـي عمان، ومن مؤسسي قصيدة النثر فـي الخليج، وله القصائد الحسان، وله الأثر المرجع فـي تدوين ثقافة كاد النسيان يأكلها، فغابت الندوة، ولم نتمكن من إخراجها فـي كتاب، كما فعلنا مع أغلب الكتاب الذين عقدنا ندوات اهتمت بتجاربهم الأدبية والفكرية، ولم تسع الجامعة من بعد ذلك فـي تأسيس هذا الحدث الهام لارتباطه بشخصية أدبية مؤسسة، ولها وجود فاعل فـي الحياة الأدبية فـي الخليج. عود. تمثل تجربة سما عيسى الأدبية نهجا واقتداء، وعمقُ تجربته الأدبية لا يُرد فحسب إلى أنه من مؤسسي قصيدة النثر، وأنه ممن قاد تجارب الحداثة فـي خليج العرب، بل إلى ما يكتسبه الرجل من علم دقيق بتاريخ المنطقة، وبعادات عُمان وبأساطيرها ومختلف التقاليد الثقافـية السائدة على اختلاف المناطق وتبدل أوجه المعتقدات والعادات والأساطير، وهي الأرضية الأساس التي ميزت طبْعه الأدبي ووسمت تجربته فـي الشعر والنثر. ما زلتُ على يقين، أن فـي عُمان آبارا من الحكايات، ومن الأساطير التي يتقصاها الشعراء، ما زالت هناك وفْرة من المعاني البكْر، التي تحتاج من يمتصها ويُحولها أدبا، هذه البئر من موروث العادات والتقاليد، ومن الأساطير المتراكمة، هي التي نهل منها سما عيسى، وعانق بها عوالم من التجريب ومن ابتكار المعاني. داخل الشعر فلامس جوْهره وأدرك منه تيهه وعالمه العصي، كما لو أنك تُروض حصانا جامحا، كما لو أنك تسترق من الرضيع بسمة، كما لو أنك تبحث عن عشق يائس، تلك هبةُ الشعر أن تُصارعه أبد الدهر ولا تقدر على جموحه أبدا، فهل لشاعر حق ألا يكون وجوديا وألا يعيش الاغتراب والموت والحب فـي شعره؟ وهل لشاعر ألا تكون تجربته مع اللغة صوفـية؟ يبحث عن المعنى فلا يجده إلا فـي عمق الإشارة بديلا عن صراحة العبارة؟ تلك كانت تجربة سما عيسى، وهو الشاعرُ الحق.

لم أرد أن أخصص هذا المقال للحديث عن القيمة الأدبية لنصوص سما عيسى، ذلك أنها قيمة ثابتة وقد كتبت فـيها سابقا، كما لم تكن فـي نيتي أن أتعمق فـي الوقوف على خصائص هذه التجربة وعمقها وأثرها فـي الأدب العماني، بل كانت غايتي الأساس أن أتحدث عن ظاهرة لا نثيرها كثيرا فـيما نكتب، وهي قيمة الرجل ومنزلته فـي نفوس الكُتاب والأدباء، وسلوكه هو مع أجيال لاحقة ومع أشباهه وأمثاله من جيله. كتب سما عيسى من الشعر والنثر والمقالة والسينما ما يركزه منزلة المؤسس، وسلك فـي الحياة أبوة ورعاية تجعله المثال والقدوة والمعلم، وهو الذي أعطى الشعر وهجا وعانق عوالم جامعة بين عمق القدم وألق الحداثة، أعمال فـي الأدب امتدت من سبعينيات القرن الماضي إلى اليوم، راجت وأحبها مريدوه وعشاق نظمه ونثره، منها: «للنساء اللواتي انتظرن طويلا(1974)» - «ماء لجسد الخرافة (1985)»- «نذير بفجيعة ما (1987)»- «مناحة على أرواح عابدات (1990)»- «منفى سلالات الليل (1999)»- «درب التبانة (2001)»- «ولقد نظرتك هالة من نور (2006)»- «أبواب أغلقتها الريح (2008)»- « دم العاشق (2011)»- «أغنية حب إلى ليلى فخرو (2012)»- «استيقظي أيتها الحديقة (2018)»- «كيف نضحك أمام القتلة؟ (2024)». هذا بعض من وفـير ما أنتجه سما عيسى، وكل كتاب حامل لمشروع فـي الكتابة ولرؤية يختص بها، ولا أحب أن تُختصر تجربةُ سما فـي التفاعل الصوفـي، ذلك أن الصوفـية عمق وليست سمة، بل هي رفض للمعنى وبعث لعميق الإدراك والإحساس والشعور بالوجد الذي يعسر أن يحمله المعنى، ودوما كان الشعر أعمق من ظاهر المعنى وأقدر على بعث الوعي بالمعاني قبل أن تحملها الألفاظ، وقد قيل إن تجربة التوحد بين الذاتين ظهرت فـي شعر المجنون قبل أن ينطق بها الحلاج، إذ قال «أنا ليلى».

