المصالح الإقليمية تطغى على استحقاقات المرحلة: أي حروب تنتظر سوريا بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد؟
تاريخ النشر: 13th, January 2025 GMT
على أن نتائج الزلزال الجيوسياسي الذي أحدثه السقوط المفاجئ لنظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد لم تظهر بعد، إلا أن التقديرات تشير إلى أن مشروع بناء الدولة السورية الجديدة سيواجه عقبات كبيرة في وقت يخيم على الأجواء السورية شبح الحرب سواء بين الفصائل المسلحة أو بين وكلاء القوى المؤثرة في المشهد السوري إذ أن عملية الإطاحة بنظام الأسد لم تُخلف سوى مشروع دولة مفككة مكبلة بقيود المشاريع الخارجية.
الثورة / أبو بكر عبدالله
في مقابل انحسار الحضور الروسي الإيراني في سوريا تعاظم الدور التركي بشكل كبير، ومعه ظهرت أمراض سوريا العتيدة دفعة واحدة، أكثرها على صلة بحقوق الأقليات الدرزية والكردية والسريانية، التي يُرجح أن تظهر على مسرح التحولات السورية كقوى يصعب تجاوزها بعمل عسكري محدود، بما يجعل هذا البلد الذي تحول إلى دولة مفككة بلا مخالب، مسرحا لحروب طويلة الأمد.
علاوة على العقوبات التي تواجهها الدولة السورية ثمة مشكلات عميقة داخلية وخارجية قد تذهب بسوريا نحو دوامة حروب جديدة، خصوصا بين الإدارة السورية الجديدة الموالية لتركيا والأكراد السوريين المتمركزين على مقربة من مناطق الشمال التركي والمسيطرين على مساحة شاسعة من الشمال الشرقي لسوريا، تلك المنطقة الحساسة جغرافيا والتي كانت حتى وقت قريب مرتعا خصبا لمسلحي تنظيم «داعش».
تفاصيل هذا المشهد المعقد بدت واضحة في التصريحات الأولى لرئيس إدارة العمليات العسكرية زعيم «هيئة تحرير الشام» أحمد الشرع المعروف بكنيته أبو محمد الجولاني الذي أكد أن جماعته المسيطرة على الحكم في سوريا حاليا مستعدة لإنهاء الحرب والشروع بتسوية سياسية لكن ليس في الوقت الراهن، وهو التصريح الذي أفصح عن استعداد الفصائل المسلحة لإكمال شوط طويل من الحروب تريد القوى الإقليمية من السلطة الجديدة في سوريا إنجازها كمحصلة لمساهماتها في عملية الإطاحة بنظام الأسد.
الجولاني أعلن أيضا ضمن أولوياته السياسية والعسكرية إنهاء أي نفوذ للأكراد في سوريا، تحت شعار «رفض تقسيم سوريا ورفض وجود أي كيانات طائفية أو عرقية مسلحة خارج إطار الدولة الجديدة» وأكثر من ذلك عزم جماعته العمل على أن تكون الأسلحة في يد الإدارة السورية الجديدة في إشارة إلى أكراد سوريا الذين يمثلون جيشا منظما بداخل الدولة السورية يحظى بدعم دولي منذ نحو 8 سنوات.
وبصورة أكثر وضوحا اقر بتفهم القيادة الجديدة للمخاوف التركية من جراء وجود مقاتلين كرد غير سوريين في الأراضي السورية واكد عدم القبول بأن تشكل أراضي سوريا تهديدا يزعزع استقرار تركيا أو أماكن أخرى» وهي التصريحات التي تطابقت مع تصريحات مسؤولين أتراك، أكدت تمسك أنقرة بتصفية «وحدات حماية الشعب الكردية» التي تعد أكبر مكونات قوات سوريا الديمقراطية «قسد» في ظل دعوة أنقرة العلنية لهم بمغادرة البلاد وإلقاء السلاح والاستسلام للإدارة السورية الجديدة.
نذر حرب جديدة
المواجهات المسلحة التي اشتعلت مؤخرا في مناطق الأكراد بشمال شرق سوريا، لم تكن بعيدة عن هذه الأجواء المشحونة، فقد صعدت الجماعات التي يتألف منها الجيش الوطني السوري المدعومة من تركيا عملياتها العسكرية على قوات «قسد» بصورة مفاجئة وسيطرت على مدينة منبج في خطوة أشاعت المخاوف من أن تقود إلى حرب واسعة تقودها بالوكالة إدارة العمليات العسكرية نيابة عن تركيا التي تسعى إلى تثبيت حكم المجموعات المسلحة كشرط لضمان أمنها القومي.
