في مقولة للملك الراحل الحسن الثاني ملك المغرب يصف فيها معارك الحياة بالمعارك التي يربحها الذين لا يستسلمون، حيث يقول: «معارك الحياة لا يربحها الأكثر قوة ولا الأكثر سرعة، ولكن يربحها أولئك الذين لا يستسلمون».
معارك الحياة كثيرة ومتعددة فهي لا تقتصر على جانب واحد من الحياة، فلكل جانب في الحياة معركته الخاصة، نحن بدورنا كأفراد لنا معاركنا، التجمعات، الدول لديها معاركها الخاصة، لكن أيقونة تلك المعارك هي الصبر والاستمرارية.
معارك الحياة هي معارك وجودية لا يمكن أن تتوقف ما لم يتحقق هدفها وتصل إلى مبتغاها ولنا في التاريخ عبرة فالشعوب التي ناضلت لتحررها من الاستعمار كانت تخوض معارك حياة، معارك وجودية لا بديل لها إلا الكفاح وبشتى الوسائل وصولا إلى التحرير الكامل ونيل الاستقلال، لذلك عنوانها الاستمرارية والنفس الطويل. قد تخفت بعض الأوقات لكنها لا تتوقف، وهي معارك غير متكافئة بين الجانب المستعمر والشعب المقاوم. التاريخ مليء بالأمثلة لتلك الشعوب التي خاضت معارك حياة ونالت استقلالها ولم يوقفها لا وحشية المعتدي المستعمر ولا المجازر التي يرتكبها، ومنها مقاومة الشعب الجزائري ضد المستعمر الفرنسي وتلك الملاحم التي سطرها الفيتناميون ضد وحشية الغزو الأمريكي، ونضال شعب جنوب إفريقيا بزعامة الزعيم نلسون مانديلا وذلك الإصرار والقوة التي تكللت بتحرر جنوب إفريقيا من نظام الفصل العنصري البغيض، وهناك معارك كثيرة خاضتها شعوب العالم الثالث قاطبة، إذ رغم قلة عتادها وإمكانياتها ورغم تكبدها للخسائر البشرية ورغم ضعفها إلا أن الإصرار والعزيمة والاستمرار في المقاومة وعدم الاستسلام كانت سبيلهم لتحقيق النصر.
الشعب الفلسطيني يضرب مثلا منقطع النظير في الكفاح والاستمرارية والإصرار والصبر والتحمل والجلد وهو يقف أمام أعتى قوة عصابة صهيونية غاشمة متجبرة لا تعرف الرحمة منزوعة الإنسانية مدعومة من أغلب دول العالم لذلك لا تتورع عن ارتكاب المجازر والإبادة الجماعية وشتى ضروب التدمير والإرهاب.
عالم يدرك بأن الشعب الفلسطيني الذي فقد أكثر من 50 ألف شهيد وأعداد هائلة من الجرحى، ودمرت غزة عن بكرة أبيها ولم يبقَ فيها مبنى ولا مستشفى إلا ونسف بالكامل، يقف وبكل فصائله ومكوناته في معركة حياة ومعركة وجود مدركا تماما أن الثبات والاستمرارية هما السبيل الوحيد إلى الانتصار. المقاومة الفلسطينية في غزة على وعي تام أن الانتصار في معركة الحياة لا تقاس بالقوة ولا من يملك الأسلحة ولا كثرة الداعمين، بل الثابتين على العهد هم وحدهم من يملكون القدرة على النصر. إن المعركة الحقيقية التي تخوضها المقاومة ضد العدوان الإسرائيلي المستمر ما هي إلا معركة حياة ووجود، وتلك النوعية من المعارك بطبيعتها قد لا تحسم من جولة أو جولتين وإنما تستمر وإن على فترات متقطعة حتى تتحقق الأهداف العليا المنشودة ويتحقق للشعب الفلسطيني الحرية والاستقلال وإنشاء دولته، صحيح أن الشعب الفلسطيني تعرض للإبادة في غزة وغيرها وعلى مر تاريخ النضال وكثرت المجازر في حقه والتدمير الذي طال كل شيء ولم يبق حجر على حجر في غزة، إلا أن ذلك لم يهزم المقاومة ولم تتوقف ولم ترفع الراية البيضاء إيمانا منها بأنها تخوض حرب تحرير ومعركة حياة.
في المقابل، كلنا يدرك بأنه لولا القوة العسكرية الإسرائيلية والتفوق الجوي والقدرات التكنولوجية المخابراتية ناهيك عن الدعم القوي والتأييد الذي تحظى به دولة الاحتلال من أمريكا وبريطانيا وغيرها من الدول الغربية، لكن في معادلة بسيطة لجرد حساب الحرب على غزة، التي أعلن عن توقفها مؤخرا بتوقيع صفقة بين الجانبين بعد خمسة عشر شهرا من الحرب المدمرة، ماذا حققت تلك الحرب من أهداف؟ ماذا حققت إسرائيل في عدوانها؟ وما الذي تحقق للفلسطينيين؟
إسرائيل ادعت النصر وأنها حققت جميع أهداف الحرب، ولم يكتفِ نتنياهو بذلك فقد اعتبر أنه سيعاود الحرب كلما كان ذلك ضروريا. أيضا المقاومة الفلسطينية تعتبر ذلك جولة أخرى لهزيمة العدو لكن معركة الحياة لا تزال مستمرة ولن تتوقف طالما الأراضي الفلسطينية تحت الاحتلال ولن تخمد جذوة المقاومة إلى أن يتكلل في النهاية بالنصر المبين وتتحرر فلسطين من الاستعمار الصهيوني وينال الشعب الفلسطيني حريته في إقامة دولته وعاصمتها القدس الشريف. ساعتها فقط يمكن أن يكون للنصر مذاق آخر وطعم مختلف، لذلك ما لم تتحقق تلك الأهداف فإن معركة الحياة مستمرة، وما هذه إلا فاصل مستقطع وتعود للمقاومة من جديد. ولكن هيهات هيهات أن تسكت المدافع ما لم يتحقق النصر.
إسرائيل لم تحقق شيئا من الحرب، طبعا عدا الدمار وقتل الأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين وتدمير البنية التحتية في غزة، ولولا تفوقها الجوي والدعم الأمريكي الغربي لما تمكنت من تحقيق ذلك.
انتصار غزة والمقاومة يتجلى في إفشال الكثير من الأهداف والخطط المعلنة والمبيتة لغزة ولفلسطين وللوطن العربي برمته. فشلت إسرائيل في تحقيق أهدافها المعلن عنها في بداية الحرب، فلم يتحقق لها سحق حماس وتدمير بنيتها، ولم يتحقق لها طرد الغزاويين وتهجيرهم المتمثلة في خطة الجنرالات التي تهدف إلى ترحيل الغزاويين من شمال غزة تمهيدا لتوطين الإسرائيليين مكانهم، الخطة التي لاقت انتقادا حتى من داخل إسرائيل، فهي تبدأ بتجويع الفلسطينيين وقصفهم في شمال غزة والإعلان عن أنه من يرفض المغادرة طوعا فسيعتبر إرهابيا. الفشل في تحويل غزة إلى منطقة اقتصادية ومنتج سياحي بعد أن يفرغ من سكانه، وإحباط السيطرة على ثروات غزة المتمثلة في النفط والغاز.
المقاومة بدورها كشفت الكثير من الزيف والنفاق الدولي وأماطت اللثام عن أسطورة الجيش الذي لا يقهر والمخابرات التي لا تخطئ. الكل بات يدرك أن العالم ليس إلا مصالح وتزييف وخداع يكتسي تحت غطاء الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. المقاومة أيضا حصدت الكثير من التعاطف الدولي وغيرت الكثير من الموازين وأسقطت الكثير من المسلمات، من كان يتوقع أن تصدر محكمة العدل الدولية مذكرات اعتقال لنتنياهو وبعض من زمرته؟ المقاومة نجحت في إعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة وجعلت العالم يتحدث عن ضرورة حلها بشكل أو بآخر.
في وقت كان نتنياهو يريد أن يهزم ويسحق حماس لكنه لم يكن أمامه خيار ولا مفر من مفاوضتها والإذعان لشروطها والاعتراف، وإن لم يصرحوا بذلك بأن حماس هي القوة المسيطرة على غزة وهي المفاوض الحقيقي باعتراف إسرائيل وأمريكا. هنا تتجلى قوة الضعيف وعجز القوي كما عبر عن ذلك الفرنسي برتران بادي.
ضمن الأشياء التي أوقفتها المقاومة وقف قطار التطبيع الذي لولا طوفان الأقصى لكانت إسرائيل ترتع في معظم الدول العربية، وأسقط تلك السردية التي تدعو لتتعايش والسلم والسلام مع الدولة العبرية. السقوط المدوي للجيش الذي يقال عنه (بهتانا وزورا) الجيش الأكثر أخلاقا وقد تجلت أخلاقياته في قتله للأطفال والنساء والشيوخ والعزل وتدميره لدور العبادة والمستشفيات، وإزالته للبنية التحتية لغزة دون مراعاة لدين أو أخلاق أو إنسانية.
رغم كل ذلك لن تذوق إسرائيل انتصارا ولن تهنأ بالأمن والاستقرار والسلام حيث بدأت الأصوات تتعالى من داخل الكيان معبرة عن تلك المأساة التي يعيشونها وهم الذين يملكون القوة والجبروت، ومن ذلك ما عبر عنه الكاتب الإسرائيلي يائير أسولين الذي قال في مقال له في صحيفة هآرتس: «حتى لو غزونا الشرق الأوسط بأسره، وحتى لو استسلم الجميع لنا (هذا حلم بعيد المنال أن يستسلم لهم الجميع)، فإننا لن نكسب هذه الحرب».
صحيح أن إسرائيل قوية وقوية جدا بما تملكه وبتحالفاتها وداعميها مقارنة بالفلسطينيين لكن تلك القوة ما هي في الحقيقة إلا ضعف في المقابل الفلسطينيون ضعفاء لكنهم أقوياء بصمودهم وتحديهم وعزيمتهم وعدم استسلامهم، وتلك هي معركة الحياة بكل ما تعنية من معنى.
د. بدر الشيدي قاص وكاتب عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الشعب الفلسطینی معرکة الحیاة الکثیر من لم یتحقق فی غزة
إقرأ أيضاً:
ما الذي حققه هجوم إسرائيل على قلب إيران النووي؟
تُمثل الضربة العسكرية الإسرائيلية على إيران فجر اليوم الجمعة تصعيدًا كبيرًا في حملتها الطويلة الأمد لتعطيل طموحات طهران النووية؛ فقد استهدفت فيها قلب البنية التحتية النووية الإيرانية، في أكبر هجوم معروف لها على البلاد حتى الآن، وفقا لتقرير بصحيفة نيويورك تايمز.
الصحيفة نقلت في البداية وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو العملية التي استهدفت منشأة نطنز النووية -المحور الرئيسي لبرنامج تخصيب اليورانيوم الإيراني- بأنها ضربة على "منشأة التخصيب الرئيسية في إيران".
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2نيويورك تايمز: لماذا تفكر إسرائيل في مهاجمة إيران الآن؟list 2 of 2فادي صقر: لم يعف عني أحد وهل يقبل الثوار بشركاء خدموا الأسد؟end of listووفقًا لتقرير محرر الشؤون الخارجية بالصحيفة ديفيد إي. سانجر، فإن الهدف هو تأخير أو ربما عرقلة قدرة إيران على تطوير أسلحة نووية، على الرغم من أن المدى الكامل للضرر لا يزال غير واضح.
الكاتب زعم أن منشأة نطنز التي تنتج غالبية اليورانيوم المخصب في إيران كدست مواد تقترب من المستويات المطلوبة لصنع القنابل النووية، لافتا إلى أن جزءًا كبيرًا من التقدم النووي الإيراني منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي لعام 2015 قد تركز في نطنز، حيث تم تركيب أجهزة طرد مركزي أكثر كفاءة وتسارعت وتيرة التخصيب.
لكن الصحيفة أوضحت أن فوردو، موقع التخصيب الرئيسي الآخر في إيران، وهو هدف أكثر تحصينًا مدفون في أعماق الأرض، ليس هناك حتى الآن ما يؤكد تعرضه للهجوم. ويرى خبراء استشهدت بهم صحيفة نيويورك تايمز أنه إذا بقي فوردو سليما، فقد تحتفظ إيران بالقدرة على إنتاج يورانيوم صالح للاستخدام في صنع الأسلحة.
إعلانالكاتب قال إن هذا الهجوم يأتي في أعقاب عقدين من الإجراءات السرية والعلنية التي اتخذتها إسرائيل والولايات المتحدة بهدف عرقلة التطوير النووي الإيراني، والتي شملت، حسب قوله، الهجوم الإلكتروني "ستاكسنت"، وتخريب مكونات أجهزة الطرد المركزي، واغتيالات مستهدفة لعلماء نوويين.
وبينما أعاقت هذه الإجراءات تقدم إيران في بعض الأحيان، إلا أنها فشلت في إيقافه. وكثيرًا ما أعادت إيران بناء قدراتها وطورتها ردا على ذلك، وفقا للكاتب.
وقد مثّل الاتفاق النووي لعام 2015 نجاحًا مؤقتًا في الحد من برنامج إيران، وفقًا لصحيفة نيويورك تايمز، إذ أجبر إيران على التخلي عن 97% من اليورانيوم المخصب لديها، وحدد مستوى التخصيب إلى مستوى غير مخصص للأسلحة.
ومع ذلك، وبعد انسحاب الرئيس دونالد ترامب من الاتفاق عام 2018، استأنفت إيران أنشطة التخصيب، بل سرّعتها في نهاية المطاف، وهي الآن تُخصّب اليورانيوم إلى درجة نقاء 60%، أي أقل بقليل من نسبة 90% اللازمة لصنع قنبلة نووية.
وتبرز الصحيفة هنا إفادة المفتشين الدوليين مؤخرًا بأن إيران تمتلك ما يكفي من المواد لإنتاج 9 أسلحة نووية، وهو ادعاء استشهد به نتنياهو لتبرير الضربة.
وبالإضافة إلى استهداف البنية التحتية، استهدفت إسرائيل أيضًا القيادة الإيرانية، سعيا للقضاء على القادة العسكريين والنوويين البارزين، مما وسع نطاق العملية إلى ما هو أبعد من المنشآت المادية.
ومع ذلك، وكما يؤكد التقرير، لا تزال هناك شكوك كبيرة، فمن دون إلحاق الضرر بمنشأة فوردو، ربما لم تتمكن إسرائيل من إعاقة الإمكانات النووية الإيرانية بشكل كبير، وقد حذّر محللون نقلت عنهم صحيفة نيويورك تايمز من أنه ما لم يُخترق الموقع الإيراني الأكثر تحصينا، فإن جوهر قدرة طهران على التخصيب ستظل صامدة.
في نهاية المطاف، وبينما تُمثّل هذه الضربة خطوة جريئة ومحفوفة بالمخاطر، فإن صحيفة نيويورك تايمز خلصت إلى أنه من السابق لأوانه الجزم بما إذا كانت إسرائيل قد أعادت تشكيل التوازن الإستراتيجي حقا، أم إنها ببساطة أطلقت شرارة مرحلة جديدة أكثر خطورة في الصراع.
إعلان