يأخذ سما عيسى من التصوف جوهر علاقته بالمعنى، ومن الثقافة الشعبية عمق وجود البشر، ولم أحب بحثا كما أحببتُ مداخلته (وإن لم أكن حاضرا) عن «أمهات الأرض» تأريخا لنساء عابدات، متصوفات، زاهدات، حاكمات، أهملهن التاريخ ووثق أحوالهن صاحب الأدب، ورصد أثرهن فـي الذاكرة الشعبية.

نصوصُ سما عيسى لامست السينما أيضا، فكتب سيناريوات عديدة تحولت بفعل قُدرة عدد من المخرجين أفلاما لها وقْع وأثر: «الوردةُ الأخيرة» (1995) - «شجرة الحداد الخضراء» (فـيلم روائي طويل من إخراج حاتم الطائي) - «بنت غربي» (2006) - «الكارثة» (2006) - «الزهرة «(2008) - «ملائكة الصحراء» (2010) - «البهلاني شاعر بحجم الأرض والسماء». ليس لي أن أقف على هذه التجارب المتنوعة أجناسا وأشكالا وأنواعا، من الشعر إلى القصص إلى المقالة إلى السينما، وليس لي أن أفتت أعمال سما وأن أتدبر أثرها فـي الواقع الفني فـي عُمان وفـي الخليج، وإنما لي أن أقف على دور جلل لرجل له فعلُ البعْث والتأسيس، ووضع اللبنات الأولى، ولقد صدقت بدرية الوهيبية عندما وسمته بغوغول الشعر العماني الذي خرجت من معطفه أجيال من الأدباء، ما زال يقف فـي كل محفل ثقافـي ينصت إليهم باهتمام وعناية، هو الأب الحقيقي الذي يأسرُك بخُلقه وعميق ثقافته قبل أن تأخذك عوالمه الشعرية.

لُغةُ سما عيسى هي لغة كبار لا يُمكن أن تموت، وهي المتجلية، المُعبأة بممكن المعاني، الماتحة من عمق التراث معتقداته وأساطيره وأوهامه التي يعيش بها الناس أزمنة مديدة، العابداتُ الفاعلاتُ القويات الزاهداتُ، عوالمُ من الشعر، الأمهاتُ الواجداتُ الباعثاتُ من عميق المعاني ما به شكلن مرجعيات مغروسة فـي النفوس الباقيات، الموتُ وعوالمه الساكنة والمتحركة، العشق على مختلف أوجهه، هي عناصر الحياة، وعناصر الشعر التي فطن سما إلى اللغة التي لا تموتُ إذ تعبر عن جوهر الوجود، جوهر الإنسان.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: سما عیسى

إقرأ أيضاً:

د نزار قبيلات يكتب: ما أجمل رواية؟


أنا من النّقاد الذين يجزمون بأن الجمال الأدبي لا يمكن تقييده ووضعه في صندوق، كما أن جماليات التذوق الأدبي لا يمكن أن تلتزم بقيافة محددة ومسطّرة مسبقاً، أما من جانب الموهبة فلا يوجد حتى اللحظة خلطة سحرية للشعر أو للرواية أو لأي نوع من الأنواع الأدبية الأخرى، أقول هذا وأنا أواجه كغيري من النّقاد سؤال الطلبة والقراء حول ما هي أجمل أو أهم رواية، فسؤال النقد نفسه ما انفك غير مستقر، ليس بسبب تعدد مشارب المناهج الأدبية وفلسفتها بقدر ما هي الممارسة النقدية التي تتم بطريقة تذوقية تشوبها أحياناً المجاملات، إن صح التعبير، فالنقد كما يقول الناقد الجزائري الراحل عبدالملك مرتاض لا يريد أن يقيّم العمل الفني بقدر ما يريد أن يستتبع ما قاله النص، أو كان يودّ أن يقوله، أو ما سكت عنه.
قبل عامين ألّفت كتاباً حول مقاييس الفنّ الروائي، وحاولت إذ ذاك أن أتبصّر في الشروط الموضوعية للرواية الناجعة التي تجعل أمرَ قرأتها سهلاً ومتدفقاً وكأنك تقرأ عنوانها، وفي ذينك الكتاب حاولت ألّا ارتدي ثوب طبيب المشرحة في النص أو ثوب الخياط ليلة العيد، فقد غِرتُ في أسباب التلقي الجمالي للرواية محاولاً استلهام تجرية الحركة النقدية العربية القديمة في عمود الشعر، غير أنني وجدت أن سياق وضع عمود الشعر عند المرزوقي والآمدي وابن طباطبا وغيرهم... كان لأسباب يقودها التفوّق والمبارزة بين الشعراء ولم يكن هَم واضعي عمود الشعر ذاك الجودة والجمالية وحسب. في ذلك الكتاب تناولت روايات عربية وأخرى أجنبية، روايات مضى عليها عقود وأخرى للجيل الجديد من الشباب الرواة محاولا تحسّس الجوانب الفضفاضة في العمل الروائي، ومدى نجاح الروائي في خياط تلك الأطراف المترامية وجعلها حاضرة في لحظة القراءة وزمنها دون فجوات أو فتور، وكذا حاولت تبيّن مدى قدرة الروائي على منح قرّائه تذكرة سفر مجانية إلى عوالم كنا نخالها قريبة ومرئية، لكننا حينا قرأناها بعين الروائي وعدسته القلمية تبين لنا كم هي حقيقية وجديرة ومفعمة، الرواية سبر لأغوار الإنسانية حين نظن أن الزمان قد طواها، وأن الشرط الموضوعي قد حكم عليها فانتهت، الرواية أصوات لمن خطفتهم ضوضاء المدينة وعتمة النسيان، الرواية انبجاس من كل ضيّق وسّعه الروائي بالكتابة، أما عن سؤال ما أجمل رواية فقد كان الجواب أن الرواية التي تمنحك الحق في الانضمام إلى مجتمعها الصغير، والرواية التي تخطفك من أول صفحة هي الرواية التي يجب أن تقرأها دَفقة واحدة وترعاها وكأنك ترعى أبناءك الصغار.
*أستاذ بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية

أخبار ذات صلة نزار قبيلات يكتب: النثر العربي القديم وتقبّل الآخر د. نزار قبيلات يكتب: أبو الطيب المتنبي وعيون العجائب

مقالات مشابهة

  • عيسى: البعثة الأممية أخفقت في تحقيق أي تقدم حقيقي
  • بكاء الأرض في غزة.. الطفولة تموت جوعاً والحرب مستمرة «بلا هوادة»
  • صوفان: وجود شخصيات على غرار فادي صقر ضمن هذا المسار له دور في تفكيك العقد وحل المشكلات ومواجهة المخاطر التي تتعرض لها البلاد.. نحن نتفهم الألم والغضب الذي تشعر به عائلات الشهداء، لكننا في مرحلة السلم الأهلي مضطرون لاتخاذ قرارات لتأمين استقرار نسبي للمرحلة
  • أغلب المشاكل التي تعانى منها بسبب هذا المرض.. تعب وسرحان وتساقط الشعر
  • فتاة تموت غرقاً بميسان وسائح يبتلعه وادٍ في دهوك
  • تحذير: دواء لتساقط الشعر قد يؤثر على الحياة الجنسية للرجال
  • كيراتين طبيعي لفرد ونعومة الشعر على الطريقة اليابانية
  • د نزار قبيلات يكتب: ما أجمل رواية؟
  • نهى نبيل تستعرض مهارات ابنتها دانة في تصفيف الشعر.. فيديو
  • اليمنيون يفتقدون للعيد وتعز تموت عطشا والحروب العابرة تعد بالمزيد من الخراب