في قلب الصحراء، حيث تلتقي الرمال مع الصخور، يتوارى العقرب، أحد أكثر الكائنات غموضا وفزعا، والذي يخفي في ذيلة سما قاتلا، قد يحمل في طياته آمالا جديدة للعلاج الطبي أو حتى التوظيف لأغراض صناعية.

وتبدأ خطوات تحويل تلك النقمة إلى نعمة، بفهم أسرار تلك السموم واختلاف تركيبتها، وفق نوع العقرب، وهو ما سعى له فريق بحثي مغربي فرنسي، حيث نجحوا  خلال دراسة نشرتها دورية " جورنال أوف بروتيوميكس"، في التعرف على نوع العقارب المغربية باستخدام "بصمة السم"، وهو ما يعد تقدما في مجال التصنيف العلمي لهذه الكائنات.

ولفهم ما فعله الباحثون، تخيل أنك تحاول التعرف على أنواع مختلفة من الطيور بناء على نغماتها، فقد تكون بعض النغمات متشابهة بين الأنواع، لكن إذا كنت تستخدم جهازا متقدما لتسجيل النغمات وتحليلها، فستلاحظ أن كل نوع له نغمة فريدة خاصة به، وباستخدام هذه المعلومات، يمكنك بناء نظام حاسوبي يتعرف على الطيور بناء على هذه النغمات، حتى لو كانت الأنواع متشابهة جدا.

وبنفس الطريقة، قام الباحثون باستخدام تقنية " التحليل الطيفي بالليزر" لتحليل السموم التي تعتبر "البصمة الفريدة" لكل نوع عقرب، وهذه الطريقة سمحت لهم ببناء مكتبة تحتوي على بصمات جزيئية مميزة لكل نوع، واستخدامها للتعرف بسرعة على العقارب الجديدة من خلال مقارنة بصمة سمّها مع المكتبة.

في قلب الصحراء المغربية يتوارى العقرب، أحد أكثر الكائنات غموضا وفزعا (بيكسابي) البداية بجمع العينات

ويحتضن المغرب أكثر من 60 نوعا من العقارب، ولكل منها سماته الخاصة، سواء في السلوك أو التركيب السمي، وهذه الأنواع لا تنتشر على نطاق واحد، بل تتنوع بين البيئات الصحراوية، المناطق شبه الجافة، والجبال، مما يخلق تحديات متعددة بالنسبة للباحثين الراغبين في تصنيف العقارب أو دراسة سمومها.

وفي إطار هذه الدراسة،  أطلق الفريق البحثي حملة شاملة لجمع عينات من العقارب من مختلف أنحاء المغرب، مع التركيز على الأنواع المستوطنة والمميزة التي تحتوي سموما شديدة السمية.

وبدأ الفريق في جمع العينات من 22 موقعا مختلفا في 7 مناطق جغرافية متنوعة من المغرب، وهو ما سمح لهم بتغطية مجموعة واسعة من البيئات، من الصحارى إلى المناطق شبه الجافة وصولا إلى الجبال.

ويقول الباحث بمختبر البيوتكنولوجيا وتثمين الموارد الطبيعية بكلية العلوم جامعة ابن زهر بمدينة أكادير المغربية، والباحث الرئيسي بالدراسة،  د.مولاي عبد المنعم الحيدان في تصريحات خاصة للجزيرة نت: "كان استخدام الضوء فوق البنفسجي حلا عبقريا لاصطياد العقارب في الظلام"، فعلى الرغم من التحديات التي تطرحها بيئات العقارب، إلا أن التكنولوجيا الحديثة لعبت دورا محوريا في تسهيل عملية جمع العينات.

وباستخدام مصابيح الأشعة فوق البنفسجية  التي تجعل العقارب تتوهج في الظلام، تمكّن الفريق من تحديد موقعها بدقة، خاصة في الليل عندما تكون أكثر نشاطا.

ويوضح أن "جمع العينات كان عملية دقيقة تخضع لعدد من المعايير العلمية، و الهدف الأساسي هو الحصول على عينات تمثل التنوع البيولوجي الكامل للعقارب في المغرب، ولم يكن التركيز فقط على الأنواع الشائعة، بل كان الأمر يشمل أيضا الأنواع النادرة أو المستوطنة، وهي التي تتمتع بسمية عالية وتعتبر محل اهتمام علمي خاص".

يحتضن المغرب أكثر من 60 نوعا من العقارب، لكل منها تركيبته السمية الخاصة (الفرنسية) التحليل الطيفي بالليزر

وبعد جمع العينات من العقارب، كانت المرحلة التالية هي استخدام تقنيات تحليلية متطورة لفهم تركيب سموم هذه الكائنات التي تعيش في بيئات مختلفة، فالعقارب تنتشر في مناطق بيئية متنوعة، مما يجعل السموم التي تنتجها تختلف من نوع إلى آخر، ومن هنا نشأت الحاجة لتطوير نموذج حاسوبي يمكنه دمج جميع هذه المعطيات وتحليلها بدقة لتصنيف العقارب بشكل علمي.

