محاكمة القرن.. كيف قلب مقال أنا أتهم لإميل زولا فرنسا رأسا على عقب؟
تاريخ النشر: 7th, February 2025 GMT
في واحدة من أشهر المحاكمات في التاريخ الأدبي والسياسي، مثل الكاتب الفرنسي إميل زولا أمام القضاء بتهمة التشهير، وذلك على خلفية نشره مقاله الشهير “أنا أتهم…!” (J’Accuse…!) في صحيفة لورور (L’Aurore) عام 1898. جاءت هذه المحاكمة في سياق الجدل المتفجر حول قضية دريفوس، التي قسمت المجتمع الفرنسي وكشفت عن انقسامات عميقة داخل الدولة والجيش.
قضية دريفوس.. الظلم الذي فجّر القضية
بدأت الأحداث عام 1894، عندما أُدين ألفريد دريفوس، الضابط اليهودي في الجيش الفرنسي، بتهمة الخيانة العظمى لصالح ألمانيا، وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة في جزيرة الشيطان. لكن سرعان ما ظهرت أدلة تشير إلى براءته، إلا أن الجيش والسلطات رفضوا إعادة النظر في القضية، خوفًا من الفضيحة.
مع تزايد الأصوات المطالبة بالعدالة، قرر إميل زولا، أحد أبرز رموز الأدب الفرنسي، التدخل بقوة، فنشر مقاله الناري “أنا أتهم” في 13 يناير 1898، متهمًا الجيش والقضاء بالتلاعب بالأدلة، وبأن القضية كانت مدفوعة بمعاداة السامية والمؤامرات السياسية.
محاكمة زولا: الأدب في مواجهة السلطةأثارت المقالة ضجة هائلة، وأدت إلى مقاضاة زولا بتهمة التشهير ضد الجيش الفرنسي. في المحاكمة، دافع زولا عن موقفه بشجاعة، معتبرًا أن مهمته ككاتب لا تقتصر على الأدب، بل تشمل أيضًا محاربة الظلم والدفاع عن الحقيقة.
رغم الحجج القوية التي قدمها، أُدين زولا وحُكم عليه بالسجن لمدة عام مع غرامة مالية، لكنه فرّ إلى إنجلترا لتجنب تنفيذ الحكم، قبل أن يعود إلى فرنسا لاحقًا عندما بدأت الحكومة في مراجعة القضية.
التأثير التاريخي للمحاكمةلم تكن محاكمة زولا مجرد قضية فردية، بل كانت نقطة تحول في فرنسا، حيث ساهمت في الضغط من أجل إعادة محاكمة دريفوس، الذي أُعيدت محاكمته عام 1899، ثم برّئ بالكامل عام 1906.
أصبحت كلمات زولا رمزًا للنضال ضد الفساد وسوء استخدام السلطة، ورسخت دور المثقف في الدفاع عن الحقوق والعدالة. ورغم وفاته عام 1902 في ظروف غامضة، ظل زولا رمزًا للجرأة الأدبية والموقف الأخلاقي في وجه الظلم.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: ألمانيا أنا أتهم المزيد
إقرأ أيضاً:
حينما كان للروايات شأن
ديفيد بروكسترجمة: أحمد شافعي
لي من العمر ما يجعلني أتذكر زمنًا كان للروائيين مقام فيه، فحينما كنت في الكلية في ثمانينيات القرن العشرين، كانت الروايات الجديدة لفيليب روث وتوني موريسون وصول بيلو وجون أبدايك وأليس ووكر وغيرهم أحداثًا ثقافيًا، تتبعها عروض نقدية، وعروض نقدية مضادة، ومشاجرات حول العروض النقدية نفسها.
وليس الحنين وحده هو السبب في هذا، ففي أواسط القرن العشرين وحتى أواخره، كانت الرواية الأدبية [في مقابل روايات الإثارة والمغامرات مثلا] تجتذب جماهير غفيرة، حتى أنكم لو نظرتم في قائمة (الناشرين الأسبوعية) لأكثر الروايات مبيعا في عام 1962 لوجدتم أعمالا لكاثرين آن بورتر وهيرمان ووك وجيه دي سالنجر، وفي العام التالي تجدون كتبا لماري مكارثي وجون أوهارا. وفي مقالة حديثة على سابستاك عنوانها «الانحدار الثقافي للرواية الأدبية» لأوين ينجلينج، عرفت أن رواية راجتايم لـ(إي إل دكترو) كانت أكثر الكتب مبيعا سنة 1975، وأن «شكوى بورتنوي» لفيليب روث كانت أكثر الكتب مبيعا سنة 1969، وأن «لوليتا» لفلاديمير نابوكوف كانت رقم 3 سنة 1958 وأن «دكتور جيفاجو» لبوريس باسترناك كانت رقم 1.
أما الرواج اليوم، إلى حد كبير، فهو لروايات كولين هوفر الفنتازية وغيرها من الروايات النوعية [من قبيل روايات الإثارة والمغامرات]. ووفقا للدراسات المسحية التي تقوم بها المؤسسة الوطنية للفنون منذ عقود فإن عدد من يدعون أنهم يقرأون الأدب يتراجع باطراد منذ عام 1982. ويذكر أوين ينجلينج أنه لم تظهر رواية أدبية ضمن العشرة الأوائل في قوائم الناشرين الأسبوعية منذ عام 2001. ولا اعتراض لي على الروايات النوعية والكتب الشعبية، ولكن أين سكوت فيتزجيرالد أيامنا، أو وليم فوكنر، أو جورج إليوت، أو جين أوستن، أو ديفيد فوستر والاس؟
ولا أقول إن الروايات اليوم أسوأ. (فأني لي أن أعرف طريقة لقياس أمر كهذا). إنما أقول إن الأدب يلعب دورًا أصغر كثيرًا في حياتنا الوطنية وإن لهذا أثرًا في تقليل إنسانية ثقافتنا. لقد كان لدينا شعور، موروث عن العصر الرومنتيكي، بأن الروائيين والفنانين هم ضمير الأمة، فهم شأن الهداة والحكماء ممن ينأون عنا ليقولوا لنا حقيقتنا. ومثلما قال عالم الاجتماع سي رايت ميلز يوما فإن «الفنان والمثقف المستقلين هما من الشخصيات القليلة الباقية المجهزة لمقاومة ومكافحة التنميط وما يستتبعه من موت للأشياء الحية الأصيلة».
ونتيجة لهذا الافتراض، حظي الروائيون باهتمام كبير حتى أواخر الثمانينيات، بل لقد حقق البعض منهم شهرة مذهلة: جور فيدال، ونورمن ميلر، وترومان كابوتي. وكان الحديث الأدبي شديد المركزية لدرجة أن اشتهر بعض النقاد من أمثال سوزان سونتاج، وألفريد كازين ومن قبلهما ليونيل تريلنج وإدموند ويلسن. وكان ثمة عدد أكبر كثيرا من منابر العروض النقدية في الجرائد في شتى أرجاء البلد وفي المجلات المهمة من قبيل ذي نيو ريببليك.
لماذا أصبح الأدب أقل مركزية في الحياة الأمريكية؟ الجاني الأوضح في هذا هو الإنترنت. فقد دمرت قدرة الجميع على التركيز. وأجد هذا مقنعا إلى حد كبير لكن ليس في غالب الحالات. فانحدار الرواية الأدبية بدأ، مثلما يقول أوين ينجلينج، في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، قبل أن تسيطر الإنترنت.
لا يزال لدى الناس من القدرة على التركيز ما يقرأون به الكلاسيكيات. فلقد بيع من رواية 1984 لجورج أورويل (وهي دليل إرشادي أساسي للحظتنا الراهنة) أكثر من ثلاثين مليون نسخة، وبيع من «الكبرياء والهوى» لجين أوستن أكثر من عشرين مليونا. فلا يزال الأمريكيون يحبون الكتب الأدبية. وحينما سألت شركة ووردسريتد للبحوث الأمريكيين أن يرتبوا كتبهم المفضلة، جاء ضمن العشرة الأوائل «الكبرياء والهوى» و«أن تقتل طائرا طنانا» و«جاتسبي العظيم» وجين إير».
ولا يزال لدى الناس من القدرة على الانتباه ما يجعلهم يقرأون قليلًا من الأعمال المعاصرة ـ من قبيل سالي رومني وزادي سميث مثلا ـ مع نثار من الروايات الأدبية اليسارية المضمونة من قبل «حدوتة الوصيفة» لمارجريت آتوود، و«ديمون ذو الرأس النحاسي» لباربرا كينغسولفر. فالأمر أن ما انهار هو الاهتمام بالكتَّاب المعاصرين إجمالا.
أود أن أحكي قصة مختلفة عن انحدار الرواية الأدبية، وهي قصة عن ضغط المجتمع والانسجام معه. ما السمتان اللتان تميزان كل لحظة ثقافية عظيمة تقريبا؟ إنهما الثقة والجرأة. وانظروا إلى فن عصر النهضة أو الروايات الروسية أو الفكتورية. يمكنني القول إن الغرب قد شهد في السنوات الخمسين الماضية شهدت فقدانا كبيرا عاما للثقة والجرأة.
ارجعوا إلى سبعينيات القرن العشرين، لتروا الفنانين والروائيين يجربون في أمور كبيرة جريئة. ففي الأدب كانت «العين الأكثر زرقة» لتوني موريسون، و«قوس قزح الجاذبية» لتوماس بينشن و«هدية هومبولت» لصول بيلو. وفي السينما كان «العراب» ـ في جزئيه الأول والثاني ـ و«القيامة الآن». وكان مطربو الروك يكتبون أناشيد طويلة طموحة من قبيل «سلم إلى السما» و«الطائر الحر» و«الرابسودي البوهيمية». وحتى الصحفيون الأكثر تأثيرا كانوا جريئين من أمثال توم وولف وجون ديديون وهنتر طومسن. واليوم يبدو كل شيء مسلّعا، مبقرطا [من البيروقراطية]، مقيَّدا.
ولقد تضرر العالم الأدبي بصفة خاصة؛ إذ جرى شيء ما للأدب حينما انتقل مركز الجاذبية من قرية جرينتش [حيث كان وسط أدبي مرموق] إلى برامج ماجستير الفنون في الجامعات [حيث يجري تدريس الكتابة الإبداعية]. حينما تخرجت في الكلية، كنت أحلم بأن أكون روائيا أو مسرحيا. تطوعت للعمل محررا أدبيا في مجلة شيكاجو رفيو الأدبية. لكنني بعد اجتماعات قليلة، بدأت أفكر «أهذا حقا ما تريد أن تنفق فيه بقية حياتك؟ في نميمة حول ستة روائيين مغمورين في برنامج أيوا لتدريس الكتابة الإبداعية؟». بدا ذلك عالما صغيرا ومتحيزا.
والعالم الأدبي، فضلا عن ذلك، عالم تقدمي، والتقدمية ـ وليسامحنى القراء اليساريون ـ تعاني من مشكلة في الانسجام. فثمة ضغوط اجتماعية لا تصدق في دوائر اليسار، أكثر حتى مما في اليمين، تمنع قول أي شيء غير مقبول. (أما في اليمين، في المقابل، فيبدو أن المرء يحظى بمكافآت على قوله المزيد من غير المقبول).
في 2023، نشرت المجلة البريطانية لعلم النفس الاجتماعي دراسة خلابة لأدريان لودرز ودينو كاربنترز ومايكل كوايل؛ إذ أجروا بحثا على عينة من الناخبين الأمريكيين (متوسط أعمارهم 34 عاما) فحللوا آراءهم في قضايا من قبيل الإجهاض والهجرة والحد من التسلح وزواج المثليين.
تبين للدراسة أن ذوي الميول اليسارية يميلون إلى تبني رؤى أكثر تطرفا ومحافظة وترابطا، فلو أنكم علمتم رأي شخص يساري في الهجرة، لأمكنكم التنبؤ برأيه في الإجهاض. أما اليمينيون فتميل آراؤهم إلى التعدد والتنافر. فرأي اليميني في الهجرة أقل كشفا لرأيه في الحد من التسلح. فاليسار أكثر انسجامًا.
يتسق هذا مع تجربتي. فحينما أزور مدرسة في قسم أزرق [مؤيد للحزب الديمقراطي] من البلد، غالبا ما يكون الطلبة خائفين من التعبير عن رأيهم في الفصول الدراسية. يذكرني هذا أيضا بدراسة أجرتها أماندا رايبلي مع شركة بريديكت وايز للاستطلاعات والتحليلات لمجلة ذي أطلنطيك سنة 2019. بحثت هذه الدراسة في المقاطعات الأمريكية أيها الأكثر انفتاحا عقليا، وأيها الأكثر تحيزا ضد الخصوم السياسيين. ظهر أن اليمين لديه وفرة من التعصب (وبخاصة في فلوريدا) ولكن يبدو أن المقاطعة الأكثر تعصبا في أمريكا هي مقاطعة سوفولك بولاية ماساتشوستس، التي تضم بوسطن، وغير البعيدة من منطقة الخليج.
ولا بأس بالانسجام في بعض المهن، كأن يكون أحدهم مساعدا لعضو في الكونجرس، حيث لا يؤجر على قوله الآراء. إنما ذلك في مهنة الكتابة أمر فيه بأس كبير. فالغاية الكبرى من كون المرء مفكرا مستقلا ـ بتعبير المنظِّر الاجتماعي إرفنج هاو ـ هو أن يقف «صلبا ووحيدا». وفي ضوء معايير الزمن، كان لإديث وارتون ومارك توين وجيمس بولدوين قدر هائل من الشجاعة، وما عظمة أعمالهم إلا نتيجة شجاعتهم وعدم انسجامهم.
ولو أن الضغوط الاجتماعية المحيطة بالمرء قوية، فإنه سوف يكتب لزمرة الناس الذين يفرضون هذه الضغوط واعين أو غير واعين، فتكون كتابتك بالطبع صغيرة شأن غيرك. ولو أنك تكتب خائفا من النفي الاجتماعي، فسيكون الأشرار في روايتك مزرين. لأنك سوف تعهد إليهم بشرور أحادية البعد، ولن تجعلهم مقنعين ومغوين بطرقهم اللعينة. ولن يروق لك أن يراك الناس داعما لآراء أو لشخصيات قد تعرضك للإلغاء.
والأهم أنك إذا لم تتحل بشجاعة اجتماعية حقيقية، فإنك لن تخرج عن فقاعتك لتكتب ما تلزم كتابته من أجل فهم ما يجري في حياة غيرك، في هذا المرجل الهائل المعروف بأمريكا.
في عام 1989، كتب وولف مقالة لمجلة هاربرز بعنوان «تعقب الوحش ذي الألف قدم»، حاول فيها أن يبث بعض الجرأة في زملائه الروائيين. إذ ناشدهم الخروج من جيتوهاتهم الثقافية بكتابة رواية ضخمة جريئة قادرة على اقتناص الزمن، من قبيل روايات بلزاك وتشارلز ديكنز وجون شتاينبك وسنكلير لويس في أيامهم. وقد فعل وولف نفسه ذلك سنة 1987 بروايته «نار الغرور»، وهي روايته الهائلة التي تتناول طبقات مجتمع نيويورك، والتي لا تزال صامدة إلى حد كبير اليوم.
لقد عشنا، وبخاصة في العقد الأخير، عصر جدل عام هائل. بليت فيه حياتنا الداخلية بموجات صدمة الأحداث العامة. وشهدنا فقدانا شاملا للإيمان. وكم أود أن أقرأ روايات ضخمة تقبض على هذه العواصف السيكولوجية والروحية. ومع ذلك ففي بعض الأحيان حينما أختلس نظرة إلى العالم الأدبي، أشعر بوجود ثقافة فرعية مهمشة.
وذلك ما يمضي بي إلى النبأ السعيد. لو أن مشكلة الرواية الأدبية هي الضغط الاجتماعي وفقدان الشجاعة، فهذه مشكلة قابلة للحل. ويخبرني من يعلِّم الكتَّاب الشباب أن بيننا الآن شبابا جسورين من الروائيين يقومون بعمل ذي شأن. ولا غرابة بالنسبة لي في أنهم راغبون في تحطيم القيود التي تعايش معها غيرهم. فلعل نجوما تلوح في الأفق.
الأدب والدراما قادران على بث ما يحرك الآخرين. فحتى المسلسل التلفزيوني العظيم لا يمكنه أن يتيح لك الحياة الداخلية لإنسان مثلما يفعل الأدب. بوسع الروايات أن تقبض على روح العصر الفائقة للوصف بالغة القوة، بثراء تعجز أن تضاهيه الشاشات والوسائط البصرية. ويبدو لي من المستبعد للغاية بعد ستمائة سنة أن تتبدد قوة الكلمات المطبوعة. لذلك أراهن بكل ما أملك على أن الأدب سيرجع، وستكون تلك ضربة قاصمة لكل قوى انتزاع الإنسانية المحيطة بنا.
خدمة نيويورك تايمز