وجهود المفاوضات التي أجرتها هيئة تحرير الشام مع جيش سوريا الديموقراطية «قسد» بدعم أمريكي بدا أنها ولدت ميتة، بعد أن أعلنت الهيئة شروطا منها حل قوات «قسد» وإخضاع القرارات السيادية لحكومة دمشق ومنحها 80% من الموارد النفطية مع منح الأكراد إدارة ذاتية لا مركزية ونحو 20% من الموارد النفطية وتسليمها ملف عناصر تنظيم «داعش» المعتقلين في سجون «قسد» والبالغ عددهم أكثر من 10 آلاف سجين.
هذه الشروط كانت موضع رفض من قيادة «قسد» التي أعلنت بالمقابل شروطا للتعامل مع الإدارة السورية الجديدة، تقضي بالاعتراف بإدارة لا مركزية شاملة لمناطقهم، والانخراط في قوام الجيش السوري الجديد كفيلق مستقل بداخل وزارة الدفاع، والحصول على 50٪ من موارد النفط والغاز والإمساك بملف مسلحي تنظيم «داعش» المعتقلين في سجونها إلى حين حصول تسويات دولية بشأنه.
والشروط التي أعلنتها «قسد» لم تكن بعيدة عن تلك التي طالبت بها الأقلية الدرزية، بعد المواجهات التي شهدتها منطقة السويداء، حيث طالب زعماؤها بإدارة ذاتية محلية ضمن نظام اللامركزية باعتباره الحل الأمثل لسوريا، ومطالبتهم تضمين ذلك في الدستور بمشاركة كل الأطياف.
أكراد سوريا
يمثل أكراد سوريا جزءا من مجموعات كردية كبيرة تنتشر في العراق وإيران وتركيا وأرمينيا وأكثرها يعيش حالة صراع دائمة مع حكومات بلدانهم، غير أن أكراد سوريا استطاعوا منذ تشكيلهم قوات سوريا الديموقراطية المعروفة بـ «قسد» أن يحصدوا مكاسب سياسية وعسكرية كبيرة بعد أن نجحوا في السيطرة على ما يقارب ربع مساحة سوريا عبر جيش منظم يرتبط بتحالف قوي مع الولايات المتحدة في مشروعها لمواجهة تنظيم «داعش».
بعد عامين من اندلاع الانتفاضة ضد نظام حكم الرئيس السوري السابق بشار الأسد عام 2011، سيطرت الجماعات الكردية السورية بقيادة «حزب الاتحاد الديمقراطي» و»وحدات حماية الشعب» التابعة لها على مساحات شاسعة من أراضي الدولة السورية، وأنشأوا إدارة خاصة بهم على قاعدة «الحكم الذاتي».
على المستوى السياسي، تبنى أكراد سوريا برنامجا يقضي بإقامة دولة ديموقراطية تحت مظلة نظام لا مركزي يشترك فيه كل السوريين بكافة أطيافهم ودياناتهم وأعراقهم، وأعلنوا في مناسبات عدة أن قوات سوريا الديمقراطية ستكون «نواة للجيش السوري الجديد» وهي مبادئ تتعارض مع البرنامج الذي سارعت الإدارة السورية الجديدة ممثلة بقيادة العمليات العسكرية، لإعلانه باحتواء جميع الأطياف تحت مظلة الدولة السورية الجديدة بتشكيلاتها التي تضم كيانات مصنفة دوليا على أنها منظمات إرهابية.
ورغم استقلال أكراد سوريا بحكم ذاتي عن نظام الحكم في دمشق إلا أن الإطاحة بنظام بشار الأسد مثلت انتكاسة لمشروعهم السياسي بعدما أفضت إلى تغيير سلبي في معادلة توازن القوة، افضى إلى زيادة مساحة النفوذ التركي بالتوازي مع تغيير جوهري في العلاقة بينهم والإدارة الأمريكية التي مثلت منذ سنوات الداعم الأول لقوات «قسد» الضاربة في شمال شرق سوريا.
سيناريوهات تركية
طالما مثلت قوات سوريا الديمقراطية محور خلاف بين أنقرة وواشنطن في ظل استمرار تواجد القوات الأمريكية في سوريا، لكن الوضع اليوم مرشح لتغيير كبير مع إعلان إدارة ترامب تبنيها سياسة خارجية جديدة تجاه سوريا والشرق الأوسط تقضي بسحب القوات الأميركية من سوريا وترك ملف دمشق للسلطات التركية التي أعلنت خياراتها بدعم السلطات الجديدة وإنهاء أي نفوذ سياسي أو عسكري للأكراد في سوريا.
تزامن ذلك مع تصعيد خطير حملته تصريحات المسؤولين الأتراك وفي المقدمة الرئيس رجب طيب أروغان، الذي أكد أن بلاده «ستسحق المنظمات الإرهابية في أقرب وقت ممكن»، وكذلك تصريحات وزير الخارجية التركي الذي أكد مؤخرا أن هدف تركيا الاستراتيجي يتمثل في إنهاء وجود وحدات حماية الشعب الكردية، معتبرا أنها أمام خيارين، إما أن تحل نفسها أو تواجه القضاء عليها بالقوة.
وتبدو تركيا في طريقها لاستثمار علاقتها الجيدة بالسلطة الجديدة في سوريا لإنهاء هذا الملف بتكاليف اقل وهو أمر برز إلى الواجهة بعد تأكيد قيادات الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا أن 25 ألفاً من مقاتليها جاهزون لشن عملية عسكرية ضد الوحدات الكردية في شمال سوريا و»ينتظرون الأوامر».
زاد من ذلك النصائح التركية للإدارة السورية الجديدة والتي ركزت على عدم وقف العمليات العسكرية تحت أي ظرف، «واستمرار غرفة «ردع العدوان» وغرفة «فجر الحرية» في أعمالها العسكرية شرقا لدحر المجموعات الكردية المسلحة وفرض السيطرة على كامل الأراضي السورية.
وهذا الأمر لم يعد اليوم الخيار الوحيد لأنقرة، التي أفصحت عن احتمال تدخل تركي عسكري مباشر ضد الوحدات الكردية في شمال شرق سوريا في حال لم يتم التوصل إلى تسوية مع الإدارة السورية الجديدة، تُفضي إلى حل فوري لـ «وحدات حماية الشعب».
وعلى أن تركيا تبدو اليوم مستعدة لشن الحرب على قوات «قسد» إلا أنها فضلت تأجيل هذه التحركات لحين تقلد الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب زمام السلطة، وهو الانتقال الذي يتوقع أن يؤثر على المعادلة القائمة حاليا في سوريا ومن المحتمل أن يُفضي إلى تفاهمات جديدة بين أنقرة وخصومها الأكراد السوريين إن لم يكن خيار الحرب هو الوحيد على طاولة انقرة.
طريق سالك للحرب
كثير من العوامل المتحكمة في المشهد السوري اليوم تُرجح أن البلد مقبلة على حرب واسعة، فعلاوة على العلاقة المتأزمة بين الإدارة السورية الجديدة والأكراد، هناك عوامل اقتصادية قد تدفع السلطة السورية الجديدة إلى اشتعال حروب مع الأكراد بدوافع داخلية.
من ذلك سيطرة قوات «قسد» على نحو 90 % من الثروة النفطية ونحو 45 % من إنتاج الغاز، وهي معطيات قد تكون سببا لجولة حرب جديدة ليس بين السلطة الجديدة و»قسد» وحسب بل بين المكونات السورية المؤثرة في المشهد السوري التي تخطط للسيطرة على منابع الثروة.
ومناطق شرق الفرات الواقعة حاليا تحت سيطرة «قسد» تعتبر غنية بموارد أخرى، حيث يوجد فيها واحد من أكبر معامل إنتاج الإسمنت، في حين تنتج هذه المناطق معظم احتياجات سوريا من القمح والشعير والعدس إضافة إلى القطن وخاصة في محافظة الحسكة بسبب المساحات الشاسعة من الأراضي الخصبة ووفرة الأمطار وخاصة تلك التي تقع بالقرب من الحدود التركية.
وما يعزز من حصول أزمات كبيرة في سوريا أن وضعها اليوم صار معقدا إلى حد كبير، وهو تعقيد قد يضع الكثير من العراقيل أمام المشاريع السياسية المطروحة لبناء الدولة الجديدة.
