بقلم / عمر الحويج

لا يظن أحد أن هروب بشار الأسد بأسرته وعياله وماله وذهبه ودولاراته ، وكل ماخف وزنه وعليت قيمته وغلا ثمنه ، وحمل محتويات "بقجته" الثمينة وهرب " او بمصطلح حربنا الدخيلة عرد !! " دون حاشيته ومنافقيه وإعلامييه ومطبليه وحراس سلطته وسلطانه ، من كل جنس ولون ، طيلة نصف قرن وأكثر ، زمان تسلط "الأسرة الأسدية " وتحت إشرافهم في تشريع وتقنين القتل والتعذيب داخل السجون الجهنمية " صيديانا " مثالاً .

والقهر والإستبداد الأسطوري ، وحيد زمانه في القياس والممارسة ، وفي المعنى والمبنى ، فريد الشكل والمضمون ، دون شبيه أومثيل له في العصر إلحديث ، إلا بيوت الأشباح للسودان قَرِّيناً . ولكن هل هذا الهروب أو " التعريد بالسوداني" يعني إسدال الستار ، على هذا الحدث المهول الضحم ، وسقط النظام وخلاص ، وكل يذهب إلى حال سبيله ، هل تنتهي هذه البشاعات التي إقترفها هذا النظام المتجبر ، من عاش السنين الطويلة، وهو الأوحد والأعظم والأكبر .
لا بل سوف يبقى فينا السؤال الكبير ، لكي ينير لنا الطريق ، لفهم ما ينتظر سوريا من مستقبل ، أبيض السلام أم أحمر الدماء ، النماء أم الشقاء ، الموت أم الحياة ، والسؤال هو : هل سقط النظام بفعل مسار خطى الثورة ، وتضحياتها فيما تكبدته من مهالك ، جراء أنتقام النظام حين إشعال الثورة ، دون علمه أو إستئذانه حتى!! ، والعمل لإطفاء شعلتها ونورها ، بإستخدام كل ترسانته العسكرية والأمنية والشرطية والشبيحة المخفية ، بما فيها ترسانة كتلته النقدية .. وتحالفاته العينية عبثية !! .
هل تم إسقاط النظام بيد الثورة السورية ، ومثابرتها وصبرها وصمودها أمام مكاره النظام وبشاعة ممارساته النازيو-فاشية .
ام سقطت على يد المسلحين الذين إستولوا على السلطة في سوريا . وإن كان إلى حين ، فمسارها يشوبه الغموض ، وهل الأمور وصلت إلى منتهاها ، باستلام جبهة الشام المسلحة للحكم ، وتكوين حكومتها المؤقته من داخل عضويتها ، دون النظر لآخرين ، ومن جانب آخر متوقع ومتفق عليه في التحكم التركي ، والتدخل حتى في تكوين جيشها وعسكرها الوطني ، شبيه ذلك تحكم جارتنا الشقيقة ، في عسكرنا . ودعمه رغم إخوانيته الإرهابية ، الظاهرة غير مخفية ، ويا للمفارقة !! فقد عزمت مصر على المفاصلة مع تركيا وخصامها ، لإحتوائها ذات الإخوانية الإرهابية في سوريا ، لأنها تضر بأمنها القومي ، أما في بلدنا الهامل ، فالمساعدة والسرعة في الإنجاز لإستلامهم السلطة في السودان ، رغم إراهبيتهم ، لايضر أمنها أي كان نوع الضرر ، في بلد الخير والطيبة والمسكنة !! . وهذه بداية لاتبشر بخير ، لحكام سوريا الجدد .
