كيف عطلت الحرب تقاعد والدي؟
تاريخ النشر: 24th, November 2024 GMT
عبد الله قريضة
في نهاية 2023، تقاعد والدي، أستاذ المرحلتين المتوسطة والابتدائية السابق، بعد عقود من التدريس وتشكيل عقول التلاميذ والطلاب في السودان، وعبر عمله في لجنة المناهج ومعهد تدريب المعلمين، كانت حياته، مثل العديد من زملائه، يكسوها التزامه غير المشروط بالتعليم والتنمية الفكرية للعقول الشابة، لكن رحلته إلى التقاعد، والتي كان من المتوقع أو المفترض أن تكون لحظة من الكرامة والمكافئة، تحولت بقدرة قادر إلى صراع مرير.
كانت الحرب التي اندلعت في أبريل 2023 تعني أن العديد من المعلمين والأساتذة في جميع أنحاء السودان، تُركوا لحالهم في طي النسيان – متقاعدين غير قادرين على التمتع بحقوقهم والمزايا المالية والضمان الاجتماعي الذي استحقوه مقابل الخدمة طوال عمر الإنجاز، قصة والدي ليست سوى واحدة من بين عدد لا يحصى من القصص الأخرى، التي ترمز إلى الأزمة الأوسع التي يقاسيها المعلمون المتقاعدون خلال هذه الحرب.
عندما اندلعت الحرب في السودان في الخامس عشر من أبريل 2023، تدهورت البنية الأساسية للبلاد، والتي وسمتهت الهشاشة نتيجة لسنوات من عدم الاستقرار، وقادتها الحرب إلى مزيد من الفوضى والانهيار. تعطلت معظم المؤسسات الحكومية، بما في ذلك تلك التي تتعامل مع المعاشات التقاعدية ومسائل التقاعد وتأخرت المدفوعات، وانهارت الخدمات الاجتماعية، ووجد أولئك الذين كرسوا حياتهم للخدمة العامة أنفسهم مهجورين ومنسيين.
لقد كان التأثير بالنسبة للمعلمين والأساتذة المتقاعدين كارثيا، ففي السودان، يمنح القانون موظفي الخدمة المدنية حزمة تقاعد تشمل معاشًا تقاعديًا ومكافأة نهاية الخدمة ومزايا مالية أخرى في معظم الأحوال مع بعض الاختلافات التي تظهر في بعض المؤسسات مثل بنك السودان والقضاء وغيرها. في الغالب يهدف هذا النظام إلى تزويد الأفراد المتقاعدين بالحد الأدنى من الموارد الضرورية لعيش سنوات ما بعد الخدمة في راحة، أو على الأقل دون قلق مالي. ومع ذلك، فإن الصراع جعل هذه الحقوق نظرية إلى حد بعيد، كون المتقاعدين اليوم عالقين في فراغ بيروقراطي خلفه إغلاق المؤسسات الحكومية أو تدميرها، كما تركهم غير قادرين على الوصول إلى معاشاتهم التقاعدية أو المزايا والخدمات الأخرى، بينما تكافح الحكومة للحفاظ على الوظائف الإدارية الأساسية مكتفية بحكومة صغيرة قوامها كابينة غير مكتملة عقب انهيار حكومة الشراكة بعد انقلاب ٢٥ أكتوبر.
أزمة قديمة متجددةإن جوهر هذه القضية يكمن في انهيار الجهاز الإداري الكبير في السودان، فالموظفون الحكوميون المسؤولون عن متابعة إجراءات التقاعد إما فروا من العنف، أو نزحوا، أو لم يعد بوسعهم أداء واجباتهم بسبب تدمير السجلات والمكاتب والشبكات. لقد تُرك المهنيون المتقاعدين مثل والدي ينتظرون بغير جدوى، وإلى أجل غير مسمى الأموال والمخصصات المستحقة التي قد لا تأتي أبداً.