ومن غير المستبعد أن تحاول العديد من الأطراف العربية والإقليمية والدولية وضع لاعبيها السوريين في سدة الحكم بدمشق، وهذا الأمر سيعمل بلا شك على عرقلة صياغة الدستور الجديد والتوافق على خطوات مرسومة للفترة الانتقالية، كما أنه سيدخل دمشق في دوامة الانقلابات العسكرية، إلى أن يتم تقليد الحكم لنظام قمعي يتلقى تعليماته من خارج سوريا.
وما يقال اليوم بشأن المرحلة الانتقالية والمؤتمر الوطني لا يزيد عن كونه أمنيات، إذ لن يكون من السهل التوافق على فترة انتقالية بعناوين وأهداف محددة، كما لن يكون سهلا تشكل حكومة منتخبة من الشعب السوري أو حصول انتقال ناجح ومنظم للسلطة في بلد عانى لسنوات طويلة من الحرب ويواجه حاليا انقسامات سياسية وأثنية وعرقية عميقة.
وآخر ما يعني الولايات المتحدة وتركيا هو قيام دولة سورية بنظام ديموقراطي يستوعب كل أطياف الشعب السوري، فالولايات المتحدة التي أعلنت إدارتها الجديدة العزم على الانسحاب من سوريا لا يعنيها سوى وكلاء لمحاربة تنظيم «داعش» في حين لا يعني تركيا سوى إنهاء أي نفوذ عسكري للأكراد، وقيام سلطة سورية تتولى تأمين حدودها الشمالية.
مع ذلك فهناك عوامل أخرى قد تعيد تشكل الخارطة وفي مقدمها الشروط الأمريكية ذات الصلة بالاعتراف بحكم هيئة تحرير الشام ورفعها من قائمة المنظمات الإرهابية وعلى رأسها واقع الديمقراطية وحرية التعبير في بنية الدولة السورية المُقبلة، وضرورة أن تمثل الحكومة الانتقالية جميع السوريين وهي شروط ترهن دعم واشنطن لهيئة تحرير الشام بنوع العملية السياسية، ومستقبل التعدد والتنوع السياسي والثقافي.
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
المفاوضات السورية-الإسرائيلية: تاريخ من الأخطاء والدروس
لطالما كانت المفاوضات السورية الإسرائيلية فصلا غامضا. تارة يُنفى وجودها، وتارة يُسرب منها ما يكفي لإثارة الجدل العام. اليوم، يبدو أن إسرائيل تسعى لنقل ملف الجولان إلى منطقة تفاوضية أخرى عبر استغلال ملف الدروز حاليا و"قسَد" لاحقا، بهدف جعل المنطقة الجنوبية السورية برمتها خالية من السلاح، وهو ما يمثل تحديا جديدا ومعقدا للدولة السورية الناشئة.
من الضروري أن نتوقف اليوم، بوعي نقدي وتحليل عميق، أمام دروس الماضي التفاوضي الطويل لنفهم بوضوح: هل كانت السلطات السورية حقا تفاوض من أجل الوطن وسيادته، أم كانت تناور فقط من أجل بقائها؟
وقد بدأت قصة التفاوض السوري الإسرائيلي فعليا مع احتلال إسرائيل مرتفعات الجولان 1967، ليصبح هذا الاحتلال نقطة الارتكاز لأي حديث عن السلام أو الصراع.
جدلية الأرض والسلطةمحطات ما قبل المفاوضات ما بين 1967 و1973:بين عامي 1967 و1973، وقبل أن تندلع حرب أكتوبر/ تشرين الأول، هل شهدت العلاقة السورية الإسرائيلية أي مفاوضات؟ الجواب الصريح: لم تحدث مفاوضات مباشرة، لكن جرت محاولات دبلوماسية متعددة، فشلت جميعها في تحقيق أي اختراق.
قرار أممي ضاع أدراج الرياح: القرار 242 (نوفمبر/تشرين الثاني 1967)بعد احتلال الجولان وسيناء والضفة الغربية في حرب 1967، صدر قرار مجلس الأمن 242. هذا القرار دعا إلى مبدأين أساسيين: انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي المحتلة، والاعتراف بحق كل دولة في العيش بسلام داخل حدود آمنة.