وهنا السؤال المتفرع من السؤال ، من له الإستحقاق في إستلام السلطة ، بعد إنتصار الثورات ، هل هم الذين يمثلون مكونات الثورة المختلفة ، التي واصلت ثورتها وهي تضحي بأعمار رجالها وشبابها ونسائها ، وآجالهم المنقرضة تحت الدبابات والبراميل المتفجرات ، وهم يواصلون ثورتهم ، في الشوارع التي لا تخون ، وفي السجون وفي القبور الفردية والجماعية ، وفي المنافي للذين هم مجبرون على الهرب من جحيم النظام ، مهاجرين ، نازحين ، لاجئيين ، وهذا الهروب الجماعي ماهو إلا من فعل الثورة، لأنها لو كانت حرب إحتلال للوطن ، لجابهوه بصدور عارية وما هربوا .. ولكن هذه حرب السلطة من أجل السلطة والتسلط .
نعم يحق للشعب السوري أن يفرح ويغني ويرقص ، ومعهم جميع شعوب العالم ، فلها ومعهم أيضاً أن تفرح وتغني ، لإنزياح هذا الكابوس الجاسم على سطح الأرض السورية ، الذي يحسب على البشرية كنقطة ، سوداء يجب أن لا تتكرر . والأكثر فرحاً هم شعوب ثورات الربيع العربي المجهضة ، التي سوف يحيّ فيها الأمل ، ويرفع الأرواح المخذولة ومجهدة ، لحتمية إنتصار الثورات مهما تكاثرت عليها الخطوب والمحن. .وهذا يأخذنا في بحث نتائج هذا السقوط المدوي لبشار الأسد ، لننظر في ملاحظتين هامتين ، كنتائج محتملة ، وهناك غيرها من نتائج ، قطعاً ستفرزه صراعات المشهد السياسي في سوريا قادم الأيام .
- وفور ما نلاحظه في المشهد السياسي السوري ، يأتينا الإستفسار ، هل هذا النصر يعود إلى الفصائل المسلحة بتنوع مشاربها ، وطرق تأسيسها ، التي استدرجها النظام السوري ، بعد الثورة السلمية ، وإدخالها ، لما يوده ويرغبه ، ليقودها إلى نفق التمرد المسلح ، وهو ميدانه المفضل والمضمون ، لكسب المعركة وانهاء هذا التمرد ، وبالتالي دحر واجهاض الثورة التي بدأت سلمية ، كما كانت الثورة السلمية في السودان ، ولنتوقف قليلاً لنأخذها في دربنا المماثل لما ستؤول اليه نهايات الثورة السورية . ونلقي بعض الضوء بماحدث في مسار الثورة السودانية ، فالثورتان متباريات في المصاعب والنهايات ، فالثورة السودانية ناضلت ونجحت بأن تواصل وتستمر في سلميتها ، رغم الضحايا الذين سقطوا غضون الإصرار على هذه السلمية ، رغم محاولات النظام الإسلاموي ، لجعلها تسلك الطريق المسلح ، مايعني جلب الثورة والثوار لميدانه ، الذي يتقنه بما له من الإمكانات الأمنية والعسكرية ، التي يظن أنها كافية ، في دحر الثورة وإفنائها في حينها ولجظتها . حاولها بداية بفض الإعتصام وفشل ، وتم دحر رغبته بالعكس ، وواصلت الثورة في طريق سلميتها ، وهزمته في 30 يونيو ونجحت ، وحين إحتار دليله لجأ لإنقلاب 25 أكتوبر الإنتحاري ، ولكنه فشل ونجحت الثورة ، فقد واصلت الثورة سلميتها ، ولم ينجح الإنقلاب ، حتي في تعيين حكومة تمثله ، وتنطق بإسمه ، حتى يوم الناس هذا ولم يستطع ، بل كان من نتيجة هذا الفشل ، أن النتيجة جاءتهم بالكارثة التي انتهت إلى خوض حربهم اللعينة ، فقد أعلن الطرف الثاني للإنقلاب التوأم الجنجوكوزي ، تبرؤه من هذا الإنقلاب ، بل الإعتذار الصريح عن تورطه ، في هذا الإنقلاب الخديج ، لمصلحة قادمة ، ندريها ولا