أعباء الإستنارة
تاريخ النشر: 23rd, January 2025 GMT
أعباء الإستنارة
خالد فضل
الوعي مرحلة ترقي وسمو بالإنسان , إقتراب أكثر نحو سداد الإنسانية وتمامها , وإبتعاد مقابل عن محطات وعورتها وتوحشها وانحطاطها . هو مرحلة لا يبلغها الفرد إعتباطا , إنّما كدحا وكفاحا , أهمّ ما يميّز هذا السعي هو التواضع , في كل عتبة يعتليها الشخص يتكشف أمامه حجم ما يجهل , فيزداد ولعا وشغفا بالسعي نحو التمام , وبالفعل ينقضي العمر كلّه ولن يبلغ سدرة المتهى في هذه السكة الرفيعة الصعبة .
ليس كل من نال حظّا في التعليم المدرسي ولو بلغ به الشأو مرحلة العالِم الخبير بالضرورة قد رافق تقدّمه العلمي هذا تقدّم في الوعي . كم ممن حاز درجات الدكتوراة وما فوقها والأستاذية في مضمار علمي معقّد , لكن لم يتجاوز وعيه بالآخر مرحلة الضد والعداوة والإحتقار ,ورغم إمتلاكه ناصية البحث ومناهجه الدقيقة وانطوى عقله على قدرات هائلة في التحليل والإستنباط , بيد أنّ كل قدراته تلك تكون محصورة فيما برع فيه من مجال , لم تتحول عنده القدرات إلى سمات في شخصيته , ليستخدم معارفه في مجال العلوم التي حذق ؛ في جميع مجالات الحياة , فتراه يتبع مثلا تحليلات وخزعبلات شخصية وهمية عبر الوسائط فيشكّل رأيه تبعا لما يسمع دون استخدام لعقله الذكي في التحليل
الإستنارة عبء ثقيل على من أوتي قبسا منها , ذلك أنّها تجعل المرء يكافح في جبهتين متوازيتين , أولاهما الثبات على استنارته والعمل على استمرارها وتطويرها مما يكلّفه عنتا , والجبهة الثانية , تحمّل رزء الجهالة الكثيفة المضادة للوعي . لننظر في تجربة الأستاذ ياسر عرمان نموذجا . لقد سعى في لجة كدحه إلى استبصار أفق مغاير لما قرّ في أوساطه الإجتماعية من دواعي النفور والعداوة _عن جهل_ والتحقيروالإزدراء بالجنوبيين , وبالتالي الصد عن التأمل في أطروحة بناء السودان الجديد كقاعدة فكرية سياسية للحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الراحل د. جون قرنق . لقد تمّ وصم ياسر بأنّه آبق خارج عن القبيلة مغرّد خارج سرب (غربانها) في الحقيقة , وتمّ دمغه بما فيه وما ليس فيه من نقائص , وكفّت العيون_ عن قذى أو هوى _عن رؤية فضائله . وظلّ موسوما بصفات القدح لدى خصومه السياسيين , بإعتباره وحده خميرة عكننة , لدرجة تستحق الإعجاب إنْ كان ما يسند إليه من أدوار صحيحا . فهو من قاد الجنوبيين للإنفصال , و من ألّب الحلو وعقار على التمرد ثانية , وهو شيخ المتمردين الدارفوريين , و من أخذ بتلاليب البشير إلى المحكمة الجنائية الدولية , وهو من استألف حميدتي إلى حقل المدنية , و من أشعل حرب 15أبريل , وهو الداعية لتفكيك الجيش حتى صار مليشيات , و من يمنع حميدتي من السلام وهو عرّاب الإطاري ومحرّض فولكر والغرب , إلى ذلك فهو الشيوعي قاتل الأقرع وبلل . لقد تمّ جمع كل نقائص ونقائض السياسة السودانية حزمة واحدة وجعل عرمان هو صرّتها ومؤجج لهيبها !! لا أدوار لجميع الآخرين فيما صار , وبدون تفكير ولو سطحي تنطلق الحكاوي وكأنها المسلمات . تُرى لو أنّ ياسرا لم يك قد ولد لعمنا سعيد وعمتنا فاطمة , هل كان السودان سيكون غير , ولا توجد به مشكلة ؟