كان موقف سوريا حاسما ورافضا للقرار، خاصة أنه يحكمها حزب قومي أيديولوجي [البعث] تسلم السلطة بحجة أن الحكم قبل 1963 كان انفصاليا، والقرار الصادر لم يُشر صراحة إلى "الانسحاب الكامل"، واعتبرته مساويا بين الجلاد والضحية.
أما إسرائيل، فقد قبلت القرار نظريا لكنها رفضت الانسحاب الكامل، وخاصة من القدس والجولان. وهكذا، وُلد القرار كبذرة أمل للحل في المنطقة، لكنه سرعان ما ضاع أدراج الرياح بين تباين التفسيرات ورغبة إسرائيل في السيطرة على القدس ومرتفعات الجولان الإستراتيجية.
إعلان جهود أممية بلا ثمار: مهمة غونار يارنغ (1967-1971)كُلف غونار يارنغ بمتابعة تنفيذ القرار 242، وقام بجولات مكوكية بين دمشق وتل أبيب، محاولا جس نبض الطرفين.
أبدت إسرائيل استعدادا للنقاش دون الالتزام بالانسحاب الكامل، فقد كانت راغبة في تسويق نفسها كدولة عقلانية قابلة للتفاوض. في المقابل، أصرت سوريا على مبدأ عدم التفاوض مع إسرائيل قبل الانسحاب الكامل من الجولان، لأسباب بنيوية في النظام.
كتب يارنغ في تقريره أن إسرائيل ترفض الانسحاب الكامل، وسوريا ترفض الاعتراف أو التفاوض مع الاحتلال. كانت الجهود الدولية عبثية بين إرادتين متناقضتين.
التركيز على جبهات أخرى: وساطات أميركية (نيكسون وكيسنجر)في تلك الفترة، لم يركز الرئيس الأميركي نيكسون ووزير خارجيته كيسنجر على المسار السوري بشكل جاد، كان تركيزهما ينصب على مصر والأردن، بينما ظلت سوريا متشددة في خطابها ورفضها التفاوض دون انسحاب إسرائيلي مسبق.
لم تكن دمشق مستعدة للتنازل عن أوراقها قبل أن تفرض واقعا جديدا على الأرض.
مسار المفاوضات بين سوريا وإسرائيلاتفاق فض الاشتباك (1974): تهدئة الجبهة وترتيب البيت الداخليكان هذا الاتفاق، الذي توسط فيه وزير الخارجية الأميركي الأشهر هنري كيسنجر، نقطة البداية العلنية للمفاوضات بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول.
يومها، لم يكن هدف النظام السوري تهدئة الجبهة بهدف استعادة الجولان فورا، بل كان هدف حافظ الأسد الأساسي إعادة ترتيب بيته الداخلي الذي لم يستقر بعد، وتعزيز شرعيته الإقليمية والدولية بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول التي أحدثت تحولا في المشهد الإقليمي.
أما هدف إسرائيل من الاتفاق، فكان باعتباره خطوة نحو تحييد الجبهة السورية جزئيا، وضمان أمن حدودها بعد قضمها أراضي واسعة من دول الجوار والتفرغ لملف مصر والأردن.
مؤتمر مدريد (1991): مناورة لكسب الوقت وتجنب العزلةبعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتغير موازين القوى العالمية، جاء مؤتمر مدريد كمحاولة أميركية طموحة لجمع الأطراف العربية والإسرائيلية. دخلت دمشق المفاوضات بخطاب قومي حاد، لكنها في الواقع التزمت بقواعد اللعبة الدولية.
كان واضحا أن حافظ الأسد يفاوض ليكسب الوقت ويتفادى العزلة السياسية، ويستوعب المتغيرات الدولية وحرب الخليج، لا ليكسب الأرض. أما الهدف الإسرائيلي، فكان يكمن في كسر العزلة الإقليمية دون تقديم تنازلات جوهرية.
مفاوضات جنيف (1999-2000)في عهد حافظ الأسد، وتحت رعاية الرئيس الأميركي بيل كلينتون، بلغت هذه المفاوضات السرية ذروتها. كادت دمشق أن توقع اتفاقا مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك، لكن في لحظة درامية عُرفت لاحقا، رفض الأسد الأب التوقيع على الخريطة بعد اكتشافه أنها لا تعيده إلى خط الرابع من يونيو/ حزيران 1967 بالكامل.
