عُمان.. هُوية متجذرة ومواطنة متجددة
تاريخ النشر: 18th, February 2025 GMT
محمد بن سعيد الغيثي
تؤدي الهويَّة الوطنيَّة دورًا محوريًّا في تشكيلِ المنظومة القِيَمِيّة والفكريَّة للأفراد داخل المجتمع؛ حيث تُؤثِّر بشكل مباشر على تكوين شخصية الفرد وسماته السلوكية، فضلًا عن توجّهاته الاجتماعية والسياسية التي تستمد جذورها من ثقافة المجتمع وعاداته وتقاليده، والتي تتجلّى في قيمٍ مثل الحكمة، والصبر، والتعاون والتسامح مع الآخر.
وجاءت الأحاديث النبوية لتؤكد قيمة الوطن وتُرغِّب في حمايته والدفاع عن حرمته، فقد كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم، قُدوة عظيمة في التعبير عن حبِّ الوطن والتمسك به، فعندما اضطُرَّ إلى الهجرة من مكة إلى المدينة المنورة، توجَّه بقلبه نحو وطنه قائلًا: "لولا أن أهلك أخرجوني، ما خرجت". وفي هذا الإطار من الواجب علينا أن نَتّخذ من رسولنا الكريم قدوة لنا في كيفية تعبيرنا عن مشاعر الانتماء نحو أوطاننا.
وفي ظلّ التغيّرات المُتسارعة والتحولات الجذرية التي يشهدها العالم، تبرز سلطنة عُمان كأنموذجٍ رائدٍ في الحفاظ على الاستقرار والتمسّك بالهوية الوطنية، حيث تنسجم الأصالة مع الحداثة في تناغمٍ فريد، لترسم لوحةً تعكس إحساسًا عميقًا بالمواطنة والانتماء في قلوب كل من يعيش على أرض هذا الوطن.
ومن الأبيات الخالدة لأمير الشعراء أحمد شوقي، والتي قال فيها: "وإنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيت // فإنْ هُمُ ذهبتْ أخلاقُهُم ذهبوا".
هذا البيت يُؤكّد أنَّ بقاء الأمم واستقرارها مرهونٌ بحفاظها على قِيَمها وأخلاقها، وهو ما تُجسّده عُمان بامتياز، حيث تُحافظ على أخلاقياتها وقِيَمها الوطنية مع انفتاحها على العالم، مما يجعلها وطنًا يشعّ بالأمان والاعتزاز.
إنَّ الهويّة العُمانية ليست مجرد إرث يُحفظ في المتاحف أو قصص تُروى في الكتب، بل هي روح حيّة تسري في وجدان كل مواطن عُماني، تأصّلت عبر الأزمان، وهي تتفرّع في الحاضر، وتسير بثقة ووعي نحو المستقبل رغم كل المتغيرات من حولها.
وتزخر عُمان بتاريخٍ حافل يمتد لآلاف السنين؛ حيث كانت مهدًا للحضارات وملتقًى للثقافات، موقعها الاستراتيجي جعلَ منها جسرًا بين المشرق والمغرب، وساهم في تشكيل هوية وطنية قوية ومُتعدّدة الأبعاد. كما أنها تُشكّل نموذجًا مثاليًّا في التعايش السِّلمي، حيث يعيش الناس من مختلف المذاهب الإسلاميّة في مجتمع منسجم يَسوده السلام والأمن، مما يعكس عُمق الهويّة العُمانية وقدرتها على احتواء الاختلافات دون أن تفقد أصالتها، وهذا الجمع بين الأصالة والانفتاح يعكس روح الآية الكريمة: "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا" (البقرة: 143)؛ فَوسطية عُمان ليست في الجغرافيا فقط؛ بل في الفِكر والحضارة.
وكوني عُمانيًّا، أستطيع التَّأكيد من خلالِ الواقع الذي أعيشه أنني أنتمي إلى مجتمعٍ يتميَّز بالتَّناغم والتَّسامح؛ حيث تُعَدّ هويَّتنا مصدر فخر ووحدة لنا كعُمانيين، الناس هنا يعكسون قيما راسخة مثل الكرم، والاحترام المتبادل والتعايش مع الاختلاف. فليسَ بِالغريب رُؤية هذه المواطنة وشعور الانتماء العميق مُنغرسًا في نفوسِ العُمانيين على مدى عقود وعقود، فقد أثبتوا ذلك في مواقف عديدة يشهد عليها التاريخ، في السِّلم والحرب، فَهُم في الشدائدِ أُسود ضد كل معتد ومتطاول على أرض عُمان، وبقدر هذه الشدة، ترى الصفات الحميدة والمعاملة الحسنة بارزة على طباعِ هذا الشعب، ونستدل في هذا بقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: "لو أنَّ أهل عُمان أتيت، ما سبُّوك ولا ضَربوك"، فكما أنَّ الدفاع عن الوطن والذود عن حماه واجب وطنيّ وشكل رئيسي من أشكال المواطنة، فإنَّ الحُسنى في معاملةِ الآخرين مواطنة أيضًا.
اليوم، تُقدِّم عُمان، برؤيتها المستقبلية، نموذجًا فريدًا في ترسيخ مفاهيم المواطنة الفاعلة، من خلال سياسات تعليمية مُمَنهجة تهدف إلى بناء جيلٍ واعٍ بتراثه، مُدركٍ لتحديات عصره، ومُؤهَّلٍ لقيادة مستقبل وطنه بثقةٍ وحكمة. وقد أكّد جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- في خطاباته وتوجيهاته أهمية تعزيز قيم المواطنة وإحساس الانتماء للوطن، مع محاولة التكيف مع المتغيرات العالمية، وتأتي "رؤية عُمان 2040" التي تُعَدّ خريطة طريق لتحقيق التنمية المستدامة؛ حيث تُعتبر المواطنة الفاعلة أحد الركائز الأساسية لهذه الرؤية. وهنا يُفهَم بأنّ المُواطنة لم تَعد ترتكز على مجرد الانتماء الجُغرافي أو الثقافي، بل أصبحت تشتمل على مجموعة من القيم والممارسات التي تعكس الوعي بالمسؤولية الفردية والجماعية تجاه الوطن.
إنَّ هُويّتنا ليست مُجرّد ماضٍ نعتزُّ به؛ بل هيَ حاضر نعيشه ومستقبل نبنيه، والمُواطنة ليست مُجرّد واجبات نؤدّيها، لكنها أيضًا مسؤولية نتحمّلها بفخرٍ وإيمان، وبإرادة وعَزم العُمانيين، تَكمُن قُوّة عُمان. كما يجب أن نَعي بأنّ إدراكَنا العَميق لجَوهرِ هُويتنا العُمانية يُعزّز إحساسنا بالانتماء، ويُوجّه مسارنا نحوَ المستقبل بثقةٍ ووضوح، ويُلهِمنا لبذلِ الجُهد لتحقيق الإنجازات في حاضرنا، مُستلهمين قيمنا الأصيلة وتراثنا العريق، فالهويّة العُمانية بثرائها الثقافي وتاريخها المشرق، تُعَدُّ عاملًا محوريًّا في تعزيز التّماسك الاجتماعي، وضمان وحدة الصفّ الوطني، وإلهام كل فرد لتحمّل مسؤوليته تجاه وطنه بكل إخلاص وتفانٍ.
ختامًا، فَلتبقى عُمان شُعلة مُضيئة في قُلوبنا، وعنوانًا لعراقةٍ تتجدّد مع كل جيل، ورمزًا لوحدة وطنيّة تدفعنا للعملِ معًا نحوَ غدٍ أفضل، ووطنًا يُلهِم العالم بأن الأصالة والحداثة ليسا ضِدّين، بل وجهان لعملة واحدة اسمها: "الهوية العُمانية"، ولنحمل جميعًا رايةَ هذهِ الهويّة بكلّ اعتِزاز، ولنعمل على ترسيخها في نفوسِ الأجيال القادمة، حتى تظلّ عُمان وطنًا للسّلامِ، والإنجاز، والتّفوق الحضاريّ.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
أوقاف الوادي الجديد تنظم ندوة توعوية بعنوان مفهوم المواطنة والإنتماء للوطن
في إطار التعاون المثمر والبناء بين مديرية أوقاف الوادي الجديد ومديرية التربية والتعليم بالمحافظة، وضمن فعاليات مبادرة "صحح مفاهيمك" التي تهدف إلى ترسيخ الفكر الوسطي المستنير، استضافت مدرسة المجاهدين التابعة لإدارة الخارجة التعليمية ندوة دينية توعوية تثقيفية موسعة بعنوان: "مفهوم المواطنة والانتماء للوطن".
تأتي هذه المبادرة تحت عناية ورعاية معالي الأستاذ الدكتور أسامة الأزهري، وزير الأوقاف، وتحت الإشراف المباشر والمتابعة الدقيقة لفضيلة الشيخ رمضان يوسف صالح، مدير مديرية أوقاف الوادي الجديد.
تولى إلقاء الندوة الشيخ ياسر محمد عبد العال، الإمام بإدارة أوقاف الخارجة، الذي قدم حديثه عن الموضوع، مؤكداً أن المواطنة ليست مجرد إقامة في أرض، بل هي عقد اجتماعي وواجب ديني وأخلاقي ينبع من صميم الإيمان.
استهل الشيخ الشرح بالإشارة إلى أن حب الوطن فطرة غريزية أقرها الإسلام، مستشهداً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم عند خروجه من مكة: "والله إنك لأحب بلاد الله إليَّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت"، وأكد على أن هذا الحب لا يتوقف عند المشاعر، بل يتجسد في سلوكيات عملية:
حماية المكتسبات الوطنية واجب شرعي: أوضح الشيخ ياسر أن المواطنة تعني الحفاظ على الأصول والثوابت؛ فالاعتداء على الممتلكات العامة أو التخريب هو اعتداء على حقوق الأمة، وهو من الفساد الذي نهى عنه الشرع.
الانتماء هو الإيجابية في البناء لا السلبية: بين أن مفهوم الجهاد الأعظم في وقتنا الحاضر هو جهاد بناء الأوطان بالعلم والعمل والإخلاص؛ فالطالب الذي يذاكر، والعامل الذي يتقن، والموظف الذي يخدم بإخلاص، كلهم مجاهدون في سبيل رفعة وطنهم، مشدداً على أن الجهاد اليوم هو في محاربة الجهل والأمراض والأفكار المتطرفة.
طاعة ولي الأمر سبيل للاستقرار: أكد على أن الالتزام بالقوانين المنظمة للدولة واحترام مؤسساتها هو جزء من طاعة ولي الأمر التي أمر بها الشرع، لما في ذلك من حفظ للنظام العام وتحقيق الأمن، وهو هدف سامٍ من مقاصد الشريعة.
بعد الشرح، فُتح باب الأسئلة والمناقشات، حيث دار حوار تفاعلي هادف بين الشيخ والحاضرين من الطلاب والمعلمين.
سأل أحد الطلاب عن واجب الطالب والمُعلم تجاه الشائعات التي تستهدف وحدة الوطن. هنا، أكد الشيخ أن واجبنا هو التثبت والتحقق من المعلومة قبل نشرها، عملاً بقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا"؛ فـ "الشائعات هي العدو الخفي لأمن الأوطان، ومواطنتك تقتضي أن تكون حارساً واعياً ضدها".
كما دار استفسار عن كيفية ممارسة المواطنة أثناء التواجد في المدرسة. أجاب الشيخ بتبسيط المفهوم، مؤكداً أن ذلك يتمثل في التحلي بالانضباط، والحفاظ على ممتلكات المدرسة والمنشآت العامة، والاجتهاد في الدراسة لأن العلم هو أساس تقدم الوطن وقوته المستقبلية القادرة على المنافسة عالمياً، وقد لاقت هذه الأجوبة الشافية والمفصلة استحسان وتقدير الحضور.
في الختام، وجه الحاضرون الشكر والتقدير لمديرية أوقاف الوادي الجديد على هذه المبادرات القيمة والتفاعل الكبير والجهود المبذولة لتصحيح المفاهيم. وطالب الجميع بـ تكثيف هذه الندوات والمبادرات وتوسيع نطاقها لتشمل المزيد من المدارس والجهات.
وبهذه المناسبة، وجه فضيلة الشيخ رمضان يوسف صالح، مدير مديرية أوقاف الوادي الجديد، بضرورة استمرار وتعميم مبادرة "صحح مفاهيمك" في كافة مراكز المحافظة. وشدد فضيلته على أهمية ذلك في تعزيز الوعي والانتماء في نفوس النشء، وتصحيح المفاهيم الخاطئة التي قد يستغلها البعض، ونشر الفكر الوسطي المستنير الذي تتبناه وزارة الأوقاف بقوة في إطار رسالتها التنويرية الشاملة.