يمانيون../
كشفت الحروبُ الصليبية -على امتداد قرنين من الزمان- عن عمق التغلغل والاختراق اليهودي، وخطورته العالية -في مستوياتها التصاعدية- على شعوب أُورُوبا المسيحية، اجتماعيًّا وسياسيًّا وفكريًّا، حَيثُ كانت الجماعات الوظيفية الإجرامية، في تشكيلاتها الأولية، وغاياتها الذرائعية النفعية – الإجرام مقابل المال والنفوذ – بمثابة النواة الأولى، في مشروع التسلط والنفوذ اليهودي، الذي تجاوز مظاهر السيطرة المحلية، على مركز صناعة القرار (الملك ونظام حكمه)، إلى فرض معادلة السيطرة الإقليمية، من خلال السيطرة على المؤسّسة الدينية (الكنيسة المسيحية)، ولم يكن (الرهبان اليهود)، سوى بعض ثمار المرحلة الأولى، الذين سرعان ما انتقلوا من طور (القتلة المأجورين)، إلى طور (الرهبان المقاتلين)، في انتهاك صارخ لمحظورات الكنيسة، التي تحرم على الرهبان – وكافة رجال الدين – حمل السلاح أَو القتال مطلقا، وهو ما يعكس عمق الاختراق اليهودي، للهرم الوظيفي الكنسي، من كرسي البابوية إلى أصغر خدامها، ويعكس أَيْـضًا – من ناحية ثانية – مدى الجرأة على انتهاك المضمون الديني، ومقدرة اليهود العالية، في توظيف مقولاتهم وأيديولوجياتهم وعقائدهم العنصرية والإجرامية، في صياغة مقومات الإيمان المسيحي، وبناء الروح الإيمانية الجديدة، ذات الصبغة اليهودية المتطرفة، وإثباتها ضمن بنية النص المقدس، (العهد الجديد/ الإنجيل)، بوصفها جزءا أصيلا وثابتا، في طبيعة وروح التدين المسيحي، كما يعكس – من ناحية ثالثة – مدى تحكم العقل اليهودي، في صناعة الأحداث وأبطالها، وتقديمهم على مسرح التاريخ، وإيهامهم – ومن حولهم – أنهم صانعوا التحولات التاريخية، بينما هم مُجَـرّد أدوات، تسيرهم وتحَرّكهم اليد الخفية، وتجعلهم يتبنون الفكر اليهودي جملة وتفصيلا، دون وعي بذلك، ظنا منهم أنها مواقفهم ومشاريعهم الخَاصَّة، ومن خلال التكامل الحاصل، بين رأس المال اليهودي، وخطط واستراتيجيات مشاريع الهيمنة الصهيونية، تحوَّل معظم التاريخ الإنساني – على مدى قرون متعاقبة – إلى منتج يهودي خالص، تتقاسم الشعوب مقولاته العنصرية، وتؤمن بخرافاته العدائية، وتوثق مشاهده الإجرامية التوحشية الدامية، وتخوض حروبه بالنيابة، معتقدة أنها حروبها ومعاركها الخَاصَّة.

لكن قراءة فاحصة واحدة لمسار التاريخ، ستكشف – حتمًا – طبيعة الترابط الوثيق، بين جذور الأفكار اليهودية المتطرفة، التي شاركهم الجميع في اعتناقها، وحركة الأحداث وتداعياتها المرتبطة بها والمنبثقة عنها، التي تم تسخيرهم جميعًا لاجتراحها، على اختلاف المكان والزمان والأشخاص.

يمكن القول إن جماعةَ “فرسان الهيكل”، كانت النموذج الأكثر إثارة، في تاريخ المجتمعات البشرية، التي أغرمت بقوتها وغموضها، وسعت إلى محاكاتها، وإنتاج نماذج جماعات وظيفية مشابهة، ربما بلغت حَــدّ التطابق الفكري والسلوكي، سواء أكانت سياسية أم دينية، دون مراعاة لخصوصيات مجتمعها المسيحي أَو الإسلامي.

في الجانب الآخر، كانت الحروب الصليبية، النموذج الأسوأ للإرهاب الديني المؤسّسي، ورغم سقوط مزاعمها، وذرائع مشروعيتها، وانكشاف قبح غاياتها الاستعمارية، وقذارة أساليبها الوحشية، إلا أن ذلك لم يمنع التاجر/ المرابي اليهودي، من استنساخ صورة ذلك النموذج الإجرامي، والاشتغال على مرتكزاته، من خلال إعادة تدوير، واستغلال المخزون الإجرامي، القابع في سجون أُورُوبا؛ بهَدفِ صناعة جماعات استيطانية إحلالية، ذات مرجعية دينية، مستمدة من المسيحية اليهودية، حَيثُ رأى فيها التاجر اليهودي (كولومبس) – من منظوره الربوي – مشروعا استثماريًّا مربحًا، وثروة إجرامية ضخمة، يمكن من خلالها تحقيق المكاسب المالية والسياسية الهائلة، شرط أن يتم استغلالها الاستغلال الأمثل، وهو ما سعى إليه، وحرص على تحقيقه، حين وضع المرتكزات الأَسَاسية، لأول مشروع استيطاني إحلالي منظم، بوصفه فكرة قابلة للتنفيذ، إذَا حظيت بتبنٍ رسمي، واضعا الذهب والثروات الطائلة والنفوذ السياسي، مقابل الثروة البشرية الإجرامية، وهو ما أكّـد عليه بنفسه، في معظم رسائله إلى ملكي أراغون وقشتالة، مؤكّـدًا أن الغاية من رحلته البحرية، هي جمع أكبر قدر ممكن من الذهب والثروات، بما يكفي لإعداد جيش جرار، لتحرير واستعادة (أورشليم)، ليدحض بذلك الترويج الاستعماري، لصورة (كولومبس) البحار المستكشف، في بعديها الإنساني والحضاري، بالرغم من أن تلك الأرض، التي زعموا أنه اكتشفها، ومنحوه بناء على ذلك، سلطة ودور المؤرخ اليهودي عليها، في ممارسة الاغتيال التاريخي، والمحو والإزاحة بحقها، وطمس هويتها واسمها، رغم أنها لم تكن مجهولة، لا بالنسبة إليه ولا لغيره، فقد ورد ذكرها في كتب التاريخ، الممتدة من بطليموس إلى المسعوديّ، كما ظهرت في معظم خرائط الجغرافيين والملاحين، حَيثُ كانت تلك الخرائط ذاتها، هي إحدى وسائله لإقناع ملكي أراغون وقشتالة، بالموافقة على تبني ورعاية مشروعه الإجرامي، وتحفيزهما ليكونا بطلا الخلاص، وقيادة جيش تحرير (أورشليم)، مؤكّـدًا أنهما المعنيان بهذه المهمة المقدسة، حسب أُسطورة الخلاص، التي تضمنتها النبوءات اليهودية، واعدًا إياهما بتوفير التمويل الكامل لذلك الجيش، هذه الحقائق وغيرها، أثبتها كولومبس (التاجر اليهودي)، كشهادة على نفسه، في يوميات رحلته الأولى، التي ترجمها المؤرخ البريطاني، كليمنت ماركهام عام 1893م، بالإضافة إلى ما ورد في الكثير من رسائله، التي خص بها الملكين، في أوقات متفرقة.

لم ينس كولومبس اليهودي، توظيف العاطفة الدينية ومشاعر الحماس، في نفوس فواعل مشروعه الاستيطاني، حَيثُ أوعز إلى البابا، بمنح أُولئك المجرمين صكوك الغفران، اللازمة للدور الجديد، بالإضافة إلى منحهم القداسة، بوصفهم (رسل الرب)، وقادة حربه المقدسة، وهي ذات العقيدة الانتقامية اليهودية، التي تصور جرائم وحروب اليهود المقدسة، حين يخوضها إلههم (رب الجنود) إلى جانبهم، كونها تعبر عن شهوة الانتقام لديه، ورغبته الذاتية الخالصة، في محو وإبادة غير اليهود.

كان النجاح الذي حقّقته رحلته كولومبس، وكميات الذهب والثروات، التي عاد بها إلى ملكي أراغون وقشتالة، كفيلا بفتح شهية أطماع ممالك أُورُوبا، وإشعال فتيل نزعتها الاستعمارية المتأصلة، فتسابقت إلى إخراج مخزونها الإجرامي من السجون، واستثماره في مشروع (كولومبس) الاستعماري، وبذلك تسارعت وتيرة الاستيطان الإحلالي الأُورُوبي، على امتداد جغرافيًّا ما سُمي (أمريكا)، حتى بعد وفاة كولومبس، حَيثُ استمرت هجرة عصابات مجرمي أُورُوبا، الذين استوعبوا المهمة الاستعمارية، واحترفوا الدور الوظيفي الإجرامي، ومارسوا أبشع صور المجازر، والقتل الجماعي، والإبادة الجماعية الشاملة، والتعذيب والإرهاب والتوحش، بحق سكان الأرض الأصليين، وإقامة الجيوب الاستيطانية، التي مثلت امتداد (الإرهاب الإجرامي)، سياسيًّا وفكريًّا وسلوكيًّا، في ارتباطها بجذورها التاريخية، ودورها الإرهابي الوظيفي، بوصفها الامتداد المكاني، لمسار الإجرام الأُورُوبي، والاستمرار الفعلي لتموضعه الجديد، الذي أعاد إنتاج هيمنة المكان الأُورُوبي، من خلال تسمية الجيوب الاستيطانية، بتلك المسميات المكانية القديمة، التي استعادت شبابها وبريقها الاستعماري، بإضافة كلمة (New) إلى هوية المكان الجديد مثل، نيو يورك، نيو جيرسي، نيو مكسيكو، وغيرها، لتشهد على عمق الاتصال بالأصل المكاني، أَو من خلال تسمية بعض الجيوب الاستيطانية، بأسماء ملوك وملكات أُورُوبا، تأكيدا على عمق الارتباط والانتماء والولاء، شاهدين على أنفسهم بحضورهم الطارئ، وافتقارهم لأدنى مقومات الانتماء الثقافي أَو التاريخي أَو الحضاري، الذي عادة ما يربط أي جماعة بشرية، بالمكان الذي يمثل هُويتها وانتماءها.

فوائدُ استثمار الإجرام في مشروع الإبادة والمحو والإزاحة:

“الولايات المتحدة الإرهابية”

مما لا شك فيه أن عقلية التاجر المرابي اليهودي، لم تغفل جانب الربح، الذي سيجنيه الكيان الإسرائيلي اليهودي فيما بعد، من استثمار المخزون الإجرامي الأُورُوبي، في مشروع الهيمنة والتسلط الإمبريالي، الذي تسابق ملوك أُورُوبا للمشاركة فيه، بوصفه فرصة استثمارية مربحة جِـدًّا، كفيلة بتحقيق أعظم وأكبر المكاسب السياسية والاستراتيجية والاقتصادية، بأقل جهد وأرخص تكلفة، من خلال إعادة تدوير مخلفات الثروة البشرية التالفة، المتعفنة بنزعة الإجرام والتوحش، خلف قضبان جدران السجون المظلمة، وتحويلها إلى جماعات وظيفية، تتجاوز هامش الأرباح (الكولومبسي) المؤقت، ممثلا بكميات الذهب الهائلة، وحجم الثروات الطائلة، إلى بند الفوائد الكبيرة الدائمة، ممثلة بامتلاك مصادر الغذاء والطاقة، علاوة على استغلال العمق الاستراتيجي، لممارسة الهيمنة السياسية والاقتصادية، خارج القارة العجوز، حتى أن بعض ممالك أُورُوبا، امتلكت عمقا استراتيجيًّا جيوسياسيًّا، على خارطة النفوذ والهيمنة، وجغرافيا الاستيطان الإحلالي، ما يفوق مساحة المملكة ذاتها، بأضعاف مضاعفة.

لم يشفع للسكان الأصليين، طيبتهم وتسامحهم وكرمهم، وترحيبهم بأساطين الإجرام وأرباب الدموية والعنف والتوحش، ولم يكتف الغزاة الوافدون، بما أغدق عليهم السكان الأصليون، من الذهب والأموال الهائلة، والهدايا والتحف النادرة، وما وهبوهم من الأراضي الزراعية الشاسعة والبذور، حَيثُ أعقب كُـلّ ضيافة لهم، عدوان إجرامي غاشم، وعمل وحشي غادر جبان، ومجازر وعمليات إبادة شاملة، بحق المضيفين أصحاب الحق والأرض، ليؤكّـد بذلك قطعان المستوطنين الغاصبين، على نزعتهم الإجرامية التوحشية، وطبيعتهم الدموية المتأصلة، وتلذذهم بممارسة أعمال القتل والإبادة الجماعية، ومشاهد التطهير العرقي، التي استهدفوا من خلالها جنس السكان الأصليين، بالإبادة الجسدية وتغييب وجود الذات، زمانيًّا ومكانيًّا.

ولم يقف قبح وإجرام مخلفات سجون أُورُوبا، من الوحوش البشرية، عند بشاعة اغتيال وتصفية السكان الأصليين، بالإبادة الجسدية والمجازر، بل وصل إلى حالات متقدمة من السخافة والانحطاط، حين نصب المحتلّ الأُورُوبي نفسه ملكا غاصبا، على أرض لا تمت إليه بصلة، معلنا امتلاكها بمشروعية القوة والقتل، متفاخرا بما اقترف من الغدر والاحتيال والتوحش، بحق السكان الأصليين الطيبين والودودين جِـدًّا، كما وصفهم شاهدًا على خبث نفسه، وبشاعة جرائمه دون مواربة أَو خجل، ولم يكتف صانع الإجرام القادم من الغرب، بنهب الأرض وسرقة خيرات أهلها، وإقامة إمبراطوريته المزعومة، على جماجم وأشلاء ودماء المدنيين الأبرياء، بل قام ذلك القاتل الهمجي البربري المتخلف، بدور المنتصر صاحب الحق في كتابة التاريخ، وفقا لمبدأ الغلبة وقانون الغاب، ولم يكن فيما كتبه، غير مشاهد الدمار والخراب والإجرام الفاحش، التي عجز عن تجميل قبحها، وتبرير وحشيتها بقناع الحضارة المزعوم.

كانت إبادة مئات الملايين، من السكان الأصليين، فاتحة لنشأة المغتصبات الأُورُوبية، ابتداء من (المستعمرات الثلاث عشرة)، وُصُـولًا إلى ما يعرف باسم الولايات المتحدة الأمريكية، البالغة ثلاث وخمسين ولاية مغتصبة، على ركام وأشلاء من أطلق عليهم – احتقارا وتغييبا لذواتهم – الهنود الحمر، رغم أنهم ليسوا من الجنسية الهندية، ولم يكن وصفهم بـ “حمر الوجوه”، سوى محاولة لتشويه صورتهم، واتّهامهم بالتوحش والهمجية، وهكذا اكتظ تاريخ الكيان الوظيفي الغاصب، بمتوالية لانهائية من صور المحو والإزاحة، التي طالت جغرافيا القارة المستباحة، أرضا وإنسانا وتاريخا وفكرًا وثقافة وهُوية ووجودًا، جاعلًا من وجوده الطارئ، وكيانه الوظيفي المستجد (الولايات المتحدة الإرهابية)، وجودا متعينا بمنطق الهيمنة وفعل الإجرام، وحقا استعماريًّا مكتسبا بالقوة، ومشروعا بقانون الغاب الإمبريالي، ومؤكّـدًا بقبح التوحش والصلف الاستعماري.

وهكذا قضت مؤسّسة “الإرهاب الإجرامي” الأُورُوبية، المسماة الولايات المتحدة الأمريكية، على وجود ومسمى وهوية وثقافة، وحضارة أُمَّـة بأكملها، وبتروا حضورها الممتد عبر آلاف السنين، ولم يكن كولومبس اليهودي الوحيد، الذي مارس تلك الإبادة والمحو والإزاحة، والاغتيال التاريخي المشين، بل شاركه رفاقه في المشروع الاستثماري، من المرابين اليهود الكثير والكثير، وُصُـولًا إلى المرابي اليهودي، أمريكو فيسو بتشي، الذي نُسبت إليه الأرض المستلبة، زورا وافتراء وبهتانا، علاوة على ذلك، يمكن القول إن العالم أجمع، قد تواطأ مع الغزاة المتوحشين، وبايعوا دولة الشيطان ضمنا أَو علنا، وشاركوا في تغييب الحق/ الأرض، تحت قناع الاسم الاستعماري الطارئ، (الولايات المتحدة الأمريكية)، كما أسهموا في اغتيال الإنسان وجوديًّا وحضاريًّا، تحت مسمى (الهنود الحمر)، الذي لا يمثل وجودهم ولا هُويتهم، ولا يمت إلى عمقهم التاريخي ولا الثقافي ولا الحضاري، بأية صلة كانت.

المسيرة| إبراهيم محمد الهمداني

المصدر: يمانيون

كلمات دلالية: الولایات المتحدة السکان الأصلیین فی مشروع ولم یکن من خلال

إقرأ أيضاً:

هل يستطيع الشرع استثمار التحولات العالمية في تحسين الوضع بسوريا؟

نشرت صحيفة "الغارديان" تقريراً أعده باتريك وينتور، قال فيه إنه منذ توليه رئاسة سوريا رسميًا في 29 كانون الثاني/يناير 2025، قام الزعيم السابق لهيئة تحرير الشام بـ 21 زيارة دولية عامة إلى 13 دولة، وشملت زيارة الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومؤتمر تغير المناخ في البرازيل، والعديد من القمم العربية، متسائلًا فيما لو كان الانتشار الواسع والمصافحات هما المعيارين الوحيدين للنجاح، لكان أحمد الشرع دبلوماسي العام.

وفي أحدث مؤشر على حسن النية تجاه إعادة إحياء سوريا، زار مبعوثون من جميع الدول الأعضاء الخمسة عشر في مجلس الأمن الدولي دمشق الأسبوع الماضي لإحياء ذكرى سقوط بشار الأسد، وكان إظهار الوحدة لحظة بارزة: فمنذ عام 2011، لم تُفرّق أي قضية مجلس الأمن أكثر من سوريا، وكانت الزيارة أيضا اعترافًا بالدور الذي يُمكن أن تلعبه سوريا وشتاتها في تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط.

ولكن في نهاية المطاف، يكمن الاختبار في مدى قدرة الشرع على تَرْجَمَة هذا الفضول وحسن النية إلى شيء ملموس للشعب السوري من حيث رفع العقوبات، والاستقرار الداخلي، والتحرر من التدخل الخارجي، سواء من قِبل إسرائيل أو إيران أو تركيا، الشريك الأيديولوجي المُحتمل للشرع.

وعلى صعيد الاستثمار، تتوالى التعهدات الخارجية. فقد وعدت المملكة العربية السعودية باستثمارات تزيد قيمتها عن 6 مليارات دولار. وتُساعد قطر في إنعاش صناعة النفط والغاز، ومن المُرجّح رفع المجموعة الأخيرة من العقوبات الأمريكية في تصويت جرى مؤخرا، ولكن في ظلّ هذه الفوضى، يُقرّ البنك المركزي السوري بأنه لا يعرف الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للبلاد.


ويعتمد تدفق الاستثمارات الخليجية على استمرار الشرع في مسار المصالحة الداخلية وبناء الثقة، بعيدًا عن تهديد التطرف، في الوقت نفسه، عليه أن يُظهر أن بلاده التي لا تزال تعاني من تداعيات الأزمة لا تُستخدم كقاعدة يُمكِّن الإسلاميين في الجنوب من تهديد إسرائيل، أو يُمكِّن الأكراد في الشمال من تهديد تركيا.

وفي هذه المهمة، حظي بدعم غير متوقع من دونالد ترامب، الذي وعد بزيارة دمشق قريبًا، وقد التقى الشرع بترامب ثلاث مرات، بما في ذلك اجتماع حاسم في تشرين الثاني/ نوفمبر في البيت الأبيض، ليصبح بذلك أول رئيس سوري يزور المكتب البيضاوي منذ عام 1948، قال ترامب حينها بانفعال عند لقائهما: "إنه قادم من بيئة صعبة للغاية، وهو رجل قوي. أنا معجب به".

وبنفسه المعهودة، تابع ترامب: "سنبذل قُصَارَى جهدنا لإنجاح سوريا، لأنها جزء من الشرق الأوسط. لدينا سلام الآن في الشرق الأوسط - وهي المرة الأولى التي يتذكر فيها أحد حدوث ذلك على الإطلاق"، كما تجاهل ترامب تاريخ الشرع المثير للجدل. قال: "لقد مررنا جميعا بماض عصيب"، وكأن نزاعات عقود العقارات في نيويورك تُضاهي حرب الشرع العسكرية في الرقة مع زعيم تنظيم الدولة أبو بكر البغدادي، والتي خسر فيها الشرع 1200 مقاتل.

ولعل أبرز لقاءات الشرع العديدة كانت على خشبة المسرح في نيويورك في أيلول/ سبتمبر عندما أجرى مقابلة مع الجنرال ديفيد بترايوس، مدير وكالة المخابرات المركزية السابق والجنرال المتقاعد الذي قاد القوات الأمريكية في العراق بينما كان الشرع مسجونًا هناك مع أعضاء آخرين في تنظيم القاعدة.

وأبدى بترايوس قلقه على سلامة الزعيم السوري الشخصية، وسأله عما إذا كان ينام قسطا كافيًا، وأضاف أن سجينه السابق لديه "معجبون كثر" وأنه كان واحدًا منهم، رد الشرع مبتسمًا عندما سُئل عن ماضيهما المشترك، قائلًا: "في وقت ما، كنا في قتال والآن ننتقل إلى الحوار"، وقال الرئيس السوري: "لا يمكننا الحكم على الماضي بقواعد اليوم، ولا يمكننا الحكم على اليوم بقواعد الماضي".

ويتجلى هذا الاستعداد لرفض قواعد الماضي في العمليات الاستخباراتية المشتركة المتميزة التي نفذتها وزارة الداخلية السورية بالتعاون مع الولايات المتحدة الشهر الماضي، والتي أسفرت عن تحديد موقع 15 مخبأ لأسلحة داعش في جنوب سوريا، ويكمن القلق في أن الضغوط الخارجية تعيق الشرع في مهمته الشاقة المتمثلة في الحفاظ على وحدة البلاد.

ففي الجنوب، لا تزال إسرائيل مقتنعة بأن الإسلاميين يعدون لهجمات إرهابية، بينما في الشمال، تتوق تركيا إلى رؤية قوات سوريا الديمقراطية الكردية القوية إما منزوعة السلاح أو مندمجة بالكامل في الجيش السوري، وفي كلتا الحالتين، يحث البيت الأبيض الجهات الخارجية على التحلي بالصبر. أما في حالة إسرائيل، فإن مخاوف دمشق تكمن في أنها عازمة على إضعاف سوريا إلى درجة تفتيتها، مع وجود دولة صغيرة يهيمن عليها الدروز في الجنوب، وفي المجمل، تعرضت سوريا لما يقرب من 1000 غارة جوية إسرائيلية، بما في ذلك على العاصمة، وواجهت أكثر من 600 توغل بري.

لم تكن سوريا في وضع عسكري يسمح لها بفعل أي شيء سوى الاحتجاج. وهناك الآن دلائل على أن ترامب بدأ يفقد صبره إزاء ما يعتبره استيلاءًا عكسيًا على الأراضي، يمنع سوريا من استعادة سيادتها، حيث حذّر الرئيس الأمريكي إسرائيل من تجاوز الحدود، قائلًا على قناة "تروث سوشيال": "من المهم جدا أن تحافظ إسرائيل على حوار قوي وحقيقي مع سوريا، وألا يحدث أي شيء من شأنه أن يتعارض مع تطور سوريا إلى دولة مزدهرة".

وقال بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، مدركًا استياء ترامب، إن التوصل إلى اتفاق أمني مع سوريا ممكن طالما أن الشرع أنشأ منطقة عازلة منزوعة السلاح تمتد من دمشق إلى جبل الشيخ. لكن قد يجادل ترامب بأن إسرائيل، بإضعافها الشرع، لا تفعل سوى تأجيج حالة عدم الاستقرار التي يزدهر فيها التطرف.

وفي شمال سوريا، تعثرت جهود الشرع لدمج المقاتلين الأكراد السوريين، ومعظمهم من قوات سوريا الديمقراطية، في جيش وطني سوري، والمقرر اكتماله بحلول كانون الأول/ ديسمبر. لسنوات، كانت السياسة التركية مدفوعة بالعداء تجاه قوات سوريا الديمقراطية، ذات الأغلبية الكردية، والتي تُساويها بحزب العمال الكردستاني (PKK)، وهي جماعة تعتبرها أنقرة "إرهابية" تعمل داخل تركيا.

وتزعم قوات سوريا الديمقراطية أن لديها حوالي 70 ألف رجل وامرأة في صفوفها، وأنها تلقت سنوات من التدريب الأمريكي كجزء من الجهود المستمرة للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة للقضاء على جميع فلول داعش، وتسيطر قوات سوريا الديمقراطية على 25 بالمئة من الأراضي السورية، فيما تخشى هذه القوات أن يؤدي نزع سلاحها إلى تعريض مقاتليها لهجمات الجماعات الإسلامية المتحالفة مع الشرع.

وافقت قوات سوريا الديمقراطية في آذار/ مارس على الاندماج مع الجيش السوري، ولكن بشرط أن تتمتع قواتها بدرجة من الاستقلالية،  لكن منذ ذلك الحين، كثّفت تركيا محادثاتها بشأن اتفاق سلام محتمل مع زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، المسجون في جزيرة إمرالي.


وفي مقابلة حديثة مع المونيتور، جادل الزعيم الكردي السوري ألدار خليل بأن حل مسألة دمج قوات سوريا الديمقراطية يكمن داخل تركيا. وقال خليل: "مع كل خطوة تتخذها تركيا لحل القضية الكردية داخل تركيا، لا يمكن إلا أن تنمو قدرتنا على أن نصبح حلفاء. علاوة على ذلك، إذا كان هناك حل للمشكلة الكردية في تركيا، فإن جهود تركيا لمنع الشرع من منح الأكراد حقوقهم ستتوقف أيضا.

ويختتم الكاتب قائلا: "أعتقد أن ما يحدث في تركيا سيحدد ما سيحدث هنا، ومن الواضح أنه بعد أن كانت ساحة لعب للجهات الفاعلة الخارجية بدءًا من روسيا والولايات المتحدة وصولا إلى إيران وتركيا، لا تزال سوريا تواجه طريقًا محفوفًا بالمخاطر للعودة إلى السيادة".

مقالات مشابهة

  • بالفيديو: وزيرا استثمار الأردن وإندونيسيا يناقشان فرص ومشاريع مستقبلية
  • ماذا ينتظر الأقصى خلال عيد الأنوار اليهودي الوشيك؟
  • سوريا تمنح ترخيصا لمنظمة تهتم بالحفاظ على التراث اليهودي
  • سوريا ترخص أول منظمة معنية بالإرث اليهودي.. ومساع لإعادة الممتلكات المصادرة
  • الموافقة لسكك حديد مصر على استثمار 15 قطعة أرض في المحافظات
  • النائب أيمن أبو هنية: الموازنة الحالية تحتاج إلى نهج اقتصادي جديد
  • إنكار الحقائق وترويج الأكاذيب
  • إنفستكورب تستهدف استثمار 6 مليارات دولار خلال سنتها الحالية
  • استثمار تكنولوجى
  • هل يستطيع الشرع استثمار التحولات العالمية في تحسين الوضع بسوريا؟