ندعيها ، فلا مفر سيك سيك معلق فيك يا حميدتي ، وأكثر خسائر الإنقلاب عليهما معاً ، حين فتح بينهما باب جهنم ، بكشف نوايا الطرفين في الاستئثار بالسلطة ، وتحقيق حلم الجنرالين ، الأول برهان ، يصحبه حلم أبيه بالرئاسة، والثاني حميدتي ، يصحبه حلم الطموح ، الذي غذاه ونماه داخله أفراد مستشاريته ، المنطلقة جلها من منبتها الإسلاموي الكيزاني ، حين فشل المؤتمر الوطني في إقناع شعبه بجدواه وإستمراره في الحكم بعد المفاصلة وقبلها ، وهروب المؤتمر الشعبي ، بحثاً عن براجماتية إنتهازية ، تقوده هو الآخر لحكم البلاد ، بذات النهج الاخواني كيزاني ، مستعيناً بذات مفردات المشروع الحضاري المندحر ، حيث خرجت من داخل كل هذه الإخفاقات التآمرية ، متمثلة في الإنقسامات التي شهدناها أيدي سبأ ، وإن كان أخطرها ، هم أولئك الذين التفوا حول حميدتي وإستخدموه بذكاء ، بعد إلباسه لبوس الثورة المجيده ، لهدمها من داخلها ، مضافاً ومضاف اليه ، إستعجالهما ولهفتهما معاً للوصول والنصر في سباق السلطة ، كل قبل توأمه ،
وهنا علينا أن نتاملهما وأنفسنا لنتساءل : ما جدوى السؤال ، في من أشعل الحرب أولاً ، رغم أن كل القرائن والدلائل والإثباتات ، تؤكد أن
قيادات النطام المباد ، هم مشعلوها وهم الذين بادروا بالطلقة الأولى ، فالطرفين كانا جاهزين ، ليكون هو المبادر في إشعال الحرب . الأول بحسمها بعد سويعات ، مدعوماً بالجارة ذات المصلحة في أمنها القومي والحياتي "المعيشي" !! ، لحسمها لصالح البرهان ، بإستخدام الطيران الحربي خاصة مع الدعومات التي سوف تتآلى تباعاً . والثاني برد جميل أطنان الذهب ، للجار الآخر الأبعد ، والوعد بالمزيد من أطنان الذهب المهرب لمصلحة الطرفين ، والوعد القادم بنهب المزيد من الموارد بارضها وخيراتها .
ورغم حرب الإبادة التي إفتعلها الطرفان في السودان لإجهاض الثورة ، لازال الطريق مفتوحاً للثورة السودانية "حين قالت أطرافها لا للحرب " ، لإستعادة دولتها الديمقراطية .
ثم يأتي هنا سؤال المصير للثورة السورية .. لمن يحق له استلام السلطة ، هل يتسلمها من أتى بالسلاح والمحاربين من أصقاع الأرض وجنسياتها التكفيرية، وقد أتى بسلاحه مدججاَ ، والكل يشير ويعلم !! . ام يتسلم السلطة المدنيةالديمقراطية ، الذين جعلوا إنتصار الثورة السورية ممكناً بالنضال السلمي ، ويستمر التساؤل ، هل تُسلم الحركات المسلحة السلطة في سوريا لأصحابها الحقيقيين ، وكفي الله المتصارعين شر القتال ، لمصلحة استقرار سوريا ، لإعادة إعمارها ونهضتها من جديد . أم لازال الطريق طويلاً أمام الثورتين ، السودانية والسورية ، على إنتزاع حقهما في إقامة دولتهما المدنية الديمقراطية .
وإن كان الطريق شاق للثورتين ، وحتى وإن طال السفر ، فإن الثورات تتواصل وتستمر فهي لا تموت .. وقد تنتكس ، ثم كالعنقاء من تحت رمادها تنهض وتنتفض .. ولا تنقضي