وعلى وجه الخصوص، يواجه المعلمون المتقاعدون وأساتذة الجامعات صعوبات شديدة أخرى تتمثل في توقف رواتبهم واستحقاقاتهم الشهرية والسنوية، بالإضافة إلى خدمات الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي وغيرها من المزايا التي على قلتها كانت قد كفلت لهم بعضاً من الكرامة والحماية. ويضمن القانون السوداني للمعلمين، عند تقاعدهم، الحق في الحصول على مبلغ (مستقطع) ومعاش شهري ومكافآت أخرى، مثل مكافأة نهاية الخدمة، وبدل الترحيل والمتابعة وغيرها، لكن في الممارسة العملية، أجلت أو ألغت الحرب كل هذه الحقوق بضربة واحدة، ومع إغلاق البنوك أو تشغيلها جزئياً فقط في بعض المناطق، وعدم قدرة العديد من المكاتب الحكومية على مواصلة العمل، أصبح المتقاعدون في مهب رياح الفقر والحاجة.
وعلاوة على ذلك، أصبحت البيروقراطية المرتبطة بالتقاعد ومؤسسات مثل الصندوق القومي للمعاشات وصناديق الضمان الاجتماعي الخاصة الأخرى أكثر تعقيداً بسبب الحرب، وكذلك بسبب ارتباط هذه المنظومة بكيانات مصرفية واستثمارية إما توقفت تماماً، أو سيطر على نشاطها الاقتصادي أشخاص نافذون في حرب أبريل، فقد كانت كل المكاتب الحكومية الخاصة بمعالجة ملفات التقاعد تقع في الخرطوم، حيث تتم معالجة أغلب أوراق التقاعد، وهي اليوم في مرمى النيران ومهجورة، وفقدت صلاتها الإدارية بعدد من المكاتب الفرعية في الولايات التي شهدت أو تشهد أعمال قتالية. ووجد العديد من المتقاعدين، وخاصة أولئك الذين يعيشون في المناطق الريفية، صعوبات بالغة في الوصول إلى الأوراق اللازمة لبدء أو متابعة طلبات التقاعد الخاصة بهم.
لقد عانى المعلمون السودانيون، وخاصة أولئك الذين يعملون في المدارس والجامعات العامة، من الإهمال المنهجي لفترة طويلة، حيث انخفاض الأجور وقلة الإنفاق على التعليم، وكثيراً ما تكون الرواتب والاستحقاقات المالية منخفضة، وكانت الإضرابات المتكررة خلال الفترة الانتقالية بمثابة استجابة متكررة لظروف العمل السيئة وغير المنصفة. وحتى قبل الحرب، كان المعلمون وأساتذة الجامعات يضطرون في كثير من الأحيان إلى استكمال دخلهم بوظائف أخرى لتلبية احتياجاتهم الأساسية.
والآن، بعد تقاعدهم، يواجهون واقعًا أكثر قتامة. فالعديد من المعلمين المتقاعدين غير قادرين على تحمل تكاليف الضروريات الأساسية، بما في ذلك الغذاء والرعاية الصحية، وخاصة في ظل ارتفاع التضخم وندرة السلع بسبب الحرب، ولا تتناسب حجم الاستقطاعات التراكمية مع القيمة الثابتة للمعاشات المقبوضة بواسطة المستفيدين في النهاية، حتى بعد التعديلات الأخيرة التي أصدرتها وزارة شؤون مجلس الوزراء والقاضية بتحسين معاشات الصندوق الوطني للمعاشات والتأمينات الاجتماعية/ القطاع الحكومي بنسبة بلغت ٣٠٠٪، أي من حوالي سبعة وثلاثين ألف جنيه سوداني للدرجة السابعة عشر، إلى ثمانين ألف جنيه سودان للدرجة الأولى الخاصة، فهي زيادة لن تكون قادرة على كف يد التضخم عن المعاشيين السودانيين الذين يرزحون في بؤس بالغ، حيث يواصل التضخم في السودان الارتفاع بوتيرة متصاعدة حيث ارتفع من ١٣٦.٦٧٪ في بداية العام الحالي إلى ١٩٣.٩٤ ٪ في أغسطس الماضي بحسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء، هذا وتضاعفت أسعار السلع الغذائية وأسعار الدواء بشكل يجعلها بعيدة عن متناول المعلمين والمعاشيين على السواء، ويعاني عدد كبير من المعاشيين في السودان من الأمراض المزمنة مثل ارتفاع ضغط الدم والسكري وغيرها. وفي غياب القدرة على الوصول إلى معاشاتهم التقاعدية، اضطر البعض إلى البحث عن عمل (لقد اختار مديري الأسبق العمل في الرعي لتوفير قوت يومه)، أو الاعتماد على أفراد الأسرة أو الجمعيات الخيرية والمطابخ العمومية للبقاء على قيد الحياة. أما الآخرون، غير القادرين على إيجاد الدعم، فقد أصبحوا بلا عائل تقريباً.
الحقوق القانونية والحربمن حيث المبدأ، يوفر القانون السوداني إطاراً نظريا لحماية المتقاعدين، ومن المفترض أن تضمن صناديق التأمين الاجتماعي والمعاشات التقاعدية، الذي أنشأته الدولة، حصول موظفي الخدمة المدنية على معاشاتهم التقاعدية وغيرها من المزايا دون تأخير. ولكن الحرب، كما أثبتت مراراً وتكراراً، لا تهتم كثيراً بالأطر القانونية.
لقد أدت الفوضى الناجمة عن الحرب إلى حالة لم يعد معها بالإمكان الحصول على الحقوق القانونية. وحتى في الحالات التي توجد فيها قوانين لحماية المتقاعدين، فإن عجز الدولة عن فرض هذه الحقوق في أثناء زمن الحرب جعل العديد من المعلمين السابقين يشعرون بالخيانة وبأنهم ربما لن يحصلوا على أي شيء قريباً. ويجد المعلمون والأساتذة الذين تقاعدوا في أثناء الحرب أنفسهم في منطقة ميتة إدارياً ومالي، أو على الضفة الأخرى من النهر، ولا تزيد الجهود الحكومية للتصدي لهذه المأساة الجماعية عن كونها تطمينات لا أفعال، في وقت سابق، من شهر مارس رد السيد وزير المالية على سؤال عن المعاشات عبر مقابلة مع الجزيرة مباشر بأن “وزارة المالية تقوم بتوريد استحقاقات المعاشيين في حساباتهم البنكية، وأن أي مشكلة بسبب نزوح المستفيد أو توقف الخدمات المصرفية في منطقته، فهذا أمر آخر” وهذا ادعاء يكذبه الواقع حيث وبحلول الشهر الماضي، فإن الخدمات المصرفية متوقفة في عشر ولايات بما فيها الخرطوم والجزيرة وجنوب دارفور، والتي تضم العدد الأكبر من المعاشيين، ولم يتلق المعلمون في هذه الولايات سودانية مرتباتهم منذ بداية هذا العام ناهيك عن المعاشيين.
فضلاً عن ذلك، فإن نظام التقاعد في السودان عانى بالفعل من ضغوط شديدة قبل الحرب. فقد أدت العقوبات الاقتصادية، والتضخم المتسارع، وسنوات طويلة من سوء الإدارة والتخطيط إلى نقص التمويل لنظام الضمان الاجتماعي، بالرغم من الاستقطاعات الضخمة، وتسهيلات الاستثمار الواسعة التي تم ضمانها للقطاع، حيث يعد الجهاز الاستثماري للضمان الاجتماعي أكبر المؤسسات الحكومية التي تملك قاعدة عريضة من الشركات والكيانات الاستثمارية في السودان، ومع اندلاع الحرب، دُمرت تقريباً أي سانحة متبقية لدعم قطاع المتقاعدين.
بالنسبة للمعلمين، من المفترض أن يكون التقاعد وقتًا للتأمل والراحة وحصاد ثمار الإنجاز والتضحية، وربما الانخراط في العمل الفكري والمجتمعي بطرق جديدة، ولكن في السودان، حطمت الحرب هذه الرؤية. فالمعلمون المتقاعدون، وأغلبهم من كبار السن الذين يحتاجون إلى رعاية طبية دائمة، يعيشون اليوم في حالة من عدم اليقين والقلق. والواقع أن الخسائر النفسية الناجمة عن انعدام الأمل هائلة ومفزعة.
ففي ظل غياب الاستقرار المالي الذي توفره معاشات التقاعد ومزايا التقاعد، يواجه المعلمون المتقاعدون ضغوطاً يومية للبقاء على قيد الحياة في بلد مزقته الحرب بالفعل، وبالنسبة لأولئك الذين كرسوا حياتهم لتعليم الآخرين، فإن هذا التجاهل الكريه من جانب الدولة يبدو وكأنه خيانة شخصية ومهنية عميقة.
وعلى الرغم من عجز الحكومة عن توفير هذه الاحتياجات، فقد بذلت منظمات المجتمع المدني والمنظمات الدولية جهوداً للتدخل وتسليط الضوء على هذه الفئة، فقد حاولت جماعات المجتمع المحلي في السودان تقديم الدعم للمعلمين المتقاعدين، كما ركزت بعض المنظمات غير الحكومية الدولية على توفير الضروريات الأساسية للفئات السكانية الضعيفة، بما في ذلك كبار السن. ومع ذلك، فإن هذه الجهود مجزأة وضعيفة، ولا يمكن أن تحل محل الدعم المنهجي الذي يجب على نظام التقاعد الوظيفي أن يوفره، ومع استمرار إعاقة وصول المساعدات الإنسانية إلى السودانيين يجد المعلمين والأساتذة المتقاعدين بشكل خاص أنفسهم عالقين في مأزق جيوسياسي استثنائي، حيث تكافح حتى المساعدات حسنة النية للوصول إليهم.
نداء للاهتماممع استمرار الحرب في السودان، تظل محنة المعلمين المتقاعدين وأساتذة الجامعات جانباً مهملاً إلى حد كبير، لقد أمضى هؤلاء المعلمون حيواتهم في تشكيل عقول الشباب السوداني، ليجدوا أنفسهم مهجورين من قبل النظام الذي خدموه وقدموا له أعمارهم. وفي غياب الاهتمام العاجل بحالتهم، سيستمر جيل من المعلمين في المعاناة في صمت، وستنسى مساهماتهم الجليلة في خدمة الناس وسط الفوضى.
يتعين على الحكومة السودانية والمنظمات الدولية والمجتمع المدني أن يضعوا الأمن المالي ورفاهية المهنيين المتقاعدين على رأس أولوياتهم. لقد كان المعلمون والأساتذة ركائز أساسية للتنمية الفكرية والاجتماعية في السودان، وسوف تعكس معاملتهم في التقاعد القيم التي ظلوا يجسدونها طوال فترات عملهم حينها ربما يتسنى لوالدي أن يجلس تحت (الخيمة) يستقبل تحيات تلاميذه العابرين، دون أن ينصرف تفكيره إلى كيفية تدبير فاتورة الفحص الطبي الأسبوعي.
الوسومعبد الله قريضةالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: من المعلمین فی السودان العدید من بما فی
إقرأ أيضاً:
هل يتكرر السيناريو الليبي الكارثي في السودان؟
بينما يمضي السودان في حربه الطاحنة، تظهر تطورات تنذر بتجاوز حالة الاحتراب التقليدي إلى ما هو أخطر: تقسيم فعلي للدولة وظيفيا (functional partition).
إعلان مجموعة (تأسيس) عن تشكيل حكومة موازية، والتصعيد العسكري الكثيف في مدينة نيالا وحول الفاشر، بالتزامن مع لقاء كان مرتقبا جرى إلغاؤه للرباعية الدولية في واشنطن، يضعان المشهد السوداني في تقاطع طرق حاسم: فإما المضي في مسار السلام وفق خارطة الرباعية الحالمة، أو الانزلاق نحو نسخة سودانية من التجربة الليبية، بكل ما تحمله من فوضى وصراع مزمن وشرعية منقسمة، أو هكذا يُراد.
ما يجري ليس مجرد تمرد وحرب مفروضة بين مكونات عسكرية وسياسية، بل هو صراع جذري على شكل الدولة السودانية، وحدودها السياسية والاجتماعية، ومن يحكمها، ومن يملك قرارها السيادي.
والمؤشرات المتزايدة على نية المليشيا وما أعلنته من خارطة جديدة للسودان تشي بترسيخ سلطتها في إقليم دارفور ومحيطه، عبر أدوات مدنية ظاهرها "تحالف مدني"، وباطنها "سلطة أمر واقع"، تُنذر بمرحلة جديدة أكثر تعقيدا وخطورة، قد تُدخل السودان في نفق النموذج الليبي طويل الأمد.
الحكومة الموازية: شرعنة التمرد وتقنين الانقسامفي خضم الانهيار المؤسسي الشامل، خرجت قوات المليشيا بالإعلان عما أسمته "تحالفا مدنيا انتقاليا"، في محاولة مكشوفة لخلق غطاء سياسي لسيطرتها على غرب السودان كخطوة أولى للضغط.
هذا التحالف، الذي رُوّج له إعلاميا كبديل مدني علماني، لا يخفي حقيقة كونه واجهة سياسية لسلطة مليشياوية تفرض حكمها على الأرض بقوة السلاح والدعم الخارجي العابر للحدود، خصوصا من الراعي الإقليمي.
إنها ليست خطوة معزولة، بل تتسق مع إستراتيجية طويلة المدى تهدف إلى خلق "إقليم مستقل فعليا"، يستخدم لاحقا كورقة تفاوض أو نقطة انطلاق لمشروع سياسي أكبر.
ومن هنا، فإن إعلان الحكومة الموازية يجب أن يُقرأ باعتباره أول تجلٍ علني لخيار التقسيم السياسي بأبعاده المعلومة، في سياق متطورات الحرب وفشل مشروع التمرد.
التصعيد في نيالا: السيطرة قبل الاعتراففي موازاة هذا التحرك السياسي، تخوض قوات التمرد معارك ضارية في مدينة نيالا، عاصمة جنوب دارفور، في مسعى لتأمين سيطرتها الكاملة على الإقليم الغربي.
إعلانفنيالا ليست مدينة عادية، بل تُعد مركز الثقل الإداري والعسكري في دارفور، وأي سيطرة عليها تُعد بمثابة إعلان غير مباشر لقيام "سلطة إقليمية بديلة".
التصعيد هنا يتجاوز الأهداف العسكرية إلى أهداف سياسية عميقة: فرض واقع جديد بالقوة قبل أن تبدأ أية تسوية دولية، وجعل المليشيا في موقع تفاوضي أقوى، إن لم يكن موازيا للحكومة المعترف بها دوليا في البلاد، والتي تتخذ بورتسودان عاصمة مؤقتة وتجري ترتيبات العودة إلى الخرطوم.
واشنطن والرباعية: هل تُدرك اللحظة؟في ظل هذه التطورات الميدانية الخطيرة، ظلت الأنظار تتجه إلى لقاء الرباعية الدولية في واشنطن نهاية يوليو/ تموز المنصرم، لكنه أُرجئ. تأتي هذه الخطوة بعد فشل مساري جدة، وأديس أبابا، ومجمل المحاولات السابقة في جنيف، والقاهرة، ولندن في تحقيق اختراق حقيقي.
لكن السؤال الملحّ: هل يمكن لأي لقاء كهذا أن يتجاوز مرحلة "إدارة الأزمة" إلى "حل الأزمة"؟ أم إنه مجرد محطة جديدة في مسلسل التكتيكات والبيانات والتوصيات التي لا تغير شيئا في الواقع؟
المقلق أن الرباعية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لم تُبدِ حتى الآن إرادة قوية للجم دعم الراعي الإقليمي الواضح لقوات التمرد، ولا لممارسة ضغط فعلي لوقف الحرب وتفكيك المنصات السياسية الموازية.
ويبدو أن الفاعلين الدوليين يكتفون بردود فعل متأخرة على أحداث سبقتهم بأشواط، مما يعزز الانطباع بأن السودان يُترك لمصيره وقدره بازدواجية معايير متعمدة في صفقات السلام التي تجري في المنطقة، وخلط الأوراق والمطامع.
بين الخرطوم وطرابلس: هل نحن أمام نسخة سودانية من ليبيا؟في ضوء ما سبق، تفرض المقارنة مع ليبيا نفسها بقوة. فقد شهدت ليبيا بعد سقوط القذافي انقساما حادا بين سلطتين، واحدة في الغرب والثانية في الشرق، تدعمهما قوى خارجية متباينة.
واليوم، يُراد من وراء الإعلان أن يسير السودان على خطى مشابهة، مع بعض أوجه الشبه والاختلاف.
من حيث الشبه:
كلا البلدين يشهدان سلطتين متنافستين: واحدة تحظى بشرعية دولية كاملة، وأخرى تسعى لفرض سلطتها بالأمر الواقع. كلاهما يعاني من تدخلات خارجية متناقضة، تدعم أطرافا متنازعة وتزيد من تعقيد المشهد. انهيار مؤسسات الدولة، وتفشي اقتصاد الحرب، وتحول الصراع إلى حالة مزمنة، كلها قواسم مشتركة بين النموذجين.لكن السودان يتميز بعوامل تزيد من تعقيد وضعه، وتجعل من خطر الانزلاق أشد وطأة بحكم الاستهداف المستمر:
البنية القبلية والاجتماعية في السودان أكثر تداخلا وتشابكا، ما يجعل أي محاولة للتقسيم محفوفة بصراعات دموية طويلة الأمد. الجيش السوداني لا يزال يتمتع بامتداد شعبي وتاريخي وسند أوسع من نظيره الليبي بعد الثورة، وهو ما يُبقي على إمكانية وحدة الدولة، إن أُحسن توجيه هذا الثقل وقدرته على استكمال النصر ودحر التمرد. الجوار الجغرافي للسودان أكثر هشاشة، بحدود مفتوحة مع سبع دول، مما يُعقّد المشهد الأمني ويُغري قوى إقليمية بالتدخل أو الاستفادة من حالة الهشاشة والفراغ.هذه الخصائص تجعل من التجربة السودانية مرشحة لأن تكون نسخة أكثر فوضوية وتعقيدا من الحالة الليبية، إذا لم يتم تدخل الدولة بحزم لإيقاف هذا المسار، الذي يرمي إلى إعادة سردية (الطرفانية) والشرعية للمشهد لأجل فتح آلية إعادة (تأسيس) إلى كراسي الحكم.
إعلانوالضغوط الدولية التي تتكثف، سواء ما اتصل بلجنة تقصي الحقائق التابعة لمجلس حقوق الإنسان، أو اجتماعات واشنطن الملغاة، أو الجنائية، كلها حلقات لأجل غاية واحدة، أريد لها أن تتزامن مع إعلان المليشيا (لحكومتها الافتراضية).
الفرصة تضيق.. والكارثة تقتربالسودان اليوم يمر بمرحلة هي الأخطر في تاريخه الحديث، ليس فقط بسبب شدة الحرب، بل لأن ملامح الدولة ذاتها باتت على المحك.
المقصد من ورائها أن تتحرك القوى الإقليمية والدولية سريعا نحو تسوية سلمية شاملة يراد فرضها لتُنهي الحرب وتعيد بناء الدولة على أسس مدنية وديمقراطية جامعة في صيغة اتفاق (إطاري جديد)، أو أن يستمر الضغط الخارجي ويُترك السودان لينزلق إلى هاوية الانقسام والتشظي، كما حدث في ليبيا، وربما بشكل أكثر دموية وتعقيدا لتباين الأوضاع بين البلدين.
إن تشكيل حكومتين، أو هكذا رمت الخطوة، وتحول العاصمة إلى مدينة منكوبة، وغياب أي أفق واضح للسلام رغم اكتمال الجهاز المدني الجديد من بورتسودان، كلها مؤشرات على أن الوقت لم يعد في صالح الحلول التدريجية أو المناورات السياسية، وقوى نافذة في المنطقة تقف وراء المخطط في سياق الخطط البديلة بعد أن فشل التمرد في تحقيق أهداف الحرب.
فكل يوم يمر دون بلوغ التسوية الوطنية بإرادة داخلية تنشدها القوى المسندة للجيش، يُقرب السودان خطوة أخرى من نموذج دولة فاشلة متعددة الرؤوس التي يسعى خصومه لتجسيدها، ويراد لها أن تكون بلا مركز ولا مستقبل، أو استمرار حالة الهشاشة والانقسام واستدامة الحرب. فهل من معتبر؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline