في رده على سؤال عن سبب انتسابه وهو شاب للحزب القومي السوري الاجتماعي رغم أنه معروف بازدرائه للسياسة وأهلها في كتاباته وأدبه؛ قال الأديب السوري الراحل محمد الماغوط إنه لفقره كان خلال صباه يلجأ إلى مكاتب الأحزاب ليتدفأ، وكان في مقر الحزب القومي السوري بمسقط رأسه في مدينة السلمية، "صوبيا"، وهي المدفأة التي تقي من برد الشتاء، ولم تتوفر عند غيره من الأحزاب، فانتسب إليه بحثًا عن الدفء.
هذه الكوميديا الماغوطيّة السوداء تجسّد حال غالبيّة السوريين في بحثهم عن الدفء وقد فتك بهم البرد الشديد على مدى سنوات عديدة لا ترحم. ففي دمشق المنهكة التي تحاول أن تمسح عن وجهها قترة الظلم المتراكم، أعداء صامتون سوى ذلك النظام الذي ما تزال تركته الثقيلة تفتك بالسّوريين.
في تلك البيوت المتعبة التي لا تصدّ قرًا ولا تردّ حرًا ولا تملك أدنى مقومات عزل الحرارة، يعاني الناس من البرد الذي ينخر العظام، فيستقر فيها مورثا أهلها الأمراض والأسقام التي لا تخطر على بال.
في العادة، يعتمد السوريون على "الصوبيا"، وهي المدفأة التي تتغذى على المازوت (السولار)، لطرد البرد من البيوت في الشتاءات القارسة. وكانت المدفأة أنيس السوريين جميعا في عقود خلت، فلا تكاد تجد بيتًا يخلو منها في الشتاء، غير أن هذا السلوك قد تأثر بسوء الوضع المعيشي الذي فتك بهم في العقد الأخير.
إعلانفالمحظوظ والثري وحده هو الذي يستطيع منذ قرابة 10 سنوات إلى اليوم تركيب مدفأة في إحدى غرف بيته، والجميع ينظر إليه نظرة غبطة لا تخلو من الحسد.
أما الغالبية العظمى من الناس، فإنها تقضي الشتاء دون مدافئ أبدًا ودون أية وسيلة تدفئة، وتعتمد في تدفئتها على تسميك الثياب ووضع قبعات الصوف في الرؤوس والتلفع بالأغطية، وكل هذا ما هو إلا وسيلة لتحصيل الدفء الذي يبقى بعيد المنال، لا تحظى به أطراف الأطفال المزرقة من شدة البرد، ولا يملك له الآباء والأمهات إلا نظرات الحسرة مع الحوقلة المنكسرة.
الدفء للمترفينفي بعض الأرياف، يعتمد الناس على مدافئ الحطب مما تسبب في عمليات قطع واسع وجائر للأشجار الحرجيّة، ومع ذلك فإن أسعار الخشب ليست في متناول غالبية الشعب المسحوق، إذ يصل سعر طن الخشب إلى 4.5 ملايين ليرة سورية، مما يجعل مدافئ الحطب هذه أيضًا حكرًا على ذوي الطَول، وغدا من يركّبها هم المترفون فقط، رغم أنها كانت -قبل أن يفتك النظام بما تبقى لهم من حول وقوة- مرفوضة لا يقبل بها عامة الناس.
ومن صور المأساة أن يعمد البعض من أجل تدفئة أطفاله الذين لا يحتملون البرد إلى تركيب مدفأة، لكنه يضع فيها بدل الوقود أكياس النايلون التي يجمعها من حاويات القمامة، وبإمكانك معرفة فداحة الأمر بمجرد السير في الشارع، لتخترق صدرك روائح النايلون المحروق والدخان الأسود الذي يؤذي الحيّ كلّه ولا يؤذي فاعله وحده.
قبل سقوط النظام، كانت المعضلة من شقين: الغلاء الفاحش للمازوت وعدم توفره، وبعد سقوط النظام مباشرة توفرت مادة المازوت بكميات كبيرة قادمة من لبنان ومن مناطق الجزيرة السوريّة، لكن هذا المازوت اتسم بسوء النوعيّة، فهو لم يخضع للمعالجة التكريرية المطلوبة، مما تسبب في سوء رائحته وتأثيراته الضارة على البيئة والمستخدمين.
هذا المازوت غالبا ما يباع على الأرصفة في مختلف شوارع وساحات دمشق، في عبوات سعتها 10 ليترات وسعرها 14 ألفا للعبوة الواحدة، وهو ما يقارب 14 دولارًا، وبالرغم من توافرها وسوئها، فإنّها أيضًا ليست في متناول كثير من السوريين لعدم توفر السيولة المالية في أيديهم.
إعلانالسوريون يتابعون أخبار النشرة الجوية، لكن لا تبهجهم أخبار المطر القادم ولا المنخفضات القطبية ولا الثلج ولا الجليد ولا صوت فيروز وهو يغني "تلج تلج عم تشتي الدنيا تلج"، وهي الأغنية التي كانوا يرددونها يوما ما بكل حبور وهم يتابعون صور الثلج أو المطر من جانب المدافئ التي كانت تشتعل قبل أن تغدو حلما ثقيلا.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات
إقرأ أيضاً:
ماذا تغير في تركيا بعد عام من بدء عودة السوريين إلى بلادهم؟
أنقرة- في عام واحد، شهدت تركيا أوسع موجة عودة طوعية للاجئين السوريين منذ اندلاع الأزمة قبل أكثر من عقد، وذلك في أعقاب انهيار نظام بشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024.
ووفق بيانات رسمية صادرة عن وزارة الداخلية التركية وإدارة الهجرة، عاد أكثر من 578 ألف سوري إلى بلادهم في الفترة ما بين انهيار النظام السابق وديسمبر/كانون الأول الحالي، ضمن برنامج العودة الآمنة والمنظمة الذي تشرف عليه أنقرة.
وبذلك يرتفع إجمالي عدد السوريين العائدين منذ عام 2016 إلى نحو مليون و318 ألف شخص، في تحول لافت على صعيد ملف اللجوء.
تحولات سكانيةأظهرت المدن التركية الكبرى، وفي مقدمتها إسطنبول وغازي عنتاب وهاتاي، أبرز ملامح التغير الديمغرافي الناتج عن موجة العودة الواسعة للسوريين خلال العام الجاري، ووفق بيانات رسمية صادرة عن إدارة الهجرة التركية، سجلت هذه المدن تراجعا ملحوظا في أعداد السوريين المقيمين على أراضيها.
ففي إسطنبول، انخفض عدد السوريين من نحو 481 ألفا في مايو/أيار الماضي إلى حوالي 417 ألفا بنهاية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. أما في غازي عنتاب، فتراجع العدد من 386 ألفا إلى 333 ألفا، بينما شهدت هاتاي انخفاضا من نحو 195 ألفا إلى ما يقارب 154 ألفا خلال الفترة نفسها.
وانعكس هذا الانخفاض بشكل مباشر على ضغط الخدمات العامة في تلك الولايات، لا سيما في قطاعات التعليم والصحة، فقد أشارت بلديات محلية إلى تراجع الكثافة الصفية في المدارس الحكومية نتيجة انخفاض عدد التلاميذ السوريين، إلى جانب انخفاض ملحوظ في أعداد المراجعين من اللاجئين في المستشفيات والمراكز الصحية.
وتأتي هذه التحولات في سياق أوسع يتمثل في تراجع نسبة السوريين الخاضعين للحماية المؤقتة من إجمالي سكان تركيا إلى نحو 3.16% في نهاية 2024، في حين تشير التقديرات إلى أن هذه النسبة واصلت الانخفاض خلال العام الجاري.
أثرت عودة مئات الآلاف من اللاجئين السوريين بشكل مباشر ومزدوج على سوق العمل التركي والبنية الخدمية، حيث أسهمت من جهة في تخفيف الضغط عن قطاعات تشهد منافسة متزايدة على الوظائف، لكنها من جهة أخرى كشفت عن فجوات حادة في قطاعات اقتصادية اعتمدت لسنوات على العمالة السورية، خاصة في ولايات الجنوب ذات النشاط الصناعي الكثيف.
إعلانففي ولاية غازي عنتاب، التي تعد أبرز المتضررين من موجة العودة، أكد رئيس غرفة تجار الخياطة والنسيج علي كومورجو أن أكثر من نصف ورش النسيج اضطرت إلى الإغلاق بسبب فقدان شريحة واسعة من العمال السوريين، الذين كانوا يشكلون عماد هذا القطاع.
وفي السياق ذاته، أشار رئيس غرفة صناعة الأحذية في الولاية، محمد أمين إينجه، إلى أن نحو 10 آلاف عامل سوري غادروا القطاع خلال العام، مما أدى إلى نقص كبير في الأيدي العاملة المدربة، وترك أثرا واضحا على وتيرة الإنتاج في واحد من أكبر القطاعات الصناعية في المنطقة.
تداعيات هذا النقص طالت أيضا مصانع صغيرة اضطرت إلى التوقف مؤقتا عن العمل، في حين لجأت مصانع أكبر إلى حلول جزئية، كتوظيف عمال جدد أو زيادة الاعتماد على القوى العاملة التركية، وإن دون القدرة الكاملة على تعويض المهارات والخبرات التي غادرت.
من جانبها، أعلنت وزارة العمل إطلاق دراسة موسعة شملت 17 قطاعا، عبر استبيان استهدف 16 ألف منشأة في أنحاء البلاد، بهدف تقييم أثر عودة السوريين على المشهد العمالي، ورصد الفجوات التي خلّفها خروج أعداد كبيرة من اليد العاملة، لا سيما في قطاعات الإنتاج والخدمات.
وبالتوازي، كشفت وسائل إعلام مقربة من الحكومة عن إستراتيجية وطنية جديدة للتوظيف تمتد حتى عام 2028، تتضمن خططا لاستقدام عمالة أجنبية مدروسة من دول آسيا الوسطى وأفريقيا، لتغطية النقص المسجل في قطاعات حيوية مثل البناء والنسيج والصناعات الخفيفة.
كما لم تستبعد مصادر رسمية إمكانية منح بعض العمال السوريين المهرة تصاريح عمل طويلة الأجل أو إقامات دائمة إن أثبتوا كفاءة واستقرارا، في إطار معالجة ميدانية لحاجة السوق، دون أن يمس ذلك بالمبدأ الإستراتيجي الأساسي وهو تشجيع العودة الطوعية.
تحول سياسيشهد الخطاب السياسي التركي خلال العام الجاري انعطافا لافتا في تعاطيه مع ملف اللاجئين السوريين، إذ تراجعت نبرة التصعيد التي كانت تهيمن على الجدل العام في السنوات الماضية، لتحل محلها لغة أكثر توافقا، ترتكز على دعم العودة الطوعية وتأكيد احترام كرامة العائدين.
فحزب الشعب الجمهوري، الذي لطالما تمسك بخطاب يطالب بإعادة اللاجئين عبر التنسيق مع دمشق، عدل من نبرته بعد انهيار النظام السابق، وأعرب زعيمه أوزغور أوزال -منذ الأيام الأولى لتحول الوضع السوري- عن ترحيبه بالتطورات، داعيا إلى تشكيل حكومة انتقالية سورية جامعة تهيئ الظروف لعودة آمنة.
في المقابل، رأت قيادة حزب العدالة والتنمية الحاكم في موجة العودة تأكيدا على سلامة نهجها، في حين تجلى هذا الخطاب الرسمي كذلك داخل أروقة البرلمان، حيث خفتت لهجة السجالات التقليدية حول "طرد اللاجئين".
يرى الباحث التركي في شؤون الهجرة حيدر شان أن التغيرات التي طرأت في تركيا خلال عام من بدء موجة العودة الواسعة للسوريين لا تقاس فقط بحجم العائدين، بل بما أحدثته هذه الظاهرة من إعادة تموضع سياسي ومؤسسي واجتماعي داخل الدولة التركية.
إعلانويؤكد شان للجزيرة نت أن ما جرى أعاد صياغة علاقة الدولة بالمجتمع المضيف والمجتمع السوري معا، إذ بدأت أنقرة -لأول مرة منذ بدء الأزمة السورية- في التعامل مع ملف العودة بوصفه متغيرا حاكما في سياسات التخطيط الحضري، وسوق العمل، والأنظمة الخدمية، لا مجرد بند إنساني أو أمني.
ويشدد شان على أن فقدان اليد العاملة السورية شكل اختبارا لتركيبة سوق العمل التركي، التي لم تكن قد استعادت توازنها بعد جائحة كورونا وأزمة الليرة.
ويشير إلى أن قياس الأثر هنا يجب ألا يقتصر على معدلات البطالة، بل يمتد إلى الإنتاجية القطاعية، وديناميكيات الأجور، ومؤشرات الاستدامة في الصناعات التي كانت تعتمد على عمالة مرنة ومنخفضة الكلفة.
ويتابع شان أن التحول السياسي في الخطاب، سواء من المعارضة أو الحكومة، يعكس ما يسميه بـ"نهاية مركزية خطاب اللجوء" في المعارك الانتخابية، وهو تحول يحتاج إلى تحليل مضمون منهجي للخطاب السياسي والإعلامي عبر أدوات تحليل كيفي وكمي، لفهم إلى أي مدى بات الرأي العام يتعاطى مع السوريين كملف سياسي، لا كقضية توتر قومي.