omeralhiwaig441@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: فی سوریا

إقرأ أيضاً:

أفكار حول التعامد الوظيفي بين النخبة الحداثية وعدوّها الصهيو-إمبريالي

رغم انخراط أغلب النخب التونسية "الحداثية" في مسار الانتقال الديمقراطي بصور متفاوتة، فإن مواقفها المعادية لبناء حقل سياسي ما بعد استبدادي أو ما بعد استعماري -أي حقل يقطع مع منظومات الاستعمار الداخلي ونواتها الصلبة في تونس وغيرها- قد جعل منها الأداة الأهم لإفشال ذلك المسار برعاية محور الثورات المضادة، وهو ما أدى إلى العودة المظفّرة للمنظومة القديمة بواجهة سياسية جديدة وفرتها في مرحلة أولى "حركة نداء تونس" منذ انتخابات 2014، ثم سردية "تصحيح المسار" منذ انتخابات 2019. ومن باب الموضوعية، فإن المراقب للشأن التونسي لا يستطيع أن يُنكر دور حركة النهضة وحلفائها -منذ تجربة الترويكا- في فشل الانتقال الديمقراطي، بعد أن اتخذت قرارها الاستراتيجي بالتطبيع مع المنظومة القديمة ثم التوافق معها بشروطٍ/خياراتٍ هي أبعد ما تكون عن استحقاقات الثورة وعن الانتظارات المشروعة لعموم المواطنين.

إن استقراء مسارات الثورات العربية ومآلاتها يظهر أنها كانت منذروة للفشل مهما كانت خياراتها ومهما كان شكل علاقتها بالنوى الصلبة للمنظومات القديمة، بل مهما كان الدعم/الاحتفاء الدولي بها في مراحلها الأولى. وهذا لا ينفي مسؤولية النهضة أو غيرها من الحركات الإسلامية التي قبلت بالعمل القانوني وخرجت من منطق البديل إلى منطق الشريك تحت سقف الدساتير والقوانين الوضعية، بل منتهى ما يشير إليه هو وجود قرار إقليمي/دولي بإفشال "الثورات العربية" ومنعها من النجاح، أو التحول إلى نماذج سياسية مختلفة عن تلك التي سادت العالم العربي في مرحلة الاستقلال الصوري للكيانات الوظيفية التي تسمى مجازا "دولا وطنية"، أي مختلفة عن أنظمة الحكم في مرحلة الاستعمار غير المباشر.

التسليم بالمسؤولية المشتركة لحركة النهضة وحلفائها من جهة أولى، ولمكونات "العائلة الديمقراطية" من جهة ثانية في فشل الانتقال الديمقراطي؛ لا يؤدي بالضرورة إلى التسوية بين الطرفين سياسيا وأخلاقيا
بناء على ما تقدّم، فإن ما يميز مثلا بين حركة النهضة وبين أغلب مكونات ما يسمى بـ"العائلة الديمقراطية" في تونس ليس أن النهضة لم تكن مساهمة في إفشال الانتقال الديمقراطي سياسيا واقتصاديا، بل هو أن دورها في ذلك الفشل كان نتيجة سوء تقدير للتوازنات الداخلية والخارجية، مع فائض ثقة في قوة النصوص وفي مصلحة القوى الدولية في استدماج "الإسلام الديمقراطي" ورعاية علاقته بالقوى "الحداثية" بعيدا عن منطق التنافي والمقاربات الأمنية-القضائية. أما أغلب مكوّنات "العائلة الديمقراطية" -خاصة اليسار الوظيفي بشقيه الماركسي والقومي، وورثة التجمع الدستوري المنحل- فإن انخراطها في المسار التأسيسي وما تلاه لم يكن نتيجة إيمان بوجود "ثورة" أو بفائدة الديمقراطية التي تُخرج الإسلاميين من وضعية "الملف الحقوقي" إلى مركز الحقل السياسي بقوة الإرادة الشعبية، بل كان نتيجة حسابات براغماتية تتحين الفرص -بل تحاول خلقها منذ المرحلة التأسيسية- للانقلاب على الانتقال الديمقراطي برمته؛ بالاستقواء بالقوة الصلبة -خاصة النقابات الأمنية المسيّسة والمُؤدلجة- وبالتحالف الاستراتيجي مع محور الثورات المضادة.

إن التسليم بالمسؤولية المشتركة لحركة النهضة وحلفائها من جهة أولى، ولمكونات "العائلة الديمقراطية" من جهة ثانية في فشل الانتقال الديمقراطي؛ لا يؤدي بالضرورة إلى التسوية بين الطرفين سياسيا وأخلاقيا. فدور النهضة في إفشال الانتقال الديمقراطي هو أثر منبثق -أي غير مقصود- لخيارات استراتيجية مبنية على تقديرات سياسية خاطئة، سواء في فهم قوتها الحقيقية أو في فهم قوة خصومها ورعاتهم الأجانب، ولكن ذلك كله لا يجعلها خارج إطار المساءلة "السياسية"، أما دور "العائلة الديمقراطية" فإنه يعكس استراتيجية انقلابية واعية، وهي استراتيجية تتعارض جذريا مع منطوق الخطابات "الديمقراطية" وادعاءاتها الذاتية، وتلتقي استراتيجيا مع مصالح النواة الصلبة للمنظومة القديمة ومع مصالح محور الثورات المضادة والتطبيع. ولذلك سيكون من العسير أن نتحدث عن فشل الانتقال الديمقراطي في تونس دون أن نستحضر دور الثالوث الوارد أعلاه باعتباره قاطرة الاستراتيجيات الانقلابية منذ المرحلة التأسيسية: القوى الوظيفية في الحقل السياسي والمجتمع المدني والنقابات، النواة الصلبة للمنظومة القديمة، محور الثورات المضادة.

إن استعملنا أحد المفاهيم الأساسية في معجم المرحوم عبد الوهاب المسيري ألا وهو مفهوم "اللحظة النماذجية" (تلك اللحظة التي تنطلق من "الايمان بأن ثمة اختلافا جوهريا بين الواقع والنموذج المهيمن، وأن النموذج لا يمكن أن يتحقق كلية في الواقع، ولكن هناك لحظات نادرة يقترب فيها النموذج من حالة التحقق الكامل، وهذه اللحظة رغم ندرتها قد تعبّر عن جوهر النموذج أكثر من اللحظات أو الحلقات الأخرى")، فإننا سنقول إن "السردية الديمقراطية" بكل ادعاءتها الحداثية والتقدمية والحقوقية والمدنية وبجميع مكوناتها "الإصلاحية" و"الثورية" قد وجدت لحظاتها النماذجية التي تظهر جوهرها الانقلابي بعد "الربيع العربي". فأغلب السرديات "الديمقراطية" قد تعاملت مع الثورات باعتبارها مؤامرة صهيو-إمبريالية، أو باعتبارها "ربيعا عبريا" حتى وإن انخرطت في مساراته الانتقالية. فقد أثبتت مواقف "القوى الديمقراطية" التونسية من القضايا الداخلية والخارجية أن لحظتها النماذجية هي لحظة وظيفية-انقلابية وليست لحظة تحريرية-مواطنية، وهو الأمر التي تشترك فيه مع الأغلب الأعم من محتكري الحداثة والمدنية والتقدمية في الوطن العربي.

بصرف النظر عن غياب مصاديق الادعاء الديمقراطي من جهة التاريخ والأدبيات والعلاقات الداخلية داخل تنظيماتها في مختلف الحقول السياسية والمدنية والنقابية.. الخ، فإن "القوى الديمقراطية" قد أثبتت بمواقفها أنها أكبر حليف موضوعي لاستراتيجيات الإذلال المزدوج: إذلال السلطات للمواطنين والحرص على إبقائهم في مرحلتي ما قبل المواطنة أو ما دون المواطنة (انظر مقالنا: مفهوم المواطنة وتحولاته منذ بناء الدولة الوطنية التونسية) وإذلال ما يسميه "الديمقراطيون" بالقوى الامبريالية لوكلائها من الحكام المحليين وأذرعهم الوظيفية في الوطن العربي.

فوصم الثورات بـ"العبرية"، والعمل على إفشال أي تسويات تاريخية بين الإسلاميين والعلمانيين ببناء مشترك مواطني جامع يتجاوز الانقسامات الهوياتية القاتلة، فضلا عن مساندة الانقلابات العسكرية والأنظمة الطائفية (سلطة الأقليات)، كل ذلك جعل من اللحظات النماذجية لأغلب السرديات "الحداثية" التونسية بمختلف مرجعياتها الأيديولوجية لحظات انقلابية بامتياز. وهو ما تجلى بصور جزئية منذ الأيام الأولى للثورة بدعوة الجيش لإصدار البيان رقم واحد، ثم بمحاولة إفشال أعمال المجلس التأسيسي قبل إنهاء مهامه، وبعد ذلك إسقاط حكومة الترويكا، و"الانتخاب المفيد" للمرحوم الباجي قائد السبسي الممثل الأهم للمنظومة القديمة، انتهاءً بالتمهيد لإجراءات 25 تموز/ يوليو 2021 ودعمها بصورة صريحة أو ضمنية إلى حدود كتابة هذا المقال.

إن موقف النخب "الديمقراطية" المعادي للإسلام السياسي -خاصة في نسخته الإخوانية التي قبلت بالعمل القانوني وبمنطق الشراكة مع العلمانيين- لا يمكن أن يفهم إلا في المستوى الماكرو-سياسي، أي في المستويين الإقليمي والدولي. فإذا كان من مصلحة "الديمقراطيين" -انطلاقا من فهمهم اللائكي التنويري المشوّه لعملية التحديث- إقصاء حركة النهضة باعتماد منطقي الاستئصال الصلب أو الناعم، فإن تلك المصلحة لا يمكن أن تتحقق إلا بالتعامد الوظيفي مع النواة الصلبة للمنظومة القديمة ومع محور الثورات المضادة والتطبيع. ورغم إصرار مكونات "العائلة الديمقراطية" على نفي هذه العلاقة "التخادمية" بحكم كلفة ذلك الاعتراف وقدرته المؤكدة على نسف شرعيتها "النضالية" من الأساس، فإننا لا نستطيع فهم مسارات الانتقال الديمقراطي في تونس ومآلاته دون استحضار تلك العلاقة التي تجعل من الحرب على "الإخوان" حربا على الديمقراطية في حدها الأدنى (أي حربا لفائدة الدولة العميقة ونواتها الصلبة التي قد تُهدّد مصالحها بصورة جدية في أي مشروع ديمقراطي حقيقي)، وكذلك حربا بالوكالة لفائدة محور التطبيع وللكيان (أي للقوى الصهيو-إمبريالية) في حدها الأقصى.

مهما اختلفت السرديات السلطوية في استهداف الحركات الإخوانية بعد الثورات العربية، فإنها لا يمكن أن تُفهم إذا حصرناها في سياقاتها المحلية، أي إذا لم نربطها باحتياجات المشروع الصهيوني ورهاناته الاستراتيجية. فرغم الانقلاب على حماس -الحركة الإخوانية- بعد الانتخابات التشريعية الفلسطينية يوم 25 كانون الثاني/ يناير 2006، ورغم تكفل سلطة التنسيق الأمني بتحقيق مصالح الكيان منذ ذلك الحين، فإن الثورات العربية قد جعلت الكيان ومن ورائه القوى الإمبريالية العالمية تتوجس خيفة من هيمنة الحركات الإخوانية باعتبارها حليفا استراتيجيا لحركة المقاومة الإسلامية "حماس". ففي الحد الأدنى لا يمكن لتلك الحركات "الإخوانية" (في مصر أو تونس أو المغرب أو ليبيا أو السودان.. الخ) أن تضادد الرأي العام المناصر للمقاومة،التنوير قد أصبح جزءا من آليات التزييف والدمغجة في مرحلة "ما بعد الحقيقة"، بل أصبح سوطا مسلّطا على كل تفكير حر يدعو إلى فتح نقاش عمومي حول مقدسات "النمط" المُعلمنة، وكذلك شأن الإرادة الشعبية، فهي مجرد شعار أجوف ولكنها تستطيع أن تسندها بصورة أكثر خطورة على الكيان سواء في المستوى الديبلوماسي أو الإعلامي أو حتى العسكري، كما فعلت مصر زمن حكم المرحوم محمد مرسي. ولذلك كان من مصلحة الكيان أن يضرب أي حصن متقدم للمقاومة، وهي مصلحة تلتقي مع مصالح دول التطبيع ومع مصالح النوى الصلبة لمنظومات الحكم في دول "الربيع العربي".

ولذلك لم يكن من الغريب أن تسعى بعض "القوى الديمقراطية" في تونس إلى تصنيف حماس والحركات الإخوانية "حركات إرهابية" قبل إجراءات 25 تموز/ يوليو 2021، وليس غريبا أيضا تحريضها إلى أيامنا هذه على حل حركة النهضة بقرار قضائي. وحتى لو افترضنا فشل تلك القوى في تمرير مشروعها كما فشلت من قبل، فإنها في أدنى الحالات تكون قد قدمت خدمة جليلة للكيان وللقوى الإمبريالية التي تسنده. فتصنيف حماس أو أي حركة إخوانية حركة إرهابية -أو حتى حلها لمخالفتها لقانون الأحزاب أو تهديدها للأمن القومي- كل ذلك يعطي مصداقية للسردية الصهيونية التي تروّج لاعتبار حركة المقاومة حركة إرهابية.

ولا شك عندنا في أن تفكيك السرديات "الديمقراطية" بعيدا عن ادعاءاتها الذاتية سيجعلنا أمام سرديات تشتغل واقعيا ضد كل شعاراتها الكبرى، بل ستجعلنا في محضر سرديات وظيفية في خدمة ما تعاديه خطابيا. فمعاداة منظومة الفساد والاستبداد لا محصول واقعيا لها إلا التذيّل الوظيفي لتلك المنظومة قبل الثورة وبعدها، أما معاداة الإمبريالية والصهيونية فلا محصول له إلا التحالف مع وكلائهما في محور الثورات المضادة والتطبيع، وكذلك الشأن في "التنوير" أو احترام "الإرادة العامة". فالتنوير قد أصبح جزءا من آليات التزييف والدمغجة في مرحلة "ما بعد الحقيقة"، بل أصبح سوطا مسلّطا على كل تفكير حر يدعو إلى فتح نقاش عمومي حول مقدسات "النمط" المُعلمنة، وكذلك شأن الإرادة الشعبية، فهي مجرد شعار أجوف لا قيمة له ما دام لا يرد إلى "الديمقراطي" صورته المتخلية وامتيازاته الرمزية والمادية المرتبطة نشأةً ووظيفةً بدولة الفساد والاستبداد، والمهدّدَة بالتالي وجوديا بأي مشروع ديمقراطي مواطني حقيقي.

x.com/adel_arabi21

مقالات مشابهة

  • صحيفة إسرائيلية: إيران تُزعزع استقرار سوريا والجولاني يواجه تحديات داخلية وخارجية
  • نشرة الفن| طرح أول برومو من فيلم The seven dogs.. وقصة وفاة محمود المليجي في ذكرى رحيله
  • أفكار حول التعامد الوظيفي بين النخبة الحداثية وعدوّها الصهيو-إمبريالي
  • المفوضة الأوروبية: سوريا التي تشمل جميع أبنائها هي سوريا القوية.
  • الوزير الشيباني: نود أن نشير إلى التحديات التي نواجهها نتيجة تهديدات تحركها أطراف خارجية وهناك مناطق تتعرض لهجمات من فلول النظام البائد وجماعات مسلحة تزهق الأرواح بوحشية ولو حدث ذلك في بلد آخر لتم تصنيفه كهجمات إرهابية.
  • الوزير الشيباني: الاتحاد الأوروبي يتابع الأحداث في سوريا عن كثب ويدعم حكومتها التي تمثل شعبها.
  • الوزير الشيباني: الاتحاد الأوروبي كان من أوائل الذين انخرطوا في دعم سوريا بعد تحريرها ورفع العقوبات المفروضة عليها.
  • كيف ستنعكس نتائج مذكرة التفاهم التي وقعتها وزارة الطاقة ومجموعة شركات دولية على واقع المنشآت السياحية في سوريا؟
  • سوسن أرشيد تروي تفاصيل هروبها المؤلمة من سوريا.. فيديو
  • تلغراف: داخل وكالة المساعدات التي تزرع الخوف والفوضى في غزة