ومكنت التقنية المتقدمة للتحليل الطيفي باستخدام الليزر الباحثين من استخراج وتحليل سموم العقارب بشكل فعال ودقيق. وتتيح تلك التقنية استخدام الليزر لاستخراج الجزيئات من العينة (في هذه الحالة سم العقرب)، ثم تحليل هذه الجزيئات باستخدام جهاز يسمى "جهاز التحليل الطيفي الكتلي".

وعند تطبيق هذه التقنية على سم العقرب، يقوم الليزر بتفتيت السم إلى جزيئات صغيرة جدا، وبعد ذلك، يتم قياس الكتل الجزيئية لهذه الجزيئات باستخدام جهاز التحليل الطيفي، و تكون النتيجة هي "طيف الكتل الجزيئية"، وهو نوع من "البصمة" الكيميائية التي يمكن أن تشير إلى تكوين السم.

ويحتوي طيف الكتل الجزيئية على العديد من القمم (أو النقاط) التي تمثل جزيئات ذات أحجام مختلفة، ويمكن من خلال دراسة هذه القمم معرفة التركيبة الدقيقة للسم، وهذه التركيبة قد تحتوي على مواد سامة مختلفة، مثل البروتينات أو الجزيئات الأخرى التي تساهم في تأثير السم.

ومن خلال هذا التحليل، يمكن مقارنة طيف الكتل الجزيئية بين الأنواع المختلفة من العقارب ومعرفة الاختلافات في سمومها، على سبيل المثال، قد يكون لدى عقرب صحراوي سم يحتوي على مركبات سامة مختلفة، مقارنة بعقرب يعيش في مناطق جبلية، وبالتالي يساعد هذا التحليل في تحديد الفرق بين سموم الأنواع المختلفة.

الفريق البحثي جمع عينات من 22 موقعا مختلفا في 7 مناطق جغرافية متنوعة من المغرب (شترستوك) توظيف الخوارزميات الجينية

بعد جمع البيانات وتحليلها باستخدام "التحليل الطيفي بالليزر"، جاء دور معالجة هذه البيانات بواسطة الخوارزميات الجينية، وهي نوع من تقنيات الذكاء الاصطناعي، التي تستخدم فكرة مستوحاة من التطور البيولوجي.

وفي الطبيعة، تتكيف الكائنات الحية مع بيئاتها بمرور الوقت، وعلى نفس المنوال، فإن الخوارزميات الجينية "تتعلم" من البيانات التي تتلقاها وتبحث عن أنماط معينة أو "توقيعات جزيئية" تميز كل نوع من العقارب، وبمعنى آخر، مثلما تتغير الكائنات الحية لتناسب بيئاتها، فإن الخوارزميات تتعلم من البيانات لتحسين أدائها.

وعند إدخال بيانات السموم التي تم جمعها باستخدام تقنية التحليل الطيفي بالليزر في برنامج يسمى " كلين برو تولز"، والذي يقوم باستخدام الخوارزميات الجينية للبحث عن هذه التوقيعات الجزيئية المميزة لكل نوع من العقارب، ويعني هذا أن البرنامج يستطيع تحديد السم بدقة بناء على هذه "التوقيعات" الجزيئية، مما يساعد العلماء على فهم نوع السم وأثره.

وكما يوضح الدكتور الحيدان "الهدف لم يكن فقط تصنيف العقارب إلى أنواع، بل كان الهدف الأكبر هو تطوير نموذج حسابي يمكنه التنبؤ بتركيب السم بناء على العوامل البيئية المختلفة مثل المناخ أو النظام البيئي الذي تعيش فيه العقارب، وبالتالي، هذا النموذج يساعد العلماء في فهم كيف تؤثر البيئة في تركيب السم وخصائصه".

تقييم دقة النموذج الحسابي

ولعب التنوع البيولوجي دورا رئيسيا في تحسين دقة هذا النموذج الحسابي المستخدم لفهم سموم هذه الكائنات، إذ يتمتع المغرب بتنوع بيئي هائل، حيث يضم أكثر من 60 نوعًا من العقارب، وهو ما يمثل تحديا كبيرا عند محاولة فهم سموم هذه الأنواع المتعددة.

