مفارقة كبرى حملتها حياة محمد أفندي سالم، المغني المصري الذي لُقب تارة بـ "الكبير"، وتارة أخرى بـ "العجوز" نظرًا لبداياته المتأخرة، وعمره الطويل الذي بلغ -حسب بعض المصادر- 118 عامًا.

ورغم موهبته العظيمة التي قال عنها الفنان عبده الحامولي، "أحسن الأصوات في مصر صوتان: سالم في الرجال، وألمز في النساء"، فإن قَدَر محمد أفندي سالم كان صعبًا للغاية، في حياته، وحتى عقب وفاته، فالرجل الذي انحدر من الثراء إلى الاستجداء، لا يزال مجهولًا لكثيرين ممن لم يستمعوا مِن قبل إلى مَن قال عنه الفنان كامل الخُلَعي، "هو المطرب الشهير، شهي التغريد، والمبدع الكبير، ذو الصوت الشجي الجوهري، المتموج الجهوري، المخترع الناظم محمد أفندي سالم".

رجل ثري مزواج

شارب كثّ لرجل يرتدي الطربوش، وقد اكتست جبهته بعدد كافٍ من التجاعيد منحته مظهرًا جادًا للغاية، اتّسق مع صوته الرخيم، وثقته العارمة في نفسه، وهو يغني أعمالًا لم يسجّلها أحد غيره على أسطوانات؛ مثل: "أنا السبب في اللي جرى"، و"أهل الجمال"، و"يا أبو العيون النعسانة"، وغيرها من الأعمال التي يمكن الاستماع إليها عبر الإنترنت اليوم.

ليس ثمة معلومات مؤكدة بشأن محمد أفندي سالم، سوى تلك المقاطع الباقية بصوته، التي تحمل تواريخ مؤكدة وموثّقة من شركات التسجيل القديمة؛ مثل: "بيضافون" و"بوليفون" الألمانية، لا ميلاده ولا وفاته قد وُثّقا بشكل واضح، لذا حاول المهتمون استنتاج المعلومات بشأنه، خاصة ما تعلّق بمكان ولادته والشطر الأول من حياته، حيث يرجح بعض المهتمين أنه وُلد وعاش في مدينة السويس، نظرًا لحفظه العديد من الأدوار التي كان أهل السويس يتغنّون بها في تلك المرحلة.

وحسب المعلومات المتداولة بشأنه، يُفترض أن قصة الرجل بدأت بولادته في 1804، ويُقال -أيضًا- أنه حفظ القرآن على يد والده، ويدلّل على ذلك قدراته في التنقل بين المقامات بتمكن شديد، ومن بين الشائع عنه أن كان ثريًا، مزواجًا، وأنه حين قرّر الكفّ عن العمل بالتجارة التي أدرت عليه أموالًا طائلة، قرّر أن يتبع شغفه أخيرًا، ويعمل لصالح تخت عبده الحامولي، لكن الأخير -الذي كان يصغر محمد سالم بـ 15 عامًا-، أذهله صوت الرجل العجوز الذي كان يعدّ للحفلات ويعمل في الخلفية، دون أن يعلن عن نفسه مطربًا ولو مرة، يومها  قال له جملة شهيرة، لا تزال تتردد حتى اليوم، "مكانك مش هنا يا محمد أفندي.. مكانك وسطنا"، ليتحول بين ليلة وضحاها إلى عضو في بطانة عبده الحامولي، حتى إنه صار يرسله إلى حفلات بدلًا منه.

ليس هناك معلومات عن عدد زيجاته أو مصيرها، وإذا كان قد أنجب أو لا، إلا أن الثابت من طباعه ما أورده كامل الخلعي في كتابه "الموسيقي الشرقي" حين قال، "أما كفى على فضله دليلًا أنه يغني الأدوار دون مساعد، ويأتي فيها بالطرف والفرائد، وتجده في ذلك لا يتكبر ولا يتعالى، بل يجاوب من يكرر الطلب عليه من السامعين بكلام ظريف".

أول تسجيل بعمر المئة

تعدّ المعجزة الحقيقية بشأن المطرب المصري محمد أفندي سالم، هو عمره المثبت حين قدّم أول تسجلاته، وكانت عبارة عن دور من تلك الأدوار التي حفظها أثناء عمله في بطانة عبده الحامولي، بعنوان "أنا السبب في اللي جرى"، الأسطوانة ذات المقاس النادر حملت 5 دقائق كاملة ومتواصلة من أداء سالم، بمشاركة مشاهير الموسيقى في ذلك العصر؛ مثل: الحاج سيد السويسي على العود، أو عبد العزيز القباني على القانون، أو علي عبدو صالح على الناي.

وسُجّلت الأسطوانة في 1904، حين  كان سالم يبلغ من العمر 100 عام، أو على أدنى تقدير كان قد تخطى الثمانين عامًا بالفعل، حيث إنه كان يكبر عبده الحمولي -المُتوفّى في 1901 عن عمر 65 عامًا- بـ 15 عامًا.

والمؤكد -كذلك- أنه سجل لشركة بوليفون الألمانية تسجيلات متأخرة في 1924 وكان وقتها قد تخطى مئة عام بالفعل، لكن اللافت في الأمر كان جودة الصوت وثباته، رغم عمر الرجل، ربما لهذا كان وصف الخلعي لصوته مثيرًا للتأمل، حيث قال في كتابه "فما صوت الطيور على غصون الأشجار، ولا خرير ماء الغدران والأنهار، ولا البشرى رجع بها الرسول، بقرب بلوغ المحب غايته، ولا صوت الحبيب يرن أذن المغرم الولهان، بعد طول الصد والهرجان، بألذ وأطرف من صوت سالم، وهو يشنف على عوده الأسماع بأطرب النقر، ويقرن معه غناء كالغنى بعد الفقر".

أسطوانة محمد سالم الكبير (مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية) أعداء كثيرون ونهاية حزينة

واجه محمد سالم الكبير عددًا غير قليل من "الحاسدين" و"المنافقين" و"الوشاة"، على حدّ تعبير محمد كامل الخلعي، الذي قال "إنه رغم العمر الكبير لمحمد أفندي سالم، فإن صوته ظلّ شابًا، وأن الشبان في مصر لا يمكنهم أن يأتوا بمثل ما يأتي هو به".

محمد سالم الكبير (مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية)

وطلب الخلعي في كتابه من "أصحاب الأعراس الكبيرة، أن ينتبهوا إلى المغني الكبير، ليزينوا أفراحهم بصوته، ويكملوا أُنسهم بفنه"، ولكن يبدو أن الحال المتدهورة للرجل، وصلت إلى حد استجداء المال من المقاهي، للدرجة التي دفعت أحد الأعيان إلى تنظيم حفل من أجل مساعدة الرجل، الذي سجّل بصوته غرائب الألحان التي لم يسجلها سواه.

غنّى محمد أفندي سالم في ذاك الحفل، ويُقال إن أم كلثوم غنّت يومها، وتبرّع عدد من المطربين بالغناء، على أن يذهب العائد إلى سالم، لكن الرجل الذي اعتاد حياة الإسراف مات -رغم كل شيء- فقيرًا منسيًا.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: محمد سالم

إقرأ أيضاً:

وداعاً أيها الشاعر الذي أزعج الظالمين والقتلة والفاسدين كثيراً ..!

بقلم: فالح حسون الدراجي ..

غيب الموت نهار اليوم الخميس، الشاعر البابلي الجميل موفق محمد بعد أزمة صحية لم تمهله طويلاً للأسف ..

أكتب هذا المقال وطعم الفجيعة المر يملأ فمي، وسواد الحزن يغطي كل مسامات روحي، ليس لأن بيني وبين هذا الشاعر الجميل وداً فحسب، إنما لأن القصيدة العراقية فقدت شاعراً استثنائياً لا يتكرر، وحين أقول ( شاعراً لايتكرر)، فإنا أعني وأقصد تماماً ما أقول..

فهذا الشاعر الذي يكتب بشكل ولون مميز وخاص، سواء من الناحية اللغوية، أو الفنية، أو الأسلوبية، حتى لتحار في نوعية قصيدته: أهي قصيدة عاملة وشعبية أم قصيدة فصحى؟

وفي هذا اللون لا يتشابه معه سوى الشاعر الراحل گزار حنتوش..

أما عن جرأة موفق محمد

وشجاعة قصيدته، فحدث بلا حرج، ولا تسألني عن تفرده وتميزه في قول ما يريد قوله دون خوف من أحد، أو التفكير بالنتائج، وما يترتب على ما سيقوله من نقد قاس ولاذع بحق السلطة الحاكمة، وفساد الطبقة السياسية، أو بحق من يراه سبباً في دمار العراق وإفقار شعبه الأبي.

وفي هذه الجرأة أجزم أن موفق محمد كان يغرد وحده بعيداً عن الأسراب الشعرية والفنية الأخرى.

وهنا سأعترف لموفق محمد وأقول له، كثيراً ما كنت أتساءل مع نفسي متعجباً : ألا يخاف هذا الرجل على حياته وهو يعنف الحيتان بكل هذا التعنيف، ويرزل الأقوياء بكل هذه الرزالة..

