فى أحدث رواياتها «الغواص.. أبوحامد الغزالى»، تستعرض الدكتورة ريم بسيونى، سيرة ومسرداً ورؤية لحياة الإمام أبوحامد الغزالى، الملقب بحجة الإسلام، أحد أعلام عصره، وأحد علماء وفلاسفة المسلمين فى القرن الخامس الهجرى، وأحد أهم مفكرى العالم، ومن أكثر علماء المسلمين تأثيراً على الإطلاق، سواء فى الغرب أو الشرق، وأكثر مفكر تمت الكتابة عنه فى كل العالم حتى بعد موته بأكثر من ألف عام، وتُرجم الكثير من أعماله لكل لغات العالم.

كُتبه فى الفقه الشافعى وعلم الكلام تُدرَّس كمرجع أساسى فى مدارس الشافعية وأسس لفكر صوفى منظم وشامل

ترصد «بسيونى» عدداً من الظروف التى كتب فيها مؤلفاته متنوعة المشارب، وتقول: «كتبه فى الفقه الشافعى وعلم الكلام تُدرَّس كمرجع أساسى فى مدارس الشافعية، وكتبه عن الصوفية أسست لفكر صوفى منظم وشامل وأثرت فى كل علماء الصوفية من بعده».

كتابه «المنقذ من الضلال» أثر على الفيلسوف ديكارت الذى كتب عن رحلة مشابهة جداً

ويعد كتاب «المنقذ من الضلال»، من أشهر كتب السير الذاتية فى العالم، ورحلته من الشك إلى اليقين التى كتب عنها فى «المنقذ من الضلال»، فى الغالب أثرت على الفيلسوف ديكارت الذى كتب عن رحلة مشابهة جداً، مع أن «ديكارت» ولد بعد «الغزالى» بنحو 530 عاماً فى فرنسا، فيما يعد كتابه «إحياء علوم الدين» من أهم كتب الفكر الإسلامى، ومن أكثر كتب «الأخلاق» و«الصوفية» تأثيراً فى العالم، وحاول «الغزالى» فى كتاباته أن ينقذ الأمة من التيه والغرق، ووضع على عاتقه تكليفاً بتبديد الحيرة وتصفية النفوس.

حفظ كتاب «الأم» للشافعى عن ظهر قلب كأنما يملك فى صدره مكتبة بغداد

تقع الرواية، الصادرة عن دار نهضة مصر، فى نحو 500 صفحة، وتقع فى سبعة أبواب، مقسمة إلى 21 فصلاً، وتحمل عناوين الأبواب على التوالى: «الرحيل، أصفهان، بغداد الفراق، الحال، العودة، الغواص..».

المدارس النظامية وفرت له ولشقيقه بيتاً وطعاماً.. والعلم أنقذه من الضياع فى شوارع «طوس»

وتتناول الرواية مسيرة «الغزالى» منذ ولادته فى «طوس» فى بلاد فارس، وصولاً إلى توليه إمامة بغداد، وما واجهه من تساؤلات وتحديات طورت من فكره، ثم تخليه عن منصب الإمامة بما لها من مكانة رفيعة، كما تتعرض إلى مواقفه من الفكر الفلسفى والرؤى الصوفية، كما تتعرض لحياته الشخصية وعلاقته بشقيقه «أحمد»، كما تتضمن الرواية جانباً تخييلياً لحياته الخاصة وعلاقته بزوجته.

تولى إمامة بغداد فى سن الثالثة والثلاثين بدعم من الوزير «نظام الملك» فى عام 1090م.. وتخلى عنها وتعرض لحرب شعواء من أعداء النجاح والحُسَّاد طوال مسيرته

تسوق المؤلفة فى أول الرواية «قصة حقيقية» عن تفسيرها لمخطوطة «الأسد والغواص»، التى تم تداولها من مكتبة الإسكندرية عام 1977، والتى ترجع إلى أوائل القرن السادس الهجرى، الثانى عشر الميلادى، وتجد المؤلفة رابطاً بين مؤلف المخطوطة و«الغزالى» نفسه، وتجيب عن الأسئلة، وترجح أن بطل مخطوطة «الأسد والغواص» يحاكى «الغزالى» فى شخصيته ومصيره: «أرجح أن كاتب مخطوطة الأسد والغواص امرأة قريبة من الغزالى، تعرف عنه ما يجعل القارئ يربط بين البطل الغواص والغزالى».

