في عالم أصبحت فيه البيانات هي القوة المحركة للاقتصاد الرقمي، تشكل حماية الخصوصية وإدارة تدفق البيانات بين الدول تحديا متزايدا.

فمنذ سنوات طويلة كانت العلاقة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مبنية على أسس قانونية تتيح نقل البيانات عبر الأطلسي بسلاسة وأمان، وهو ما انعكس إيجابيا على الأنشطة التجارية والشركات الكبرى.

لكن رغم وجود آليات لحماية البيانات مثل "درع الخصوصية" (Privacy Shield) الذي كان يمثل الاتفاقية الأساسية بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لحماية البيانات الشخصية، فإن التطورات القانونية والسياسية قد تهدد هذا التوازن الهش، وتضع الشركات الكبرى أمام تحديات قانونية قد تعرقل تدفق البيانات وتؤثر على الاقتصاد الرقمي بين الجانبين.

“التعرف على الوجوه” من التقنيات الذكية التي تتجاوز سقف الخيال وجدران الخصوصية (الجزيرة) من "درع الخصوصية" إلى مستقبل غير واضح في عهد ترامب

على مدار سنوات، شكل "درع الخصوصية" (Privacy Shield) الإطار القانوني الذي ينظم نقل البيانات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لكنه واجه تحديات قانونية أثارت تساؤلات حول استمراريته.

ومع عودة ترامب إلى البيت الأبيض لولاية ثانية، تتجه الأنظار إلى الإطار الجديد الذي حلّ مكان "درع الخصوصية"، وما إذا كانت الإدارة القادمة ستُبقي عليه أم ستعيد صياغته بما يتماشى مع سياساتها الجديدة.

فعندما تولى ترامب منصبه عام 2017 أبقت إدارته على "درع الخصوصية"، مما سمح باستمرار تدفق البيانات عبر الأطلسي من دون تعارض مع قانون حماية البيانات في الاتحاد الأوروبي، وهو ما عزز العلاقات التجارية بين الطرفين.

إعلان

ورغم أن ترامب في كل من 2016 و2024 وعد بالتراجع عن سياسات سابقيه، فإن "درع الخصوصية" لم يكن ضمن هذه التراجعات، ولعلّ ذلك يعود لإدراك إدارته أهميته الاقتصادية.

ومن الجدير بالذكر أنه في أول يوم له بمنصبه وزيرا للتجارة في إدارة ترامب عام 2017، أكد ويلبر روس ضرورة الحفاظ على "درع الخصوصية"، مستندا إلى التوجيه الرئاسي 28 (PPD-28) الذي أصدره باراك أوباما، والذي فرض على وكالات الاستخبارات الأميركية توفير مستوى من الحماية لخصوصية الأفراد خارج الولايات المتحدة.

أما من الناحية الاقتصادية، فقد كان الحفاظ على الإطار أقل تكلفة من إلغائه، إذ إن إلغاءه كان سيمنح الاتحاد الأوروبي مبررا لفرض قيود تجارية على الشركات الأميركية قد تضر بالصادرات.

لكن هذا الإطار لم يصمد طويلا، ففي يوليو/تموز 2020 ألغت محكمة العدل الأوروبية (CJEU) درع الخصوصية، معتبرة أنه لا يوفر حماية كافية للبيانات وفقا للقانون الأوروبي، لا سيما في ما يتعلق بعمليات المراقبة الأميركية والحقوق الأساسية للأفراد.

ومع هذا القرار، بدأت إدارة ترامب مفاوضات لإيجاد بديل قانوني جديد، وهي الجهود التي استكملتها إدارة بايدن حتى توصلت في عام 2023 إلى إطار عمل جديد يستند إلى الأمر التنفيذي "إي أو-14086" (EO-14086)، في محاولة لتلبية المتطلبات الأوروبية وتعزيز استمرارية نقل البيانات عبر الأطلسي.

مشروع 2025 وإلغاء الأوامر التنفيذية.. ما بعد الانتخابات الأميركية

خلال حملته الانتخابية لعام 2024، طرح ترامب مشروعا شاملا لإعادة تشكيل الحكومة الفدرالية، تضمن اقتراحات لإلغاء العديد من الأوامر التنفيذية التي أصدرها بايدن، منها الإطار الذي يدعم حماية البيانات، وتمّ إعداد مسودة لمجموعة من الأوامر الجديدة التي قيل إنها ستُنفذ فور تولي الإدارة الجديدة مهامها في عام 2025.

ورغم أن تقرير مشروع 2025 العام الماضي أوصى بإجراء دراسة فورية، فإنه لم يدع إلى إلغاء الأمر التنفيذي "إي أو-14086" (EO-14086) أو تعليق أي من أحكامه التي قد تعرقل عمليات جمع المعلومات الاستخباراتية بشكل غير مبرر.

إعلان

ومع ذلك، أقرّ التقرير بالدور المحوري لهذا الأمر في دعم تدفقات البيانات والدفاع ضد أي تحدٍّ قانوني محتمل أمام محكمة العدل الأوروبية.

إقالات في مجلس الخصوصية.. إعادة توجيه أم تسييس؟

بين الأوامر التنفيذية المثيرة للجدل، والوثائق التي بدت غير دقيقة لدرجة أن البعض تساءل عن إمكانية استعانة المشرعين بالذكاء الاصطناعي لصياغتها، غابت سلسلة من الإقالات التي قد يكون لها تأثير بعيد المدى على استقرار الاتفاقيات التي تنظم عملية نقل البيانات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

ففي 27 يناير/كانون الثاني، وفي خطوة غير تقليدية، قام ترامب في بداية ولايته الثانية بإقالاتٍ شملت عددا من المسؤولين في مجلس الرقابة على الخصوصية والحريات المدنية (PCLOB)، وهي وكالة مستقلة تهدف إلى ضمان حماية حقوق الخصوصية والحريات المدنية عند تطوير القوانين وتنفيذها، وهم: شارون برادفورد فرانكلين، وإد فلتن، وترافيس لوبلانك.

وإذ إن الثلاثة ينتمون إلى الحزب الديمقراطي، فقد اعتُبرت هذه الخطوة جزءًا من جهود الإدارة الجديدة لإعادة توجيه السياسات داخل الهيئات التي تشرف على عمل الحكومة وتراقب شفافيتها، بحسب تقرير نشرته صحيفة "الإندبندنت" (L’indipendente).

ووفقا للمصدر نفسه، تثير هذه التدخلات السياسية تساؤلات مشروعة عن استقلالية مجلس الرقابة على الخصوصية والحريات المدنية، وهو ما يفتح المجال لتأمّلات عميقة حول تأثير هذه القرارات على الاتفاقيات الدولية، خاصة في أعين الاتحاد الأوروبي.

وتعد استقلالية هذا المجلس من الركائز الأساسية لإطار خصوصية البيانات عبر الأطلسي (TADPF) الذي ينظم نقل البيانات الشخصية بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

ويلتزم هذا الإطار بتوفير حماية كافية للبيانات الشخصية للمواطنين الأوروبيين عند انتقالها إلى الولايات المتحدة بما يتماشى مع معايير الخصوصية الأوروبية، كما يعدّ المجلس أداة رقابية أساسية لضمان عدم استغلال هذه البيانات من قبل الحكومة الأميركية.

إعلان

ورغم الانتقادات التي تُوجّه إلى استقرار هذا الإطار، فإنه يظل جزءا حيويا لضمان استمرارية العمل في الاقتصاد الرقمي العالمي الذي يعتمد بشكل متزايد على الحوسبة السحابية والتكنولوجيا الرقمية.

ومن أجل ذلك، فإن تسييس هذا المجلس قد يهدد استقرار الأسس الدبلوماسية الهشة التي يقوم عليها هذا الاتفاق، بحسب الصحيفة نفسها.

الأمر التنفيذي 14086 وأهمية استمراريته

وفقا لتقرير نشره موقع "لاوفار" (Lawfare)، على الإدارة المقبلة تفادي تعطيل الأمر التنفيذي 14086 الذي صُمّم بعناية ليتماشى مع متطلبات حماية الخصوصية الأساسية وفق القانون الأوروبي، مع الالتزام بالإطار القانوني والدستوري للولايات المتحدة.

فهذا الأمر لا يحدث تغييرات جوهرية في أساليب جمع المعلومات الاستخباراتية، بل يعمل على توضيح وتقنين ممارسات طويلة الأمد طُورت عبر إدارات متعاقبة.

وكما أقر مشروع 2025، فإن إطار خصوصية البيانات سيواجه تحديا قانونيا حتميا أمام محكمة العدل الأوروبية، وأي تعديلات جوهرية على الأمر التنفيذي 14086 قد تهدد استقرار الإطار، مما قد يعيد تدفقات البيانات التجارية إلى حالة من الفوضى القانونية، ويزيد من حالة عدم اليقين في الاقتصاد الرقمي الأميركي.

التحديات القانونية المتعلقة بالأمر التنفيذي 14086 وأثرها على نقل البيانات

قد يواجه الأمر التنفيذي 14086 عقبات قانونية داخل الولايات المتحدة، حيث من الممكن أن يعترض مسؤولو وزارة العدل الجدد على آلية المراجعة التي أنشئت بموجب هذا الأمر.

في هذا السياق، تعتمد تعيينات قُضاة محكمة المراجعة على الأساس القانوني نفسه المستخدم في تعيين المستشارين الخاصين، مثل جاك سميث الذي اعتبرت القاضية إيلون كانون تعيينه غير دستوري وهو حكم قيد الاستئناف حاليا.

وقد دعمت المدعية العامة السابقة لفلوريدا، بام بوندي، هذا القرار في مذكرة لمعهد السياسة الأميركية الأولى، قبل أن تصبح مرشحة لمنصب المدعي العام في إدارة ترامب المحتملة، مما يمنحها سلطة تعيين قضاة محكمة المراجعة.

إعلان

ورغم الجدل القانوني المحيط بهذه القضايا، فإن قضاة محكمة مراجعة حماية البيانات يعملون بدوام جزئي، ولهم صلاحيات محدودة في مراجعة حالات فردية، دون التأثير المستدام على عمليات المراقبة، بعكس المستشارين الخاصين الذين يتناولون تحقيقات موسعة وطويلة الأمد.

ومع ذلك، تمثل محكمة المراجعة عنصرا مهما في طمأنة الاتحاد الأوروبي بعد إلغاء "درع الخصوصية"، إذ توفر آلية شبه قضائية لمراجعة قضايا الأمن القومي وفقا للقانون الأميركي.

كما يلزم الأمر التنفيذي 14086 وزارة العدل بتقييم التزام دول الاتحاد الأوروبي بمعايير حماية البيانات، وهو نهج مشابه للقانون الأميركي لعام 2015، مما يمنح الإدارة الأميركية ورقة تفاوضية مهمة.

ورغم عدم عرض قضايا على محكمة المراجعة حتى الآن، تشير التوقعات إلى أن التدقيق الأوروبي سيستمر بما قد يؤدي إلى قضايا جديدة في المستقبل.

في الوقت نفسه، لا يفتح الأمر التنفيذي المجال لتجاوزات في المراقبة، إذ إن إلغاء آلية التظلم قد يؤثر سلبا على تدفق البيانات التجارية والعلاقات الاقتصادية مع أوروبا، الأمر الذي يستدعي الحفاظ على الإطار الحالي ما لم تلغه محكمة العدل الأوروبية، مما يفرض ضرورة إعادة التفاوض.

السيرفرات الحديثة تحتوي على طاقة استعيابية أعلى للشرائح تزيد من قدرة معالجة البيانات وعمليات التدريب في الذكاء الاصطناعي (ميتا) قيود البيانات تضغط على الشركات.. كيف تهدد سياسات البيانات الاستثمارات الرقمية؟

وفقا لتقرير "لاوفار"، سوف يؤدي تعطيل إطار خصوصية البيانات إلى تعريض تدفقات البيانات التي تعد حيوية للتجارة عبر الأطلسي وللشركات والمستهلكين في كل من الولايات المتحدة وأوروبا للخطر.

فالجدير بالذكر أنه حاليا هناك أكثر من 2800 شركة معتمدة بموجب هذا الإطار، وهو عدد يفوق الشركات التي اعتمدت على "درع الخصوصية" سابقا، ويشمل شركات التكنولوجيا الكبرى مثل "غوغل" و"مايكروسوفت"، فضلا عن مؤسسات الخدمات المالية والتجزئة السياحية التي تشكل جزءا أساسيا من الصادرات الأميركية.

إعلان

فالشركات التكنولوجية الكبرى تعتمد اعتمادا كبيرا على التدفق السلس للبيانات بين الولايات المتحدة وأوروبا، حتى تتمكن من تقديم خدماتها عبر الأطلسي وتوسيع عملياتها في أسواق جديدة.

في السياق نفسه، أوضح تقرير "الإندبندنت" أن الوكالات الحكومية والمدارس والمؤسسات الصحية، وأي جهة عامة أخرى قد تضطر إلى إيقاف نقل المعلومات الرقمية بشكل مفاجئ، مما يعوق قدرتها على الاستفادة من خدمات السحابة المقدمة من شركات مثل "أمازون ويب سيرفيسز" (AWS) و"غوغل" و"مايكروسوفت" ونظرائهم.

أما الشركات الخاصة فستُواجه مزيدا من حالة عدم اليقين الإداري، مع ما يترتب على ذلك من أعباء بيروقراطية إضافية تؤثر على إستراتيجياتها التشغيلية.

الاقتصاد الرقمي في اختبار 2025.. هل يحسم القانون معركته قريبا؟

مع استمرار الجدل القانوني والسياسي حول مستقبل نقل البيانات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، يبدو أن عام 2025 سيمثل محطة حاسمة قد تحدد ملامح المرحلة المقبلة.

فإما أن تستمر الاتفاقيات الحالية بدعم من تعديلات قانونية تعزز الثقة، أو تواجه تحديات قانونية قد تعيد المشهد الرقمي إلى عدم اليقين.

إن التوجهات السياسية الحالية، بما في ذلك إمكانية إلغاء أو تعديل الأوامر التنفيذية مثل "إي أو-14086" وقرارات أخرى قد يتخذها ترامب، قد تحدث تأثيرات عميقة على قدرة الشركات على التأقلم مع التغييرات في السياسات الخاصة بالخصوصية.

فإذا تمّ تعديل هذه الأوامر أو تعليقها، قد تواجه الشركات حالة من عدم الاستقرار القانوني تضر بنقل البيانات بشكل آمن وسلس عبر الأطلسي.

هذا الأمر يهدد استمرارية التعاون بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في مجالات التكنولوجيا والخدمات الرقمية، خاصة أن استمرار التطور في مجال الحوسبة السحابية وذكاء الأعمال قد يفرض على الأطراف المعنية البحث عن حلول توافقية لا تضر بحركية الاقتصاد الرقمي.

إعلان

ويبقى السؤال المطروح: هل ستظل الأطراف المهيمنة على نقل البيانات عبر الأطلسي قادرة على الحفاظ على الثقة المتبادلة وتطوير حلول جديدة، أم إن التحولات القانونية السياسية ستفرض قيودا كبيرة على تدفق البيانات وتعطل مسيرة الابتكار الرقمي؟

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات محکمة العدل الأوروبیة الأوامر التنفیذیة الولایات المتحدة الاقتصاد الرقمی حمایة البیانات تدفق البیانات البیانات بین هذا الإطار الحفاظ على هذا الأمر

إقرأ أيضاً:

ما هي خطة صنع في الصين 2025 التي أقلقت أميركا؟

الحضور الدائم للصين، في الخطاب السياسي الرسمي الأميركي، مقرونًا بالقلق والنقد والإساءة، وتقديمها بوصفها "قوة صاعدة"، تمثل تهديدًا عسكريًا واقتصاديًا، والإلحاح على هذه الصورة، في الخطابات الشعبوية الأميركية، التي تضمنت مناشدات عاطفية وضخمت من مخاطر التنافس الصيني الأميركي وذلك لحشد الناخبين، ترك ـ هذا كله أو بعضه ـ قناعةً بأن ثمة صراعًا للهيمنة على العالم، بين قوتين وحيدتين؛ هما: واشنطن وبكين، فيما تجلس بقية القوى العالمية الأخرى، في مقاعد المشاهدين، وتنتظر النتيجة النهائية، متوقعة أن تحسمها الصين لصالحها في مباراة "من جانب واحد"!

قبل عشر سنوات، أطلقت الصين ما وصفته بـ" صُنع في الصين 2025″، يهدف إلى دفع الصين إلى طليعة مجموعة من الصناعات التكنولوجية الفائقة، بما في ذلك صناعة الطيران والفضاء، والسيارات الكهربائية، والروبوتات، والاتصالات.

لم تنشر بكين تقييمًا رسميًا لخطة "صنع في الصين 2025″، ومن غير المعروف، ما إذا كان حرصًا منها على عدم استفزاز واشنطن "المتوثبة"، أم نزولًا عند شروط السرية المفترضة. لكن حسابًا أجرته صحيفة واشنطن بوست العام الماضي وجد أن 86% من الأهداف المنصوص عليها في الخطة قد تم تحقيقها.

إعلان

وفي جلسة استماع، بالكونغرس الأميركي، حول "صنع في الصين 2025" في فبراير/ شباط الماضي، أعرب خبراء أميركيون، عن انزعاجهم من التقدم السريع، الذي أحرزته الصين، في التصنيع المتقدم، وحذَّروا من أن أميركا تخاطر "بخسارة الثورة الصناعية القادمة"، وذلك مع تواتر التقارير التي تؤكد أن الصين " تستعد لعالم ما بعد الولايات المتحدة".

يتفق قطاعٌ من الساسة المؤثرين، وصناع القرار، في واشنطن في واقع الأمر على أنَّ أحد أهداف الحلم الصيني، هو إزاحة النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، وبالتالي زعامة واشنطن وقوتها العالمية.

والحال أنه لعقودٍ، أدرجت الصين فعلًا، على رأس أشواقها وأحلامها، خططًا لتقويض نفوذ الولايات المتحدة في النظام الدولي، ويُجمع الباحثون الصينيون على أنَّ التنافس الإستراتيجي الأميركي منهجيٌّ، ودائمٌ، ومُحدد لعصر جديد.

يصفه يان ييلونغ، الأستاذ بجامعة تسينغهوا، بأنه "ليس مجرد خلاف بين دولتين ذات سيادة"، بل هو "صراع هيكلي بين التجديد الكبير للأمة الصينية والهيمنة الأميركية".

ويعتقد الفاعلون السياسيون في بكين، أنه بفضل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، باتت الصين أقربَ من أي وقتٍ مضى، إلى تحقيق ما تأمله في هذا الإطار.

وإذا كانت سياسته الخارجية ـ أي ترامب ـ تُمثل عودةً إلى إمبريالية القرن التاسع عشر، فإنه عمل بشكل مذهل أيضًا، وبمفرده، على تفكيك نظامٍ عالميٍّ اعتبرته بكين الأداةَ الأكثر فاعليةً للقوة الأميركية.

بيد أنَّ السؤال الذي، عادةً ما يغيب وسط صخب الأدبيات السياسية، التي تحتفل بصعود الصين ـ أو البديل الصيني لمرحلة ما بعد الولايات المتحدة ـ هو ما إذا كانت الصين، قادرةً فعلًا، على الوفاء بشروط تولي القيادة العالمية، من جهة، وما إذا كانت أميركا ـ في ولاية ترامب الحالية ـ لا تزال تتفوق على كل بدائلها المحتملة، بما فيها الصين، في القدرة على ممارسة هيمنتها على العالم، وفرض هيبتها السياسية والعسكرية والاقتصادية عليه، من جهة أخرى.

إعلان

غالبًا ما يُستشهد، بخطاب شي جين بينغ عام 2017، أمام المؤتمر الوطني التاسع عشر، للحزب الشيوعي الصيني، كدليل على نية بكين، تغيير دور أميركا في العالم، وفي ذلك الخطاب، يتصور شي الصين "قائدة عالمية"، بعد أن "اقتربت من مركز الصدارة".

والحال أن الصين عسكريًا، لا تستطيع فرض قوتها عالميًا، فهي لا يربطها سوى تحالف عسكري رسمي واحد، مع جارتها كوريا الشمالية، مقارنةً بحلفاء الولايات المتحدة الـ51 في الأميركتين وأوروبا ومنطقة المحيطين؛ الهندي والهادئ، مما يحدّ من نطاق أنشطة الصين العسكرية.

تفتقر بكين أيضًا إلى شبكة القواعد العالمية الضرورية لبسط نفوذها، وبينما تؤكد الاستخبارات الأميركية، أن الصين تعمل على إنشاء قواعد، في ثماني دول أخرى خارج الترتيبات القائمة، في جيبوتي، وكمبوديا، فإن هذا لن يُمثل فارقًا كبيرًا مقارنة بأكثر من 750 قاعدة عسكرية لواشنطن في 80 دولة.

ناهيك عن أن الصين، تواجه بعض التحديات الداخلية، على رأسها الفساد في الجيش الصيني، فقد أُقيل أكثر من اثني عشر ضابطًا عسكريًا رفيع المستوى، في قطاع الدفاع، من مناصبهم في النصف الثاني من عام 2023، وذلك بسبب مزاعم تورطهم في قضايا فساد، ما أدى إلى عرقلة تقدم جيش التحرير الشعبي، نحو أهداف التحديث المعلنة لعام 2027.

أضف إلى ذلك، أن تكلفة القيادة العالمية، على الطريقة الأميركية، والتي تُقدر بتريليونات الدولارات، باهظة للغاية. وتاريخيًا، أدى التوسع المفرط إلى سقوط دول وإمبراطوريات، تعتَبر الصين الحالية، أقل منها وزنًا وقيمة وقامة.

خلال ولاية ترامب الأولى، حاولت بكين استغلال انعزالية الولايات المتحدة، مُصوّرةً نفسها مدافعةً عن العولمة والتعددية، وهي تسعى الآن، إلى فعل الشيء نفسه.

وفي السياق، صرّح المسؤول الأعلى للسياسة الخارجية الصينية، وانغ يي، خلال مؤتمر ميونخ للأمن، بأن الصين "تُوفّر أكبر قدر من اليقين في هذا العالم المُضطرب".

إعلان

وبناءً على الخطاب وحده، لا شك أن الصين، تُعدّ حاليًا طرفًا عالميًا أكثر مسؤولية من الولايات المتحدة، إلا أن نهجها في القيادة العالمية لا يزال انتقائيًا، فالمبادرات التي تقودها الصين، والتي صُممت في الغالب كتصريحات معارضة، لا تُمثّل بعد بدائل موثوقة للمؤسسات التي تقودها الولايات المتحدة.

على سبيل المثال، تُسوّق مبادرة الحزام والطريق، لمجموعة فضفاضة من الاتفاقيات الثنائية، بدلًا من إطار للحوكمة العالمية، حيث تُعرَف المبادرات الصينية- مثل مبادرة الأمن العالمي، أو مفاهيم السياسة الخارجية، مثل "مجتمع المصير المشترك" الذي طرحه شي جين بينغ- بمعارضتها للهياكل الغربية، بدلًا من كونها مقترحات لشيءٍ جديدٍ جوهريًا.

وفي حين أنشأت بكين ووسعت نطاق العديد من المؤسسات الدولية، مثل مجموعة البريكس وبنك الاستثمار في البنية الأساسية في آسيا، فقد تم فتح هذه المؤسسات أمام أعضاء جدد من المرجح أن يعملوا على إضعاف نفوذ الصين.

وبسبب نطاقاتها الأكثر محدودية، فإن المؤسسات التي أنشأتها الصين لا تستطيع أن تحل محل نظام الأمم المتحدة، الذي تعترف بكين بأنه الممثل الأول للنظام الدولي، على حد تعبير جاكوب مارديل في مجلة العامل الصيني.

وإذا كان اختلاف المدخلات سيؤدي إلى اختلاف المخرجات، فإن انخفاض إنتاجية الصين، والأزمة الديمغرافية المتفاقمة، ومحدودية الموارد الطبيعية، تصعب على بكين أن تزعم أنها ستكون مركز القوة العظمى بحلول عام 2050.

وبعيدًا عن أقوال الصين وأفكارها، فإن تصرفات جمهورية الصين الشعبية تُظهر أنها غير راغبة أو قادرة على إزاحة الدور العالمي للولايات المتحدة.

وفي أحسن الأحوال، فإنها تنطوي مجتمعة على رؤية لنظام متعدد الأقطاب تتمتع فيه الصين بمجال نفوذ في شرق آسيا، وتكون القوة العظمى الأكثر احترامًا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

إعلان

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • متى سينسحب ترامب من عملية التسوية بشأن أوكرانيا وماذا سيحدث حينها؟
  • يحمله نحو نصف سكان العالم.. طفيلي يهدد مستقبل الإنجاب البشري
  • معيار ترامب الذهبي للعلم يثير جدلا وسط الباحثين الأميركيين
  • لازريني: لو أن جزءا ضئيلا من التريليونات التي حصل عليها ترامب تذهب للأونروا
  • نيويورك تايمز: نتنياهو يهدد بضرب منشآت إيران النووية بينما يسعى ترامب لصفقة
  • الاتحاد الأوروبي يتجهز لرفع العقوبات عن سوريا في تحول سياسي كبير
  • ما هي خطة صنع في الصين 2025 التي أقلقت أميركا؟
  • موقع إيطالي: الصين تطور سلاحا شبحيا يهدد أكثر دفاعات أميركا تطورا
  • ترامب: الاتحاد الأوروبي تذكر صلاحيتي بـ "فرض صفقة" تجارية.. ودعوته للتفاوض خطوة إيجابية
  • ترامب يرحب بدعوة الاتحاد الأوروبي لعقد اجتماعات تجارية