في ظل الأزمات الداخلية والحروب التي تشهدها الدول، يُطرح التساؤل حول كيفية التعافي الوطني وبناء دولة حديثة قادرة على الصمود أمام التحديات. السودان، كدولة غنية بالتنوع العرقي والثقافي لكنها تعاني من صراعات داخلية متكررة، يُعد نموذجًا بارزًا لدراسة تأثير القوة القاهرة للحرب وكيفية تجاوز مآلاتها. الحرب في السودان فرضت واقعًا قاسيًا على كل المستويات، حيث انهارت المؤسسات الرئيسية للدولة، وانقسمت السلطة بين مراكز متعددة غير منسجمة، مما أدى إلى غياب سيادة القانون وانهيار الثقة بين المكونات السياسية والاجتماعية، إلى جانب انتشار الفساد واستغلال الموارد العامة.



على الصعيد الاقتصادي، تسببت الحرب في تدمير البنية التحتية وتعطيل الإنتاج الزراعي والصناعي، وانهيار العملة الوطنية وزيادة الاعتماد على المساعدات الخارجية. كما أن التدهور الاجتماعي كان جليًا من خلال زيادة معدلات النزوح الداخلي واللجوء الخارجي، وتفشي العنف المجتمعي بين المكونات المختلفة، وضعف الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة. لكن في هذا المشهد المأساوي، يبقى التوقيت الآن حتميًا لتحقيق السلام. إنه زمن يتطلب التخلص من التقييمات والعناوين الجانبية التي تعرقل الطريق.

الفرصة تكمن في اعتماد العدالة الانتقالية وبناء الثقة، من خلال إنشاء لجان تسعى لكشف الحقائق ومحاسبة المتورطين في الجرائم، وتعويض الضحايا لضمان الشعور بالإنصاف. إعادة بناء المؤسسات تأتي كخطوة محورية، حيث يجب إصلاح القطاع الأمني ودمج المليشيات المسلحة تحت قيادة وطنية موحدة، مع تقوية المؤسسات المدنية وضمان استقلال القضاء ودعم الشفافية في المؤسسات الحكومية. أما التنمية الاقتصادية المستدامة، فهي تتطلب تحسين إدارة الموارد الطبيعية لضمان توزيع عادل للعائدات بين مختلف أقاليم السودان، وتشجيع الاستثمار المحلي والدولي مع خلق فرص عمل تعيد الأمل للشباب.

تعزيز الهوية الوطنية ضرورة مُلحة، ويمكن تحقيقها من خلال إطلاق حملات مجتمعية تعزز الشعور بالانتماء للوطن فوق الانتماءات العرقية أو الدينية، وتوفير برامج إعادة التأهيل النفسي والاجتماعي للنازحين والعائدين من مناطق النزاع. الإصلاح في السودان لا بد أن يجمع بين الحلول السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية بنظرة شاملة، حيث يجب أن يكون هناك توافق بين القوى الوطنية على أولويات المرحلة الانتقالية.

الدعم الإقليمي والدولي يلعب دورًا مهمًا في هذا الإطار، عبر تعزيز التعاون مع الدول المجاورة لضمان استقرار الحدود ومنع التدخلات السلبية، وتوجيه المساعدات الدولية نحو برامج تنموية تعزز السلام بدلاً من التركيز فقط على الإغاثة الإنسانية. إن التحديات التي أفرزتها الحرب تتطلب التعامل معها بعقلانية، عبر منح الأطراف المتصارعة ضمانات سياسية تتيح دمجها في العملية الانتقالية، والاعتراف بمظالم المجتمعات المتضررة والعمل على معالجتها بشكل جذري.

التعافي من آثار الحرب في السودان يتطلب رؤية وطنية قائمة على المصالحة والعدالة والتنمية، مع بناء مؤسسات قوية وتعزيز الهوية الوطنية وضمان التوزيع العادل للموارد. السودان قادر على تجاوز أزماته إذا توافرت الإرادة السياسية والعمل الجماعي لتحقيق السلام والتنمية المستدامة. التوقيت الآن هو السلام، وهو حتمي أكثر من أي وقت مضى

زهير عثمان

[email protected]  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: فی السودان

إقرأ أيضاً:

هل قتل البلابسة قصيدة السلام؟

 