في الواقع يكتب عرمان رأيه وتحليله وخواطره في الشأن العام محليا وإفريقيا بشكل خاص, وبعض أشعار , يحكي مآثر رفاق , وأفذاذ , ويطرح ما يمكن الإتفاق أو الإختلاف معه من آراء , وما يبتدعه من تنظيم سياسي وتحالفات , مع مناصب قليلة في السلك العمومي كنيابته في المجلس الوطني الإنتقالي أيام نيفاشا أو المستشار في حكومة حمدوك بعد إتفاق جوبا . غير هذا لم يتول منصبا ولم يترأس منظومة سوى الحركة الشعبيةالتيار الثوري الديمقراطي حاليا بعد مفارقته لمالك عقار على وقع إنقلاب أكتوبر2021م . ومع ذلك لا فرصة لإلتقاط الأنفاس , فهو الموسوم بكل الشرور . هذا نموذج لمعاناة من يسعى للوعي والإستنارة ,فرغم أنّ د. جون قرنق أصبح بطلا قوميا لدى كثير ممن كانوا يتصورونه (صاحب أنياب) حادة يصورها التلفزيون وتتصدّرأغلفة كتاب , إلا أنّه لا فضل لياسر تلميذه النجيب في هذا التغيير المهم , لأنّ النظر والتحليل للمواقف لا يقوم على ساقي الموضوعية والنزاهة , يكفي أن يطلق أحدهم الدعاية فتتلقفها آلاف العقول الخاملة . وشأن ياسر هو شأن رهط عظيم من السودانيين/ات ممن ساروا واسهموا في سكة الوعي , ولعل الشيوعيين يمثلون حالة عجيبة لتناقض الجهل , فهم صنو للنزاهة والشجاعة والجسارة وعفة اليد (لكنهم كفار) لأنّ ماركس قال (الدين أفيون الشعوب) الطريف أنّها الحالة الوحيدة التي يتم الإعتراف بالمسيحية كديانة يجب ألا توصف بأنها أفيون , فقد كان ماركس يعني بمقولته تلك عهود هيمنة الكنيسة على عقول البشر واستغلالهم باسم الدين ؛ لكن من يتأمل ومن يفكّر ! ومنهم الأستاذ الشهيد محمود محمدطه المفكر المستنير الذي بسط وعيه في ساحة يسودها الغوغاء , فكان حظّه الشنق بتهمة ملفّقة وباطلة اسموها الردة عن الإسلام , ولو تدبّر من شايع إغتيال الاستاذ لعلم أنّ محمود أزكى إسلاما ممن يدعونه رياء , لكنها غلالات تعمي الابصار .
إنّ الديمقراطيين في بلادنا يدفعون ثمن وعيهم واستنارتهم , يكابدون للثبات على قيمهم النبيلة في وجه تيار من الظلمات يرى في هذه القيم ما يحرج ضحالتهم ,ويزلزل ما سكن من عقولهم والله غالب .
الوسومأعباء الإستنارة الإطاري خالد فضل
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: أعباء الإطاري خالد فضل
إقرأ أيضاً:
حجارة ومقلاع داود تهزم عربات جدعون
مع دخول حرب نتنياهو الإجرامية شهرها الثاني والعشرين، تتزايد الهزائم التكتيكية لجيش الاحتلال الغازي نتيجة العمليات النوعية للمقاومة، والتي أذهلت بقوتها المتابعين والمحللين السياسيين والاستراتيجيين بقوتها وقدراتها وتكتيكاتها ونتائجها، وخلقت واقعا جديدا في مواجهة مقتلة المساعدات الأمريكية والإسرائيلية التخطيط والهندسة والتنفيذ، والتي باتت صورة يومية تأكل معها الضمير الإنساني، وسقطت معها كل الأقنعة المتبجحة بحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وغدت معها غزة مقبرة لكل المعايير الأخلاقية والدينية والإنسانية، حيث وقف العالم عاجزا بل متخاذلا -إلا القليل منه- عن ردع سلاح التجويع الذي لم يكن أقل فتكا من قذائف المسيّرات والدبابات.
لقد دكت حجارة داود ومقلاعه تحصينات الاحتلال وحواضنه ومستعمراته، ونصبت الكمائن المركبة ونسفت الدبابات وعربات جنوده، واستولت على المسيّرات وأوقعت أفراده مسافة صفر، وقلبت معادلة المواجهة غير المتكافئة إلى مقاومة رابحة وعدو خاسر، لتبرز هنا حقائق عديدة، أولها أنها أثبتت قدرة المقاومة على الثبات والصمود والاستمرار بحرب الاستنزاف الطويلة الأمد، وثانيها امتلاك المقاومة عنصر المبادرة والمفاجأة من خلال عمليات الرصد والمراقبة الدقيقة لتحركات العدو وآلياته، وكذلك حيازة رجال المقاومة وقادتها التكتيكات العسكرية وأساليب القتال التي تتناسب مع موازين القوى والمواجهات غير المناظرة؛ تماما مثل تلك المواجهة الضارية التي خاضها مقاتل واحد لمدة خمس ساعات، مع قوة مدرعة إسرائيلية وجنود مشاة.
ومن الحقائق أيضا تمكن المقاومة من استخدام وتوظيف مخلفات جيش الاحتلال من قذائف وصواريخ لم تنفجر وإعادة تأهيلها، رغم ظروف المعارك الصعبة، مما أدى إلى زيادة أعداد القتلى والجرحى الصهاينة. وجاءت الاستفادة من طبيعة الأرض المليئة بأكوام الركام والأنقاض من الأبنية التي نسفها العدو، لتشكل عاملا مهما وحاسما في نجاح هذه العمليات النوعية، حيث تمكن المقاومون من زرع عبوات العمل الفدائي في أبراج الدبابات ووضع القنابل والعبوات في فوهات ناقلات الجند ومطاردة المقاتلين لدبابات الاحتلال التي شوهدت تهرب من ميدان المعركة.
ومن الحقائق أيضا تنوع الأسلحة المستخدمة من قبل رجال المقاومة؛ ودلالة ذلك زرع ست عبوات من العيار الثقيل، واستخدام صواريخ مضادة للأفراد، وقذائف آر بي جي، والقدرة على حفر أنفاقٍ هجومية جديدة خلال فترة وجيزة كما حدث في عملية سرايا القدس في الشجاعية حيث تم استهداف نحو 40 جنديا وضابطا بين قتيل وجريح، والانتقال من نصب الكمائن إلى الإغارة كما حدث في عملية القسام في خان يونس؛ كل ذلك يفضي إلى حقيقة تطور عمليات المقاومة النوعية مما يعني القدرة على تحديد الزمان والمكان لمواجهة العدو، وفرض إيقاع المعركة عليه.
ومن أهم الحقائق، الحرب النفسية والإعلامية التي حملتها فيديوهات وصور سلسلة عمليات حجارة داود ومقلاع داود، وما جاء على لسان المتحدث العسكري باسم كتائب القسام وسرايا القدس والتي نقلت بالصوت والصورة مراحل تنفيذ العمليات: من مرحلة الرصد والمراقبة، إلى مرحلة التخطيط وتوزيع المهام، إلى مرحلة التنفيذ ثم مرحلة الإسناد والمناورة للانسحاب، وأخيرا مرحلة رصد قوات النجدة وطائرات العدو، مما شكل صدمة للمجتمع الإسرائيلي بما فيه قادته العسكريون، وكان له أثر عميق في مطالبة أُسر الجنود لإنهاء الحرب وسحب أبنائهم قبل عودتهم بالتوابيت.
من جهة أخرى، يعطي هذا الزخم من العمليات النوعية مؤشرا على قوة وثبات وتماسك القيادة العسكرية والميدانية والتنظيمية والإعلامية والسياسية في الداخل والخارج.
لقد أثبتت هذه المواجهات فشل أهداف الحملة العسكرية البرية، تحت مسمى "عربات جدعون" بقيادة رئيس الأركان الجديد زامير، بنسختها المعدلة عن أهداف نتنياهو، الرامية إلى إطلاق سراح الرهائن بالقوة العسكرية، وتفكيك وإنهاء سلطة حماس للقطاع، والقضاء على حماس وقدراتها العسكرية. كما وسّعت نتائج هذه العمليات النوعية للمقاومة الخلافات بين كافة المستويات العسكرية والسياسية والأمنية، وأوجدت انقساما حادا في المجتمع الإسرائيلي، والمطالبة باستقالة نتنياهو وحكومته المتطرفة، واستكمال محاكمته، بعد مطالبة الرئيس ترامب بإلغائها ليشكل بهذا طوق نجاة له وتجميل وجهه القبيح بعد تحقيق الإنجازات -على زعمه- على جبهة إيران وفشله في جبهة غزة.
وما تصريحات ترامب الأخيرة والحديث عن قرب استئناف المفاوضات؛ مما اعتبره زعيم المعارضة لابيد "أن هذا قد يكون عامل ضغط على نتنياهو بوقف الحرب على غزة وإطلاق سراح الرهائن بصفقة تبادل مع حركة حماس"، وما اشتداد المجازر اليومية وبهذه الأعداد من الضحايا، وما رافق ذلك من تجويعٍ وتعطيش واستمرار مقتلة المساعدات، واستكمال ضرب البنى التحتية، وتدمير القطاع الصحي، وحرمان المرضى ذوي الأمراض المزمنة من الاستفادة من علاج الحد الأدنى؛ إلا دلالة واحدة وهي: فشل "عربات جدعون" في تحقيق أهدافها. وما مطالبة رئيس الأركان زامير بعدم توسيع هذه العملية البرية خشية على حياة الأسرى وعلى جنوده، إلا دليل على درايته بالنتائج الكارثية للمعارك والمواجهات مع المقاومة، وفشل قواته بإحراز أي نجاح، سوى قتل الأطفال والنساء المتعمد، والتدمير الممنهج لما تبقى من المربعات السكنية والمباني والمرافق العامة، بهدف القضاء على ما تبقى أيضا من مقومات الحياة، وبالتالي دفع الغزيين إلى الهجرة، وتحقيق ما يتطلع إليه وزراء الأحزاب اليمينية الدينية المتطرفة، وعلى رأسهم بن غفير وسموتريتش.
ومرة أخرى إن تدخل ترامب الأخير، والحديث عن قرب استئناف المفاوضات لعقد صفقة التبادل، ما هو إلا انعكاس لفشل الميدان والانسداد العسكري الإسرائيلي، وقوة وتأثير العمليات النوعية للمقاومة على القوات الغازية والمجتمع الإسرائيلي، الذي يضغط يوميا على ضرورة إنهاء الحرب وإطلاق سراح الرهائن، بينما يتم هذا وسط استمرار التخاذل والصمت الإقليمي والدولي، وغياب المساءلة الدولية القانونية لما يجري من مجازر يومية لتجمعات المدنيين، على الرغم من وجود الكثير من قرارات الشرعية الدولية وعلى الأخص قرار الجنائية الدولية التي نصت على تجنب استهداف المدنيين، وملاحقة المجرمين الصهاينة مرتكبي مجازر الإبادة الجماعية، وعلى رأسهم رئيس الوزراء في دولة الكيان بنيامين نتنياهو.
إن فشل "عربات جدعون" أمام عمليات حجارة داود ومقلاعه، وعودة جنود النخبة جثثا متفحمة، يؤسس لمرحلة جديدة بات الكيان لا يتحمل أعباءها وتبعاتها وكلفتها، وكأن هزائمه التكتيكية ستؤدي بالتأكيد إلى هزيمة استراتيجية، في المهد التاريخي للمقاومة والصمود غزة، ذات الـ365 كيلومترا مربعا، والتي مثلت كبرياء وكرامة الأمة.
[email protected]