وتكرست بعدها مقولة: "لا مفاوضات دون سيادة كاملة". لكن السؤال الجوهري الذي طرحه السوريون: هل كنا نفاوض حقا من أجل السيادة الوطنية الكاملة، أم من أجل تعزيز صورة "الزعيم" وشعار الممانعة؟ خاصة أن حافظ الأسد كان مريضا ويريد تخليد ذكراه كزعيم عروبي.
مفاوضات غير مباشرة عبر تركيا (2008): بحث عن شرعية دولية لا اختراق حقيقيفي عهد الرئيس بشار الأسد، بدأت وساطة تركية مباشرة من الرئيس رجب طيب أردوغان لعقد اتفاق سوري إسرائيلي. حينها، قدمت دمشق وثيقة غير مسبوقة تضمنت تنازلات أمنية، وحتى ترتيبات مشتركة محتملة في الجولان المحتل.
إعلانكان الهدف الرئيسي لبشار كسر العزلة السياسية بعد مشاركته في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لكن فجأة انهارت المحادثات بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في نهاية العام، ليتحول الخطاب الرسمي إلى شعار "الممانعة".
الواقع أن مفاوضات بشار الأسد، شأنها شأن مفاوضات والده، لم تكن أبدا تدور حول الأرض بمعناها الكامل، بل كانت تدور في جوهرها حول السلطة والبقاء.
كان التفاوض مجرد تكتيك لرفع العقوبات الدولية، وكسب الاعتراف الإقليمي، وشراء الوقت، باعتبارهم عائلة عروبية مقاومة ممانعة للتطبيع.
تجارب مفاوضات إقليمية: دروس يجب أن نتعلمهامقارنة بتجربتنا، مضى الرئيس المصري أنور السادات إلى كامب ديفيد بجرأة غير مسبوقة، فاستعاد سيناء بالكامل مقابل السلام المنفرد، ودفع ثمنا سياسيا باهظا على الصعيد العربي بتفكيك المنظومة.
أما الفلسطينيون فقد دخلوا أوسلو مضطرين، في لحظة انهيار إقليمي وعربي، لكنهم أخطؤُوا حين تنازلوا عن جوهر قضيتهم مقابل وعود مستقبلية لم تتحقق. أما الأردن في وادي عربة، فقد فاوض بهدوء وواقعية باعتباره دولة ضعيفة الموارد تحيطه دول إقليمية كبرى، وحافظ على حدوده، وربح استقرارا هشا في ظروف إقليمية معقدة.
تُظهر هذه التجارب الإقليمية بوضوح أن النية الصادقة بالتفاوض، ومعرفة سقف المطالب الواقعي، وفهم طبيعة الخصم ونقاط قوته وضعفه، كلها شروط حاسمة لأي نجاح تفاوضي مستقبلي.
أخطاء المفاوض السوري: بوصلة للمستقبلمن كل هذه التجارب، يبرز الخطأ الأكبر في أداء المفاوض السوري تاريخيا، وهو خطأ مركب ومتجذر في بنية النظام وطريقة تعاطيه مع قضايا الوطن المصيرية:
الخطأ الأول: المفاوضة بلا خريطة طريق واضحة، وبلا سند شعبي حقيقي يُضفي الشرعية على قراراته. هذا الغياب للرؤية الإستراتيجية والشرعية الشعبية جعل المفاوض السوري يدخل الطاولة وهو يخشى من كشف نواياه الحقيقية، أو ربما لا يمتلك نوايا واضحة من الأساس. في المقابل، يبدو الخصم أكثر وضوحا منه في تحديد الأهداف والمطالب، مما يمنحه اليد العليا في أي جولة.التفاوض من موقع ضعف داخلي، أو من خلف ظهر الشعب، هو وصفة مضمونة للفشل، لأنه يفقد المفاوض أهم أوراقه: الإرادة الوطنية الجامعة.
الخطأ الثاني: أن التفاوض كان لذاته، لا من أجل تحقيق نتيجة ملموسة. لم يكن الهدف هو الوصول إلى حل شامل وعادل، بل كان الهدف هو "الجلوس على الطاولة" بحد ذاته.جلس الأسد الأب أكثر من عقد من الزمان في مفاوضات لا يريد منها حلا شاملا، بل تسكينا مؤقتا للأوضاع، أو استخدامها كواجهة دبلوماسية لتخفيف الضغوط الدولية. والابن استخدم التفاوض كورقة في لعبة الأمم المعقدة، لرفع العقوبات أو كسب اعتراف إقليمي، لا كورقة في مشروع وطني للتحرير واستعادة الحقوق.
هذا التكتيك، وإن منح النظام بعض الأنفاس المؤقتة، إلا أنه أضاع فرصا تاريخية لاستعادة الأرض.
الخطأ الثالث: غياب الابتكار في الطرح التفاوضي. فمعظم ما قُدم من جانب عائلة الأسد كان تقليديا، يعتمد على استرجاع المبادرة العربية للسلام، أو الالتفاف حول خطاب "السلام مقابل الأرض"، دون تفاصيل عملية أو رؤى خلاقة. لم يحاولوا طرح مبادرات حقيقية تضعنا في موقع الفاعل الذي يقترح الحلول، لا المتلقي الذي ينتظر التنازلات.في عالم التفاوض المعاصر، الابتكار في الأفكار، وتقديم حلول غير تقليدية للمشاكل المعقدة، يمكن أن يغيرا ديناميكية الجلسات ويخلقا مساحات جديدة للاتفاق، وهو ما افتقدناه بشدة.
هل نتعلم من الماضي لنصنع مستقبلا أفضل؟إذا كنا نحلم بمفاوضات مستقبلية واعدة، فإن علينا أن ندرك هذه الدروس بعمق، وأن نعمل على:
بناء موقف وطني موحد وشرعية شعبية حقيقية: التفاوض دون سند شعبي وشرعية وطنية هو مغامرة خاسرة حتما. يجب أن يكون الشعب هو صاحب القرار والداعم الأكبر للمفاوض، وأن يكون الموقف التفاوضي نابعا من إجماع وطني حقيقي. امتلاك جرأة الطرح وابتكار الحلول: يجب ألا نخجل من طرح تصورات جديدة ومبتكرة تحفظ الحقوق الوطنية وتدير الواقع بذكاء، بدلا من التمسك بالخطاب التقليدي الذي لم يعد يفضي إلى شيء. يجب أن نكون السباقين في تقديم المبادرات التي تعكس رؤيتنا لمستقبل المنطقة، لا مجرد ردود أفعال على مبادرات الآخرين. فهم الخصم كما هو، لا كما نتخيله: إسرائيل دولة لا تهادن إلا من موقع القوة، ولا تقدم التنازلات إلا عندما تشعر أن البديل الإستراتيجي سيكون أكثر كلفة عليها. يجب فهم هذه العقلية بعمق، ودراسة نقاط قوتها وضعفها، وكيفية استغلالها لصالح الموقف التفاوضي السوري. التفاوض ليس صراعا عاطفيا، بل هو عملية عقلانية تتطلب فهما دقيقا للطرف الآخر. إدراك أننا لا نفاوض من أجل السلام فقط، بل من أجل الكرامة والسيادة: السلام الحقيقي لا يمكن أن يتحقق إلا من موقع القوة والندية.المفاوضات في هذا السياق، إذا ما تمت، يجب أن تكون ذات إستراتيجية واضحة المعالم:
إعلان هدفها الأول والأخير هو استعادة السيادة الوطنية على الأراضي المحتلة بطريقة أو بأخرى. ترسية أمن واستقرار حقيقيين في المنطقة الجنوبية، لا عبر التنازل عن السيادة أو جعلها منطقة خالية من السلاح على حساب الأمن القومي، بل عبر اتفاقيات عادلة تضمن حقوق الجميع وتنمية المنطقة. بناء دولة قوية ومستقرة داخليا، قادرة على حماية حدودها ومصالح شعبها.إن سجل المفاوضات السورية الإسرائيلية يمثل كنزا من الدروس والتجارب المريرة، ليس لاستيعاب هذه الدروس لعدم تكرارها لاحقا، بل لتشكيل بوصلة للمستقبل، تضمن تحقيق سيادة سوريا ومصالحها الوطنية العليا في أي مسار تفاوضي قادم.
المستقبل الحقيقي لسوريا يكمن في قوتها الداخلية، في وحدتها، وفي قدرتها على التفاوض من موقع المبادئ والكرامة، لا من موقع الضعف أو الحاجة للبقاء.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline