سواليف:
2025-12-13@04:57:16 GMT

من مجاعة إيرلندا إلى مجاعة غزة

تاريخ النشر: 29th, July 2025 GMT

من #مجاعة_إيرلندا إلى #مجاعة_غزة

د. #أيوب_أبودية

شكّلت مجاعة البطاطا الكبرى التي حدثت في أيرلندا بين عامي 1845–1852 لحظة تاريخية مفصلية ليس فقط من حيث حجم الكارثة الإنسانية، بل من حيث التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي أعقبتها. إذ تشير الوثائق والسجلات التاريخية إلى أن ما يزيد عن مليون شخص ماتوا جوعًا أو إثر تبعات المجاعة، فيما هاجر مليون آخرون، معظمهم إلى الولايات المتحدة وكندا.

هذه المجاعة الرهيبة تركت آثارًا نفسية وجماعية عميقة في الوعي الإيرلندي، وأصبحت رمزًا للتجويع الاستعماري، والإهمال المؤسسي، والمقاومة الشعبية، خاصة من النساء اللواتي لعبن دورًا محوريًا في إعادة تنظيم الحياة اليومية من أساسها، كما فعلت نساء بغداد بعد اجتياح المغول العنيف لبغداد في القرن الثالث عشر.

مقالات ذات صلة العنف الأسري 2025/07/27

أدى الاعتماد الشديد على محصول البطاطا، التي هي أصلا عُرفت بعد اكتشاف القارة الأمريكية، لا سيما بين الفقراء، إلى هشاشة الأمن الغذائي، فعندما اجتاحت آفة المحصول، لم تجد المجتمعات الزراعية الريفية في الغرب والجنوب الأيرلندي بديلًا معقولًا. هذه الآفة، المعروفة بـ” اللفحة المتأخرة”، جعلت البطاطا غير صالحة للأكل خلال مواسم متتالية، في ظل انعدام دعم بنيوي من الدولة البريطانية.

وبدلاً من تقديم بريطانيا الدعم الفوري للشعب الإيرلندي الذي تحتله، اتبعت الحكومة البريطانية سياسة السوق الحرة الصارمة، ورفضت التدخل المباشر بزعم أن السوق سيتكفّل بحل الأزمة، بل استمرت في تصدير الحبوب من أيرلندا التي تتعرض للمحاعة إلى إنجلترا، وهو ما زاد الطين بِلّة.

في هذا الفراغ المؤسسي والسياسي، تحمّلت النساء العبء الأكبر. فقد تحولت النساء إلى “المحور الأساسي للبقاء” في الأسر والمجتمعات الريفية، فبادرن إلى إيجاد مصادر بديلة للغذاء، مثل الأعشاب البرية أو الجذور، كما تفعل النسوة اليوم في غزة، وقمن بإعادة استخدام الملابس وتحويل الأدوات المنزلية القديمة لأغراض جديدة.

كما قدن الهجرة الداخلية إلى المدن، حيث تولين أعمالًا متدنية الأجر لتأمين الغذاء للأطفال وكبار السن. وهناك شهادات تشير إلى أن بعض النسوة دخلن في شبكات دعم غير رسمية، تبادلن من خلالها الطعام والمعونة والمعلومات حول الجهات التي قد تُقدّم المساعدة، مما يعكس ما يمكن تسميته بـ”اقتصاد الأزمات الأنثوي”، المبني على التضامن والمرونة.

وتُظهر الأدبيات الأنثروبولوجية أن هذا النوع من التنظيم غير الرسمي كان عاملًا أساسيًا في منع الانهيار التام للمجتمعات الريفية. وكما حصل في بغداد ما بعد الغزو المغولي، حيث أعادت النساء بناء شبكات الأسرة والدين والاقتصاد في ظل غياب السلطة المركزية، تكرّرت التجربة في أيرلندا: فالمرأة شكلت بنية الدولة عندما غابت الدولة.

واحدة من أكثر الصفحات المؤلمة في المجاعة كانت ما عُرف بـ”تحوّل الحساء” (Souperism). . فقد ربطت بعض المنظمات الدينية تقديم الطعام بتحوّل الكاثوليك إلى مذهب مسيحي آخر، وخصوصًا في ما سُمّي بـ”مطابخ الحساء”، التي كانت في ظاهرها مؤسسات إغاثة. ورغم أن بعض المؤسسات البروتستانتية لم تشترط التحوّل الديني، إلا أن كثيرًا من الشهادات تشير إلى أن التحوّل كان شرطًا صريحًا أو ضمنيًا للحصول على المعونة. وهل يختلف هذا كثيرا عن تركيز الغذاء على الحدود وإطلاق النار على طالبي المساعدات؟

وقد خلّف هذا الشرط استياءً وغضبًا شديدًا، خاصة أن الكاثوليكية كانت مرتبطة بالهوية القومية الأيرلندية، في مقابل المذهب الآخر الذي رُبط بالحكم البريطاني. فصار الجوع مرتبطًا بذلّ روحي وثقافي، لا فقط مادي. ومن هنا، لم تُرَ المجاعة فقط ككارثة طبيعية، بل كأداة استعمارية لإخضاع الهوية الوطنية والدينية والنفسية.

في النهاية أثّرت المجاعة إيجابيا في بنية الهوية الأيرلندية، وأسهمت في صعود الحركات القومية التي رأت في هذا التجويع المتعمد دليلًا على وجوب الاستقلال عن بريطانيا. ومن المثير أن بعض النسويات الأيرلنديات لاحقًا في القرن العشرين استلهمن من صمود النساء أثناء المجاعة لتأكيد الدور السياسي والاقتصادي للمرأة في الحياة العامة، وهي قراءة تعيد الاعتبار إلى تاريخ كان يُنظر إليه في السابق من زاوية الضحية فقط.

ثمة تشابه بنيوي بين هذا الحدث الإيرلندي في القرن التاسع عشر وما حصل في بغداد بعد الغزو المغولي عام 1258م. فعندما اجتاح المغول المدينة ودمّروا بنيتها العلمية والسياسية والاجتماعية، اضطلعت النساء البغداديات بدور محوري في إعادة تنظيم المجتمع من القاع. إذ تولين التعليم الديني البسيط، وأشرفن على الأسواق الصغيرة، وواصلن العمل في مهن التمريض والطهي والنسج.

الفارق بين مجاعات إيرلندا وبغداد وغزة أن بغداد واجهت تهديدًا عسكريًا مباشرًا، بينما واجهت أيرلندا “غزوًا ناعمًا” عبر التجويع والتبشير الدين، بينما تواجه غزة غزوا عنيفا لم يشهد له التاريخ مثيل، إلا ربما في ليننغراد خلال الحرب العالمية الثانية، ومجاعة كوريا الشمالية (1994–1998) ومجاعة أوكرانيا (هولودومور، 1932–1933) وهي كارثة إنسانية كبرى وقعت خلال حكم ستالين في الاتحاد السوفيتي، وراح ضحيتها ما بين 3 إلى 7 ملايين أوكراني بسبب المجاعة القسرية التي نجمت عن سياسات التجميع الزراعي القسري والمصادرة الشاملة للمحاصيل التي فرضها النظام السوفيتي.

تكشف مجاعة البطاطا الكبرى في أيرلندا عن كيفية تحوّل الكوارث إلى منصة للتمييز الطبقي والديني والسياسي والعرقي، ولكنها أيضًا تبرز قدرة الفئات المهمّشة – خاصة النساء – على ابتكار استراتيجيات مقاومة وصمود تُعيد إنتاج الحياة وتضمن استمراريتها. وهو درس شديد الراهنية في عصرنا الحالي الذي لا يخلو من أزمات: من كوفيد-19 إلى النزوح المناخي إلى انهيار أنظمة الصحة، إلى المجاعات. فكما في الماضي، تبدأ إعادة بناء المجتمعات دائمًا من الجذور، وغالبًا من أيدي النساء، لإعادة بناء الهوية الفلسطينية.

المصدر: سواليف

كلمات دلالية: مجاعة غزة

إقرأ أيضاً:

الإدارة التي تقيس كل شيء.. ولا تُدرك شيئًا

 

خالد بن حمد الرواحي

حين يصبح القياس هدفًا لا وسيلة أمام لوحةٍ إلكترونية مزدحمة بالأرقام والألوان، يقف مديرٌ يراقب مؤشرات خضراء ونسب إنجاز مرتفعة وتقارير أسبوعية محكمة. كل شيء يبدو متقنًا على الشاشة، فتعلو ابتسامة اطمئنان على وجهه. لكن حين يغادر مكتبه إلى الميدان، يكتشف صورةً أخرى: معاملات متأخرة، موظفين مرهقين، ومراجعين ينتظرون أكثر مما ينبغي. هناك فجوة صامتة بين ما تعرضه المؤشرات وما يعيشه الواقع؛ فجوة تختبئ خلف الأرقام وتُخفي الحقيقة بدلًا من أن تكشفها.

لم تكن المشكلة في الأرقام، بل في الطريقة التي صارت تُستخدم بها. فالمؤشرات التي صُمِّمت لتكون بوصلةً للتطوير تحوّلت تدريجيًا إلى غايةٍ في ذاتها. صار همُّ بعض المؤسسات أن ترفع النسب وتُحسّن الرسوم البيانية، لا أن تُصلح المسار أو تُشخِّص الخلل. وهكذا، تزداد الأشرطة الخضراء بينما تتراكم الشكاوى، وتُكتب تقارير النجاح في الوقت الذي يشعر فيه الناس أن شيئًا لم يتغيّر.

وفي أحد الاجتماعات، عُرض تقريرٌ يوضح أن المؤسسة عقدت خلال شهرٍ واحد 42 اجتماعًا مقارنةً بـ18 في الشهر الذي سبقه، فصفّق الحاضرون. لكن السؤال الذي لم يُطرح كان: ماذا تغيّر بعد كل تلك الاجتماعات؟ فزيادة اللقاءات لا تعني زيادة الفهم، وكثرة المؤشرات لا تعني تحسّن الأداء. ما يُقاس غالبًا ليس النتائج، بل النشاط؛ لا الأثر، بل الجهد المبذول.

السبب في هذا الانفصال بين الصورة الرقمية والواقع العملي أننا نقيس ما هو سهل لا ما هو مهم. فعدد الاجتماعات أسهل من قياس جودة القرار، وعدد المعاملات أسهل من فهم تجربة المستفيد. ولأن الأسهل يتغلب على الأهم، تمتلئ التقارير بالأرقام التي يمكن جمعها بسرعة، لكنها لا تشرح شيئًا عمّا يجري حقًا. إنها أرقام بلا روح؛ تصف النشاط بحماس، لكنها تصمت حين يُسأل عن المعنى والغاية.

ومع مرور الوقت، تنشأ حالة من الرضا الزائف، فيظن المسؤول أن الإنجاز متحقق لأن المؤشرات خضراء، بينما يشعر الموظف والمستفيد أن الواقع لا يتحرك. وهنا تكمن أخطر مشكلة: فالفجوة بين الشعور بالنجاح وتحقيقه فعليًا قد تبتلع أعوامًا من الجهد دون نتيجة، لأننا اكتفينا بقراءة الأرقام دون قراءة الحياة داخلها.

الحل لا يحتاج إلى ثورة في الأنظمة، بل إلى مراجعة في الفهم. فالمؤشرات ليست خصمًا، بل أداة حين تُستخدم بحكمة. المطلوب العودة إلى السؤال الجوهري: ماذا نريد أن نفهم؟ هل نبحث عن زيادة الأرقام أم عن تحسين الواقع؟ حين يكون الهدف واضحًا، يصبح القياس تابعًا له لا متقدمًا عليه.

ولعل الخطوة الأولى تبدأ بتقليل الأرقام لا زيادتها. فبدل عشرات المؤشرات التي تشتت الانتباه، يكفي اختيار خمسة مؤشرات تمسّ جوهر الأداء، مثل رضا المستفيد، ووقت إنجاز الخدمة، وجودة القرار، ومستوى التعاون بين فرق العمل. ومع الوقت، يتحوّل القياس من سباقٍ لملء الجداول إلى ممارسةٍ للتعلّم والتحسين، تُحرّر المؤسسة من عبء الشكل وتعيدها إلى روح العمل.

وفي سياق التحول الرقمي الذي تتبناه «رؤية عُمان 2040»، لا تكفي الشاشات الذكية ما لم تُترجم بياناتها إلى قرارات تُحسّن تجربة المواطن وترفع كفاءة الجهاز الإداري. فالرؤية لا تدعو إلى مزيدٍ من المؤشرات بقدر ما تدعو إلى حوكمةٍ أفضل للبيانات وربطها بما يعيشه الناس، حتى يصبح كل رقم خطوةً ملموسة على طريق التغيير، لا مجرد قيمة تُضاف إلى ملف العرض.

في نهاية المطاف، لا تُقاس المؤسسات بعدد الشرائح في العروض، ولا بكثرة المؤشرات التي تتلوّن بالأخضر، بل بما يتغيّر في حياة الناس. فالأرقام قد تمنح شعورًا بالنجاح، لكنها لا تصنع النجاح ذاته إلا إذا رافقها فهمٌ لما وراءها. وحين نضع الواقع قبل الرسم البياني، ونبحث عن الأثر قبل النسبة، يصبح القياس أداةً للتطوير لا غايةً للتزيين. وعندها فقط، تصبح المؤشرات شاهدةً على التقدم لا ستارًا يخفي هشاشة الإنجاز.

 

مقالات مشابهة

  • عاجل| ترامب: الضربات البرية التي تستهدف تهريب المخدرات ستبدأ قريبا
  • رقم كبير.. النجف تكشف كمية الأمطار التي تم تصريفها من شوارع المحافظة
  • تزايد معدلات العنف.. ما الحل؟
  • برنامج الأغذية العالمي يعلن خفض الحصص المقدمة للسودان
  • الأغذية العالمي يقرر تقليص حصص من يواجهون المجاعة في السودان
  • عضو بمجلس الشيوخ الأمريكي: الإمارات أكبر ممول لحملة الإبادة الجماعية في السودان
  • ارتفاع وتيرة العمليات النوعية التي تنفذها أوكرانيا ضد روسيا
  • الإدارة التي تقيس كل شيء.. ولا تُدرك شيئًا
  • إيرلندا تحقق في رصد طائرات مسيّرة خلال زيارة زيلينسكي
  • نجم يوروفيجن التاريخي: مشاركة إسرائيل فضيحة.. وانسحاب أيرلندا موقف شجاع