عندما يتحدث بن علوي
تاريخ النشر: 21st, December 2024 GMT
د. محمد بن خلفان العاصمي
اللقاء الذي أجرته عُلا الفارس الإعلامية بقناة الجزيرة القطرية مع يوسف بن علوي بن عبدالله الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية سابقًا، كان من أروع اللقاءات التي أجرتها المذيعة مع عدد من الشخصيات السياسية على مستوى العالم، وقد يكون هذا اللقاء الأبرز خاصة في التوقيت والطرح؛ وذلك نظرًا لما يمر به العالم من متغيرات متسارعة وتوتر سياسي وعسكري واسع النطاق، وما يُحيط العالم العربي من تجاذبات بينية وخارجية صبغت المرحلة الراهنة بصيغة قاتمة تعد من أسوأ مراحل تاريخ الصراعات السياسية في الشرق الأوسط.
من تابع اللقاء يُدرك بوضوح مقدار الحكمة التي يتمتع بها بن علوي، ويدرك لماذا كان ثعلب السياسة العربية الأبرز في المنطقة مع العملاق الأمير سعود الفيصل، ومن عاصر تلك الحقبة المُهمة من تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي ومرحلة حرب الخليج الأولى والثانية وما تبعها من سقوط نظام الرئيس صدام حسين وصولًا لموجة "الربيع العربي"، حتمًا سوف يرى حجم الجهود الدبلوماسية وعمقها وتأثيرها في صناعة وصقل هؤلاء الساسة المُحنَّكين الذين تركوا إرثًا لا يمكن المرور عليه دون التوقف طويلًا معه ومحاولة سبر مكنوناته، وخاصة عندما تتفتح الحقيقية على قيمة العمل الدبلوماسي الذي جنَّب المنطقة حروبًا شبه أكيدة لولا حنكتهم السياسية.
لقد شاهدت حيرة المذيعة الذكية جدًا والتي عُرف عنها براعتها في البرامج الحوارية، وسمعت اعترافها وعجزها عن إخراج ما بداخل هذا الرجل المُحنك، وربما لم تدرك- رغم ذكائها الشديد- أنَّ بن علوي لم يكن إلّا على طبيعته وطبيعة العُماني بسمته وحكمته ووقاره وأخلاقه التي تفرض عليه أن يقول ما يُقال ومتى يتحدَّث ومتى يصمت، وأن الحكمة المعروفة (ليس كل ما يُعرف يُقال) حاضرة في أذهان أبناء سلطنة عُمان، وأن أجمل الحديث وأصدقه هو ذلك الذي لم يُنطق، ولذلك لم يكن لها ولا لغيرها أن تصل لعمق البئر، ولن تحصل على أي شيء سوى بما يجود به من حديث ومعلومات، وربما لم يحن الوقت لإخراج ما في النفس.
لعلني أقف مع بعض المحطات التي عرَّج عليها بن علوي في حديثه الذي حرصت أن أسمعه بقلبي وعقلي، وأتدبر كل كلمة تخرج من فم هذا الحكيم، وربما تكون أولى المحطات هي فكرة التحول من التمرُّد إلى التنمية والعمل من أجل الوطن. فلم يكن بن علوي راغبًا في سلطة أو سُمعة حرَّكته للثورة؛ بل كان باحثًا عن وطن يحمل أحلامه ويطير به إلى مستقبل مضيء، وعندما تقاطعت فكرة الثورة مع هذا الحلم، كان الفراق واجبًا بعد "مؤتمر حمرين"، وعندما لمح مشروع الدولة الجديدة في العهد الجديد، لمع بريق الحلم في عينيه من جديد، فكان الاصطفاف مع الوطن خلف قابوس النهضة المباركة.
المحطة الثانية هي شخصية بن علوي السياسية، فمن خلال اللقاء ذاته يتبين للمتابع أنَّ ما لم يقُله بن علوي يمكن معرفته مما قاله، فمثلًا موقف سلطنة عُمان من مشروع الاتحاد الخليجي، ودعمها للقضية الفلسطينية وما رافق هذه القضية من فواصل تاريخية، ومساعيها لاحتواء الخلاف العربي، كل هذه الشواهد تُثبت حسن قراءة المشهد السياسي ومعرفة مآلاته، وهذا الأمر نتيجة لعدد من العوامل، ولكن يمكن أن يكون أبرزها: قدرة الدبلوماسي العُماني على استيعاب مبادئ ومرتكزات السياسة العُمانية الخارجية التي تنطلق من التعامل مع جميع القضايا من واقع الحياد وعدم التأثر والانسياق وراء العاطفة وحسن قراءة المشهد بجميع جوانبه، ولذلك كانت ردود يوسف بن علوي واضحة ومحددة، وهذه هي المدرسة السياسية العُمانية التي هو أحد أساتذتها.