تنطلق الرواية من مرحلة فى حياة «الغزالى»، المولود فى 1057م، وهو لم يكمل العشرين من عمره بعد، وتروى قصة الرحيل ومتاعب الطريق برفقة شقيقه «أحمد»، من «طوس» إلى «نيسابور» فى عام 1071م، ويتناول هذا الفصل وقائع الرحلة وصعوباتها، وعلاقة الشقيقين اليتيمين آنذاك، ومحاولة قُطّاع الطريق الاستحواذ على أوراق «الغزالى»، وهذه الأوراق التى بدأ «الغزالى» كتابتها منذ السابعة من عمره، وأنقذها من اللصوص وافتداها بنفسه: «بعد أيام من الوصول إلى نيسابور كان محمد قد حفظ كل كراساته عن ظهر قلب وزاد عليها خمسة عشر ألف ورقة».

تتبع الرواية التحاق «الغزالى» بالمدرسة النظامية، وموقفه من العلوم التى بدأ يتلقاها فى «نيسابور»: «جلس فى درسه يستمع إلى الإمام الجوينى؛ يجيب عن أسئلته، ويساعد الطلاب على الفهم، ينطلق لسانه باليقين وقلبه بالشك، كل شىء وهم! كل شىء! حتى زبد البحر يخدع العقل فيظنه شاطئاً ونجاة، لم يعد النوم سهلاً، وأصبح ترديد الدروس التى لم يعد يقنع بها أصعب من النوم»، وترصد المرحلة بداياته مع الشك: «اختلطت عليه العلوم حتى وهو فى هذه السن».

نبوغ «الغزالى» كان ملحوظاً لأستاذه ولزملائه: «عندما سألوا الإمام الجوينى عن طالبه النابغة محمد، قال إنه بحر مغدق، أو بحر مغرق، لم يتأكد أحد، هذا طالب غير كل الطلاب، يلتقط الكلمة قبل أن تخرج، حفظ كتاب (الأم) للشافعى عن ظهر قلب كأنما يملك فى صدره مكتبة بغداد»، وبدأ «الغزالى» رحلته الفكرية فى هذه المرحلة بتساؤلات: «أين الحقيقة؟ وأين تكمن: فى كتب الفقه أم الكلام، أم فى آراء المعتزلة أم الملحدين، أم فى كتب الفلاسفة الحشوية؟ هل وصل لها الشيعة والباطنية؟ وهل هناك حقيقة نصبو إليها أصلاً؟ ما جدوى الموت؟ وما متعة الحياة؟»، حتى إنه يسأل عن جدوى الالتحاق بالمدرسة النظامية التى أنشأها الوزير الأعظم «نظام الملك»، فلم يكن العلم سوى الخيار الوحيد له ولشقيقه لإنقاذهما من الضياع بعد رحيل أبويهما «لا يملك الخيار، إما أن يموت جوعاً، وإما أن يلجأ إلى مدارس النظامية»، كانت المدرسة توفر له ولشقيقه بيتاً وطعاماً «العلم ينقذه من الضياع فى شوارع طوس هو وأحمد».

فى محاولات للوصول إلى الحقيقة، ودراسته لمختلف العلوم، كانت عذابات الشك تُشقى عقل الشاب يوماً بعد يوم، كان يرى أن الحقيقة مرتبطة باليقين، وكل العلوم لديه فى هذه المرحلة بلا يقين، حتى المنطق والرياضيات لا تكفى لتشرح هذا العالم وكل تغيراته، هو الخيال ما يؤرقه، خداع الحواس لا شىء بالنسبة لخداع العقل، وتقتبس من قوله: «كل علم لا نتيقنه، فهو علم لا ثقة به ولا أمان معه، فمقياس اليقين إذن هو الأمان، ومعنى الأمان الثقة»، ولم يكن لدى «الغزالى» فى هذه المرحلة المبكرة لا ثقة ولا أمان.

بدأ حياته بالشك فى كل ما حوله.. وكلما زاد الإطراء على ذكائه وعبقريته هوى اليقين

وهناك فى «نيسابور» طالت هذه المرحلة مع «الغزالى»: «مزقت الذئاب عقل محمد يوماً وراء يوم، كلما أدرك ما لا يدركه غيره شك فى عقله، وكلما زاد الإطراء على ذكائه وعبقريته هوى اليقين واستقر فى أعماق البحر بلا أمل فى نجاة»، ومن كلمات «الغزالى» نفسه المعبرة عن حاله فى هذه الفترة: «يارب، أعطنى الثقة فى عقلى قبل أن أصاب بالجنون».

تتعرض الرواية إلى ما التقاه «الغزالى» فى حياته مع أعداء النجاح والحُسَّاد فى مسيرته، ومع ذيوع صيته فى هذه المرحلة المبكرة، يبدأ أحد طلاب المدرسة «منصور»، وأحد الأساتذة «الشيخ المسمارى»، أحد أساتذة المدرسة، الكيد له، ولم يتمكنا من النيل منه، وهاتان الشخصيتان تستمران على مدار الرواية فى الظهور فى حياة «الغزالى»، ويتصاعد الحسد والحقد من جانبهما عليه لدرجة تصل إلى تبييت النية لقتله فى أواخر مراحل حياته، لكن «الغزالى» منشغل فى المدرسة بدراسة علوم الدين وسبر أغوار نفوس تلهث وراء الطغيان: «ساعة يحفظ درساً، وساعة يشهد على قسوة الشباب ونفورهم من رقة القلوب وصفائها»، وفى هذه الفترة وتقديراً لنبوغه فقد اختاره الإمام الجوينى، أستاذه، لإعادة شرح الدروس على الطلاب زملائه.

تتصاعد الأحداث فى الرواية عن رأى «الغزالى» فى المدرسة النظامية، كما ترصد ملامح علاقته الوثيقة بشقيقه «أحمد»، وبعد عام من الدراسة فى «نيسابور»، يكون «الغزالى» على موعد مع اللقاء المنتظر مع الوزير الأعظم صاحب المدرسة «نظام الملك»، الذى أنقذ السنة والمذهب الشافعى بالذات، وترصد المؤلفة محاورات دارت بين «نظام الملك»، فى هذا اليوم، و«الغزالى»، الطالب بالمدرسة، حول المذهب الشيعى، والتى تنتهى إلى إعجاب الوزير بمجادلات الشاب الصغير محمد، وينتهى اللقاء الأول بقول الوزير لـ«الغزالى»: «لطالما أخرجت طوس أعظم رجال هذه الأمة، تأتى إلىَّ غداً فى القصر، سأكون فى استقبالك».

بزيارة «الغزالى» إلى قصر الوزير ودخوله القصور لأول مرة فى حياته، تبدأ علاقة تقدير ومحبة بين الاثنين، واتفاق على الصحبة، رغم فارق السن، إذ كان «محمد» فى سن أولاد أو أحفاد الوزير، وهى العلاقة التى تستمر وتتوطد إلى آخر حياة «نظام الملك»، وفى سن الحادية والعشرين يشجعه الوزير على تأليف الكتب، باعتبار الكتابة واجباً عليه.

ترصد الرواية أيضاً تطور العلاقة بين الاثنين، وإعجاب الوزير بعقلية الشاب يوماً بعد يوم: «كانا يتمتعان بعلاقة يصعب فهمها، يحب كل منهما الآخر ويحذره، يحتاج إليه ويتقيه، رجل فى السبعين وشاب فى الثامنة والعشرين»، وبالفعل يصدر «الغزالى»، فى حياة أستاذه الإمام الجوينى، إمام الحرمين، باكورة كتبه (المنخول من تعليقات الأصول)، يبرز فيه دفاعه عن المذهب الشافعى، وتبادل العلماء الكتاب فى هيبة، واصفين إياه بأنه يتقن المعانى والكلمات، يعرف كيف يختار الحروف وكيف ينمقها، ولكنه يملك أيضاً جسارة ربما تؤدى به إلى الهلاك، وفى الثامنة والعشرين ينتقد «الغزالى»، فى كتابه، بعض أحكام المذهب المالكى والمذهب الحنفى.