هل قتل البلابسة قصيدة السلام؟

عبدالله برير

في خضمّ ليل الحرب البهيم الذي أسدل ستائره الدامية على خارطة الوطن، يخالجنا سؤالٌ جارح كشظية، ومُرّ كطعم الفجيعة: هل خفت صوت السلام في السودان وانحنى مكسوراً لعاصفة الحرب العاتية؟
لم يعد المشهد مجرد صراع مسلح، بل هو انكسار للروح، وتراجع مريع لمشاريع “غناء المحبة” وتقبل الآخر. لقد توارت تلك الكلمات التي كانت تبني الجسور، لتحل محلها فوهات البنادق التي تحفر القبور. ومع استعار أوار هذه الحرب المجنونة، يبدو أن تيار الكراهية والعنصرية قد انتصر مؤقتاً، مبتلعاً في جوفه تيار الحياة، ومفسحاً المجال لثقافة “البلابسة” ومفردات السحق والمحق.
يا للهول.. هل ابتلع هذا الشعب الطيب طعم الحرب المسموم، فباتت حلوقهم مُرّة بعلقم الموت، وأرواحهم ملوثة بوجبات صانعي “الكباب البشري” الذين يقتاتون على الأشلاء؟
نتلفت حولنا بقلوب واجفة، لنسأل: أ ماتت الكلمة الداعية للسلام بموت أربابها؟ هل ووري “فن المقاومة” الثرى حينما ترجل الفرسان؟
رحل محمد وردي، فرعون الغناء الذي علمنا كيف “نصبح كتلة صمود”، ورحل مصطفى سيد أحمد الذي غرس فينا “معنى أن نغني”، وغاب محمد الأمين والكابلي..
ماتت الحبال الصوتية لدى النور الجيلاني الذي غنى فيفيان يا إخواني جنوبية، ليحيا صوت الكراهية ويموت قبول الآخر ..فهل غابت مع رحيل وصمت كل هؤلاء البوصلة؟ هل انتحرت قصيدة السلام يوم أن كفّ قلب حُميد عن الخفقان، ويوم أن ودّعنا القدّال، وقبلهم شريان الشعب محجوب شريف والعملاق هاشم صديق؟
وكأن الساحة قد خلت إلا من النعي.. فحتى الشعراء الباقون على قيد القصيدة، مثل أزهري محمد علي وطلال دفع الله وقاسم أبو زيد، باتوا يقاتلون “بنعومة” الحزن لا بشراسة الأمل، وكأنهم أيتام على مأدبة اللئام بعد رحيل الآباء المؤسسين للوعي.
لقد “تيتم” الغناء الرصين، وباتت الأصوات المنادية بالحياة – تلك المحاولات الخجولة من فنانين قابضين على الجمر مثل نانسي عجاج، منى مجدي، عمر جعفر وهاني عابدين – تبدو وكأنها “نشاز” مقدس وسط جوقة المغنواتية الداعين للدم، الكورس الجنائزي الذي لا يطرب إلا لصوت الرصاص.
أما القيثارة الصامدة، أبو عركي البخيت، فقد بحّ صوته وهو ينادي وحيداً في برية الصمت، كأنه نبيّ خذله قومه، يصرخ بالسلام فلا يرجع إليه الصدى إلا محمولاً على دخان الحرائق.
هل تناسى هذا الشعب “أكتوبر الأخضر”؟ هل جفّ في ذاكرتهم ” ما طالما بحرك في مي”؟ أين ذهبت تلك الأناشيد التي كانت تهز الجبال حباً لا حرباً؟
اليوم، ما تبقى من فنانين وشعراء شباب، وجدوا أنفسهم أمام مقصلة التخوين. لمجرد أنهم دعوا لوقف نزيف الدم وإعلاء شأن الحياة، شُنت عليهم حملات مسعورة، ونهشتهم أنياب التخوين والعمالة، حتى توارى بعضهم خلف جدران الخوف، خشية على لقمة العيش أو خوفاً من بطش الغوغاء. بل والمفجع أن البعض تحول – تحت وطأة الضغط أو الغواية – إلى أبواق في معسكرات الحرب، يذكي النار بدلاً من إطفائها.
لقد تآمرت حتى التكنولوجيا على إنسانيتنا؛ فخوارزميات “الفيسبوك” ومواقع التواصل تضج بترندات “الفتك والمتك والبل”، تغرق آذان الشعب في مستنقع الدماء، وتخلق واقعاً افتراضياً موازياً لا يرى في الآخر إلا عدواً يجب إفناؤه.
ولكن.. يبقى في الروح رمق، وفي القلب سؤال يرفض الموت: هل يعود ذلك الزمن؟ الزمن الذي غنى فيه السودانيون بيقين الأولياء:
“مكان الطلقة عصفورة.. ومكان السجن مستشفى”
هل سنعود يوماً لننشد مع “حميد ومصطفى ” بملء حناجرنا، حين ينجلي الدخان وتعود الطيور لأعشاشها:
“يا بلدي يا فردة جناحي التاني.. وقت الناس تطير لعالمها”
إنها معركة الوعي الأخير، فإما أن ننتصر للعصفورة والمستشفى، وإما أن نغرق جميعاً في طوفان “البل” والدم.

الوسومالبلابسة الغناء الرصين النور الجيلاني عبدالله برير قصيدة السلام محمد وردي

مقالات مشابهة

  • محللون لـ «الاتحاد»: «عمالة الإخوان» تُعيق جهود وقف الحرب في السودان
  • القوة التي تبني ولا تهدم.. من وحي تقرير "عُمان 2040"
  • محافظ القاهرة يؤكد اهتمام القيادة السياسية بالبرمجة والذكاء الاصطناعي
  • السودان وليبيا تتفقان على تنسيق العودة الطوعية للاجئين السودانيين في ليبيا
  • مصدر أمني يكشف حقيقة اضراب النزلاء بأحد مراكز الإصلاح والتأهيل
  • العاقل من اتعظ بغيره!
  • زيلينسكي: أوكرانيا وأمريكا ناقشتا القضايا الرئيسية التي قد تضمن إنهاء الحرب
  • فيدان يؤكد استمرار المفاوضات بشأن قوة إرساء الاستقرار في غزة
  • هل قتل البلابسة قصيدة السلام؟
  • الاتحاد الأوروبي يواصل الضغط على روسيا ودعم أوكرانيا حتى تحقيق السلام