المحطة الأخيرة هي إجابة بن علوي عن سؤال المذيعة الأخير حول خروجه من عالم الدبلوماسية هل كان اختياريًا أم إجباريًا؟ وحقيقة الأمر أجد هذا الموضوع ذا أهمية كبيرة جدًا، نظرًا للتفسيرات العديدة التي خرجت آنذاك، والتي ربما أغلبها جاء من الخارج، وقد سُخِّرَت هذه التفسيرات لدواعٍ وأهداف أرادها من أطلقها، وقد أوضح بن علوي بحكمته المعهودة الدواعي والأسباب مركزًا على أمر مُهم جدًا وهو أنَّ الدبلوماسية العُمانية أضحت مدرسة لها مبادئ واضحة وثوابت لا تحيد عنها ولا تختلف باختلاف الأشخاص؛ بل إنها تمضي وفق منهج ثابت يسير على قواعد تشكَّلت عبر سنوات طويلة من عمر هذه الدولة الطويل، وأنَّ مرحلته مع الدبلوماسية وصلت لمحطة جديدة، وأن الدماء الجديدة جديرة بحمل مشعل النهضة المتجددة كما أرادها سلطانها الحكيم.
لم تصل علا الفارس إلى هدفها واعترفت بحنكة بن علوي وقدرته على مراوغة أسئلتها بذكاء ودهاء شديدين، فما وصلت لشيء أكثر مما أرادها أن تصل إليه. ولكن يبقى أن ما دار في الحوار يُعد ثروة لنا كعُمانيين، وخاصة الأجيال الجديدة التي قد لا تعرف كثيرًا من التفاصيل، وقد يتأثر بعضهم بما يُقال ويُكتب في وسائل التواصل الاجتماعي، ويتبنى موقفًا نتيجة ذلك، وهناك من يتعمَّد سرد الأحداث والتاريخ وتفسيره بما يتناسب مع توجهاته، وخاصة فيما يتعلق بلقاء السلطان قابوس مع عدد من مسؤولي دولة الكيان الإسرائيلي، وفي هذا المقام علينا أن نتعامل مع ما يُكتب- خاصة من الخارج حول هذا الموضوع بالذات- مثلما تعامل بن علوي مع أحاديث المتمردين عندما اختار نداء الوطن.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
شهادات لجنود الاحتلال: كوابيس وانتحار
كشفت صحيفة يديعوت أحرونوت عن شهادات جديدة لجنود إسرائيليين يخدمون في الخطوط الأمامية، أظهرت حالة الانهيار الجسدي والنفسي والإرهاق الذي يعانون منه بعد 20 شهرا من العدوان المستمر على قطاع غزة.
وترسم الشهادات، التي جمعتها الصحفية الإسرائيلية المتخصصة في الشؤون العسكرية والأمنية غال غانوت لأربعة من الجنود بالإشارة إلى أسمائهم المستعارة، صورة قاتمة لواقع جيش الاحتلال الإسرائيلي، حيث أصبح اضطراب ما بعد الصدمة وباء صامتا وتحول الإرهاق الناجم عن طول فترة القتال إلى قاتل يفتك بالجنود أكثر من رصاص العدو، فضلا عن تفشي حالات الانتحار.
كوابيس وأجساد مرهقة"شاحر" (22 عاما)، جندي في لواء مشاة، يصف اللحظة التي تحول فيها الحماس إلى إرهاق قاتل "في الأيام الأولى، كنت مستعدا للتخلي عن أي شيء.. حتى عن حفل لأختي الوحيدة.. لكن بعد شهرين في غزة، بدأت أرى الموت في كل مكان".
ويضيف "اليوم، عندما يأمروننا بالعودة إلى القطاع، أرتجف. جسدي يرفض.. أصابعي لا تستطيع أن تحمل السلاح أحيانا من شدة الإرهاق. الأطباء يقولون إنها أعراض نفسية، لكن القادة يعتبرونها أعراضا بسيطة".
وفيما يتوقع الجندي الإسرائيلي النظامي أنه سيتم تجنيده في الاحتياط فور انتهاء خدمته قريبا، فإنه يعترف قائلا "أنا مرهق، سأنهي تلك الأشهر الأربعة أولا وبعد ذلك سأرى ما سيحدث".
إعلان "نقاتل من أجل البقاء.. لا من أجل النصر""نعوم" (21 عاما)، جندي في لواء مشاة من المتوقع أن يتم تسريحه في ديسمبر/كانون الأول المقبل، بدأ حديثه للصحفية بالقول "كانت لدينا ذروة الدافع في بداية الحرب.. كان الجميع واضحين بشأن ما سيفعلونه، الجميع أرادوا دخول قطاع غزة وإحداث تأثير، لم تكن هناك أسئلة على الإطلاق، لكنني شعرت بتغيير بالفعل في يناير/كانون الثاني من العام الماضي، فقد انتقلنا من المهام الهجومية إلى المهام الدفاعية".
وأضاف "بدأنا نشعر بأننا ثابتون، ننتظر حدوث شيء ما، وبدلا من أن نكون نشطين، استمر هذا الوضع لمدة عام.. إنه أمر صعب ومحبط. لقد بدأت أتشكك في أهداف الحرب ومعناها".
ثم يكشف الجندي كيف تحوّل الجنود إلى "أرقام" في معادلة عسكرية قاسية "في البداية، كانوا يخبروننا: أنتم تحررون أرضا، لكنهم اليوم، يقولون لنا: اقتصدوا في استخدام الذخائر لتدرك أنك بيدق، وأنه لا توجد قيمة كبيرة لحياة المقاتلين، ويشرحون أن توفير المال على قنابل الطائرات هو أهم شيء، حتى لو كان الثمن هو أن المقاتل سيحمل عبوة ناسفة أو يدخل منزلا مفخخا".
ويعلّق على ذلك "أعطي كل شيء، روحي، حياتي، وهكذا تعيدها لي؟ عندما تحدث أشياء كهذه، عندما لا يكون للحرب هدف عسكري واضح بل اعتبارات سياسية فقط، عندما لا يسمح لك بالمضي قدما، يكون هناك فقدان للدافع".
ويصف هذا الحال بالقول "تشعر أنك مجرد قطعة لحم مسلحة".
وعن الأزمات النفسية، يقول نعوم "الأسوأ هو الليل.. أستيقظ على أصوات انفجارات غير موجودة. زملائي يضحكون "هذه ميزة جديدة في جيشنا: كوابيس جماعية!". لكنني أعرف أننا جميعا نحمل شيئا مكسورا في داخلنا".
"سجنونا لأننا رفضنا الموت"
"أمير" (23 عاما)، قائد دبابة في سلاح المدرعات، يروي قصة تمرد لم يعد نادرا في صفوف الجيش الإسرائيلي، ويقول "قبل أسبوع، رفض طاقم دبابتين تنفيذ أمر بالتقدم، وقالوا: نحن منهكون، وهذا انتحار.. وبدلا من الاستماع لهم فقد سجنوهم".
إعلانويصف الجندي هذا الحال "أنا أفهمهم.. في المدرعات، تدخل القطاع وتخرج منه كالآلة، لكن جسدك وعقلك ليسا حديدا. أحد رفاقي نام خلف المقود من الإرهاق، فدهس جنديا، لكنهم أعلنوا أن السبب في ذلك كان انفجارا، بينما نحن نعرف الحقيقة: الإرهاق قتلنا قبل العدو".
الجنود ينتحرون"بن" (24 عاما)، مقاتل في وحدة النخبة "ساييريت ماتكال"، يتحدث عن الفارق بين الجنود النظاميين والمجندين، ويقول "الاحتياطيون يأتون لشهر ثم يعودون إلى أسرهم. أما نحن، فحياتنا توقفت منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023″، ثم ينقل عن جندي صديق له أنه قال قبل إجازة قصيرة "أخاف أن أنام في سريري.. لأنني قد لا أستيقظ". ويضيف "عندما يعود الاحتياطيون للخدمة من إجازاتهم، يحكون لنا عن زوجاتهم وأطفالهم، لكن نحن نحاول أن نتذكر كيف تبدو الحياة المدنية".
ويضيف "إنه أمر مقلق، نريد أن نبدأ الحياة، لكننا نعلم أنه يمكن استدعاؤنا مرة أخرى لفترة طويلة، وأن الجيش لن يتركنا بأي شكل من الأشكال. أرى أن جنود الاحتياط في وحدتنا يواجهون وقتا عصيبا للغاية. لقد وضعوا حدا لحياتهم (انتحروا)، وهذا ما سيحدث لنا أيضا".
وفيما يعبّر الجندي عن إحباطه، فإنه يوجّه اتهامه للحكومة والمجتمع الإسرائيلي، قائلا "يبدو وكأنهم يعتبرون الأمر مفروغا منه، معتقدين أننا آلات ولسنا أشخاصا".
اضطراب ما بعد الصدمةوفي ختام مقالها، تشير الصحفية الإسرائيلية إلى أن منظمات حقوقية إسرائيلية بدأت تدق ناقوس الخطر.
وتنقل عن أغميت جيليف، أحد قادة حركتي "أمهات على الجبهة" و"جبهة الصمود"، أن "العشرات من أمهات الجنود النظاميين اتصلوا بنا بشكل عاجل مؤخرا وأخبرونا أن أبناءهن منهكون ومتعبون ويعانون من اضطراب ما بعد الصدمة".
ويضيف جيليف "في حين يتمتع جنود الاحتياط بفترات راحة، يتم سجن الجنود النظاميين في جولة طويلة من القتال"، مشيرا إلى أن هذا الإرهاق واضح بالفعل من خلال الخلل في أداء وظائفهم في الجيش، ونقص اليقظة، والأعراض العقلية التي سترافقهم في الحياة المدنية أيضا".
إعلان