المرابي اليهودي كولومبس.. أولياتُ استثمار المخزون الإجرامي في مشاريع الإرهاب المؤسّسي
تاريخ النشر: 20th, January 2025 GMT
يمانيون../
كشفت الحروبُ الصليبية -على امتداد قرنين من الزمان- عن عمق التغلغل والاختراق اليهودي، وخطورته العالية -في مستوياتها التصاعدية- على شعوب أُورُوبا المسيحية، اجتماعيًّا وسياسيًّا وفكريًّا، حَيثُ كانت الجماعات الوظيفية الإجرامية، في تشكيلاتها الأولية، وغاياتها الذرائعية النفعية – الإجرام مقابل المال والنفوذ – بمثابة النواة الأولى، في مشروع التسلط والنفوذ اليهودي، الذي تجاوز مظاهر السيطرة المحلية، على مركز صناعة القرار (الملك ونظام حكمه)، إلى فرض معادلة السيطرة الإقليمية، من خلال السيطرة على المؤسّسة الدينية (الكنيسة المسيحية)، ولم يكن (الرهبان اليهود)، سوى بعض ثمار المرحلة الأولى، الذين سرعان ما انتقلوا من طور (القتلة المأجورين)، إلى طور (الرهبان المقاتلين)، في انتهاك صارخ لمحظورات الكنيسة، التي تحرم على الرهبان – وكافة رجال الدين – حمل السلاح أَو القتال مطلقا، وهو ما يعكس عمق الاختراق اليهودي، للهرم الوظيفي الكنسي، من كرسي البابوية إلى أصغر خدامها، ويعكس أَيْـضًا – من ناحية ثانية – مدى الجرأة على انتهاك المضمون الديني، ومقدرة اليهود العالية، في توظيف مقولاتهم وأيديولوجياتهم وعقائدهم العنصرية والإجرامية، في صياغة مقومات الإيمان المسيحي، وبناء الروح الإيمانية الجديدة، ذات الصبغة اليهودية المتطرفة، وإثباتها ضمن بنية النص المقدس، (العهد الجديد/ الإنجيل)، بوصفها جزءا أصيلا وثابتا، في طبيعة وروح التدين المسيحي، كما يعكس – من ناحية ثالثة – مدى تحكم العقل اليهودي، في صناعة الأحداث وأبطالها، وتقديمهم على مسرح التاريخ، وإيهامهم – ومن حولهم – أنهم صانعوا التحولات التاريخية، بينما هم مُجَـرّد أدوات، تسيرهم وتحَرّكهم اليد الخفية، وتجعلهم يتبنون الفكر اليهودي جملة وتفصيلا، دون وعي بذلك، ظنا منهم أنها مواقفهم ومشاريعهم الخَاصَّة، ومن خلال التكامل الحاصل، بين رأس المال اليهودي، وخطط واستراتيجيات مشاريع الهيمنة الصهيونية، تحوَّل معظم التاريخ الإنساني – على مدى قرون متعاقبة – إلى منتج يهودي خالص، تتقاسم الشعوب مقولاته العنصرية، وتؤمن بخرافاته العدائية، وتوثق مشاهده الإجرامية التوحشية الدامية، وتخوض حروبه بالنيابة، معتقدة أنها حروبها ومعاركها الخَاصَّة.
لكن قراءة فاحصة واحدة لمسار التاريخ، ستكشف – حتمًا – طبيعة الترابط الوثيق، بين جذور الأفكار اليهودية المتطرفة، التي شاركهم الجميع في اعتناقها، وحركة الأحداث وتداعياتها المرتبطة بها والمنبثقة عنها، التي تم تسخيرهم جميعًا لاجتراحها، على اختلاف المكان والزمان والأشخاص.
يمكن القول إن جماعةَ “فرسان الهيكل”، كانت النموذج الأكثر إثارة، في تاريخ المجتمعات البشرية، التي أغرمت بقوتها وغموضها، وسعت إلى محاكاتها، وإنتاج نماذج جماعات وظيفية مشابهة، ربما بلغت حَــدّ التطابق الفكري والسلوكي، سواء أكانت سياسية أم دينية، دون مراعاة لخصوصيات مجتمعها المسيحي أَو الإسلامي.
في الجانب الآخر، كانت الحروب الصليبية، النموذج الأسوأ للإرهاب الديني المؤسّسي، ورغم سقوط مزاعمها، وذرائع مشروعيتها، وانكشاف قبح غاياتها الاستعمارية، وقذارة أساليبها الوحشية، إلا أن ذلك لم يمنع التاجر/ المرابي اليهودي، من استنساخ صورة ذلك النموذج الإجرامي، والاشتغال على مرتكزاته، من خلال إعادة تدوير، واستغلال المخزون الإجرامي، القابع في سجون أُورُوبا؛ بهَدفِ صناعة جماعات استيطانية إحلالية، ذات مرجعية دينية، مستمدة من المسيحية اليهودية، حَيثُ رأى فيها التاجر اليهودي (كولومبس) – من منظوره الربوي – مشروعا استثماريًّا مربحًا، وثروة إجرامية ضخمة، يمكن من خلالها تحقيق المكاسب المالية والسياسية الهائلة، شرط أن يتم استغلالها الاستغلال الأمثل، وهو ما سعى إليه، وحرص على تحقيقه، حين وضع المرتكزات الأَسَاسية، لأول مشروع استيطاني إحلالي منظم، بوصفه فكرة قابلة للتنفيذ، إذَا حظيت بتبنٍ رسمي، واضعا الذهب والثروات الطائلة والنفوذ السياسي، مقابل الثروة البشرية الإجرامية، وهو ما أكّـد عليه بنفسه، في معظم رسائله إلى ملكي أراغون وقشتالة، مؤكّـدًا أن الغاية من رحلته البحرية، هي جمع أكبر قدر ممكن من الذهب والثروات، بما يكفي لإعداد جيش جرار، لتحرير واستعادة (أورشليم)، ليدحض بذلك الترويج الاستعماري، لصورة (كولومبس) البحار المستكشف، في بعديها الإنساني والحضاري، بالرغم من أن تلك الأرض، التي زعموا أنه اكتشفها، ومنحوه بناء على ذلك، سلطة ودور المؤرخ اليهودي عليها، في ممارسة الاغتيال التاريخي، والمحو والإزاحة بحقها، وطمس هويتها واسمها، رغم أنها لم تكن مجهولة، لا بالنسبة إليه ولا لغيره، فقد ورد ذكرها في كتب التاريخ، الممتدة من بطليموس إلى المسعوديّ، كما ظهرت في معظم خرائط الجغرافيين والملاحين، حَيثُ كانت تلك الخرائط ذاتها، هي إحدى وسائله لإقناع ملكي أراغون وقشتالة، بالموافقة على تبني ورعاية مشروعه الإجرامي، وتحفيزهما ليكونا بطلا الخلاص، وقيادة جيش تحرير (أورشليم)، مؤكّـدًا أنهما المعنيان بهذه المهمة المقدسة، حسب أُسطورة الخلاص، التي تضمنتها النبوءات اليهودية، واعدًا إياهما بتوفير التمويل الكامل لذلك الجيش، هذه الحقائق وغيرها، أثبتها كولومبس (التاجر اليهودي)، كشهادة على نفسه، في يوميات رحلته الأولى، التي ترجمها المؤرخ البريطاني، كليمنت ماركهام عام 1893م، بالإضافة إلى ما ورد في الكثير من رسائله، التي خص بها الملكين، في أوقات متفرقة.
لم ينس كولومبس اليهودي، توظيف العاطفة الدينية ومشاعر الحماس، في نفوس فواعل مشروعه الاستيطاني، حَيثُ أوعز إلى البابا، بمنح أُولئك المجرمين صكوك الغفران، اللازمة للدور الجديد، بالإضافة إلى منحهم القداسة، بوصفهم (رسل الرب)، وقادة حربه المقدسة، وهي ذات العقيدة الانتقامية اليهودية، التي تصور جرائم وحروب اليهود المقدسة، حين يخوضها إلههم (رب الجنود) إلى جانبهم، كونها تعبر عن شهوة الانتقام لديه، ورغبته الذاتية الخالصة، في محو وإبادة غير اليهود.
كان النجاح الذي حقّقته رحلته كولومبس، وكميات الذهب والثروات، التي عاد بها إلى ملكي أراغون وقشتالة، كفيلا بفتح شهية أطماع ممالك أُورُوبا، وإشعال فتيل نزعتها الاستعمارية المتأصلة، فتسابقت إلى إخراج مخزونها الإجرامي من السجون، واستثماره في مشروع (كولومبس) الاستعماري، وبذلك تسارعت وتيرة الاستيطان الإحلالي الأُورُوبي، على امتداد جغرافيًّا ما سُمي (أمريكا)، حتى بعد وفاة كولومبس، حَيثُ استمرت هجرة عصابات مجرمي أُورُوبا، الذين استوعبوا المهمة الاستعمارية، واحترفوا الدور الوظيفي الإجرامي، ومارسوا أبشع صور المجازر، والقتل الجماعي، والإبادة الجماعية الشاملة، والتعذيب والإرهاب والتوحش، بحق سكان الأرض الأصليين، وإقامة الجيوب الاستيطانية، التي مثلت امتداد (الإرهاب الإجرامي)، سياسيًّا وفكريًّا وسلوكيًّا، في ارتباطها بجذورها التاريخية، ودورها الإرهابي الوظيفي، بوصفها الامتداد المكاني، لمسار الإجرام الأُورُوبي، والاستمرار الفعلي لتموضعه الجديد، الذي أعاد إنتاج هيمنة المكان الأُورُوبي، من خلال تسمية الجيوب الاستيطانية، بتلك المسميات المكانية القديمة، التي استعادت شبابها وبريقها الاستعماري، بإضافة كلمة (New) إلى هوية المكان الجديد مثل، نيو يورك، نيو جيرسي، نيو مكسيكو، وغيرها، لتشهد على عمق الاتصال بالأصل المكاني، أَو من خلال تسمية بعض الجيوب الاستيطانية، بأسماء ملوك وملكات أُورُوبا، تأكيدا على عمق الارتباط والانتماء والولاء، شاهدين على أنفسهم بحضورهم الطارئ، وافتقارهم لأدنى مقومات الانتماء الثقافي أَو التاريخي أَو الحضاري، الذي عادة ما يربط أي جماعة بشرية، بالمكان الذي يمثل هُويتها وانتماءها.
فوائدُ استثمار الإجرام في مشروع الإبادة والمحو والإزاحة:
“الولايات المتحدة الإرهابية”
مما لا شك فيه أن عقلية التاجر المرابي اليهودي، لم تغفل جانب الربح، الذي سيجنيه الكيان الإسرائيلي اليهودي فيما بعد، من استثمار المخزون الإجرامي الأُورُوبي، في مشروع الهيمنة والتسلط الإمبريالي، الذي تسابق ملوك أُورُوبا للمشاركة فيه، بوصفه فرصة استثمارية مربحة جِـدًّا، كفيلة بتحقيق أعظم وأكبر المكاسب السياسية والاستراتيجية والاقتصادية، بأقل جهد وأرخص تكلفة، من خلال إعادة تدوير مخلفات الثروة البشرية التالفة، المتعفنة بنزعة الإجرام والتوحش، خلف قضبان جدران السجون المظلمة، وتحويلها إلى جماعات وظيفية، تتجاوز هامش الأرباح (الكولومبسي) المؤقت، ممثلا بكميات الذهب الهائلة، وحجم الثروات الطائلة، إلى بند الفوائد الكبيرة الدائمة، ممثلة بامتلاك مصادر الغذاء والطاقة، علاوة على استغلال العمق الاستراتيجي، لممارسة الهيمنة السياسية والاقتصادية، خارج القارة العجوز، حتى أن بعض ممالك أُورُوبا، امتلكت عمقا استراتيجيًّا جيوسياسيًّا، على خارطة النفوذ والهيمنة، وجغرافيا الاستيطان الإحلالي، ما يفوق مساحة المملكة ذاتها، بأضعاف مضاعفة.
لم يشفع للسكان الأصليين، طيبتهم وتسامحهم وكرمهم، وترحيبهم بأساطين الإجرام وأرباب الدموية والعنف والتوحش، ولم يكتف الغزاة الوافدون، بما أغدق عليهم السكان الأصليون، من الذهب والأموال الهائلة، والهدايا والتحف النادرة، وما وهبوهم من الأراضي الزراعية الشاسعة والبذور، حَيثُ أعقب كُـلّ ضيافة لهم، عدوان إجرامي غاشم، وعمل وحشي غادر جبان، ومجازر وعمليات إبادة شاملة، بحق المضيفين أصحاب الحق والأرض، ليؤكّـد بذلك قطعان المستوطنين الغاصبين، على نزعتهم الإجرامية التوحشية، وطبيعتهم الدموية المتأصلة، وتلذذهم بممارسة أعمال القتل والإبادة الجماعية، ومشاهد التطهير العرقي، التي استهدفوا من خلالها جنس السكان الأصليين، بالإبادة الجسدية وتغييب وجود الذات، زمانيًّا ومكانيًّا.
ولم يقف قبح وإجرام مخلفات سجون أُورُوبا، من الوحوش البشرية، عند بشاعة اغتيال وتصفية السكان الأصليين، بالإبادة الجسدية والمجازر، بل وصل إلى حالات متقدمة من السخافة والانحطاط، حين نصب المحتلّ الأُورُوبي نفسه ملكا غاصبا، على أرض لا تمت إليه بصلة، معلنا امتلاكها بمشروعية القوة والقتل، متفاخرا بما اقترف من الغدر والاحتيال والتوحش، بحق السكان الأصليين الطيبين والودودين جِـدًّا، كما وصفهم شاهدًا على خبث نفسه، وبشاعة جرائمه دون مواربة أَو خجل، ولم يكتف صانع الإجرام القادم من الغرب، بنهب الأرض وسرقة خيرات أهلها، وإقامة إمبراطوريته المزعومة، على جماجم وأشلاء ودماء المدنيين الأبرياء، بل قام ذلك القاتل الهمجي البربري المتخلف، بدور المنتصر صاحب الحق في كتابة التاريخ، وفقا لمبدأ الغلبة وقانون الغاب، ولم يكن فيما كتبه، غير مشاهد الدمار والخراب والإجرام الفاحش، التي عجز عن تجميل قبحها، وتبرير وحشيتها بقناع الحضارة المزعوم.
كانت إبادة مئات الملايين، من السكان الأصليين، فاتحة لنشأة المغتصبات الأُورُوبية، ابتداء من (المستعمرات الثلاث عشرة)، وُصُـولًا إلى ما يعرف باسم الولايات المتحدة الأمريكية، البالغة ثلاث وخمسين ولاية مغتصبة، على ركام وأشلاء من أطلق عليهم – احتقارا وتغييبا لذواتهم – الهنود الحمر، رغم أنهم ليسوا من الجنسية الهندية، ولم يكن وصفهم بـ “حمر الوجوه”، سوى محاولة لتشويه صورتهم، واتّهامهم بالتوحش والهمجية، وهكذا اكتظ تاريخ الكيان الوظيفي الغاصب، بمتوالية لانهائية من صور المحو والإزاحة، التي طالت جغرافيا القارة المستباحة، أرضا وإنسانا وتاريخا وفكرًا وثقافة وهُوية ووجودًا، جاعلًا من وجوده الطارئ، وكيانه الوظيفي المستجد (الولايات المتحدة الإرهابية)، وجودا متعينا بمنطق الهيمنة وفعل الإجرام، وحقا استعماريًّا مكتسبا بالقوة، ومشروعا بقانون الغاب الإمبريالي، ومؤكّـدًا بقبح التوحش والصلف الاستعماري.
وهكذا قضت مؤسّسة “الإرهاب الإجرامي” الأُورُوبية، المسماة الولايات المتحدة الأمريكية، على وجود ومسمى وهوية وثقافة، وحضارة أُمَّـة بأكملها، وبتروا حضورها الممتد عبر آلاف السنين، ولم يكن كولومبس اليهودي الوحيد، الذي مارس تلك الإبادة والمحو والإزاحة، والاغتيال التاريخي المشين، بل شاركه رفاقه في المشروع الاستثماري، من المرابين اليهود الكثير والكثير، وُصُـولًا إلى المرابي اليهودي، أمريكو فيسو بتشي، الذي نُسبت إليه الأرض المستلبة، زورا وافتراء وبهتانا، علاوة على ذلك، يمكن القول إن العالم أجمع، قد تواطأ مع الغزاة المتوحشين، وبايعوا دولة الشيطان ضمنا أَو علنا، وشاركوا في تغييب الحق/ الأرض، تحت قناع الاسم الاستعماري الطارئ، (الولايات المتحدة الأمريكية)، كما أسهموا في اغتيال الإنسان وجوديًّا وحضاريًّا، تحت مسمى (الهنود الحمر)، الذي لا يمثل وجودهم ولا هُويتهم، ولا يمت إلى عمقهم التاريخي ولا الثقافي ولا الحضاري، بأية صلة كانت.
المسيرة| إبراهيم محمد الهمداني
المصدر: يمانيون
كلمات دلالية: الولایات المتحدة السکان الأصلیین فی مشروع ولم یکن من خلال
إقرأ أيضاً:
الشرق الأوسط بين مشاريع التفكيك وإعادة التموضع
25 يوليو، 2025
بغداد/المسلة: ناجي الغزي
يمر الشرق الأوسط اليوم بمرحلة إعادة تشكيل عميقة لا تُشبه أي مرحلة سابقة في تاريخه الحديث. نحن لا نشهد مجرد تنافس نفوذ بين قوى تقليدية وإقليمية، بل عملية إعادة هندسة شاملة للخرائط الجيوسياسية والبنى العسكرية والاصطفافات الاستراتيجية، تقودها الولايات المتحدة بغطاء خليجي وأدوات متعددة الوظائف، وعلى حساب مفاهيم السيادة والدولة الوطنية التي كانت تشكل ركائز النظام العربي لعقود.
أولاً: اختلال التحالفات الكلاسيكية
المؤشر الأبرز في المشهد الإقليمي اليوم يتمثل في اهتزاز التوازن التقليدي الذي حكم العلاقة بين مصر والسعودية لعقود. الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الإيراني إلى القاهرة، والتي وُوجهت باستياء خليجي مبطّن، كشفت عن مفارقة استراتيجية: بينما تحتج الرياض على أي تقارب مصري إيراني، فإنها – في الوقت ذاته – تقود طفرة في العلاقات التجارية والدبلوماسية مع طهران، في مسار تصالحي تتداخل فيه حسابات النفط والأمن والتهدئة اليمنية.
إن ما يبدو من تباعد مصري-خليجي ليس مجرد تباين في التكتيك، بل يعكس تصدعاً في الرؤية الاستراتيجية للمنطقة. القاهرة، التي طالما لعبت دوراً مركزياً في القضايا السورية والليبية والسودانية، تجد نفسها اليوم مُستبعدة من ملفات جوهرية، في الوقت الذي تتقاسم فيه الرياض وأبو ظبي و الدوحة وواشنطن وأنقرة النفوذ الميداني والسياسي في هذه الساحات.
ثانياً: سوريا كنموذج للتفكيك العسكري الممنهج
أخطر ما يُعاد إنتاجه اليوم هو المشروع الأميركي الناشئ في سوريا، والذي يقوده دونالد ترامب من موقعه في الولاية الثانية عبر أدوات جديدة، يتصدرها “الجيش السوري الجديد” بقيادة أحمد الشرع. هذا التكوين العسكري ليس فقط وليد التحالف مع المعارضة المسلحة أو الفصائل المحلية، بل يقوم على دمج مقاتلين أجانب من الشيشان والتركستان والروس والإيغور ضمن هيكل وظيفي عسكري عابر للهوية الوطنية.
إن هذا التحول يشير إلى انتقال المشروع الأميركي في سوريا من منطق “تغيير النظام” إلى “إعادة تشكيل الدولة”، ليس عبر المفاوضات أو إعادة الإعمار، بل من خلال خلق بديل عسكري – مرتزق، يقف على النقيض من الجيش السوري النظامي، ويملك ولاءه لمعادلات الخارج لا الداخل.
ما يثير القلق في هذا النموذج هو التشابه مع تجربة تأسيس إسرائيل وجيشها: الذي أعتمد على تجميع عناصر مهاجرة ومقاتلين متعددي الجنسيات في جيش عقائدي يخدم مشروعاً جيوسياسياً وظيفياً، يُعيد رسم الحدود ويقلب توازنات الردع الإقليمي. وهو ما قد يُمهّد لتعميم النموذج في ساحات هشّة مثل ليبيا أو السودان، حيث تسعى واشنطن وحلفاؤها إلى بناء قوى أمنية موازية للجيوش الرسمية.
ثالثاً: مصر خارج معادلة إنتاج القرار الإقليمي
الرفض المصري المتكرر لمقابلة الرئيس الأميركي، والتصريحات المصرية غير المسبوقة بحق المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط، لا يمكن قراءتها إلا في إطار إدراك القاهرة المتزايد بأنها أصبحت خارج معادلة “إنتاج القرار” الإقليمي. فواشنطن تُدير هندسة المنطقة اليوم دون المرور عبر القاهرة، وتُعيد تأهيل معارضة سورية بديلة، وتدعم بنيات عسكرية موازية في دول الطوق، بينما تُفرغ الأمن الإقليمي من مضمونه العربي لصالح تحالفات “متعددة الجنسيات”.
في المقابل، يبدو أن مصر تحاول الآن انتهاج سياسة “التموضع المتقاطع”، عبر فتح خطوط مع طهران وموسكو، ليس بهدف خلق محور بديل، بل لمراكمة أوراق ضغط تسمح لها باستعادة بعض الوزن الاستراتيجي في ملفات كانت تقليدياً من اختصاصها.
رابعاً: الطاقة كسلاح سياسي
في موازاة ذلك، يبدو أن الخليج يتجه نحو عسكرة السوق النفطية، بالتنسيق مع الولايات المتحدة، من خلال تصعيد إنتاجي يستهدف تقويض قدرة روسيا على تمويل حربها في أوكرانيا. السعودية التي لطالما دعمت توازن أسعار النفط، بدأت تنخرط في لعبة كسر العظم مع موسكو، مستغلة فائضها المالي والسياسي، في إطار صراع موازٍ للصراع العسكري في أوروبا.
هذا التكتيك ليس منعزلاً عن التحركات الأميركية في سوريا، حيث تسعى واشنطن أيضاً لتجفيف منابع النفط التي تموّل المحور الروسي-الإيراني، سواء في الحسكة أو دير الزور. وبينما تحاول موسكو التمسك بموقعها في المعادلة السورية، تدفعها واشنطن نحو إعادة تموضع قسري عبر الخنق الاقتصادي، والتطويق السياسي من الداخل السوري.
خامساً: المآلات الاستراتيجية وخيارات الردع والاحتواء
تُواجه القاهرة اليوم تحدياً وجودياً يتجاوز مسألة التهميش الدبلوماسي، إلى خطر التحول من “فاعل مؤسس” إلى “مراقب قلق”. فكلما توسعت المشاريع العسكرية البديلة – المدعومة من قطر وتركيا وأميركا – تقلّصت المساحة أمام الجيش المصري كمرجعية عربية للأمن. وكلما تطورت ديناميات “البديل الأمني الوظيفي” في سوريا وليبيا، ازدادت احتمالات توسيعه ليطال مناطق جوار مصر، خصوصاً السودان.
في هذا الإطار، يبقى الرد الاستراتيجي المصري مرهوناً بقدرتها على صياغة سياسة خارجية هجومية، لا دفاعية، قادرة على:
1. خلق تحالفات مرنة مع قوى دولية (مثل الصين والهند ) دون الانزلاق إلى محور مضاد.
2. إعادة تفعيل الدور المصري في المسارات السورية والسودانية عبر مبادرات مدنية ومخابراتية تتجاوز البعد التقليدي.
3. تعزيز القوة الناعمة والدبلوماسية الاقتصادية المصرية كمداخل لاستعادة التأثير في المشهد الإقليمي.
4. بناء سردية جديدة للأمن العربي ترتكز على الدولة الوطنية لا التكوينات الميليشياوية العابرة.
ومن الملاحظ أن الشرق الأوسط يُدار اليوم من خارج الخرائط الرسمية، ومن داخل غرف عمليات استراتيجية عابرة للحدود. وتبدو كل دولة في المنطقة أمام اختبار وجودي: إما أن تعيد تموضعها على أسس جديدة تحفظ سيادتها وعمقها الأمني، أو تذوب تدريجياً في لعبة المحاور، كمجرد ورقة في يد الكبار. في هذا السياق، لم يعد التهديد هو الحرب الشاملة، بل التفكيك البطيء الذي يبدأ من الجيش وينتهي بالدولة.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
About Post AuthorSee author's posts