ويقول الحيدان "أجرينا دراستنا على 15 نوعا فقط من العقارب، وهو ما يمثل نحو 25% من تنوع العقارب في المغرب، و هذه العينة الواسعة مكنتنا من بناء نموذج حسابي دقيق يعكس التباين البيئي والسمّي بين الأنواع المختلفة،  فقد شملت الدراسة مناطق بيئية متنوعة مثل الصحاري والمناطق شبه الجافة والمناطق الجبلية، وكل منها يترك تأثيرا خاصا على حياة العقارب وسمومها".

ولم تقتصر دقة النموذج الحسابي على تصميمه فقط، بل شملت أيضا طريقة تقييمه والتحقق من مصداقيته.

واستخدم الباحثون التحقق الخارجي كأداة لضمان أن النتائج التي تم الحصول عليها دقيقة وموثوقة، وهذا التحقق يتم من خلال اختبار النموذج باستخدام بيانات جديدة لم تستخدم في مرحلة تدريب الخوارزمية، والهدف هو التأكد من أن النموذج قادر على التنبؤ بدقة باستخدام بيانات لم يكن قد تعرض لها من قبل.

ويتم تقييم دقة النموذج عبر عدة مقاييس علمية، مثل الحساسية (أي قدرة النموذج على اكتشاف العقارب من الأنواع الصحيحة) والخصوصية (أي قدرته على تحديد العقارب التي لا تنتمي إلى النوع الصحيح)، بالإضافة إلى حساب معدل الخطأ الإيجابي ومعدل الخطأ السلبي.

في هذا السياق، يقول الدكتور الحيدان "من المهم اختبار النموذج باستخدام بيانات خارجية لأن ذلك يوفر تأكيدا إضافيا على مصداقية النتائج، وهذا يضمن أن التصنيف الذي قام به النموذج يعكس الواقع البيئي بشكل حقيقي".

وبعد النجاح في بناء نموذج حسابي دقيق لتصنيف العقارب، يخطط الدكتور الحيدان وفريقه للخطوات المستقبلية، والتي تشمل توسيع الدراسة لتشمل أنواعا أخرى من العقارب في المغرب وربما في دول أخرى.

ويضيف "نحن نخطط لإثراء مكتبتنا من النماذج الجزيئية وتوسيع قاعدة البيانات لتشمل المزيد من الأنواع، وبالطبع، ستكون الدراسة على الأنواع الأجنبية خطوة مهمة في المستقبل".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات من العقارب بناء على من خلال وهو ما نوع من

إقرأ أيضاً:

دراسة في أكسفورد تحذر: آلاف الحيوانات مهددة بالانقراض نتيجة الحرارة وتوسع الأنشطة البشرية

تؤكد نتائج الدراسة على أن التغيرات البيئية المستقبلية قد تعيد تشكيل التنوع البيولوجي العالمي بشكل كبير، ما يجعل من الضروري تحديد هذه التهديدات المتفاعلة والعمل على التخفيف من آثارها من خلال سياسات حماية وتخطيط بيئي استباقي.

كشفت دراسة دولية حديثة بقيادة الدكتورة ريوت فاردي من كلية الجغرافيا والبيئة بجامعة أكسفورد أن نحو 8,000 نوع حيواني قد يقترب من خطر الانقراض قبل نهاية القرن الحالي، نتيجة التفاعل بين الحرارة الشديدة الناتجة عن تغيّر المناخ وتوسع الأنشطة البشرية في استخدام الأراضي.

وأوضحت الدراسة أن التفاعل بين هذه العوامل يفاقم تدهور بيئات هذه الأنواع، ما يجعلها غير صالحة للعيش ويعرض وجودها لخطر الانقراض على الصعيد العالمي.

تقييم شامل للأنواع الفقارية

الدراسة، التي تحمل عنوان "تأثيرات أحداث الحرارة الشديدة المستقبلية وتغير استخدام الأراضي على الفقاريات الأرضية" قامت بتحليل نحو 30,000 نوع من البرمائيات والطيور والثدييات والزواحف.

ركزت الدراسة على دراسة تأثير موجات الحرارة الشديدة المستقبلية والتغيرات المحتملة في استخدام الأراضي على هذه الأنواع من الحيوانات، داخل مواطنها المفضلة وحدود تحملها للحرارة، بهدف تقديم صورة دقيقة للمخاطر التي قد تواجهها في المستقبل.

Related لغز الانقراض العظيم: كيف أدى موت النباتات إلى احتباس حراري أبدي؟باحثون يحذرون: أحد أكثر الأنواع المهددة بالانقراض عالميا يؤكل حتى الاندثارلندن تحيي اليوم العالمي للأسود الآسيوية: دعوة عالمية لتعزيز حمايتها من الانقراض أهمية دراسة التهديدات المترابطة

وقالت الدكتورة ريوت فاردي: "تسلط أبحاثنا الضوء على أهمية دراسة التأثيرات المحتملة لتهديدات متعددة معاً للحصول على تقدير أفضل لمدى تأثيرها، كما تؤكد على الحاجة الملحة لاتخاذ إجراءات حماية وتخفيف على مستوى العالم لمنع خسائر جسيمة في التنوع البيولوجي."

وبحلول عام 2100، من المتوقع أن يواجه نحو 7,895 نوعاً من الحيوانات موجات حرارة شديدة أو تغييرات غير مناسبة في استخدام الأراضي، أو كلا العاملين معاً، داخل جميع مناطق انتشارها. وتعد هذه الظروف خطيرة، إذ قد تعرض هذه الأنواع لخطر الانقراض على الصعيد العالمي.

وأوضحت الدراسة أن النتائج تختلف باختلاف السيناريوهات المستقبلية: ففي السيناريو الأكثر شدة، قد تواجه الأنواع ظروفاً غير مناسبة في أكثر من نصف مناطق انتشارها (52% في المتوسط). أما في السيناريو الأكثر تفاؤلًا، فستظل الأنواع معرضة لظروف غير مناسبة بسبب الجمع بين الحرارة الشديدة وتغير استخدام الأراضي في حوالي 10% من مناطق انتشارها.

وتُظهر الدراسة أن التأثيرات المشتركة لتغيّر المناخ واستخدام الأراضي ستكون حادة بشكل خاص في مناطق مثل الساحل، والشرق الأوسط، والبرازيل، حيث تتقاطع الحرارة الشديدة مع توسع النشاط البشري بشكل ملحوظ.

الأنواع الأكثر عرضة للخطر

تشير الدراسة إلى أنه حتى في السيناريوهين الأكثر تفاؤلاً، سيواجه أكثر من نصف أنواع الحيوانات التالية ظروفاً بيئية غير مناسبة في ما لا يقل عن نصف نطاق توزيعها:

الأنواع التي بياناتها غير كافية: وتشمل حوالي 77% من هذه الأنواع، وهي الأنواع التي لا تتوفر عنها معلومات كافية لتحديد مدى تهديدها بالانقراض، بسبب نقص الدراسات حول أعدادها أو مواطنها أو تأثير التغيرات البيئية عليها.

الأنواع القريبة من التهديد: أي حوالي 50% من هذه الأنواع، وهي التي قد تصبح مهددة بالانقراض إذا استمرت الضغوط البيئية الحالية أو الجديدة.

الأنواع المهددة بالانقراض "ضعيفة، مهددة، وحرجة": وتشمل نحو 60% من هذه الأنواع، وهي التي تواجه خطر الانقراض الفعلي إذا لم تتخذ إجراءات حماية عاجلة.

وتبرز هذه الأرقام مدى خطورة التهديدات المترابطة الناتجة عن الحرارة الشديدة وتغير استخدام الأراضي على التنوع البيولوجي العالمي، بما في ذلك حتى الأنواع التي لم يتم تقييم وضعها بعد بدقة.

تؤكد نتائج الدراسة على أن التغيرات البيئية المستقبلية قد تعيد تشكيل التنوع البيولوجي العالمي بشكل كبير، ما يجعل من الضروري تحديد هذه التهديدات المتفاعلة والعمل على التخفيف من آثارها من خلال سياسات حماية وتخطيط بيئي استباقي.

انتقل إلى اختصارات الوصول شارك محادثة

مقالات مشابهة

  • أمين شُعبة المُصدِّرين: شراكة مصرية هولندية جديدة في التصنيع الزراعي
  • دراسة: شبه الجزيرة الإيبيرية تتحرّك في اتجاه عقارب الساعة بفعل تصادم الصفائح التكتونية
  • شكرا للفريقين علي المتعة التي قدماها المستكاوي يشيد بمباراة المغرب وسوريا
  • ما الدول التي يفضل «ترامب» استقبال المهاجرين منها؟
  • شعبة المُصدِّرين: شراكة «مصرية - هولندية» جديدة في التصنيع الزراعي
  • ترامب يكشف عن الدول التي يفضل استقبال المهاجرين منها
  • توقيف مجرمين محترفين وضبط 30.000 من الحيوانات الحية ضمن حملة على الاتجار بالحياة البرية
  • أحدث أخبار التكنولوجيا.. آبل تعلن نهاية عصر تقنية شهيرة في هواتف آيفون 18 فما هي؟ وبميزات ثورية وقدرة شحن جبارة إليك أفضل جهاز لوحي
  • دراسة في أكسفورد تحذر: آلاف الحيوانات مهددة بالانقراض نتيجة الحرارة وتوسع الأنشطة البشرية
  • بميزات ثورية وقدرة شحن جبارة.. مواصفات جهاز OnePlus Pad Go 2 الجديد