ألا يخشى ( الكاتم) مثلاً، حين يتحدى عصابات الشر كل هذا التحدي، أو حين ينتصر للفقراء والمظلومين والمحرومين والمهمشين ضد جميع مستغليهم، وهو الذي لا يملك في بيته حتى (مسدس فالصو )، فمن أين تأتيه كل هذه القوة وهذا الجبروت الشعري والعناد الطبقي، من من يأتي العزم وتأتي الخسارة لهذا الفقير، اليتيم، الأعزل واليساري الذي ليس معه غير حب الفقراء وثقته بنفسه، وإيمانه بقضيته العادلة.. وأقصد قضيته الوطنية والتقدمية ..؟

كيف يخرج هذا الشاعر عن جادة زملائه الشعراء، فيكتب كل ما يريد بلا خوف ولا حرج حتى، لاسيما في قصائده ( الخاصة حداً) ، ولماذا لا يخاف هذا المجنون على حياته وحياة عائلته، وهو يمسح كل يوم الأرض – شعراً – بالأقوياء الظالمين والقتلة والمجرمين والمستبدين، ويجلدهم بقصائده ولسانه اللاذع .. كيف يجرؤ هذا الكائن الرقيق على الوقوف عارياً إلا من ورقة توت الشعر، فيتبول على رؤوس ووجوه الفاسدين بلا استثناء، بدءاً من أبطال صفقة القرن وليس انتهاء بمن وقف خلفهم من الزعماء والقتلة العتاة دون ان يرمش له جفن، كيف.. وهو الذي لا تقف خلفه سلطة ولاحزب مسلح أو ميليشيا أو قبيلة أو حتى أصدقاء متنفذون،

كيف بربكم كيف ؟

اليس لهذا الشاعر الباسل الحق في ان يبكيه الفقراء والشعراء والمظلومون.. ؟لقد اردت الحديث فقط عن هذه الجزئية المهمة في شعره وفي شخصيته، وهي حتماً جزئية متماسكة مع جزئيات أخرى في حياته ومزاجه وثقافته وتفكيره، وإلا ما مان سيمضي في هذا الطريق الخطير والصعب كل هذه السنين الطويلة.. نعم لقد أردت الحديث اليوم عن جرأته الفذة، وعن جسارته الشعرية الاستثنائية دون غيرها، لأنها الميزة التي تستحق الحديث أكثر من غيرها.. وأظن ان الناس الذين بكوا اليوم موفق محمد حزناً على رحيله وفراقه أولاً، بكوا عليه أيضاً لأنهم أدركوا بحساسيتهم المدربة والمجربة أن لا شاعر غيره سيفعل فعله، ولا أحد غيره سيشتم علناً القتلة، أو شاعر مثله ينال من الفاسدين ويفضحهم شعراً ونثراً ونكاتاً حتى !!

لذلك وجدت إن التعريف بتاريخ ومنجز هذا الشاعر غير ضروري اليوم بقدر الضرورة التي يوفرها التذكير بجرأته وبسالته وانحيازه الصارخ للفقراء، كما اعتقد أن الرجل ليس محتاجاً للتعريف بمنجزه الإبداعي ، فمن كان مثله لايحتاج قطعاً إلى تعريف.

أخيراً أقول ومعي جميع الشعراء والفقراء والمحرومين: وداعاً موفق محمد، وداعاً أيها الشاعر الشجاع الذي سيفتقده المظلومون كثيراً، ويفرح لرحيله الظالمون كثيراً ..

فالح حسون الدراجي

مقالات مشابهة

  • انتخاب ممثل الإمارات نائباً لرئيس لجنة المناخ والبيئة لـ «الإيكاو»
  • وداعاً أيها الشاعر الذي أزعج الظالمين والقتلة والفاسدين كثيراً ..!
  • الإمارات تغلق مسجد الشيخ زايد لاستقبال الرئيس الأمريكي.. وترامب يعلق «هذه هي المرة الأولى التي يُغلقون فيها المسجد ليوم واحد إنه شرفٌ للولايات المتحدة
  • الجماز: مشاركة الدوسري مع الهلال بكأس العالم مرتبطة بتجديد عقده.. فيديو
  • وفاة الشاعر العراقي الكبير موفق محمد
  • اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها.. خير ما تبدأ به يومك | ردده الآن
  • وفيات الخميس .. 15 / 5 / 2025
  • غزة: بين نيران الإبادة وتحذيرات الوكالات الأممية
  • وزير الخارجية أسعد الشيباني: نشارك هذا الإنجاز شعبنا السوري الذي ضحّى لأجل إعادة سوريا إلى مكانتها التي تستحق، والآن بدأ العمل نحو سوريا العظيمة، والحمد لله رب العالمين. (تغريدة عبر X)
  • الذايدي: لن أتفاجأ لو غادر سالم الدوسري‬⁩ الفريق .. فيديو