وتأتى الزيارة التى تشكل أيضاً بداية مرحلة يصبو فيها «الغزالى» إلى أعلى المراتب آنذاك؛ إذ يُطلب الشاب لمقابلة السلطان «ملك شاه» فى «أصفهان»، وبعدها يتغير به الحال: «محمد الفتى الطوسى أصبح إمام خراسان وهو لم يتعدَّ الثامنة والعشرين، ويشهد الإمام، بحكم منصبه الجديد، على حياة جديدة لم يألفها من قبل: معسكر السلطان السلجوقى، الذى أصبح محمد يقضى فيه معظم وقته، أصبح عالماً جديداً عليه، أدرك كيف تحاك المؤامرات، وكيف تتغير النفوس، وأيقن أن النفاق يؤدى بصاحبه إلى القرب من الملك».

الحياة الشخصية لـ«الغزالى» تشغل حيزاً فى الرواية، والتى لم تجز الكاتبة، إن كانت مبنية على حقائق بالكامل أم هى خيال روائى ضرورى للعمل الأدبى، لكن على أية حال، تأتى فى الرواية علاقة «الغزالى» بـ«ثريا»، المرأة الدمشقية التى أحبته وصارت زوجته: «يطلقون عليه إمام خراسان، حجة الإسلام، زين العابدين، العالم الأوحد، مفتى الأمة، وشرف الأئمة، ولكن «ثريا» أطلقت عليه (الغواص)، منذ أول لحظة رأت محمد بن محمد الغزالى (غواص)، وويل لمن لا يتقن السباحة من عشق الغواص»، وهى العلاقة التى تمر بمنحنيات عدة قبل أن يتزوجا، وينجبا فيما بعد 5 أبناء أكبرهم «حامد» الذى كُنى به الغزالى «أبوحامد».

يشغل التاريخ خلفية مهمة فى تطور الأحداث، إذ تزامنت حياة «الغزالى» مع العديد من الأحداث التاريخية المؤثرة، وبخاصة أن العالم العربى كان يخضع لعدة قوى؛ الدولة العباسية فى بغداد، والدولة الفاطمية فى مصر، والدولة السلجوقية فى بلاد فارس، إلى جانب الباطنية وسيطرة جماعة الحشاشين آنذاك، وتتعرض الرواية إلى شكل خريطة الدولة الإسلامية: «فالخليفة فى بغداد بلا سلطة، لديه متسع من الوقت للصيد والخطبة. فى مصر دولة بنى عبيد، الفاطميون يحكمون بخليفة آخر وإمام آخر، وفى خراسان أنقذ السلطان السلجوقى، القادم من بلاد ما وراء النهر، الخليفة العباسى من دولة الفاطميين».

من المحطات المهمة فى حياة «الغزالى» أيضاً، توليه إمامة بغداد وهو فى سن الثالثة والثلاثين، بدعم من الوزير «نظام الملك» فى عام 1090م، إذ كان يشرف على كل الواعظين فى مساجد بغداد آنذاك، ليعرف حياة القصور وتبدأ رحلته وحربه، وتتبع الرواية أيضاً بالتوازى رحلة «حجة الإسلام» فى مجادلاته مع معاصريه فى هذه الفترة، هذا من جانب، وتتعرض من جانب آخر لعلاقته بنفسه، وموقفه من عدد من القضايا مثل «العقل»، و«الصوفية»، وأهل الحكم ورجال الدولة واختلاف الحكام والدسائس الكثيرة فى هذا الزمان، وكيف مرت عليه الحياة فى بغداد بعد مقتل «نظام الملك»، وتشير الرواية لمواقفه لما أحاط به والتبس على الناس، ومنها رفضه تكفير الباطنية، ويسجل موقفه منهم فى كتابه «المستظهرى» لينتقد مذهب الباطنية، ويعطى الشرعية للخليفة.

وفى سبيل محاججة الفلاسفة، يتجه للتعمق فى قراءة كتب الفلسفة والصوفية «كتب الفلسفة والمنطق استولت على عقله... ولكنها كتب الصوفية التى نزعت شغاف القلب فأصبح عرضة لكل ريح وكل نسيم طفيف»، وبعدها كتب كتابه «مقاصد الفلاسفة» يشرح فيه الفلسفة وعلومها، استطاع أن يلخصها فى أقل من عامين.

وكان الإمام نهِماً إلى الحياة والمعرفة، و«تمكن الغزالى من الدنيا، أصبح الخليفة الشاب يتلهف للقائه والبقاء حوله. وكل الأعداء تقف حائرة وكل ملوك الأرض تشاهده بإعجاب»، وهذه المرحلة تتبعها مرحلة أشد أهمية فى حياة «الغزالى» حينما يقرر التخلى عن المناصب والمال والبحث عن الحقيقة وارتياح قلبه، ويرحل عن بيته، وهى مرحلة جهاد النفس والتخلى عن جميع مظاهر الترف، لتبدأ رحلة جديدة يسجلها فى كتابه المهم «المنقذ من الضلال»، لتتبدل الحال، ومضامين الكتابة، ويصير لسان حال «الغزالى»: «وعند حضرة الحق سبحانه وتعالى كل ما لم يكن خالصاً وفيه رياء غير مقبول».

وفى الختام يمكن القول إن القراءة فى رواية «الغواص»، ورحلة الإمام الغزالى، رحلة شيقة فى تحولات النفوس البشرية، وفى اكتشاف منابع قوة الإنسان، ومواطن ضعفه، هى سيرة ونس للتائهين والحائرين والباحثين عن الحقيقة، وكيف واجه المؤامرات والمكائد التى حيكت ضده ومحاولات إبعاده عن المشهد أكثر من مرة، واختياراته فى الحياة وكيف واجه المحن الكثيرة فى مراحل حياته المختلفة ومنها فقد ولديه (حامد وأحمد) إبان انتشار الطاعون.

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: رواية الغواص فى هذه المرحلة نظام الملک فى حیاة

إقرأ أيضاً:

عين التينة للفلسطيني صافي صافي: رواية العودة

بعد 77 عاما من اللجوء، تأتي رواية الجيل الثاني كرواية الشعور التعب والناضج، والمتمسكة بحلم العودة؛ ثمة ثقة غريبة عجيبة بتحققها رغم ما يبدو من صعوبة تحقق الحلم.

في ربط ذكيّ وصادق وإبداعي، ما بين مشاعر الحب الرومانسية وممارسته من جهة، وبين الشعور الوطني الرومانسي تجاه العودة إلى الوطن وممارسة ذلك واقعيا، مضت الرواية في جانبين متوازيين ومتقاطعين كأبدع ما يكون، من خلال علاقة ربطت فلسطيني يعيش في وطنه، وفلسطينية لاجئة تزوره؛ فقد انسجمت تلك العلاقة الرومانسية بينهما، وشعور النوستالجيا إلى الوطن، ثم لتأخذ تحولا فعليا، حيث إنه في ظل ممارسة فعل العودة إلى الوطن، ولو على سبيل الزيارة، تأخذ العلاقة بينهما بُعدا جديدا واقعيا. "لم نعُد نهتم بأضواء المدينة الحديثة، ولا شوارعها المصطنعة...." صفحة 134. إنها إشارة للشعور الطبيعي بين الإنسان ووطنه حين يعود، فهذا هو كنزه وسعادته، ممارسة العودة والمحبة، وكأنهما خُلقا معًا، فلا حب من دون وطن، ما يكشف حداثة المستعمر الواهمة.

إضافة نوعية للأدب الفلسطيني، وللرواية المتعلقة بموضوع اللجوء والعودة، بل لربما من خلال فلسطين، تضيف الرواية للرواية العالمية التي تتعلق بالموضوع نفسه، خاصة لتلك الأجيال التي وُلدت لأسر لاجئة خارج أوطانها المستلبة.

تؤكد الرواية دوما على أنها شكل خاص ومضمون خاص أيضا حتى للكاتب نفسه، وهكذا فإن ما بيننا من سرد روائي يعمّق ما اختبرناه، فكل روائي راوٍ له قصته، وله ما يقوله ويبوح به.

ما الذي سنسرده عما سرده الكاتب على مدار 140 صفحة؛ فالرواية حكاية أيضا، نقرؤها ونرويها للآخرين؟ أما الإجابة فهي سرد ما كان ويكون، سرد مكان وقضية، وسرد أزمنة، وأعمار، وذلك ما خطه الكاتب بشفافية أوحى لنا الكاتب لا لنعبئ الفراغات، بل لنعيش حالة هذا الرجل الذي يصطحب الفلسطينية اللاجئة (الزائرة) إلى مسقط رأس والدها، لا مسقط رأسها، الذي حدث في الشتات.

مفتاح الفهم لهذه الحالة الروائية، هو مفتاح وجودي؛ فما أن يرحل الأب والأم، حتى يرث الأبناء الشعور، شعور الوالدين، (وأفكارهما بالرغم مما كان من نقد سابق). حين يموت الأب اللاجئ بعيدا عن بلده، فإن الابن يتجاوز الحزن العادي إلى الحزن على موته بعيدا عن بيته، ومن ثم إلى فعل ما؛ لكن في ظل الممكنات، فإنه في اللاوعي يَعِد والده (أو جدّه) بأنه سيعمل فعلا كي يعود إلى بلدهم. وهنا فإن الابن يصبح وارث الشعور، وبالتالي فإنه يكبُر بسرعة.

ستيني يقيم في الضفة الغربية من هذا الزمن، لجأت أسرته من فلسطين المحتلة عام 1948، يصطحب ستينية فلسطينية من الزمن نفسه تعيش في الشتات، لجأت أسرتها إلى خارج فلسطين، إلى مسقط رأس والديها، إلى بلدتها الأصلية، بيسان. خلال هذا الاصطحاب، يصطحبنا الراوي -الكاتب الروائي، إلى نتف من الأزمان السابقة، إلى زمن نكبة عام 1948 وما قبلها، مستشرفا مستقبل العودة التي يراها أكيدة دون انفعالات.

تصل حنان ابنة بيسان البلاد، إلى رام الله، تقيم في فندق صغير برام الله، كل ما يشغلها زيارة بيسان، فقد بدا عليها ليس الزهد في التنقل برام الله بل بالقدس أيضا. في الموعد المحدد تتوجه حنان مع زميلها الراوي من خلال رحلة لخمسين فلسطينيّ يستقلون مركبة الباص، يزورون شمال فلسطين المحتلة عام 1948، من خلال تصاريح الاحتلال. هناك يتعرّضون جميعًا لتحرش مستوطنين كونهم عربًا فلسطينيين، يستقدمون شرطة الاحتلال، ليدور حوار عنصري واعتقال في مكان مظلم لساعات، ولتنتهي الزيارة، بفتح الجرح من جديد. تلك باختصار هي أحداث الرواية.

هل من رمزية هنا؟

ثمة انسجام ما بين شعور الصداقة الملتبسة بمشاعر الحب الرومانسي، بمشاعر الزائرين الملتبسة للوطن السليب وما بين الشعور بوطن الآباء، فهما لم يعيشا فيه فعلا، وبين ممكنات تخيل أنهما يعيشانه ولو من خلال زيارة.

هذا الغموض في الشعور من طرفه وطرفها، وتذكر كيف أنها وقد شعرت بميله العاطفي تجاهها، تطلب منه برفق بأن يكون صديقا، هو غموض إبداعي، حتى إنه وبعد عقدين يبعث لها بأغنية "كن صديقي" لماجدة الرومي.

ثمة صدق أكان ذلك في الشعور العاطفي كونه عرف أن قلبها ليس معه من أربعة عقود، أو في شعور الارتباط بالوطن، حيث لا نجد هنا التكلف في الشعور والتعبير، فاكتفيا بتبادل الحديث، بما يحقق لها فرصة مشاهدة بيسان بلد والديها، ثم لتعود مرة أخرى إلى مكان اللجوء.

في الطريق، يصبح المكان/ الطبيعة مؤنسنا بل إنسانا يرافقهما، وأيضا من دون تكلف شعوري، فلا انفعال بالوطن ولا انفعال بها؛ كون الزمن قد مرّ، فصار العقل حاضرا واقعيا (ربما). وكأننا نحن من يعيش عمرا متقاربا مع الراوي هنا، حين نتنقل في فلسطين عام 1948، نكون مثله في النظر والتأمل والحديث الفكري بيننا. وحتى عندما تحصل المواجهة مع المستوطنين، فإن الراوي وبالرغم من صراحته وسخريته منهم، وقت قدوم شرطة الاحتلال، فإنه يكون واقعيا، لذلك فإن يزهد بالتصعيد.

يتمسك الراوي والزائرة، بالوطن كحلم جميل، ونجده قويا بحتمية العودة، وما حديثه عن ملكية الأراضي إلا تفكير واقعي في التعامل مع عودة اللاجئين إلى الوطن.

وهو لا يرى وطنه إلا الوطن الكامل غير المجزأ (فلسطين التاريخية)، وقد أبدع صافي صافي في شفافية التصوير دون الاضطرار إلى المباشرة، من خلال الحديث عن التقاط صورة لأحد المتجولين (أبو المجد) حول مياه عين التينة، فحين يتحدثان عن تصويره مع فضاء المكان، بحيث يظهر الشخص كاملا غير منقوص، حيث تكون عبارة "أنت مع كامل جسدك ولا ترى تقسيمه" صفحة 54. (ولما كان الشيء بالشيء يذكر، فقد اخترت عنوان "برتقالة واحدة لفلسطين" لكتابي التجوالي الذي فاز بجائزة ابن بطوطة في الدورة الخامسة، 2007، بدافع رمزي غير مباشر، بأن المتجول في فلسطين التاريخية، لم يكن ليرى فلسطين مجزأة).

وكأن الاحتلال قد قرأ مشاعر المتجولين/ الزائرين لوطنهم السليب، حيث تظهر لغة المحتلين المتعالية والاستشراقية العنصرية (لغة الرجل الأبيض كامل النقاء)، ففي الصفحتين 107 و108 يقصف مشاعر الفلسطينيين من خلال اتهامهم بالفوضى، وإثبات التعالي عليهم؛ كونهم شعب الله المختار، بل ويصل الأمر إلى التهديد باعتقالهم. لقد كانت الزيارة/ السرد، هي إعادة الإطلالة على فلسطين الجرح والقضية التي لم تنته، فلا تكاد تنتهي الصفحات فعلا حتى تبدأ صفحات أخرى؛ فثمة ندبة لا تزول، بل جرح لم يلتئم بعد 7 عقود. تنتهي الزيارة على الأرض فيزيقيًّا، ليستأنفا -ونحن- التفكير في المصير؛ فلم نصل إلى المآلات التي يجب أن تكون، خاصة بعد أن ورثنا حق العودة، بل والشعور والفعل لتحقيقها، ربما محبة منا ووفاء إلى أهلنا الذين رحلوا بعيدا عن بيوتهم.

لذلك، فقد كانا يقطعان مسافة الطريق وزمن الزيارة والتجول من خلال استعداء الماضي خاصة تهجير عام 1948، خلال ذلك استدعى تجربة العمل السياسي، فظهر النقد الحزبي والسياسي بشكل عام، والسخرية من الدجالين السياسيين.

كذلك التأمل الجمالي للوطن/ الطبيعة، بل وربط ذلك علميا كونها قد درست علم الحيوان "صفحة "77"، خاصة الحديث عن الحشرات، التي قد تكون لها رمزية ما هنا.

ولعل اختيار الكاتب "عين التينة" ما بين فلسطين وسوريا، بهدف الإيحاء بغموض وطني وقومي، ووجود وحيد الجولاني كدليل، كان موفقا، ولعل تيمة الغموض هنا كان ظاهرة إبداعية مضمونا وشكلا.

كان للرقص الصوفي لمها المقدسية أثر حركي في الإيحاء بصوفية علاقة حنان والراوي بالوطن، بل وبهما معًا. ثمة ربط بين الجولاني والمقدسية، بين التاريخ والجغرافيا والفن.

كان استحضار التاريخ والجغرافيا والعلم والفن، منسجما مع شخصية الراوي وشخصية حنان معًا، من خلال العمر والثقافة، والأهم من خلال الإيمان بحتمية العودة.

وتأكيدا ذكيا على ارتباط الفلسطيني بأرضه، ربط الكاتب من خلال الحوار بين حنان والراوي ما بين الطبيعة والميثولوجيا، في سياق علاقة الفلسطيني بوطنه، تلك العلاقة التي تغيب في علاقة المستوطنين بالمكان.".... وهذه ألوان الزهور ليست من بيئتنا، لقد استوطنت هنا كما زارعوها.." صفحة 134.

ثمة حديث عن ارتباط أهل البلاد بالوطن، وهو الارتباط النفسي الحقيقي، وبين ارتباط الغزاة المستوطنين الواهم وتعرضه للانقطاع عند تغير الظروف. هدوء وعقلانية الراوي هنا تدل على الفلسطيني الواثق بوطنه؛ ففي أكثر من مكان من الرواية يعرّي الكاتب تكلف (واصطناع) مشاعر المستوطنين وسلوكياتهم وأدبياتهم مع فلسطين، "تساءلت عن اللون الأزرق.." صفحة 86"، في سياق فضح الكولينيالية العنصرية التي تلوي عنق الميثولوجيا.

وأخيرا كما بدأنا ننتهي، فإذا كانت علاقة الراوي وحنان، ملتبسة ما بين الصداقة والحب الرومانسي، في فترة الجامعة في آخر السبعينيات أو أوائل الثمانينيات، كذلك في العلاقة مع الوطن السليب الذي توارثا الانتماء له دون العيش فيه، على طول علاقتهما قديما وحديثا، وعلى طول فترة التجول أثناء زيارة بيسان-عين التينة، ففي صفحة 118، نقرأ:

وماذا تسمي علاقتكما؟

قررنا ألا نسميها. دعي الأمور كما هي. عيشي الحياة كما هي.

من خلال ندوة أدرتها مع الكاتب، ذكر صافي صافي أنه أراد من خلال رواية "عين التينة" أن يحسم الرأي في أن من يرى فلسطين من خلال تصريح الاحتلال، فإنه لا يراها فعلا. وهو يذكرنا بما ذكره سعيد س في رواية عائد إلى حيفا حين قال لزوجته صفية: "إنك لا ترينها، إنهم يرونك إياها" ص 12.

رواية روح ونفس وفكر وصراع عبر قصة حب تتم استعادتها، في ظل رغبة حنان باستعادة الوطن رمزيا من خلال الزيارة.

[email protected]

صدرت الرواية عن الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين، رام الله، فلسطين، الطبعة الأولى 2025، ووقعت في 140 صفحة.

مقالات مشابهة

  • توفيق محمد بديل أحمد فتوح بالزمالك حال رحيله في ميركاتو الصيف
  • مناوي: حكومة “تأسيس” تتقاسم الجرائم والانتهاكات مع حلفائها بالتساوي.. ولا تعليق
  • رئيس أكاديمية الشرطة الجديد مسيرة كبيرة في مصنع الرجال
  • الصحفيين ترصد حالات تبث محتوى يسيء للأردن تمهيدًا لتحويلها للادعاء العام
  • محمد من أوائل المكفوفين: أحفظ القرآن بالقراءات وتفوقى يرجع لأختى وأمى
  • بعد أحداث السويداء.. تركيا ترصد وتحذر من "تحركات" في سوريا
  • إيران توجه أبنها البار (محمد السوداني) بإخراج القوات الأمريكية من العراق
  • محللون إسرائيليون: نخسر معركة الرواية في كارثة الجوع بغزة
  • ندى بسيوني لـ أنغام: ربنا مايحرمناش من صوتك يا صوت مصر
  • عين التينة للفلسطيني صافي صافي: رواية العودة